|
48 ساعة قبل سقوط القيروان
كمال العيادي
الحوار المتمدن-العدد: 1313 - 2005 / 9 / 10 - 09:43
المحور:
الادب والفن
زغردت ساعة بطني عند السّاعة السّادسة تماما، كعادتها، رغم أنّني كنت قد استسلمت للفراش بعد السّاعة الرّابعة بالتّأكيد. كنت أسبقني لغسل وجهي بالماء البارد، متجاهلا همهمة و تذمّر كلّ سكان جسدي النّحيل، المكدود. ما كان ينبغي أن أطاوع تلك المجنونة حنان. ما كان ينبغي أن أسهر لليوم السّادس على التّوالي لحدود الفجر. لأستيقظ بعد ذلك مع السّاعة السّادسة صباحا. خصوصا وأنّني وعدت صديقي الشّاعر محمّد الصغيّر أولاد أحمد بمرافقته اليوم لسيدي بوزيد مسقط رأسه العنيد، حيث سيقع تكريمه، وربّما تكريم قصائده أيضا. وأنا أغسل وجهي بالماء البارد، كنت أقاوم نداء مسحوقا من الرّغبة في العودة لأحضان الفراش، ثمّة إشارات كثيرة في شكل برقيّات ومضيّة تصل مركز الفهم و الزّجر بدماغي، ولم يكن من السّهل عدم الانتباه إلى وجاهتها… اتّصل بأولاد حمد. لديك رقم محموله. اعتذر له. إذا غضب، اتركه يغضب. هناك ظروف. الانهيار الكامل لجسدك ظرف ليس بالطارئ، ولكنّه سبب وجيه للاعتذار. إذا لم يقبل فليذهب للجحيم. سيقبل. لن يذهب للجحيم. ليس الآن على الأقلّ.
النّحلة الطنّانة استفاقت وبدأت تطنّ، حتّى قبل أن أترشّف الرّشفة الأولى من القهوة التي أعددتها لنفسي باحتفاء مبالغ. كنت قد تعلّمت ذلك من أحد المغنّيات الغانيّات. قالت لي: تأخذ ملعقتين من البنّ المرحيّ وملعقتين من السّكّر، تترك الحليب يسخن أوّلا، وقبل أن تتجمّع رغوته تصبّ منه بقدر أربعة ملاعق صغيرة فوق البنّ و السكّر، ثمّ تحرّك وتحرّك وتحرّك وسيكون طعم القهوة لذيذا قدر إخلاصك في التحريك، وتفانيك في صهر البنّ بالسكّر. كنت أعدّ القهوة دائما بنفس الطريقة، وحتى لا يذهب الوقت هكذا، فقد قررت منذ مدّة طويلة أن أستغلّ فترة التحريك لمراجعة يومية لذّات. سأغيّر حياتي بشكل جذريّ. هذا هوّ القرار الذي أصل إليه كل صباح ومنذ عشر سنوات. أعتقد أنّ فترة تحريك القهوة هي الشيء المحوري الوحيد والثابت في حياتي. نظرت بذعر صوب ملابسي و كتبي هناك في الغرفة المقابلة وعند طرفيّ الممرّ. أغراضي تتجمّع و تتزايد كلّ ساعة من الزّمن. اليوم هوّ الجمعة، إذن غدا السبت. من المفروض أن أكون يوم السبت بمدينة القيروان العجوز. لحضور افتتاح المهرجان الدّولي لربيع الفنون والذي بسببه فقط أنا الآن هنا أصلا. كنت مرتبكا ومتوجّسا من أقبية القيروان العتيقة. كانت آخر زيارة لي منذ سنتين. لم ألتق بأصدقائي القدامى، أيامها كان المنصف الوهايبي مسافرا. أخبرني عمي رحومة، خبّاز الحي العارف بكلّ شيء بأنّ صلاح الدين بوجاه لا يعود إليها إلا لساعات. أذكر أنّني كنت قد التقيت فقط ببعض الأصدقاء القدامى، ممن رافقوني حتّى عتبة الباكالوريا قبل أن يُغرسوا حدّ الإبط في أنابيب الوظيفة العموميّة. كانوا متحلقين بمقهى العزعوزي، المتدلّق بين مخرج المدينة العتيقة ومدخل القيروان اليافعة. وكان النقاش حادا حول موضوع التعديلات الجديدة في مسألة شروط انتداب أساتذة التاريخ والجغرافيا وإذا كان من حقّ المتفقد الجهويّ إهانة أستاذا مساعدا أمام التلاميذ. عرفت يومها لأوّل مرّة بأنه لا صلاحية لمسؤول إداري في تقريع أستاذ تعليم ثانوي من الدرجة الثانية خارج قاعة المدير أو قاعة محاذية على أن تكون مغلقة ومعزولة بشكل بيداغوجي. ربيّ، كيف يمكنني أن أقسّم نفسي بين مرافقة صديقي أولاد حمد و حضور الافتتاح و زيارة أهلي ?
