|
ادوارد سعيد والخطاب الاستشراقي
سعاد طيباوي
الحوار المتمدن-العدد: 4705 - 2015 / 1 / 31 - 21:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد شهدت الحركة الاستشراقية الغربية جملة من ردات الفعل المقابلة من طرف المفكرين والأكاديميين العرب تحمل طابعا نقديا، تهدف إلى كشف حقيقة، ومرامي، ومقاصد الفعل الاستشراقي، وكذا بعده المنهجي، ومدى مصداقيته في إعطاء وخدمة المعرفة الصحيحة. كما أن الاستشراق يعطي صورة عن الآخر، سواء كان موضوع الاستشراق نفسه، أو الذات التي تقف وراء النص الاستشراقي ، فهو في كلتا الحالتين يحمل صورة تكون محل دراسة من طرف نقاد الاستشراق فيم إن كانت واضحة ومتجلية في الخطاب الاستشراقي أم لا؟ أم أنها تحتاج إلى آليات تجعلها كذلك ؟ ومن بين المفكرين العرب الذين كان لهم السبق في إثراء المجال النقدي الاستشراقي المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد )1935م-2003م( الذي كانت جل أفكاره وكتاباته تصب في الحقل النقدي للاستشراق، وقد اعتبر إدوارد سعيد فيلسوفًا وناقد أدب وله نزوع سياسي في فكره ، كما عالج عدة قضايا على منحى واسع يشمل رؤى وزوايا تفكير مختلفة باختلاف الثقافات، ويسد ثغرات أساسية عدة تتعلق بالأسئلة الحضارية والتاريخية الكبرى. حيث كتابه الاستشراق شكل نقطة انعطاف غيرت اتجاه البحث العلمي حول الشرق والغرب، الذي من خلاله أعطى سعيد مفهوما ثوريا للاستشراق يريد من خلاله فهم آلياته، والبحث عن الخلفيات التي تقف وراء هذه النصية الغربية الموجه نحو الشرق، وكذا القصدية التي توجها، وأيضا البعد المؤسساتي لها؛ بمعنى أن سعيد لم يرض بظاهرية التعامل مع مثل هذه الدراسات، وتقبلها كما هي، بل يتوجب الخوض في حيثياتها، وخلفياتها. وهل فعلا ذاك هو الوجه الحقيقي لنوايا الغرب التي جسدت الشرق في معطى نصي فقط ؟ أم أنه هناك معطيات فعلية تقف وراء هذه النصية الغربية؛ وما النص إلا خطوة سابقة لبث سلطة فعلية في الشرق؟ وهل أن هناك نوايا أخرى تحمل خللا معرفيا يخدم مركزية الغرب؟ أي أن الدراسات الاستشراقية ليست معرفة من أجل المعرفة، أو من أجل الشرق بل تتجاوز هذا الطرح إلى أهداف أخرى مغرضة تكون على حساب البناء الشرقي وتراثه. كل هاته الاستفهامات حاول سعيد وضعها تحت كل جملة استشراقية حاول من خلالها الغرب تمويه كل منأى ينطو لخدمة مراميه. فادوارد سعيد رجل ذا "قامة فكرية معاصرة تحركت من داخل النسيج الحي المتصارع للثقافات في العالم، وعكست بمنطقها المتماسك ورؤاها الخلاقة الأبعاد الإنسانية والتحررية للفكر، والقدرة على هدم أسس خطابات التسييد، كما فعل في جل أعماله. اخترق إدوارد سعيد ببصيرته النافذة البنى التي تقوم عليها ثقافة الغرب الاستعماري، ووضع من خلال كتابه ”الاستشراق“ علامة ”غيرت وجه البحث العلمي حول الشرق والغرب، والغرب والعالم، والعالم الثالث إجمالا ،حسب دنيشيا سميث أحد أبرز النقاد الأميركيين وجعلت الوعي المعاصر في الغرب يقيس في قراءته ”الآخر“ على ما قبل هذا الكتاب وبعده." 