|
النار كأداة تعذيب
هشام آدم
الحوار المتمدن-العدد: 4711 - 2015 / 2 / 5 - 08:18
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بعد إعلان دولة الخلافة الإسلامية بالعراق والشام "داعش" عن إعدامها للطيَّار الأردني معاذ الكساسنة حرقًا حتى الموت، قامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن، وتم تداول هذا الموضوع في العديد من المنتديات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، وقد أدان الجميع "تقريبًا" هذه الجريمة البشعة؛ بمن فيهم المسلمون بشقيهم المعتدل والسلفي، ولاشك أنَّ الجريمة كانت بشعةً وصادمةً إلى الحد الذي يبعث على التقزز والغضب، ولكنني في الحقيقة اندهشتُ من ردة فعل المسلمين إزاء هذه الجريمة، ومصدر اندهاشي هو أنني على يقين كامل أنَّ أيَّ مسلم هو بالضرورة منزوع الإنسانية بطريقةٍ أو بأخرى، طالما أنه منتمٍ إلى هذه الديانة، ومنسجم مع تعاليمها، وحتَّى أنَّ أغلبهم لا يعلمون أنهم بلا إنسانية، وذلك أنهم فصَّلوا الإنسانية لتتناسب مع مقياسهم الديني، في حين أنَّ مقياس الإنسانية Free Size، وهو أكبر بكثير من المقياس الديني، ولطالما تكلمتُ كثيرًا عن الفارق النوعي الكبير بين الوازع الديني والوازع الأخلاقي، وحاولتُ شرح أنَّ المُتدين قد لا يهتم كثيرًا للوازع الأخلاقي عندما يتعلق الأمر –بالنسبة إليه- بالتعاليم الدينية التي يعتبرها مقدسة؛ فبالنسبة إلى المُتدين تُعتبر التعاليم الدينية –بالضرورة- تعاليمًا أخلاقية، كيف لا وهو يعتبر كتابه المُقدس وإلهه مصدرًا للأخلاق!
فالمُتدين ليس بوسعه أن يرى السوء في التعاليم المنصوص عليها في كتابه المقدس، وسوف يعجز تمامًا عن رؤيتها بعين غير عين القداسة التي لا تُعطي الأشياء حجمها الحقيقي، فالمسلم منسجم تمامًا مع تشريع "تحريم التبني" ولا يستطيع أن يرى في هذا الأمر نزعة لا إنسانية؛ بل قد يُبرر له ويختلق الأعذار الواهية من أجل أن يجعل هذا التعليم تعليمًا إنسانيًا، على عكس ما هو عليه. والمسلم منسجم تمامًا –أيضًا- مع تحريم الممارسة الجنسية خارج مؤسسة الزواج؛ بل ولا يسعه إلا أن يرى هذا التحريم معيارًا جيدًا للأخلاق والشرف والعفة. وفي مقالات كثيرًا تكلمتُ عن ضرورة الفصل بين الدين والأخلاق، حتى نتفادى الوقوع في هذا الخلط الذي قد يُؤدي في نهاية المطاف إلى اختلال المفاهيم التي نراها اليوم، والتي أعتقد أنها واحدة من أسباب ما يُسمى بالصراع الفكري والحضاري بيننا وبين الأمم الأخرى، وهو بالتحديد ما يجعل كثيرين ينظرون إلى الحضارات الأخرى –لاسيما الغرب- حضارةً مُنحلة أخلاقيًا، لأنهم يُخضعون تلك المجتمعات لمعيارهم الأخلاقي المستمد بالضرورة من الدين، وكأن الأمر بالنسبة إليهم هي معادلة واضحة لا تقبل الجدال (ما يُحرمه الدين هو لاشك غير أخلاقي، وما يُحلله الدين فهو لاشك أخلاقي).
من طرائف ما قرأتُ وما رأيتُ في تداعيات هذه الجريمة البشعة، مسارعة كثير من المسلمين إلى تبرئة الإسلام من هذه الجريمة البشعة، وأصبح الأمر مهمةً مقدسةً لدى معظمهم؛ فما أن تحدث جريمة ما أو حادثة ما، حتى يسارع البعض –ليس إلى إدانة الجريمة- وإنما إلى تبرئة الإسلام منها، وهي لعمري نزعةٌ لا تمت إلى الإنسانية بصلة، والأمر الأكثر سخريةً من ذلك هو لجوء كثيرٍ من "المسلمين الجدد" (الرافضين لكُتب التراث والأحاديث حتى الصحيحة منها) إلى كتب التراث ذاتها، للتنقيب عن حديث: "لا يحرق بالنار إلا رب النار" الوارد في صحيح البخاري، وذلك رغم رفضهم ومحاربتهم الشديدة لصحيح البخاري وكتب التراث الإسلامي بشكل عام، وهذا الفعل كلجوئهم إلى حديث: "من كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه" للاستشهاد به على عدم حُجيَّة السنة، وهو أمر غاية في الغرابة، وتجسيد متكاملٌ وحيٌ لنزعة الانتقائية التي يتمتع بها هؤلاء الجُدد.
