|
مَقاتل السياسة . . . . مقاتل الأفكار
حميد الخاقاني
الحوار المتمدن-العدد: 4694 - 2015 / 1 / 17 - 18:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في نقـد "ثقافة" الاتبـاع والتقليـد (2) :
مَقاتلُ السـياسة . . . مَقاتلُ الأفكـار حمـيد الخاقاني يرى باحثون ومؤرخون كُثرٌ أنّ رُقاد مجتمعاتنا الطويل تحت رماد "ثقافة" الاتباع والتقليد بدأ مع ما صار يُعْرَفُ عندنا بالفترة المظلمة. وهي فترة امتدت في تاريخنا طويلاً، يؤرخها البعض بسقوط بغداد على يـد المغول (عام 1258)، ويرى البعض الآخر، وأنا منهم، أن مقدماتها قد بدأت قبل هذا بوقت غير قليل. أخذت جراثيمُ هذا الانحطاط الثقافي بالإعلان عن نفسها، في تقديري، مع العَسْف الذي أخذت فِرِقُ هذه "الثقافة" وتياراتها تعتمده في تسوية خلافاتها الفكرية والسياسية، وصراعاتها من أجل السلطان، فازدحمت كتبُ التاريخ بأخبار مقاتل الطالبيين والخوارج، وكذلك من تناوب على حكم هذه "الأمة" من أمويين وعباسيين وفاطميين وغيرِهم، ومن عارضَ هؤلاء وأولئك. تاريخ حافلٌ بالدم والحرائق، وما يزال مختنقاً بهما إلى اليوم.
ولما كانت هذه "الثقافة" ذات منطلقٍ وإطار دينيَيْن، في الأصل، فقد عَمَدَت هذه الفِرَقُ والجماعات، منذ البدء، إلى توظيف الدين الجديد وثقافته أداةً في صراعاتها تلك، وتكييفهما بما يُؤَمِّنُ لها السطوةَ والاستحواذَ على الناس والدولة والمجتمع، وعلى الدين كذلك. وهكذا صار لكل فرقة وحزبٍ حقُّهما المقدّس الذي يختبئان وراءه، ويُقاتلان تحت راياته. يَقتُلان ويُقتلان. ومقدسُهما هذا، هو دائماً، ذو روح ومنطقٍ عُصبَويَّيْن، لا يُطيقان للآخر المختلف مكاناً بينهما، حتى وهما يدَّعيان خلاف ذلك. وهكذا فقد أصبح "الدينُ المُسَيَّسُ"، وثقافته معه، وسيلتَيْ قتلٍ وقمعٍ وتسلّطٍ، يُفْقِدان دينَ الإيمان الحق، إلى زماننا هذا، وجهَه وطابعَه الانسانيَيْن اللذين أتى بهما عند ظهوره.
ومع اشتداد مقاتل السياسة والسلطان المتلفِّعَةِ، في تاريخنا، بأردية الدين دوماً، تشتد مقاتلُ الأفكارالحرة، والتفكير العقلي المتنور خاصة، ويضيع حق الآخر ذي الوعي المختلف، والموقف المختلف، في الجدل والنقد، وقولِ حقائقِه، أو ما يراه هو حقائقَ. نادراً ما يُعرَضُ المختلفُ والمخالف وأفكارُهما، في تاريخ هذه "الثقافة"، على منصًّة الجدل الفكري المفتوح الذي يغني المتجادلين والمجتمع كذلك، قَدْرَ عرضهما على حدَّ السيف الذي يزعم أهل السيف أنه "حدّ الله وسيفُهُ"، وأنهمُ المُوَكَّلون بحمله وإقامة حدود العقائد من خلاله!