1 في كتابه الاستشراق يعطى ادوارد سعيد عدة مفاهيم للاستشراق في محاولة منه لفهم ما وراء الخطابات الاستشراقية؛ أي ما بعد الاستشراق، بهدف تقويض وتفكيك بنية الرؤى الغربية الموجه للشرق وخصوصا منها التي عنيت بالثقافة الشرقية، حيث أن سعيد بحكم أنه عايش واقعين: واقع عربي شرقي ولد فيه ويعكس هويته، وواقع غربي عايشه بكل مفارقاته واختلافاته بالنسبة للأرض الأم، جعل من قراءته لكتابات المستشرقين تختلف كل الاختلاف عن باقي القراءات الأخرى للمفكرين العرب. تحمل بعدا سياسيا يهدف إلى فضح السلطة الغربية التي تخدم مركزية الغرب، هذه السلطوية التي قرنها سعيد بالاستشراق تولدت عن روح الهيمنة والاستعمار والامبريالية هذا الثلاثي هو الذي شكل الولادة الحقيقية للاستشراق بعد مخاض طويل عبر التاريخ، تاريخ كان كله بؤر توتر كلما كانت محاولة احتكاك بين الغرب والشرق مهما كان شكلها، وهذا بالضرورة يحيل إلى علاقة قوة وسيطرة تربط الغرب بالشرق، وفقا لما عكسته المعطيات التاريخية. "فالشرق جزء لا يتجزأ من الحضارة المادية والثقافية الأوربية والاستشراق يعبر عن هذا الجانب ويمثله ثقافيا، بل وفكريا باعتبار الاستشراق أسلوبا للخطاب ، أي للتفكير والكلام تدعمه مؤسسات ومفردات وبحوث علمية، وصور مذاهب فكرية، بل وبيروقراطيات استعمارية وأساليب استعمارية2 " " فالاستشراق خطوة نحو السيطرة الثقافية والسياسية."3 يحدد ادوارد سعيد الاستشراق ضمن ثلاث مفاهيم أساسية؛ مفهوم أكاديمي يدرس ويعالج الشرق وفقا للمميزات والسمات العامة للشرق، " وما أيسر التعريفات المقبولة للاستشراق فهو مبحث أكاديمي، بل أن هذا المفهوم لا يزال مستخدما في عدد من المؤسسات الأكاديمية، فالمستشرق كل من يعمل بالتدريس أو الكتابة، أو إجراء لبحوث في موضوعات خاصة بالشرق، سواء كان ذلك في مجال الانثربولوجيا أي علم الإنسان، أو علم الاجتماع أو التاريخ أو فقه اللغة وسواء ذلك كان يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة، والاستشراق وصف لهذا العمل".4 أما المفهوم الثاني للاستشراق فهو يتعلق بالجانب الفكري الذي يستند إلى التمييز الوجودي والفكري حيث يقول سعيد: " الاستشراق معنى أعم وأشمل يتصل بهذه التقاليد الأكاديمية وهي التي يترصد هذا الكتاب، إلى حد ما ، أقدارها وهجراتها وتخصصاتها، وأحوال بثها، فالاستشراق أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمى الشرق ، وبين ما يسمى ) في معظم الأحيان( الغرب". 5 لكن هذان المفهومان للاستشراق اللذين حددها ادوارد سعيد لهما تبادل ثابت ومنتظم حسبه على غرار المفاهيم الخيالية الأخرى للاستشراق وهذا أواخر القرن الثامن عشر، فهي أبعد ما تكون كرونولوجية، إذ أنها تفتقر للعناصر التاريخية والمادية. ليأتي بذلك بالمفهوم الثالث للاستشراق وهو الاستشراق الأسلوبي الذي يهدف إلى السيطرة على الشرق وإعادة هيكلته وبناء نظمه وفقا للمنظور الغربي من خلال فعل التسلط الآتي من السلطة التي تخفيها الخطابات الاستشراقية، فــ "الاستشراق أسلوبا غربيا للهيمنة على الشرق وإعادة بنائه والتسلط عليه."6 لهذا يرى سعيد أن الاستشراق "خطاب منظم "وهذا يفضي بالضرورة إلى كونه معرفة مدونة أو مكتوبة على حد قوله ، لكن بما أن الدراسات الاستشراقية تكون من الواقع والى الواقع فهي بالضرورة تحمل سلطة، وهنا تأكيد سعيد على ضرورة التعامل مع النصوص ليس بشكل نظري مجرد بعيد عن العالم، وإنما البحث في ما وراء النص، وربطه