هؤلاء الذين ينتقدون داعش لتنفيذها عقوبة الحرق بالنار، ويعتبرون هذا الفعل ليس من الإسلام في شيء ربما سيكون لهم رأيٌ آخر عندما يعرفون أن عليًا بن أبي طالب أحرق بالنار جماعةً بتهمة الزندقة؛ إذ حفر لهم حفرة ووضعهم فيها وأضرم النار فيهم وهم أحياء. ربما لن يُصدقوا هذا الكلام، ربما سيطعنون في صحة هذا الحديث رغم وروده في صحيح البخاري، وحتى السلفيون سيلجأون إلى اعتراض ابن عباس على ما فعله علي بن أبي طالب، وسيرون فيه مخرجًا مُناسبًا لهم، ولكن تُرى هل سيرون عليًا بن أبي طالب من الخوارج كما يرون "داعش" من الخوارج أيضًا؟ هل سيرون عليًا بن أبي طالب داعشيًا أيضًا؟ مثل هذه التبريرات من المسلمين (المعتدلين والسلفيين) أمر متوقع جدًا وغير مستبعد على الإطلاق، ولكن كيف لا يكون الحرق بالنار من الإسلام في شيء إذا كان إله الإسلام نفسه يتوعد الناس بالنار في القرآن في كثير من المواضع؟ المسلمون لا ينتقدون فكرة الحرق بالنار في ذاتها كفعل، وإنما في الحقيقة ينتقدون أن يقوم بذلك الإنسان، فهم بذلك ينتقدون الفاعل ولا ينتقدون الفعل، وهو أمر غريب وغير مفهوم، وهنا تكمن مشكلة التفريق بين التعاليم الدينية والتعاليم الإنسانية، بين الدين والأخلاق، لأن الدين هو أن تقبل بالأمر عندما يكون هنالك نص يُسانده، بصرف النظر عن الفكرة في ذاتها، أمَّا الأخلاق فهي تُحاكم الفعل في ذاته بصرف النظر عن النصوص ووجهات النظر الدينية. إنَّ المُسلم الذي يعترض على ما فعلته داعش في الطيار الأردني، وفي الوقت ذاته يقرأ آيات قرآنية يُهدد ويتوعد فيها الإله بالنار ولا تُحركه إنسانيته، فهو فاقد للإنسانية ولاشك. أن ترى أن تعذيب الإله للبشر غير المؤمنين بالنار أمرًا طبيعيًا؛ بل وعدالة مطلقة هو بالتأكيد يُعاني من اختلال في المعايير الإنسانية. فكيف لشخص أن يُؤمن بإله يُعاقب بطريقة وحشية وبشعة يرفضها هو نفسه عندما تُطبق على أرض الواقع؟
إنَّ حرق إنسان حيًا –رغم بشاعة العقوبة- إلا أنَّ عذابها لا يدوم إلا بضع دقائق حتَّى يُفارق الشخص الحياة ويرتاح بعدها، ولكن الإله الذي يعبده هؤلاء المسلمون (الذين يقولون إن فعلة داعش لا علاقة لها بالإسلام) يتوعد البشر بعذاب جهنم الأبدي، بحيث لا يسمح لهم بالموت الذي سيكون راحةً لهم؛ بل ويتفنن في تعذيبهم بأوصاف تقشعر لها الأبدان، وهذه بعضٌ منها: {إنَّ الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب إنَّ الله كان عزيزًا حكيمًا}(النساء:56) {إنَّا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا}(الكهف:29) {تصلى نارًا حامية * تسقى من عين آنية * ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يُسمن ولا يُغني من جوع}(الغاشية) {كلا لينبذن في الحطمة * وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة * إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة}(الهمزة) {من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد * يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ}(إبراهيم)
هؤلاء الذين يتظاهرون بالإنسانية، ويتدافعون لتبرئة الإسلام من بشاعة ما فعلته داعش، يقرأون هذا الكلام في قرآنهم، ولا يرون فيه إلا الإعجاز البلاغي، فيهزون رؤوسهم إعجابًا ببلاغة القرآن، دون أن تُحرك فيهم هذه الآيات إنسانيتهم ليتساءلوا عن سر وحشية هذا الإله الذي يؤمنون به، وإن سألتهم عن ذلك لأجابوك (هذا عذاب عادل من الله والله لا يظلم أحدًا)، فتُصبح العقوبة التي يستنكرونها من داعش فجأةً ودون مقدمات عقوبةً عادلةً ومُنصفةً. إنَّ هذا الأمر إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أنَّ ما يُهم هؤلاء هو "مَن الذي يُطبق هذه العقوبة؟" فهم ليسوا معترضين على الفعل في جوهره، وإنما يُهمهم في المقام الأول والأخير هو مَن الذي يحق له تطبيق هذه العقوبة، لنتفاجأ أنَّ الذي يحق له أن يُعاقب بالنار هو إله الإسلام، الإسلام الذين يحاولون تبرئته من بشاعات داعش(!) وكأنَّ الفعل إذا ارتكبه الإنسان كان جريمة، وإذا ارتكبه الإله أصبح عدالة(!)