وتعود بدايات هذه المَقاتل، في اعتقادي، إلى ما عُرِفَ في تاريخ هذه "الأمة" بحروب الردة، حيث أصبح السيفُ، منذ ذاك الحين وحتى زماننا هذا، وحده مَن يُناظر ويجادلُ في أمر البقاء على الدين، أو الارتداد عنه! وكلّ ذو عقلٍ يعرفُ أنّ المناظرات التي يكون السيف لسانَها الذي لا ينطق لسانٌ سواه، لا يمكنُ لحرية البقاء في الدين أن تتوازى فيها مع حرية الخروج منه. وتلك حالٌ غَلَبَتْ، إبّان الحقبةِ إياها، وما قبلها وبعدها، في ثقافات أخرى ركبَ الحكامُ فيها عربات العقائد، وجعلوا من الأديان خادمةً لسياساتهم وسلطانهم. وفي مثل هذه الأحوال لن يعود لمنطق العقل وحججه، وحرية الأيمان فكراً وروحاً، من معنىً يُذكَر، وتأخذ الأحداثُ مَجارياً مأساويةً تتناقض وما تأتي به آياتٌ من (الكتاب). يردُ، على سبيل المثال، في سورة البقرة : {لا إكراه في الدين قد تبَيَّنَ الرشد من الغيِّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} (2/256). ويتجلّى حقُّ المرء في حرية خياره هذا في آية من سورة الكهف كذلك : {وقُلِ الحقُّ من ربّكـم فمن شاء فليؤمن ومن شا فليَكفُر} (18/29). لكنّ السيف لا يعرف القراءة. لا يعرف غيرَ سَـفْك الدماء وقَطْع الرؤوس!
وكما تذكر كتب التاريخ فقد كانت مَقاتلُ الخلقِ في تلك الحروب كبيرة، فهي لم تشهد دماء تُراقُ فحسبُ، وإنما إحراقاً لمرتدين كذلك. يوردُ الباحث التراثي (هادي العلوي، 1933 ـ 1998)، في هذا الشأن، ما رواه (الطبري 838 ـ 923) في الجزء الثاني من تاريخه، عن كتابين للخليفة الراشد الأول (أبي بكر الصدّيق، ت. 634 م.) وجَّهَهما إلى أمراء الجيوش تضمَّنا أوامرَ بالإحراق، وينقل وقائع نُفِّـذَت فيها هذه الأوامر. كما يأتي لنا (العلوي) بما أخبر به (البلاذري، ت. 892 م.) في كتابه (فتوح البلدان) من : "أنّ خالد بن الوليد أحرق بعض المرتدين بعد أسرهم وأنَّ اعتراضاً من الصحابة قُدِّمَ لأبي بكر ضد هذا الإجراء، فردهم أبو بكر قائلا : لا أشيم سيفاً سلَّه الله على الكفار. يقصد خالداً" (هادي العلوي؛ من تاريخ التعذيب في الاسلام /24). (يبدو أن بعض جماعات الارهاب السياسي ـ الديني المعاصرة ترى في هذا النوع من القتل حرقاً "سُنَّةً" تهتدي بها، فقد رأينا فِرَقاً منها "جماعة النُصرة" و"جند الشام"، مثلاً، ترمي أسراها، في سورية، وهم أحياء، في حُفَرٍ تتقد فيها النيران! ومن مفارقات هذا الزمان أن "السيد الديمقراطي الأمريكي!" ومعه حلفاؤه الغربيون، ما زالوا يُصَنِّفون هذا الفرَق في "خانة" المعارضة السورية المعتدلة، ويُسْدون لها العونَ في زراعة الموت والخراب هناك!).
أحدُ مظاهر ضياع حق ذوي الاجتهاد المختلف في إشاعة اجتهادهم، والدعوة للجدل حوله، يتبَدّى في تلك المرحلة، مثلاً، فيما كابده (أبو ذر الغفاري)، وهو الصحابي الجليل، من عنَتِ (معاوية بن أبي سفيان، ت. 680 م.)، حين كان هذا الأخير والياً على الشام، وتأليبِهِ الخليفةَ الراشد الثالث (عثمان بن عفان، توفيَّ قتيلاً في 656 م.) عليه، لينتهي به المطافُ منفياً بأمر الخليفة إلى (الربذة) ليموت في صحرائها وحيداً عام 652 م. ولم يكن لهذا الشيخ، الفريدِ طرازه، من ذنب سوى أنه خاف على دينه، وكما فهمَه هو، من دنيا الحكام، فأخذ يجادل في الفقر واكتناز الأموال، والتوزيع غير العادل للثروة، ويرى في كنوز الأغنياء حقاً للسائل والمحروم، ويجتهدَ في هذا بغيرمايراه "وليُّ الأمر"، وارستقراطيو قريش حينذاك.