بالمعطيات التاريخية المادية ولهذا فهو يميز بين ثلاث أنواع من المفاهيم للخطابات الاستشراقية، ويؤكد على أهمية النوع الثالث من الناحية المفاهيمية للعمل والممارسة الاستشراقية، بحيث نجد سعيد قائلا عن مسعاه الذي يرمى إليه من خلال نقده للاستشراق في كتابه "تعقيبات على الاستشراق" : " ما سعيت إليه في الاستشراق لم يكن مجرد تقديم قراءة نقدية لمنظور الحقل واقتصاده السياسي بل أيضا الموقف السياسي الثقافي الذي يجعل خطابه ممكنا وقابلا للبقاء إلى هذا الحد والابستمولوجيات والخطابات التي على شاكلة الاستشراق لن تكون جديرة باسمها إذا شخصت على نحو اختزالي يجعلها شبيهة بالأحذية : ترقع حين تبلى، وترمى وتستبدل بالجديد حيت تعتق ويتعذر إصلاحها. الكرامة الأرشيفية والسلطة المؤسساتية والديمومة البطريركية الخاصة بالاستشراق يتوجب أخذها على محمل الجد، فهذه الخصائص تقوم في المحصلة بوظيفة الرؤية العالمية المسلحة بقوة سياسية هائلة ليس من السهل تصريفها تحت لافتة الابستومولوجيا. بذلك يكون الاستشراق في نظري بنية أقيمت في زحمة تنافس امبريالي كثيف، مثلت تلك البنية جناحه المهيمن فانبثقت، لا كمهنة بحثية بل كإيدولوجيا متحيزة.7" فالغرب يهتم بالشرق حضاريا ، لكن ليس بعقلية الأكاديمي الصارم والباحث عن الحقيقة مهما كانت، بل بدراسة الشرق كما يرد له أن يكون وليس كما كان.8 فيصبح الشرقي ليس موضوع دراسة فحسب بل يصبح موضع ضعف بمعنى "استبعاد هذا الأخير من دائرة الرقي والتقدم وإقصاؤه إلى عالم التخلف والانحطاط."9 "فنظرة الغرب للشرق تتضمن قدرا من النفي قل ذلك أو كثر. وحقيقة النفي نفي الأنا للأخر، أن ننفي عليه ما نتملكه نحن فنرى فيه ما نستبعده من أنفسنا وما نقصيه من ذواتنا. فكل معرفة بالأخر تتضمن إذ تتضمن نفيا له بوجه من الوجود تؤكد من جهة أخرى في الذات على ما تنفيه عند الأخر، أو تنفي في الذات ما تجده عند الأخر، أو بمعنى أدق كل معرفة بالأخر هي وجه من أوجه المعرفة بالذات، بقدر ما هي مظهر من مظاهر نفيه ونفي الغرب للشرق معناه الحكم على الشرق ليس بما فيه، بل بما في الغرب."10 ولهذا ادوارد سعيد يصور الحالة النفسية التي يرسمها الغرب للشرق انطلاقا من تمويه معرفي ادعاه الغرب يخفي من ورائه الكثير من الحقائق خصوصا مع الحركة الكولونيالية، فالاستشراق" أكثر من مجرد معرفة، إنه سلطة."11 " فالاستشراق بالنسبة إلى الشرقي هو المعرفة المؤثرة والفعالة التي أوصلته نصيا إلى الغرب، والتي احتله الغرب و"حَلَبَ" موارده واضطهده إنسانيا بمساعدتها12". فالنصية هي الوسيلة التي استخدمها الغرب من أجل بسط نفوذه وهيمنته وسلطته على شرقٍ رأى فيه الضعف والانحطاط والخرافة والاستعباد ...الخ انطلاقا من قوة وتعال للأنا الغربية التي لا ترى غير القوة في ذاتها وما دون ذلك هو الأخر. "فلقد حاول ادوارد سعيد أن يتصور الشرق في مرآة الغرب ومخياله بتوصيفه شرقا متخلفا مغلوبا على أمره، رومانسيا غير عقلاني ، أرض العرب هذه هي أرض المعجزات والنبوءات. هو شرق يعيش تحت الهيمنة الذكورية وتنبغي السيطرة عليه، فهو الشرق الأنثوي بامتياز مادام فهمه يرتكز على مفردات أنثوية بلا حقوق ولا قوانين ولا أمن، والمعنى الجلي هو هيمنة الغرب الخطابية والعملية على