استعرت فترة التحريك هذا الصّباح لأجد حلاّ. حقيقة كانت القهوة لذيذة، رغم أنّها تبدأ حلوة وتنتهي مرّة بعد اختلاطها بكريات النيكوتين الكثيرة جدّا و التي يحتلبها قلبي بتلذذ الشامت، مسمّما بها رئتي. فكّرت بأن قلبي مخلوق شرس، يقرفص بمكر تحت الشّطر الأيسر من رئتي يتابع تفحّمه يوما بعد يوم. ربّما يفرك أطراف شرايينه الآن جذلا. قلبي لا يحبّني. ثمّ أنّه عنيد و لا يريد أن يفهم بأنّني لست أفضل حالا منه. وفوق ذلك هوّ بالذات الأكثر علما بأنّني لا أحبس أحدا. ربّما كتبت في وصيّتي، بعد موتي الطبيعي طبعا، أنّني أهب قلبي لمستشفى خاص بسويسرا. على أن يغرس فقط بجسد شاب رياضي التكوين وحيد أبويه، عرف عن أهله وراثة الغباء والثراء الفاحش والاستقرار. على أن لا يتجاوز مستواه التعليمي السابعة ثانوي ومن الأحسن أن يكون رسب باختياره لانشغاله بإدارة بعض الأعمال الناجحة طبعا و الكثيرة لوالده الغني الغبيّ المريض.
قلبي يدقّ. وصلته نسخ كثيرة من كريات فكرة الوصيّة. يدق مختنقا بلهاثه، محاولا عدم فضح نفسه. هوّ يتلصص. أنا أعرف ذلك ومتأكّد منه. وهذا عادي. إنه يحيط نفسه بهالة من الغموض، والشكوك، والأوهام التي تأذيني بشراسة، ولكنني أتجاهل ذلك، ولا أعرف متى سيدرك أننا نحن بني البشر جبلنا على مؤازرة قلوبنا، وبأنني شخصيا , لا أتحمل أذاهم صباحا مساء إلا من أجله هوّ، قدري الآكل من جسدي و النابح في صدري. كنت أعتقد بأننا تصالحنا تلك الليلة البعيدة بالغرفة 216 بأطراف شارع غالوشكينا بموسكو. ولكن ( الواطي، واطي. ) كما يقول جدي صالح رحمه الله وطيّب مثواه.
