كمال العيادي
الحوار المتمدن-العدد: 1314 - 2005 / 9 / 11 - 11:09
المحور:
الادب والفن
مثل فرس مذعورة, كانت تدير بيننا نظراتها. أحسست بأنّها تحاول بمشقّة ايجاد تعابير مناسبة مراعاة لدقّة الموقف, وتحسّبا لردّة فعل حاسمة من زوجها سالم الذي يتحاشى كامل الوقت النـظر إليها. أنفاسها تـتابع كما اللّهاث وهي تحاول مرّة أخرى ايجاد تعبـيـرات ألطف.
كنت أتابعها بحذر, محاولا الحفاظ على موقف محايد يتناسب مع ثقة زوجها بي وصداقتنا الطويلة التي بدأت قبل عشر سنوات لم يتغيّر خلالها نظرتي إليه ولا صداقتي له في يوم من الأيّام, مقابل إحساسي بحيرتها وتضامني الصّامت معها. خلال ذلك انتبهت إلى أن الحنّاء في كفّيها التي بدأت تميل للزّرقة كما أنّ بقايا آثار- الحرقوس – المنقّط بانسجام وعناية فائقة
كادت تمّحي تماما, وعادت مجرّد نقاط رصاصيّة باهتة اللّون تتناسب تماما مع تعابير وجهها المتراوحة بين القنوط والذّعر.
مصيرها الآن بين أيدينا. زوجها سالم يجلس صامتا إلى جانبها. يتابع قفزات العصافير التي تنقر فتاة الخبز بالقرب منّا بشرود ظاهري, يتعارض مع شكل شفتيه المكوّرتين وتقــلّص وجهه الذي يوحي بأنّه مستعدّ للانفجار مع كلّ كلمة أخرى قد تنطق بها زوجته حنان. أحسست بضيق شديد, وأنا أحاول بدوري ايجاد كلمات مناسبة ترضى الجميع, ولا توتّر الجوّ أكثر. في حين كان الهادي جليسنا وصديق زوجها سالم يكوّر كأس العصير الفارغ أمامه. ويرسم بقعره أشكالا بدائيّة. ملتفتا بين الحين والآخر إلى مدخل المقهى .
نظرت مرّة أخرى صوب زوجها سالم كالمتضرّعة وهي تتحدّث عنه متوجّهة لي بالخطاب :
- " صدّقني, لقد كنت ابكي من الوجد والشوق إليه كلّما أعدت للمرّة المئة قراءة إحدى رسائله التي كان يرسلها لي أسبوعيّا من هنا. وكلّ ذلك كان منذ ستّة أسابيع فقط. تصوّر. هل تتصوّر؟
كانت كلماته لي مثل حبّات المطر, تزل الحقول العطشى. لم أبك بكاء حلوا في حياتي مثلما كنت أبكي وأنا أقرأ رسائله العظيمة. رسائله المليئة بألوان الورد وروائحه, بسحره وجماله الخلاّب. وبالرّغم من أنّني لم أكن قد قابلته قبل الزّواج سوي مرّتين أو ثلاث في حضور الأهل والأقارب, فإنني أحببته من خلال رسائله. قتلتني رسائله وسحر أسلوبه في التعبير بدقّة عن مشاعره. أنا التي درست بشعبة الآداب وعاشقة الشعر. لم أكن أحلم في حياتي بأكثر مما وهبني اللّه اخيرا وما ساقه القدر لي. زوج محب. قادر على التّعبير بلا خجل عن حبه. تصوّر. مرّت الآن أربعة أسابيع فقط منذ زواجنا وقدومي إلى ألمانيا. لا شيء بقي من ذلك. لا شيء على الإطلاق. يتركني منذ الأسبوع الأوّل كامل الوقت وحيدة, ليذهب للعمل مع الفجر, وحين يرجع لا يكلّمني أكثر من كلمتين كمّن يجاهد غصبا في النّطق. نخرج أحيانا للتّجوّل فلا يحدّثني, ويردّ عن كلّ سؤال بضيق يخنق في حلقي كلّ كلمة. أريد أن أعرف السبب فقط. ماذا فعلت. أين كلامه العذب. أين ما كان يرسمه لي قبل أسابيع من حقول الياسمين وأشجار والورد و النخل و الزيتون. أكاد أفقد عقلي. هل يمكن أن تكون كلّ تلك الكلمات حبرا على ورق؟ يستحيل. أكاد أجنّ وربي."
ازداد الموقف تعقيدا. وأحسست مثل ثقل جبال الرّصاص تضغط على قلبي في حين اكتفى زوجها سالم بدق الطاولة بأظافره دقّات متوترة وهو يكوّر شفتيه أكثر. ويتتبع العصافير بشرود. محاولا كظم غيظه وتوتّره الشّديد. بدأ لي مثل برميل من المحروقات الممجوجة يمكن أن ينفجر في كلّ لحظة.
