|
كفتحري
عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)
الحوار المتمدن-العدد: 4694 - 2015 / 1 / 19 - 20:15
المحور:
كتابات ساخرة
من أسوء نتائج الحروب، وقعها المدمر على الاقتصاد والحالة المعاشية للناس، وتأثيرها وعلى الأمن والأمان، وأنا في مقالي هذا بصدد بعض من نتائج جملة الحروب التي خاضها العراق.
((كفتحري))
الدول الغربية تعي الآثار السلبية للحروب الطويلة عن تجربة حروبها العالمية، من خلال ذلك، حَفظ البعض الدرس ـ ممن يفهم جيداً ـ كإسرائيل لدرجة أنها تتجنب الخوض بمعركة تطول لعدة أسابيع، لكن لم ينتبه له (الغشمة) ومنهم... نحن العرب ! في حربنا مع إيران، كانت النتيجة (الاقتصادية) بعد ثمان سنوات، أننا غدونا من بلد غني لآخر مديون، ودينارنا بعد أن كان يعادل ثلاث دولارات ويزيد، صار العكس وأمسى (الأخضر) يعادل ثلاث دنانير، بمعنى أن قيمة الدينار قد انخفضت للعُشر ! وتكرر سيناريو طول أمد الحرب بعد تحرير الكويت، فرغم أن المعركة قد انتهت خاطفة بغضون شهر ونصف، لكن الغرب لن يكتفِ بقصف البنى التحتية ولا بالصفحة العسكرية ـ تلك العمليات التي جرت على الحدود ودمرت الآلة العسكرية العراقية وسفكت الدماء ولطخت بالعار سمعة الجندي العراقي وأذاقته مر الذل والهزيمة ـ بل استمرت في فرض صفحة الحصار اللئيم تحت ذرائع شتى. وهنا كان الغرب ذكي، فالعمليات العسكرية لو تستمر ستكون مُكلفة لهم بشكل قد لا يكون بشرياً لكنها على أية حال خسائر مادية تستنزف خزائن وزارات وربما دول، لذا فقد حسمها سريعاً وعاد بجنوده لثكناتهم، لكن مسلسل الحصار هو الذي استمر، وقد أتى ثمارهُ دون بذل جهد أو تكلفة تذكر، لكنه كان علينا الأشد وقعاً، فدمّر في المجتمع العراقي ما لم تدمره آلة الحروب، فقد قضى على تماسكه وعلى الأمن والأمان... من هنا تبدأ الحكاية الواقعية بداية التسعينات... × × ×
بدئنا نسمع ـ مثلاً ـ أن مرآة جانبية أو (كب) لعجلة سيارة يُسرق، ونَعجبُ لتفاهة اللصوص ولجرأتهم، وكيف تسمح (النفسيات) الضعيفة بهذه الأفعال ! وكنا نتساءل بغرابة... أين الشرطة، بل وأين النخوة ؟ ثم تطوّر الأمر سريعاً وصارت (العجلة) بكاملها تُسرق، وهناك على بعد أمتار تجدها في العلن يباع، ولا يصعب على من فقدها أن يجدها في سوق (الحرامية) بأبخس سعر !
وصارت تجارة سهلة ومُربحة، ونظـّمَ اللصوص نفسهم بعصابات، وصاروا يسرقون السيارات من البيوت أو باعتراض طريقها وحتى أمام الناس، فتُهرّب أو يتم (تفصيخها) في كراجات علنية في النهروان وجسر ديالى والرمادي، تقوم تلك العمليات تحت حماية عصابات مسلحة تعتاش الواحدة على الأخرى وترتعب حتى الشرطة منها، فاللعب صار (عالمكشوف وعالثكيل). ولما وجدنا في أبو غريب ـ يوماً ـ سيارة لصديق كانت قد سُرقت، اكتفت الشرطة بتزويدنا بكتاب عائدية وبمذكرة قبض واسترجاعها، ولم يتجرءوا أن يرافقونا ولن يجازفوا، وطلبوا أن نعذرهم فالحال ضعيف واليد قالوا... قصيرة ! تطور الحال بعد حرب (تحرير) العراق في 2003، وشكلوا عصابات تعترض السيارة ليظفروا بالسائق وسط الشارع وخطفه ويتركون السيارة، فقد تيقنوا من أن سائقها هو الصيد الأسهل و(الدسم) !