حد سواء.13" إذن هاته الإشارات من سعيد حول طبيعة العمل الاستشراقي تعكس نظرة محللة للبعد المؤسساتي للفعل الاستشراقي ، وبذلك إزاحة الغطاء الذي يخفى الطابع المهيمن للمناهج الاستشراقية التي تحمل بعدا نفسيا سياسيا مبني على قصديه تخدم المركزية الغربية، وكل هذا مؤسس على فعل الكتابة. " فغالبا ما تتسلح السلطة بمقدمات أخلاقية تسوغ فعلها، وكذلك تفعل سلطة المعرفة؛ لأنها تحتاج على الدوام إلى غطاء يضفي على سلوكها طابعا تجريديا لا يبتعد كثرا عن الفضائل التي فصل القول فيها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه )1844م-1900م( حيث يصنع السادة فضائل يصبغون عليها هالة من القداسة يصدقها الناس؛ وهي تحمل في جوهرها نقيض معانيها الأصلية فهي أخلاق منتخبة تعبر عن أخلاق السادة ومصالحهم قبالة مصالح العبيد" 14 ، وهذا ما ينطبق على العمل الاستشراقي بحيث يصل الأمر عند بعض المستشرقين إلى جعل نزوعهم المركزي المعبر عن مصالح السادة مهنة لها طوابعها وثوابتها؛ فهي لا تقبل النقد.15 وعليه "فملاحظة ادوارد سعيد لا تؤرخ للخطاب الاستشراقي ولكنها تعمل على تفكيكه للتعرف على مفاصله المعنوية والفكرية."16 ولهذا ربط مفهوم الاستشراق بالجانب التاريخي والمادي، وهذا ما يحيل بالضرورة إلى أن الخطاب الاستشراقي عبارة عن بنية مركبة وليس بنية بسيطة. فحينما يقول سعيد عن الاستشراق "أكثر من مجرد معرفة، إنه سلطة" ، فهذا يعني أنه يحمل بعدين: بعد نظري كونه معرفة وبعد عملي كونه سلطة؛ والسلطة ممارسة على أرض الواقع بمعنى احتكاك مباشر مع العالم. لقد سعى ادوار سعيد إلى الانطلاق من النص لقراءة العالم. وهو بذلك يتنافر مع أكثر المناهج النقدية المعروفة، ابتداء من الشكلانية والبنيوية وانتهاء بالتفكيكية، بل إنه يوجه النقد للمناهج التي تفصل النص عن عالمه قائلا في النقد الذي : "رعاه بعض الحداثيين نجد أن الرغبة في الفرار من التجربة، التي ينظر إليها على أنها ضرب من البانوراما العقيمة هي رغبة مركزية "،17 ثم يؤكد أن" دراسة الأدب ليست تجريدا بل تتوضع على نحو لا سبيل إلى إنكاره أو مناقشته ضمن ثقافة يؤثر وضعها التاريخي على قدر كبير مما نقوله أو نفعله، هذا إن لم يكن يحدده ...الكلمات ليست تقنية ولا باطنية بل تشير إلى انفتاح، بعيدا عما هو شكلي وتقني باتجاه ما هو حي وصراعي ومباشر". 18 فخطاب سعيد النقدي إنبنى على رؤية وموقف واضحين، وهي أن النصّ ليس بريئا، فهو يخفي إيديولوجيات مناقضة لخصوصيته النصية الجمالية البلاغية، ومن ثم فهو يرى أن : " النصوص في النهاية أشياء مادية، وليست مجرد فيض خالص يفيض عن نظرية من النظريات .." . ولهذا فهو يرفض أن نتعامل مع النصّ بوصفه بنية جامدة، ومن المفيد أن ننظر إليه على أنه فعل متموضع في العالم؛ أي أنه نتاج ثقافي، وفعل ثقافي، في علاقة مع السلطة التي أنتج ضمنها فهو يستخدم عبارة " التجربة التاريخية " ليشير إلى أن الكلمات ليست تقنية ولا باطنية، و إنما تتجه إلى كل ما هو حي، وصراعي ومباشر.19 " فالاستشراق ينطوي على" وجود نظري وعملي" . وهو ليس مجرد نسق معرفة فقط إنه تدخُّل وإعادة توزيع ورسم للحدود ...