لم يكن هناك غيري وغيره, يحس حرج ثقل صمتنا, ذلك أنّني كنت الشخص الذي كتب كلّ رسائل سالم إلى زوجته حين كانت بتونس. بطلب ورجاء منه. أنا الذي وعدتها على لسانه بمخدّة من لفائف الياسمين وعريش من حنان النّخل والزّيتون وشرائط من الحرير المزيّن بزهور القرنفل. أنا الذي استحضرت المنفلوطي وكلّ ما ترسّب في ذاكرتي ووجداني من العبارات العذبة الأماني الرّائعة لأعبّر عن إحساس مهاجر يحنّ إلى زوجة من تراب أرضه.
كنت أكتب لها رسائلا أسبوعيّة في عشر صفحات يقطع تدفّقها سالم لأنّه يعرف تماما تكاليف الطوابع البريدية اللاّزمة لإرسال عشر صفحات مكرّرة بخط يده مع المظروف الأصفر وبطاقة بريديّة تمثل صورة مشرقة لمدينة ميونيخ. المهمّ ينبغي أن لا يتجاوز الوزن الجمليّ للمظروف الخمسين غراما. كان يردد بحسم. وحين كان يحدث وانسجم في الكتابة وأتجاوز الصفحات العشر المقرّرة مسبقا, فإنّه كان يطلب منّي بأن أحدد له جملة مناسبة في الصّفحة العاشرة للقطع. محتفظا ببقيّة الصفحات للرسالة القادمة. وحتّى نجد ما نقول. كان يقول.
صمت ثقيل يلف المكان. أحسست بأنّني أوشك على الاختناق فاعتذرت وغادرت المكان بعد أن دفعت الحساب رغم إلحاح سالم, الذي طلب منّي باللّغة الألمانيّة أن أنتظره بعد عشر دقائق بمقهى - الرّوكسي -الذي يبعد ثلاثين مترا فقط عن المكان حيث نجلس. استغربت طلبه ولكنّني أجبته بالموافقة وأنا أحاول أخفاء الارتباك الشديد الذي أحسست به. كنت أتوجّس أنّه يريد طلب رأيي في أمر قرّره وحسم أمره. كنت أعرفه جيّدا. يظلّ طيّبا وديعا, ولكنّه من أكثر النّاس عنادا حين يصرّ على أمر. سيتركك تجادله ساعات وساعات. وسيسمعك بكل انتباه, بل أنّه سيحرّك برأسه عشرات المرّات موافقا كلامك, حتى إذا أكملت حديثك, نظر إليك ببرود وقال لك بأنّه بالرّغم من ذلك مصرّ على رأيه. خفت أن يكون قد قرّر قرارا فيه إساءة لزوجته المسكينة.
اتّجهت إلى مقهى – الروكسي – وهو مقهى معروف ومكتظ كامل الوقت. طلبت عصيرا وأنا في أشد الضيق والقلق. وفعلا لم تمض عشر دقائق حتّى رأيته يقطع الطّريق المقابل متّجها نحوي.
جذب كرسيا وجلس دون أن ينطق بحرف واحد.
- هل تركت زوجتك وحيدة؟ سألت
- أوصلتها لمحطّة الباص
- ولكنّها لم تتعوّد بعد على الرجوع وحيدة, وللوصول إلى بيتك عليها أن تغيّر الباص مرّتين؟
- ستصل. أنا لم أتزوّج حمارة !
- ما دخل الحمارة في الأمر يا أخي, أنا نفسي أجد صعوبة في الوصول إلى منزلك, رغم أنّني
منذ قرن في هذا البلد
- أريد أن أمتحنها آخر امتحان !
- لم أفهم, ماذا تقصد بأنّك تريد أن تمتحنها آخر امتحان ؟
- اليوم هي آخر فرصة لها لتستفيق من غفلتها ؟
- ماذا تقصد يا أخي. لا أكاد أفهم شيئا من هذه الأحاجي. هل يمكن أن تشرح لي ما تعنيه ؟
- اسمع لقد خدعت. في البداية صبرت عليها كثيرا. ورغم احساسي منذ اليوم الأوّل بأنّها غير ما كنت أنتظر فقد ظللت أنتظر. قلت ربّما احساسها بالغربة وابتعادها عن الأهل لأوّل مرّة هو السبب. ولكنني كنت أزداد يقينا كلّ يوم بأنني خدعت.
فكّرت بسرعة. ظننته يريد أن يلمّح لي, بأنّه كان يعتقد خلال فترة الخطوبة القصيرة بأنّها فتاة عذراء ولكنّه اكتشف بأنّ لها تجربة سابقة. ولمّا طال سكوته واحسست بإحراجه أكثر سألته بصراحة استغربتها أنا نفسي : - هل حدّثتك عن علاقة سابقة لها أزعجتك وغيّرت نظرتك لها؟
نظر لي نظرة غريبة تجمّعت فيها تعابير من الصّعب تفكيكها. أجابني وهو يضرب على الطاولة:
- ياليتها كانت كذلك ؟ بالعكس أستطيع أن أجزم بأنهاّ ليلة زواجنا كانت أول مرّة تختلي فيها برجل. هذا آخر ما يعنيني ويشغل بالي الآن.