وفي عهد الأمويين (661 ـ 750 م.) اشتدت، ربما باستثناء فترة (عمر بن عبد العزيز، حكَمَ من 717 م. إلى 720 م.) ملاحقةُ المخالفين، واكتضّت صفحاتُ التاريخ بأخبار مجازرهم، بدءاً بكربلاء التي لا تنتهي حكاياتُها، واختتاماً بآخر أيامهم. ويذكر الباحث (عبود الشالجي، 1910 ـ 1996)، في دراسته الهامة ذاتِ المجلدات السبعة (موسوعة العذاب)، نقلاً عن كتاب (الحيوان) لناثر العربية الكبير (الجاحظ، 775 ـ 868 م.)، أنّ الأموي (زياد بن أبيه، ت. 676 م. ربما) أولُّ من سُلِّطَ على الخَلق من الظالمين، "فعذَّبَ الناسَ ودفنَهم أحياء، وبنى عليهم الحيطان، وقطَع أطراف النساء!" (موسوعة العذاب، م 8/1).
ويمثّلُ أمرُ الخليفة الأموي (هشام بن عبد الملك، ت. 743 م.) بقَطْعِ يدي (غيلان الدمشقي) ورجليه وصلبِهِ على أحد أبواب دمشق عام 724 م (ابن عساكر: تاريخ دمشق؛ ج 48/ 186ـ 212) إحدى الصفحات البشعة في تاريخ هذه "الثقافة". كان (غيلان الدمشقي) فقيهَ بلاد الشام، وأحدَ مثقفي التنويرالأوائل في الاسلام، في إطار زمانه ذاك، وتيارات الفكر السائدة فيه . ولم تكن خطيئتُه غيرَ نقده اللاذع لمظالم بني أمية، وتقريره بأن الانسان حرٌّ، مختارٌ، وأنه مسؤول عن خياره، يُحاسَبُ عليه. وقد جاءت آراؤه ومواقفه لمعارضةِ ودَحْضِ مساعى الأمويين في تثبيت حكمِهم، وإضفاء صفةِ المشيئة الالهية عليه، عبرَ ترويجهم وتبنّيهم لفكر (الجبرية) القائل بِـ"أنَّ كلَّ ما كان، وما هو كائن، وما سيكون إنما هو أمر الله وقدَرُه". وليس غريباً أن يبتهجَ خصومُه من أهل الحُكم، وعلمائهم ووعاظهم لمقتله، حيث نقلَ(محمد عمارة) في كتابه (مسلمون ثوار) عن بعضهم قولَه: "إنَّ قتلَه أفضلُ من قتلِ ألفَيْن من الروم"!
ومن مساخر تاريخنا هذا، والثقافة الغالبة عليه، أنّ من ثار على مظالم الأمويين، واعتلى عرشَ الخلافة بعدهم، ماثلَهُم في ظلمهم أو زاد عليه، وكأنه أراد أن يؤكد لنا أزليةَ تبادلِ الأدوار المتواصل بين الجلادين وضحاياهم، حتى عصرنا هذا، في مجتمعات هذه الثقافة والثقافات المشابهة. لقد توالت في عهد بني العباس (750 ـ 1258 م.) مقاتلُ المعارضين والمخالفين وملاحقتُهم، فكان (المنصورُ العباسي، ت. 775 م.)، مثلاً، لا يكتفي باعتقال المُعارض له وحبسِه، بل يأخذ أهله للحبس معه ، مثلما حدث لعبد الله بن الحسن المثنى. وتروي كتب التاريخ أنه كان يُسَمّرُ من مات في السجن من معارضيه على الحيطان، وأنه كان يدِقُّ الأوتاد في العيون، وقد دفن بعض المتمردين عليه وهم أحياء، وهدم البيوت على آخرين (كم أزجى له، ولغيرة من الظلَمَة، المديحَ شعراء وكتابٌ في الماضي والحاضر؟! أليس هذا من فضائح هذه "الثقافة" و"مثقفيها"؟).