ومن ثم فهو" أسلوب" للهيمنة والسيطرة وإعادة البنية، ولم يجانب ادوارد سعيد حينما قال : " بدا لي من الحمق أن أحاول سرد تاريخ موسوعي للاستشراق" ، فما يهمه في الاستشراق هو "الخطاب" أو" نظام الخطاب" إذا جاز عنوان ميشيل فوكو الذي مارس تأثيرا جليا داخل الكتاب.20 " فالاستشراق خطاب وهنا يشير سعيد إلى وصف فوكو التقني للمصطلح الموجود في كتاب "حفريات المعرف" وكتاب "المراقبة والمعاقبة" وتحت هذا الوصف لا يعد الخطاب مجرد لغة فقط، بل علاقة مميزة بين الكلمات والأشياء وهي طريقة مميزة في الكلام والعمل. 21" إذا كان الاستشراق خطابا، عندها يعد احد وظائفه التأسيسية هو ما يسميه فوكو الصبغ العيارية وهذه هي قواعد التشكيل الخطابي التي تحدد من يتحدث، والسلطة التي يتحدثون بها، والموقع المؤسسي الذي يتحدثون منه وكلها مواقع للذات، المتكلم، المخاطب، المفوض وغير المفوض، التي يمكن للشخص احتلالها، ففوكو يريد أن يتخلى عن أي محاولة لوصف الخطاب على انه تعبير عن الذاتية. فبدلا من التعبير عن الأنشطة التركيبية للذات التأسيسية، تعد التعابير اللفظية شيفرات لحقل تنظيمي لمختلف مواقع الذاتية. "22 وعند هذه النقطة يقوم سعيد بصياغة المراجعة الأهم لتحليل فوكو، والتحليل الذي أدى إلى التدقيق الأكثر حسما. فهو يتحدث عن السلطة التأسيسية للكاتب في الخطاب الاستشراقي قائلا أن الكاتب في الخطاب الاستشراقي يمتلك دورا حاسما فيما يعد نصوص مجهولة." 23 وعليه نجد فوكو يتكلم عن إنتاج الخطاب في كل مجتمع قائلا:" افترض أن إنتاج الخطاب في كل مجتمع، هو في نفس الوقت إنتاج مراقب ومنتقى ، ومنظم ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطانه ومخاطره، والتحكم في حدوثه المحتمل، وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيب".24 "إن عمل فوكو كان منذ كتاب الكلمات والأشياء إعادة الإجابة على السؤال التالي : كيف ومتى ولماذا اختفىت اللغة والخطاب محيلا إياه إلى مسالة أثرية وسياسية ذات أهمية قصوى. فبالإجابة أن الخطاب لم يختف بكل تلك البساطة، بل صار محجوبا عن الأبصار، يستهل فوكو جوابه على السؤال السالف الذكر، مضيفا إلى قوله انه إن اختفى فقد اختفى لأسباب سياسية، متيحا بذلك فرصة أفضل لاستخدامه على نحو أخبث للإتيان بهيمنته على مادته وموضوعاته."25 ليؤكد سعيد أن "مجرد فعالية الخطاب الحديث مربوط باحتجابه عن الأنظار وبندرته أيضا وما كل خطاب، أي كل لغة إلا جعجعة إلى حد ما، ولكنه في الوقت نفسه لغة الهيمنة وزمرة مؤسسات في صميم الثقافة التي يتشكل فيها ميدانها الخاص."26 وهكذا يتحول النص- النصوص إلى علامة ثقافية هي جزء من سياق ثقافي وسياسي أنتجها، وغاية النقد الثقافي هو الكشف عن الأنظمة الذاتية لهذه العلامة في إطار مناهج التحليل المعرفية، وتأويل النصوص، والخلفية التاريخية، والموقف الثقافي، والتحليل المؤسساتي ويعني أيضا أن نضع النص داخل سياقه السياسي من ناحية، وداخل سياق القارئ أو الناقد من ناحية أخرى.27. فحينما يحيلنا ادوارد سعيد إلى دراسة نظام الخطاب من اجل فهم النصوص الاستشراقية هي العبرة التي جاء بها فوكو حيث نجد سعيد قائلا في هذا الصدد : " فالعبرة التي نستفيدها من فوكو هي أنه في الوقت الذي يستكمل فيه عمل دريدا بمعنى ما، فإنه بمعنى آخر يخطو خطوة في اتجاه جديد. إن الرؤيا التاريخية