فكّرت أنني أحتاج إعداد قهوة أخرى، فقط لأجد حلاّ خلال فترة التحريك. كيف أفعل دون أن يتألم صديقي أولاد حمد والمنصف المزغني، الذي سيغتاظ بالتأكيد لأنّ مصاريف الرحلة ستقسّم بسببي على ثلاثة بدل أربعة. ثمّ الصديق حمّادي الوهايبي، المشدود هناك، عند كلاليب القيروان. كيف سأبرر له غيابي عن حضور الافتتاح، رغم معرفته بوصولي إلى تونس منذ خمسة أيّام كاملة، لم يتسن لي فيها رؤية أهلي. فضلا عن أصدقائي وصديقاتي الحائضات. بل أنني لم أتصل بابنتي ونور عيني ياسمين سوى مرّة واحدة منذ وصولي. أعددت القهوة فعلا، ولكن الرغوة فاجأتني بالفوران قبل أن أحلب الملاعق الأولى. انتهى كلّ شيء إذن. طيّب، سأرافق أولاد حمد، لقد طلب منك مرّات بصفة غير مباشرة، ومرّتين بشكل مباشرة, أن تكتب نصا عنه، اللعنة لم أكتب حرفا واحدا. مركز التأنيب بمخيخي الأيمن يكرر نصّ التقريع. ستكتب نصّا بالسياّرة خلال رحلتكم الطويلة إلى سيدي بوزيد. أربع أو خمس صفحات تكفي. ربّما صفحتين. برقيّات الحلّ النّهائي تتدافع متّخذة شكل عناوين بارزة تقذف بها الكريات المسؤولة عن البريد السريع. الأمر واضح. تجاهل تذمر جسدك الآن على الأقلّ. رافق أولاد حمد. بعد التكريم، غادر سيدي بوزيد باتجاه القيروان. وحتّى إذا حدث ووجدت أحدا ببهو الفندق فاتجه مباشرة صوب الاستقبال. تسلّم مفتاح غرفتك. وارتم على الفراش بملابسك.
سألني الشاعر الصديق المنصف المزغني، وهو يتوكأ على كتف المنصف الوهايبي الأيمن، إذا ما كنت أريد البقاء بسيدي بوزيد أو مرافقته مع الوهايبي للقيروان. كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساء، وكنت أشعر بصداع وغثيان بعد اصراري الغريب على حضور كلّ قراءات الشاعرات المغاربيات التي تمّت على هامش الملتقى، رغم أنني استمتعت حقا ببعض القراءات. نظرت إلى أولاد حمد هناك، كان صوته المضغوط الأجش يسمع من بعيد وهو يؤكّد للمندوب الجهوي جازما، بأن لحم الماعز صحيّ، وأكثر نفعا من لحوم الخرفان المستوردة، في حين كان مخاطبه يجاهد عبثا لفت إنتباه الشاعر المثقل بتاريخه الشخصيّ، وآلام ركبته وقلبه الحائض كامل فصول الشهر، بأن مندوبيّة سيدي بوزيد مؤمنة بالتاريخ وتعمل جاهدة لرسم حفير في مجاريه. أجبت المنصف الوهايبي حين كرر سؤال المزغني، بأنني أريد القيروان. أشار كاليائس إلى شابين كانا كامل الوقت معنا ولم أنتبه إليهما، بأنه علينا التّحمل لأنّ السيّارة صغيرة، ولكنه عقب كعادته، بأنها متعوّدة على الضيق. ركبنا السيارة، وكما توقعت تماما، حُرنت، وأبت الحراك. في حين كان الشاعر عبد السلام لصيلع يلم قطيعه الوديع من الشعراء الشبّان ويهش عليهم بأبوّة مؤثرة للدخول إلي الحافلة الصفراء, حيث يلوح وجه الشاعر الصديق , القاسمي كالفحل من خلف الزجاج، في حين راح بقيّة الشعراء يقضمون أظافرهم، إستعدادا للعشاء الموعود.
وصلنا نزل – الكونتينونتال – مع الساعة الواحدة ليلا بعد مغامرات لا تصدق. نزلت مع المزغني، وقد تيبست أطرافي, وأخبرنا المنصف الوهايبي بأنه مقاطع للمهرجان، لذلك فهو يودعنا على أن نتهاتف.
تركت المزغني يسند ساعدي الأيسر ونحن ندخل الفندق من بابه الرئيسيّ الزجاج. وأصبت بالذعر وأنا أرى الدكتور المخرج الأردني فيصل الزغبي, كنا درسنا معا بمعهد السينما الدولي بموسكو, وكنت لسنوات أدعو الله أن لا أراه أبدا. كنت أعرفه، فهو لا يتكلّم مثل بقيّة البشر، ولكنّه يمنع الكلام. ثمّ أنّه لايقول شيئا أكثر مما يقال. كنت أعرف أنه من اؤلئك الذين يتكلّمون بصخب وانفعال وحين تتثبّت فيما يريدون قوله لا تفهم شيئا. لا شيئ.