وتنوعت "فنون" العذاب وألوانُه في زمانه، وأزمنة الذين جاؤوا من بعده، خاصةً نحو ذوي التفكير العقلي الحرّ، ونقَدَةِ الثقافة الرسمية وسلاطينِها، تارةً بتُهمِ الزندقة والإلحاد، وتارةً بجريرة الشعوبية. فكان من ضحاياها، على سبيل المثال، (عبد الله بن المقفع، 721 ـ 756 م)، حيث رأى (المنصور) وبطانتُهُ في تمجيده للعقل، ودعوته في العودة إليه في الأشياء جميعها، وتشديده على اعتماد الأخلاق ومتطلباتها في سلوك أهل السلطان، بأنه يعمد إلى (إظهار الاسلام، وإخفاء الكفر)، فوجَّهَ الخليفةُ واليَه على البصرة بقتله، فصار هذا يقطعه عضواً عضواً ويرمي به إلى التنور، ويُكرهُه على أكل جسده مشويّاً حتى مات. ويوردُ (ابن كثير) في كتابه (البداية والنهاية، ج 10/ 78) قولاً للخليفة العباسي (المهدي) يذكر فيه أنْ: "ما وُجِدَ كتابُ زندقة إلا وأصلُهُ مِنِ ابن المقفع، ومطيع بن أياس، ويحيى بن زياد".
ولم يكن عهدُ هذا (المهدي، ت. 785 م) أفضلَ لأهل العقلِ من عهود سابقيه، وكثيرٍ ممن جاء بعده من الحكام . فقد ظلَّ (سفيان الثوري، ت. 161 هـ)، أبرزُ فقهاء ذلك الوقتِ، طريدَهُ زماناً. يُقيم في الخفاء، ويتنقّلُ بين المدن والنواحي، ويلتقي بمُريديه سرّاً، حتى وفاته. وكان مَرَدُّ غضبِ الحاكم عليه، وهَمِّهِ بقتلهِ، إباءَه الوقوفَ على أبوابه، وحضورَ مجالسِهِ، وتلَقّي عطاياه، وتولِّي القضاءَ له. ومما عرفَه عهدُ هذا (المهدي) من مقاتلَ مأساويةٍ للأفكار الحرة اتّهامُه وبطانتُهُ للشاعر (بشار بن برد، 714 ـ 783 م.) بأنه (يدينُ بدين الخوارج)، ومن ثم رَمْيُهُ له بالزندقة، حيثُ ضُرِبَ بالسياطِ حتى مات. ويذكر (اليعقوبي، ت. 897 م) في تاريخه، بأنّ "المهدي قد ألحَّ في طلب الزنادقة وقتلِهِم، حتى قتل خلقاً كثيرا." (تاريخ اليعقوبي، م 2 /200).
ولم يكنِ البطشُ بالمعارضين، وبمن اجتهدَ بغير ما يراه الخليفةُ وبطانتُه وخالفهم فيه، أخفَّ وطأةً في أزمنة من جاؤوا للخلافة بعد (المهدي). فقد نقل (عبود الشالجي) في موسوعته المذكورة عن (الطبري) ومؤرخين قدماء آخرين، ما يُفيدُ بأن (المتوكل، ت. 861 م.) : "نبشَ القبور، وكان اتهام الانسان عنده بأنه من شيعة آل عليّ كافياً لقتله" (الموسوعة، م 1/ 9).
ومع امتطاء هذا (المتوكل) كرسيَّ الخلافة أصبحَ الحَجْرُ على أهل المنطق والتفكير العقلي وملاحقتُهم نهجاً، درَجَ عليه أغلبُ مَنْ تبِعَه من خلفاء وحُكام. وحظيَ هذا النهجُ بمباركة فقهاء الدولة، ووعاظُها الدينيين، و"مثقفي" البلاط. وأصبحت "ثقافة" الحَجْر هذه عقيدةَ الدولة، منذ ذلك العهد وما تلاه. وكما هو الحال في كل ثقافة وحضارة فقد انطوى خنق أسئلة العقل، فضلاً عن دلالته الفكرية، على بعدٍ سياسي كذلك، لا مقاصدَ له سوى تأبيدِ طاعة الحاكم وعقيدته، والنظر إليه بوصفه حارسَ العقيدة، وظلَّ الله على أرضه! إقامةُ حدودِ اللهِ تُصبحُ، عندها، إقامةً لحدودِ الحاكم وحُكمِه!، فيغدو الاحتجاجُ على جورِ الحاكم ،مثلاً، محاربةً لله ورسوله تودي بصاحبها للموت!، وهذا أمرٌ ما نزال نراه، اليوم، في أكثر من مكان في محيطنا العربي ـ الاسلامي!