- ما المشكلة إذن . لماذا لا تحدّثني بدون مقدّمات؟ قلت له وقد بدأ صبري ينفذ فعلا .
- تحب الكلام !
- ماذا تعني بأنّها تحبّ الكلام.
- تريدني أن أقول لها كلاما حلوا. مثل الأفلام.
- هذا طبيعي. أنتما لم تتمّا شهر العسل بعد. وكلّ امرأة في العالم تحبّ الكلام الجميل الرقيق.
- إنّها تكتب. وتريدني أيضا أن أكتب!
- بربّك كفّ عن هذه الألغاز. ما معنى أنّها تكتب وأنّها تريدك أن تكتب أيضا, وماذا تكتب؟؟؟
في ثلاث رشفات متتاليّة أكمل كأس الشّاي الذي كان قد طلبه منذ مدّة ولم يلمسه قبل ذلك وأجابني وهو يعدّل من وضع الكرسيّ مطلقا تنهيدة, أعتقدت لوهلة بأنّها قد تكون السبب في انحناء ظهره كامل الوقت :
- في البداية كانت لا تتركني أقربها إلاّ بعد أن أسمعها نصف ساعة كلاما جميلا يعلم اللّه كيف كنت أجمعه. أنت تعرف بأنّني لست قويّا في التعبير. يا أخي التعبير أصعب شيئ في الدنيا. ورغم ذلك كنت أفعل لأنّني لاحظت أنّها تخاف من الجنس والكلام يجعلها تلين وتهيج فكّرت أن الأمر قد يساعد لتعلق منّي ولدا بسرعة ونرتاح. ولكنّها لم تكن تكتفي بالكلام. تصوّر المصيبة. إنها تترك لي أوراقا في كلّ مكان لأقرأها. في المرحاض, في المطبخ, فوق المسجّل, تحت جهاز التلفزيون, على باب الثلاجة, في كلّ مكان. أستيقظ في الفجر لأقصد ربّي للعمل. فأجد ورقة مثبّتة بالشريط الملصق فوق المرآة وأخرى حول مفاتيح السيّارة. مجنونة بالكتابة والغزل. يا أخي أنا كبرت على هذه الأمور. تصوّر لي من العمر الآن ستّة وأربعين سنة, ثلاثة أرباعها قضيتها في رفع صناديق الخضر في هذا البلد الملعون وتريدني أن أغازلها منذ أدخل البيت وحتى أخرج منه. أصبحت أخاف من البيت. تقول لي وهي تتمسّح كالقطّة – يا حبّوبي الغالي, ويا عيوني , ويا روحي. تتكلّم يا أخي مثل جماعة لبنان وسوريا وفاتن حمامة!
أنا أرجع للبيت أترنّح مثل السكران من التعب, ولا رغبة لي أعظم من غلق جفنيّ لساعة واحدة. وهي تريدني أن أغازلها. يلعن أبو الغزل. غزل أفلام. يا أخي الواقع مرّ. واللّه العظيم أصبحت أحلم بأيّام العزوبيّة. بكلّ عيوبها, العزوبيّة أحيانا أروع شيىء. ترجع متى تريد. وتخرج متى تريد. تبقى شهرين لا تكلّم أحدا إذا أردت. تنام أو تصحو. تسافر أو تبقى. لا أحد يربك حياتك ويحطّمها. ويجعلها لعنة ونقمة. مراقبة. وحصار. ورعب. وخوف مما لا تعرف.
لقد خرجت من تونس وأنا في السّابعة عشر من عمري. وعشت كامل الوقت وحدي. وفجأة أقوم بثقب عيني بيدي وآتي بامرأة تنظر في وجهي كامل الوقت. في بيت ضيّق. يا ربّي ماذا فعلت؟ لقد جنيت على نفسي وعلى بنت النّاس.
نظرت إليه مندهشا. كنت أعرفه جيّدا. أو هكذا ظننت. كنت أعرف بأنّه يفضّل العزلة ولا يتكلّم إلا حين يجبر على الكلام. ولكنّني لم أكن أتصوّر أنه يمقت أن يجبر على الكلام إلى هذا الحدّ.
- أسمع لقد قرّرت وانتهى الأمر. قطعت لها البارحة تذكرة لتزور عائلتها بعد أسبوع. حين تسافر سأكلّم والدها وارفع قضيّة في الطلاق. لم أعد التحمّل. إذا لم أطلّقها سأنفجر وربّما أرتكب جريمة شنيعة. البارحة كدت أضرب زميلي بالعمل بصندوق طماطم. سأجنّ فعلا.
نهض بصعوبة وأصرّ على الدّفع, وقبل أن يغادر, ابعد كرسيه واتّكأ على الطاولة مقتربا أكثر ما أمكنه منّي وقال لي شبه هامس :
- رسائلك هي السبب. يا ليتنا كتبنا لها كلاما معقولا ومختصر.
- كمال العيّادي -ميونيخ
www.kamal-ayadi.com
#كمال_العيادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