سلّمت, وأردت سحب المزغني صوب الإستقبال، لكنني لاحظت أنه يريد حضور النقاش الحاد. كان النقاش يدور خاصة بين الشاعر شاهر الخضرة والدكتور فيصل الزغبي حول التعقيد المبالغ في اللغة العربيّة وكان الدكتور فيصل الزغبي- وهو الذي ظلّ سته أشهر يتعلّم أسماء الأشهر باللغة الروسيّة – ينفخ أوداجه ويجمع بصاقه بيسراه مصرّحا بأن العرب لا يحتاجون تعلّم مادة النحو التافهة, وأنّه آن الأوان لقبول الأمر الواقع والمراهنة على العولمة التي تشترط التخلّص من هذا الإرث اللغوي الثقيل. وسانده الشاعر شاهر الخضرة، الذي يبدو و أنّه يتعرّض لمضايقات لطبيعة شعره الدارج، حين قال بأن أطول الأفعال هي أفعال اللغة العربيّة ونظر لي طالبا رأيي في الموضوع. كانت مثانتي قد بدأت تدق منذ مدّة لذلك أجبته وأنا أقوم بأن من إعجاز اللغة العربيّة أنها تحوى أفعال من حرف واحد, مثل صيغ الأمر : ِش – ِق – عِ – فِ - … شعرت بصمت ثقيل يلف المقاعد, فغادرت متثاقلا يتبعني المزغني وهو يلطّف الجوّ بتبسيمة لا تكلّف كثيرا.
سلّمنا موظف الإستقبال وهو يبسم بإرهاق واضح غرفتين متلاصقتين بالطابق الثاني حيث ينزل أدونيس أيضا. إتّجهت كالممغنط صوب غرفتي، وارتميت بملابسي على الفراش الوثير. كانت الغرفة متّسعة وبلا شرفة، فقط بعض الشبابيك الخشبيّة الصغيرة، تنبعث منها رائحة الطلاء الحديث. نظرت من خلال ثقوب الخشب. صمت ثقيل يلف الحديقة السوداء المصففة بعناية موسمية. ومن بعيد يمكن بسهولة تبيّن نخلة يافعة من البلاستيك. هناك رائحة غريبة لم أستطع تبيّنها. خليط من رائحة القطط والبيض المسلوق ورائحة مواد التنظيف المحليّة.
لم أكد أرتمي على الفراش، حتّى سمعت المزغني يدق الباب. أعلمني وهو يسبّ القيروان بأنه لم يستطع فتح الباب. خرجت معه واكتشفت السبب فورا وأنا أرى المفتاح مقلوبا في رحم الثقب. همهم المزغني وأصر أن نبقى بعض الوقت بغرفته التوأم لغرفتي. قبلت على مضض، وبقينا نهِرّ لحدود السّاعة الرّابعة و النصف.
غادرت غرفة المزغني كالمسطول. وارتميت جثة على الفراش. بعد خمس دقائق استيقظت على صوت القنابلوأزيز الطائرات وقعقعة الدبّابات في غرفتي. ولم أحتج للكثير من الجهد لأعرف أن المزغني يتابع الأخبار وكنت أعرف أنه يتلذذ بسماع أصوات البارود وفحيح الموت. دققت الحائط بزجاجة عطر فارغة بلا جدوى. خرجت إليه ورحت أخبط الباب بجزع، ولكنّ صوت شخيره الموقّع على لعلعة البارود كان الأبقى. رجعت إلى غرفتي، وحاولت عبثا حشو ثقبتي أذني بأعقاب سجائر المارلبورو أخذتها من آخر علبة. محال. عناد المزغني وهو يتوغّل شاخرا صوته ومحطّما جحافل الدبابات والطائرات المروحيّة. كدت أبكي من الغيظ. وكرهت الحرب والشعـراء والغرف الوثيرة التي يتجوّل الصوت بينها دون اعتبار للجدران التي تبدو وكأنها فعلا جدران.