قبل عهد المتوكّل أصبح الاعتزالُ العقلي وأفكاره عقيدة الحاكم إبّانَ خلافة المأمون (ت. 833 م.) والمعتصم (ت. 842) والواثق (ت. 847)، وهو ما أساء للاعتزال، بالتأكيد، إذ جعل الساسة منه، آنَذاكَ، الفكر الرسمي الوحيد الذي ينبغي أن يدين الجميع باجتهادات رجاله. وهكذا أصبحت "عقيدةُ" الاعتزال، وهي في الأصل اجتهادٌ عقلي لاغير، سوطاً بيد الحاكم وفقهائه، ظلَّ من خالفه، وقال بغيره، عُرضَةً للملاحقة طوال 43 عاماً، هي زمان حُكم هؤلاء الخلفاء. ولم تكن محنةُ الإمام أحمد بن حنبل (780ـ 855) الذي أبى القول بخلق القرآن، وحتى الجدلَ بشأنه، غيرَ المثل الأشهر، في حينها، على قمع الفكر الآخر، وباسم العقل هذه المرة! وحين تظافرت جهود مؤسسة الحكم وفقهائها، فيما بعدُ، على مطاردة العقل، إذا ما خرجت أسئلتُه إلى ما لا تهوى، ضعُفَ التوقُ إلى ارتياد حقول العلم والمعرفة العقلية والفلسفية في ديار الاسلام، أللهم سوى استثناءات شهدتها مراحل قصيرة، وحالات نادرة هنا أو هناك. فتوقف الاجتهادُ الحرّ أو ضعُفَ، تحت وطأة هذه الأحوال، وسادت عقليةُ التقليد الأعمى، وأصبح الخطاب المتزمت، بمدارسه المختلفة، عالي الصوت، سائداً في المؤسسة الفقهية الرسمية على نحوٍ خاص. وعاد الناس يكتفون بما قاله السلفُ، وكأنَّ معارف الدنيا قد خُتِمتْ بهم، وأوصدت أبوابَها دون من جاء بعدهم. وصار تكفيرُ وتلحيدُ المفكرين العقليين الأحرار يُطلَق عليهم جُزافاً، حتى دون قراءة مؤلفاتهم موضعِ التكفير، وإظهار مواطن الإلحاد والزندقة فيها، والجدل معهم بشأنها، على نقيض ما كان يفعله بعض الأئمة والفقهاء في مراحل ماضية. فقد نُقِلَ أن الإمام جعفر الصادق (ت.765 م.) درجَ على مجادلة (الدهريين) القائلين ببقاء الدهر، ونُكران الآخرة، ومُحاججة أصحاب العقائد الأخرى. وتبِعَهُ في هذا أئمة وعلماء آخرون، نذكر منهم الامام أبا حنيفة (النعمان بن ثابت، 669 ـ 767 م.). وكانت تلك مناظرات يكون الجدل فيهاُ فكرةً تردُّ فكرةً، وحُجةً تُقابل حُجّة، ورأياً يواجه رأياً. لكنّ هذه الروح لم تُصبح هي السائدةُ فيما بعد، وغدا السبيلُ الأسهلُ الغالبُ تلحيدَ أهل الأفكار الأخرى، والإفتاء بتكفيرهم، وحتى قتلهم!