وقد حاولت الحكومة منذ البداية في التسعينات التصدي لهذه الظاهرة وذلك بإنشاء جهاز متخصص للحد من سرقة السيارات، وكالعادة فالعلاج يوضع للنتائج في العراق وليس للأسباب. كانوا يطلقون عليه مكتب مكافحة سرقة السيارات، ويقع مكتبهم بالأعظمية مقابل جامع الإمام الأعظم، وكان فيه عدد من الضباط والمفوضين يقولون أن واجبهم مكافحة سُرّاق ولصوص السيارات، وأعوذ بالله من كلمة (مكافحة) حين تطلق على بشر، وليس على (عملية) السرقة نفسها ! × × ×
كنت عام 1992 قد اشتريت سيارة (نصر) من شاب بالبياع بأسرع عملية بيع وشراء في حياتي، فبمجرد ألتقيته بمحطة وقود بالبياع، أعجبني اعتناءهُ بها، وبثلاثة كلمات... ـ تبيع؟ قال: 1800 دينار، قلت: أشتري! وكانت عملية تسجيلها واكمال الإجراءات وبشكل أصولي هي الأخرى سريعة جداً، فقلت سبحان الله فقد دخل العراق فعلاً بعصر السرعة. أطلبتُ من صديق يعمل بمعارض السيارات أن يقوم بصيانة سريعة للسيارة بشارع الشيخ عمر... فتأخر عليّ حتى المساء، ثم جاءني تلفون مقتضب من شرطي (متطوع) يقول بأن صاحبي والسيارة محتجزين (بالمكافحة)، ذهبت على عجل للأعظمية... كان هناك مفوض خفر، وضعتُ هويتي أمامه: أخوية، أنا صاحب السيارة النصر، أرجو بعد أذنكم أن تخرجون صديقي (فلان) المحجوز وأن تسلموني سيارتي... صوّبَ عينيه باتجاهي وكأني أطلقتُ سهماً صوبه: شنو؟
...فهمت من صاحبي حين ألتقيته من خلف القضبان، أن السيارة سرقت قبل أشهر بمنطقة الراشدية ثم وجدوها، وان بلاغ إيجادها وبرغم تأشيرهُ بحاسبة مديرية المرور، لم يسقـّط في سجلات الشرطة ولم يصلهم ما يشير لإيجادها. نصحني وعلى الفور بعض المخضرمون في التوقيف بالحل الوحيد، حل أستسهلوه فرددوا جميعهم كلمة واحدة، وقالوا أن من خلالها سيكون الفرج.
أكد المفوض لي بأنه يثق بكلامي، وان السنوية وأوراقي قانونية وعلاقتي (بالمتهم) مفهومة، لكن ستظل المشكلة تلاحقني حتى لو كنت أنا (صاحبها) هو من يقودها، لأنها مطلوبة بسجلات الشرطة ! ـ والحل ؟ سألته، قال بسرعة... ـ جيب أخوية (عشاء) لصاحبك لأنه أكيد جوعان من الصبح... وجيبلنا وياه، أو الأفضل أعطِ الشرطي فلوس وهو يقوم بالمطلوب، وراح (نضيّف) صاحبك لغاية ما تراجع المرور العامة في الغد. سألته : وشأجيبلك من المرور يا صاحبي؟ نظر إليّ وكرر نفس الكلمة التي سبق أن جاءتني من خلف القضبان وهو يناولني السنوية بغضب: كفتحري !
هي نفس الكلمة ذات الوزن الموسيقي التي أطلقها الموقوفون، لم افهمها فربما هي كلمة أجنبية محوّرة، لذا فقد خجلت أن أسأل ما تعنيه وتذكرت ما قاله المرحوم والدي يوماً من أن كلمات اجنبية لا تزال متداولة بالجيش العراقي، لأن (السيستم) بالعراق هو أساساً انكليزي. ظلّت الكلمة عالقة بذهني حين عدت للبيت وبقيت ارددها حتى لا أنساها، ولكي أحملها معي لمديرية المرور في الغد ! كفتحري ... كفتحري ... كفتحري × × ×
ـ أريد كفتحري... سألت حرس باب النظام مقابل ملعب الشعب ملوّحاً بسنويتي بين أصابعي، أومئ أليّ برأسه لشباك بعيد فأحسست براحة وطـُمأنينة كون طلبي مألوف لديهم وبالتالي فهو قابل للتنفيذ، وما أن كررت الكلمة على ست وجهات مختلفة في متاهات هنا وهناك، حتى وجدت نفسي داخل غرفة لرائد مرور وقد تكالب عليه المراجعين: سيدي... سيدي... من بينهم أستمع لصوتي النشاز: أستاذ من فضلك أريد... لم ألحق أن أذكر مطلبي وان انطق مُرادي، حتى (استشاط) غضباً وكأنني أنبتّ خنجراً بصدره ليهض واضعاً ذراعيه على منضدة كبيرة تحمل فوقها أسماً كبيراً منقوش بالخشب، الرائد... تراجع المراجعين المساكين مترين للوراء فصاح بهم... ـ يلة أطلعوا كلكم. خرج الشباب يسيرون للخلف وقد ارتطم الواحد بالآخر، ثم توجه نحوي بالكلام... ـ بس أنت أبقَ، تكدر تكلي ليش جنابك ما تحتِرِمْ، ليش مَ تقول سيدي؟ ـ بالعكس أنا خاطبتك بكل احترام، أنا لو تطوعت ضابطاً، لكنت اليوم عقيد ! ـ وشنو شغل حضرتك؟ ـ مهندس بالاتصالات. عاد ليجلس ويشعل سيجارته بكل هدوء... ـ أستريح أخي، يعني أنت تشتغل بالهاتف؟ طلب مني خدمة مقابل خدمة، وافقت أن أضع تلفونه على المراقبة وأصيد له (أبن الحرام) الذي يقلق منامه، وهكذا وبينما ضيّفني على استكان شاي بارد مدبس، ناولني رقم بيته ، ثم أرسلني بتوصية للأرشيف، وهناك لاحظ المفوّض أن أسمي ثنائي منقول من هوية الدائرة، بينما في هوية الأحوال الثلاثي، فرفض تمشية المعاملة رغم يقينه بأنني نفس الإنسان باسمه الثنائي أو الثلاثي. وكلفني (فض) الإشكال وقت وجهد، وبصراحة لولا (صديقي) الرائد لما كان بإمكاني إتمام المهمة، ولأستمرَّ صاحبي والسيارة... موقوفين. عدت مسرعاً بكتابي للأعظمية : تفضل أخوية، الرجاء طَلْـْعوا الرجُل الذي (نايم) عندكم منذ البارحة !
... لكن تبين أن مبيت صاحبنا كان بأمر قضائي، وخروجه يجب أن يكون كذلك، وعلية (سيبيت) يوم آخر وفي الغد الباكر عليّ الحضور أمام القاضي لتدوين الإفادة وهو من يأمر بالإفراج عنه، وهذا سياق روتيني، وكانت فلوس (الغداء والعشاء) لليوم الثاني من جديد في جيب إخواننا الشرطة، دون السماح لي بلقاء صاحبي وبدون مبرر ! في صباح اليوم التالي تم كل شيء مع القاضي بسهولة، واُلغي الحجز وحصلتُ لصاحبي أمر أفراج، وفي الساعة 12 كنت عند باب المكافحة... منعني الحارس من الدخول بحجة أنه وقت غداء (السيد) الضابط، وعليّ المراجعة بعد الساعة الثانية ظهراً، وعليه فقد أردف قائلاً... ـ روح جيب كباب لصاحبك يتغدة ووياك للسيد النقيب. قلت: على شنو، يرجع صاحبي لبيتهم ويتغدة ويّ جهاله ! ـ محتمل ما تلحك اتطلعه اليوم. قلت: مكتوب يُخلى سبيله اليوم، والله إذا ما أخرجتوه، أرجع اليوم للقاضي. ـ أدخل أخوية أنت والضابط تتفاهم لكن لا تجيب سيرة الأكل أمامه... يزعل وتحرجنا، لا تنسى الحلاوة !
تمت الإجراءات بغرفة الضابط بدقيقة واحدة، وأخلي سبيل صاحبي والسيارة لنعود بها. ـ ها صاحبي ليش زعلان و(داير بوزك)؟ بقي ساكت يشع رائحة عفنة، فلطفتُ الجو معه: صدقني صار يومين اركض لخاطرك، كل هذا وأنت مَ عاجبك؟ قال بغضب شديد... ـ تاركني يا عماد بالتوقيف يومين متقول شنو أكل وشنو شرب، وكل شغلتي تفض بنص ساعة زمان مو أكثر، تجيبلهم من المرور كتاب... (كف... تحرّي) !
عماد حياوي المبارك من على جسر الأئمّة ـ خريف 1991
#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)
Emad_Hayawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجرد كلام كلاب... وسفن آب
-
خُبزة (7) وطماطيّة
-
ذاك ال(6)طاس وذاك الحمّام
-
أي(5)ام صعبة
-
هولوكوست المل(4)جأ رقم 25
-
م(3)ركز 12047
-
جليكان مل (2) يان بالمجان
-
خ(1)راب البصيّة
-
(سِكس) طابوق
-
الأمرأة التي تحب عمرها... وتعشق الحياة
-
هل أنّ الشاعرَ موسيقارٌ؟
-
أميريغو فسبوتسي
-
أول مَن نطقَ (أحبكِ)... مجنون!
-
مورفي... مورفي
-
كارتير... بوري
-
قوم الآنسة (بك كي)
-
قضية أمن دولة!
-
مجرد كلام قادسية الذبان
-
صرخة الحبانية
-
شمسنا الغالية
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|