الساعة الخامسة ملأت حوض الحمّام بالماء البارد, وارتميت فيه. عادة تعلّمتها بروسيا للتغلّب على النوم أيام الإمتحانات, ذلك أن البنّ الروسيّ مغشوش بل أنّه يجلب النوم ويزيد من الإرهاق ويسبب مرض الربو.
قبل أن تزغرد ساعة بطني عند السادسة، كنت أطلب سيّارة أجرى من موظف الإستقبال الذي قابلني بإستياء واضح، كوني أفسدت نومه، ثمّ أنه بالتأكيد قد قرأ من بطاقة بياناتي بأنني كاتب محلي. بل ومن القيروان بالذات. سألت سائق سيارة الأجرة عن المبلغ الذي عليّ دفعه لو طلبت مرافقته لمدة ساعة من الزمن. كنت أريد أن أبدأ في تصوير المشاهد الأولى لسيناريو كنت كتبته منذ سنوات بعنوان: أزقة القيروان فجرا. أجابني السائق الذي بدأ يستيقظ، محاولا فهم المسألة. قال لي أنّه و بالرغم من أنه لا يجد زبائنا لأن أغلب الذين يستيقظون في هذا الوقت تكون وجهتهم المساجد، والمشي أجر ثابت ورياضة النبي صلى الله عليه و سلّم. فإنه يطلب مبلغ عشرة دنانير كاملة لأن اليوم , هو اليوم الأوّل للمهرجان, وقد يضيّع إمكانية خمس أو ستة ( كورسات) حسبتُ، حسبَ منطقه. أطول مسافة( للكورسة) يكسب منها مبلغ نصف دينار. إنّه يستغلّ الموقف، لكنّه كان موجودا، ثمّ أنّ الكاميرا الثقيلة ومحفظة الشرائط بدأت تؤلم كتفي لذلك وافقت وسلّمته المبلغ مسبقا لينبسط.
كنت في غاية السعادة أنّني صورت بالضبط ما كنت أحلم منذ سنوات بتصويره. ولم يستغرق ذلك نصف السّاعة حين رأيت قطتين عند مدخل -السبع فتلات - وهي أزقة ضيّقة جدّا يفضي كلّ زقاق فيها إلى زقاق أخر في شكل لولبي ساحر. طلبت من السائق التوقف وانتظاري خمس دقائق لمتابعة القط الرمادي الثاني الذي ينظر نحونا بريبة شرسة, كنت توقعت أن يلحق برفيقته ويدخل الزقاق العتيق. قلت، لن يقودني كائن إلى أزقة السبع فتلات أفضل من هذا القط الساخط. القطط الأصيلة تكره الغرباء. حين رجعت نظر السائق نحوي وارتسمت على ملامحه تقاطيع تجار الخضار بسوق الجملة. قال لي أنني سأكسب ملايين من هذا الفلم بالتأكيد, ومن قلة الأصل أن أبخس حقّه. فهمت ما يريد. طلبت منه أن ينطلق وحيدا لأنني لا أريد مرافقته. بصق إلى الأرض وانطلق .
حين رجعت مع السّاعة الحادية عشر للنزل, وجدت بالبهو حسين القهواجي الذي كتبت عنه كثيرا وكان صديقا. نظر نحوي ببرود رافسا بعينيه آلة الكاميرا الأوروبيّة، وسلم وهو يتثاءب مفيدا بأنه قرأ لي من هنا و هناك . قالها بشكل عدائي لم أفهم سببه، وأنا الذي كنت أريد مقابلته لمشروع قد يغيّر كامل حياته.