التي يطرحها تنطلق من ذلك التحول العظيم الذي تحوله المعرفة منذ نهاية القرن الثامن عشر، وقد كان بالمناسبة تحولا لا تفسيرا له إلى حد كبير، من تلاحم السلطة والمعرفة تلاحما استبداديا إلى تلاح استراتيجي."28 فهذا التحول في العلاقة بين السلطة والمعرفة هو ما يجعل النص يتسم بالحيوية لاقترانه بالجانب المادي والتاريخي، فحينما تكون المعرفة خادمة للسلطة ومغرضة لها هنا تأتي "أهمية أن ننظر للنص بوصفه حالة ثقافية وليس قيمة بلاغية وجمالية فحسب، لذا يحدد سعيد طريقته في القراءة والتي ترتكز من جهة على الأعمال الفردية كنتاج عظيم للخيال الخلاق أو التأويلي، ثم من جهة أخرى كونها جزء من العلاقة بين الثقافة والامبريالية"29 . ولهذا يجب أن ينظر للخطاب على انه جزء من منظومة متكاملة وليس معطى محايد له ينحصر فقط في البناء الداخلي للنص أو يعكس فقط الألفاظ التي تشكل هاته النصية، بهذا يصبح النص ميتا مقتولا بطريقة أو بأخرى، بمعنى أن لا يفهم النص فهما بنيويا بل يفهم فهما ثقافيا، تاريخانيا، ماديا، يربط النص بالعالم ويفهم استنادا إلى العالم وليس بمعزل عنه، وهذا ما يجعل النص حيا أو ميتا . وهذا بالضرورة يحيل إلى اللغة لان النص في النهاية يظهر في حامل وهذا الحامل هو اللغة، واللغة دال ومدلول، هاته العلاقة التي تحكم الدال بالمدلول هي التي تجعل من النص حيا أو ميتا، فإذا ركز الناقد على فهم الدال وأهمل المدلول تصبح هنا اللغة خادمة لسلطة النص الظاهرة ، أما إذا ركز الناقد على المدلول وربط الكلمات بالأشياء ووسع الإطار الدلالي للنص تنكشف السلطة المبطنة وراء النص، كما أن اللغة تحمل مجازات وكنايات واستعارات فإذا لم يعمل الناقد على هذا المستوى يصبح النص وكأنه معطى شفاف، وحقيقته تقول عكس ذلك، ناهيك عن إشكالية المصطلح، فالاستشراق ما هو إلا عملية ترجمة الغرب للشرق، وفقا للمنظور الغربي، فقد تكون دلالات تحمل معنى معين عند الغرب، وعند الشرق تحمل دلالات أخرى، وهنا المستشرقين عزفوا على أوتار اللغة خصوصا العربية كون اللفظة الواحدة فيها تحمل أكثر من دلالة، وبالتالي تشكيل مقطوعات لفظية وفقا لما يخدم مصالحهم، ولهذا شدد ادوارد سعيد على ضرورة التعامل مع النصوص الاستشراقية بأكثر جدية وأن لا تؤخذ بشكلها السطحي على أنها معرفة مكتوبة وكفى، بل هي أعمق من ذلك بل هي سلطة جعلت من الخطاب وسيلة لها، وهذا ما يجعل اللغة في بعض الأحيان بل أكثرها علما لا حميدا يظهر أشياء ويخفى أشياء. ويقول فوكو :" ... فنحن لا نكون قد تعلمنا بذلك العلوم، وإنما على ما يبدو، التاريخ. عندئذ يكف النص عن أن يؤلف جزء من شارات الحقيقة وأشكالها. إن اللغة لا تعد أحد وجوه العالم، ولا التوقيع المفروض على الأشياء عند أعماق الزمن. فالحقيقة تجد تجليها وشاراتها في الإدراك الواضح الجلي والمتميز وعلى الكلمات أن تترجمها إن استطاعت، لكنها لم تعد تملك الحق في أن تكون علامتها. إن اللغة تنتمي من وسط الكلمات لتدخل في عصر الشفافية والحياد الخاص بها ."30 وعليه المستشرقين استغلوا اللغة استغلالا آليا يخدم مصالح الغرب بطريقة آلية تمكنهم من الوصول الشرق فعليا، من خلال الوصول النصي المسبق، ولهذا كان نظام الخطاب حاضرا بقوة في نقد ادوارد سعيد للاستشراق .