هذا هو ما تفعله بنا الأديان، تنزع عنا إنسانيتنا بحيث لا يعود بإمكاننا الاحتكام إلى العقل للحكم على فعلٍ ما بأنه أخلاقي أم لا، إنساني أم لا، وحشي أم لا، إلا من زاوية نظر إيماننا ومُعتقدنا، وربما يقرأ بعض المسلمين كلامي هذا ويضحكون على ما فيه، وعندها سيكون ذلك دليلًا إضافيًا على صحة ما أقول. لقد سئمنا من الشعارات التي يرفعها المثاليون (ديننا دين الرحمة) فأين هي هذه الرحمة؟ أين الرحمة في أن تُعذب شخصًا لا يقتنع بأن الإسلام دين رحمة؟ هذا يُذكرني بالكاريكاتير الذي يرفع فيه أحد الأشخاص لافتة تقول: (سنقتل كل من يقول إن ديننا ليس دين السلام!) إنَّ الأديان هي بالفعل كارثة بشرية كبيرة، عندما تفترض القُبح معتقدًا مقدسًا وتُطالب الآخرين أن ينظروا إليه من زاوية نظرهم المُصابة بالقداسة، وبالتالي ألا نعود القبيح قبيحًا.
نعم، قد لا يكون محمد قد أحرق أحدًا، وقد لا يكون أحد أصحابه قد فعل ذلك، ولكن إلهكم يفعل، إلهكم الذي تقولون إنه إله الرحمة، الذي بعث رسوله رحمةً للعالمين، ليقول لهم: "إن لم تُؤمن بإله الرحمة، فإنه سوف يُعذبكم بالنار مدى الحياة" ليُجسد بذلك قمة التناقض والذي يراه المُتدين قمة العدالة والإنصاف. هذه هي الآلهات التي تدعوا إليها الأديان؛ آلهات لطيفة ووادعة ورحيمة جدًا، ولكن إن لم تُؤمن بها سوف تتحول إلى وحوش لا تعرف الرحمة، وتتلذذ بعذاب البشر، لتجمع في صفاتها التناقض في أبهى صوره (غفور رحيم وفي الوقت ذاته شديد العقاب) دون أن يتمكن المُتدين من الوقوف على هذا التناقض المُريع في صفات الذات الإلهية. لا أعلم كيف يُمكن أن نستنكر فعلًا صادرًا من إنسان ناقص وقاصر ونعتبره فعلًا إجراميًا ووحشيًا، ونقبل نفس الفعل من إله كامل ومُطلق؟ ألا يحق لنا أن نتساءل مثل هذا التساؤل البسيط؟ كيف ما لا يُمكن أن نقبله من إنسان أن نقبله من "إله"؟ إنَّ فكرة المعاقبة بالنار فكرة أنتجتها الأديان والعقلية الدينية، فهي أوَّل من استن هذه السنة البشعة والإجرامية؛ فإن كنتَ ترى الله مصدرًا للأخلاق، فلا معنى لإدانتك لما فعلته داعش بالطيار الأردني، فلا تلوموا داعش، ولكن لوموا نصوصكم المقدسة ثم تعالوا نتحدث عن الإنسانية بعد ذلك.
#هشام_آدم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل (الأخيرة)
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 8
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 7
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 6
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 5
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 4
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 3
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 2
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل
-
في الرد على إسلام بحيري 3
-
في الرد على إسلام بحيري 2
-
في الرد على إسلام بحيري
-
رسالة إلى الدكتور سيد القمني
-
المسلمون الجدد - 4
-
المسلمون الجدد - 3
-
المسلمون الجدد - 2
-
المسلمون الجدد - 1
-
بتروفوبيا إلى الإنجليزية
-
السَّنافر - 3
-
السَّنافر - 2
المزيد.....
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
ليبيا.. سيف الإسلام القذافي يعلن تحقيق أنصاره فوزا ساحقا في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|