اتجهت إلى قاعة المطعم وجلست بالقرب من شاهر الخضرة و أدونيس الرائع. وبالطبع جاء الدكتور فيصل الزغبي يسعى وجلس مقابلا لي بالضبط بشكل بدد كلّ رغبة لي في الأكل. وبدأ في الحديث مقاطعا، حتى قبل أن يجلس . بعد نصف ساعة أخبرتُ المزغني بأنني سأسكته. وفعلا لم يتحمّل أكثر من خمسة جمل مني، وكان رده معبّرا عن طريق جسده الذي تكوّر بشكل بائس وغاص عميقا في الكرسي الوثير، تاركا لنا التمتّع بمداخلات أدونيس اللبقة والذكية. والتي تضوع دربة وخبرة وتجربة وعمق. واحسست بالإمتنان في عيون أدونيس العجوز.
بعد الفطور مباشرة تفرقنا، ووعدت أدونيس أن أرافقه مرة أخرى للمدينة العتيقة بدون شاهر الخضرة
اتجهت إلى غرفتي, وارتميت لحدود الساعة الرابعة والنصف في حوض الماء البارد. و اكتشفت بأن مبلغ الثلاثمئة وثمانين دينارا التي كنت أضعها بجيب الجاكيت الداخلي إضافة لنظاراتي والهاتف المحمول قد اختفت. بحثت كالمجنون، لأنني كنت أريد السفر للعاصمة ولم يكن معي غير ذلك المبلغ. ليكن قلت. سأغادر.
مع الساعة الخامسة، كنت أسلّم المفتاح لموظف الاستقبال وامتطي سيارة تاكسي باتجاه مكان تجمّع سيارات الأجرة لتونس. وجدت دينارا واحدا في جيب السروال الذي تركته بالغرفة. دفعت به معلوم التاكسي. حين وصلت, لم أجد سيّارة واحدة متجهة لمدينة تونس. كنت مثقلا بآلات التصوير والحقائب. نبّهني أحد بائعي الخضار لضرورة اليقظة لأن هناك شابان يمتطيان درّاجة ناريّة يريدان خطف الحقيبة التي تحوى آلة التصوير. كان المكان خاليا، وكنت مستعدا لتسليمهما الحقيبة قبل أن تمزق معها شرايين يدي عند خطفها.
كنت في أقصى درجات الإحباط حين سمعت صوته الأجش العذب ينادي: تــونس….تــونس…نفر واحد.
خمسة دقائق قبل أن تزغرد ساعة السادسة في بطني، كنت أخرج من سوق البهائم والحيوان حيث محطة سيارات الأجرة التي تخصصت منذ مدة في تهريب أبناء القيروان من لعنة القيروان. وافق صاحب السيارة مصعوقا على نقلي إلى تونس مقابل زجاجة عطر سعرها خمسون دينارا, وثلاث علب سجائر مارلبورو وولاعة سعرها ثلاثون دينارا. كاد يقبلني وهو يردد بأن المعلوم سبع دنانير…يا وجه الخير كان يردد كامل الرحلة. وحتى بعد توغلنا أكثر من مئة ميل عن القيروان الملعونة. كنت أتثبت أن كان هناك من يتبعنا خفية.
كنت منهارا فنمت.
استيقظت في فراشي الخشبي بميونيخ علي صوت ابنتي ياسمين وهي تغنّي في المرحاض كعادتها كلّ صباح. لم أرغب في معرفة إذا ما كان كلّ ما عشته حلما, أم أنّي كنت فعلا بمدينة القيروان ليلة البارحة.
كمال العيادي- ميونيخ www.kamal-ayadi.com
#كمال_العيادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أبو زيان السعدي , سيد الغيلان
-
- آنيتا - زوجتي
-
حميد ميتشكو
-
الخادمة الصغيرة: للكاتبة كوثر التابعي
-
الجوّاديّة لن تزغرد في أعراس هذا الصّيف
-
هذا الثّلج غريمي
-
المربوع
-
باريسا ألكسندروفنا و الغرفة 216
-
يوميّات ميونيخ العجوز
-
السردوك*
-
وداعا… وداعا يا عبد الرّحيم صمادح الكبير
المزيد.....
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|