الهوامش: 1. نوري الجراح، ادوارد سعيد اخترق ببصيرته البنى التي تقوم عليها ثقافة الغرب الاستعماري، مجلة الحياة الثقافية، العدد 6809 ، الاثنين 27-10-2014. 2. ادوارد سعيد، الاستشراق ) المفاهيم الشرقية للغرب (، تر: محمد عناني، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط6، 2006،ص44. 3. عبد اللطيف عبادة ، صفحات مشرقة من فكر مالك بن نبي ، دار الشهاب للطباعة والنشر ، باتنة، ط1، 1984، ص 64. 4. ادوارد سعيد، الاستشراق، ص 44. 5. المرجع نفسه، ص 44 6. المرجع نفسه ص ص 45-46. 7. ادوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ترجمة وتحرير صبحي حديدي،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1996، ص 71. 8.مولود عويمر، مقاربات في الاستشراق والاستغراب،دار جسور للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 2013، ص23. 9. علي حرب، التأويل والحقيقة )قراءات تأويلية في الثقافة العربية(، دار التنوير للطباعة والنشر، والتوزيع، بيروت، دت، 2007، ص ص 65-66. 10. المرجع نفسه، ص 66. 11. ادوارد سعيد، السلطة والسياسة والثقافة، تر: نائلة قلقيلي حجازي، دار الآداب، بيروت، ط1، 2008، ص 50. 12. المرجع نفسه، ص50. 13. أمال علاوشيش، ما بعد الكولونيالية، خطابات الـ "ما بعد"، اشراف وتقديم علي عبود المحمداوي، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2013، ص 46. 14. فارس عزيز المدرس وزاهدة محمد الشيخ، الاستشراق قراءة في المنهج وقصديه الخطاب، مجلة آداب الرافدين ،العراق، العدد 60، 2011. 15. المرجع نفسه 16. حسين خمري، الاستشراق: اللغة من الوظيفية إلى التوظيفية، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة منتوري، قسنطينة ، ص 10. 17. سلطان زغلول، استفاد من فوكو لكنه رفض مفهومه للسلطة : إدوارد سعيد وتحليله لخطاب الاستعمار، جريدة الدستور، الأردن ، العدد 17002، 18-5-2007. 18. المرجع نفسه 19. مشري بن خليفة، ادوارد سعيد والنقد الثقافي: المرجعية والخطاب، مجلة الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة فرحات عباس، سطيف، العدد 9، اكتوير 2009،http://revues.univ setif2.dz/index.php?id=424- 20. يحي بن الوليد ، خطاب ما بعد الاستعمار، مجلة الكلمة، العدد 16، 2008، ص 3. 21. ويليام د. هارت، ادوارد سعيد والمؤثرات الدينية للثقافة، تر: قصي أنور الذبيان، هيئة أبو ضبي للثقافة والتراث؛ كلمة، أبوضبي، ط1، 2011، ص 102. 22. المرجع نفسه، ص ص103-104 . 23. المرجع نفسه، 104. 24. مشال فوكو، نظام الخطاب، تر: محمد سبيلا ، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط3، 2012، ص 8. 25. ادوارد سعيد؛ العالم والنص والناقد، عبد الكريم محفوظ، منشورات اتحاد العرب، ص 281. mdaab.wodpress.com//:http 26. المرجع نفسه ، ص 281. 27. مشري بن خليفة، مرجع سابق ، http://revues.univ setif2.dz/index.php?id=424- 28. ادوارد سعيد؛ العالم والنص والناقد ، ص 283. 29. مشري بن خليفة، مرجع سابق ، http://revues.univ setif2.dz/index.php?id=424- 30. ميشيل فوكو، الكلمات والاشياء، تر: مطاع صفدي وآخرون، مركز الإنماء القومي ، بيروت، 1990، ص 68.
#سعاد_طيباوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آليات نقد ادوارد سعيد للاستشراق
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|