وأخذتْ هذه الأحوالُ تشْـتدُّ وتَطغى في مراحل لاحقة، صارت تُلاحَقُ فيها الفلسفة، وأهل المنطق العقلاني، ويُصبحُ فلاسفة العرب والمسلمين، ومفكروهمُ المستنيرون، "ملعونين" و"أغبياء"، كما وصفهم أبو حامد الغزالي (1058ـ1111) في (تهافت الفلاسفة). وقد رأى أنَّ "مصدر كفرهم سماعُهم أسماء هائلة كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وأمثالهم . . " (تهافت الفلاسفة/75). فهم أخذوا عن هؤلاء الأغراب، وشطّوا، في عُرفه، عما أتى به الأوائل من قومهم، فإذا هم يبدون له كأولئك الذين صحَّت فيهم قولةُ (التوراة) بأنهم لا يعرفون ما يفعلون!. فما كان منه إلا أن كفَّرَهم، وأوجبَ القتلَ لمن يعتقد اعتقادهم! (التهافت/307)
وكما يبدو فإن الإمام الغزالي قد نسيَ، وكذا من مضى على منوالهِ إلى عصرنا هذا، أن ما نطلق عليه (العصرَ الذهبي) للحضارة العربية ـ الاسلامية، وننتفشُ كالطواوييس فخراً به، لم يكن ليبزغَ وينشرَ أنواره علينا، وعلى غيرنا من الأمم، فيما بعد، دون ذاكَ التلاقح مع ثقافة أولئك الأغراب، وأغراب آخرين سواهم. لقد كان لحضور أفلاطون وسقراط وأرسطو، وغيرهم من حكماء اليونان، في أوساط مثقفي بغداد وديار الشام ومصر وقرطبة، في تلك الأزمان، بركةً لا يُنْكَرُ فضلُها على حضارتنا آنذاك. وهو فضلٌ لم يكن له أن يتحققَ دون جهدِ (النساطرة المسيحيين) من أهل الأمصار المفتوحة، العراق خاصة، في نقلِ أعمال هذه الأسماء إلى العربية ووضع الشروح عليها، وفتح السبيل لإخصاب ثقافتنا من خلالها. نحن غزونا بلادهم، فاتحين إياها للإسلام، جاعلين منهم "أهلَ جزية!" في أوطانهم، وهم فتحوا لنا كنوزَ معارفهم في الطب والفلسفة والفلك والرياضيات والزراعات وغيرها، فأغنونا واغتنوا معنا كذلك.
يتجلى في كتابات الغزالي، خاصة (تهافت الفلاسفة)، وعلى نقيض كتابات أخرى سابقة له، جوهر "ثقافة" الإتباع والتقليد، وأسسها العقائدية، مثلما عرفها أجدادُنا من أهل الحقب البعيدة، وكما نواجهها ، نحن اليومَ، في أمصار العرب والمسلمين جميعِها. صحيحٌ أن فقهاء و"علماء" كُثْراً، سبقوه وأعقبوه، أسهموا في تشكيل صورة هذه "الثقافة" وترسيخها، إلا أن صورتها التي رسمَها هو ظلَّت، في الحقيقة، سمتها الأساس، في رأيي، إلى يومنا هذا.
ويمكن توصيف هذه السمة بعناصر أساسية ثلاث، أولها أن الاتصال بثقافة الآخر، الغريب، والأخْذِ منه مصدرٌ للانحراف والكفر (ممثلو هذه "الثقافة" يتحدثون اليومَ عن أخطار "الثقافات الدخيلة" التي تحيق بهوية الأمة وثوابتها!). أما العنصران الآخران فقد أشار لهما الباحث التونسي د. محمد الناصر النفزاوي في دراسته الهامة (الدولة والمجتمع)، ألا وهما: تقليد الآباء في معتقدهم، وفيما انتهوا إليه من أفكار وتعاليم، والبقاء عندها. واعتبار القرن السابع، من عشرته الأولى حتى منتصفه ربما، بدايةَ كل حقيقة. فما قبل هذا القرن يُعدُّ ضلالة، وما بعده يُحسَبُ ضلالة كذلك، إلا إذا وافق تفكير السلف. ولذا فليس ثمة حاجة للبحث عن الحقيقة في مكان آخر، لأن هذه الحقيقة موجودة في تلك الحقبة وعند أهلها، وما على المرءإلا أن يتقَيَّدَ بها، (النفزاوي؛ الدولة والمجتمع: من محنة ابن رشد إلى خصومة محمد عبده ـ فرح انطون، تونس 2000، ص 33).
كأن أبا حامد الغزالي يريد لنا أن نرى أن كل تفاعلٍ جدلي، منفتح على الآخر ومُنجزه الثقافي، خاصة في ميادين الفلسفة وعلوم الاجتماع والآداب والسياسة، تقهقرٌ في العلم والتمدن والحضارة، وقبل كل شيئ في العقيدة. منظومة التفكير هذه تقول لنا أنْ لا فكرَ حقيقياً خارج دائرة فكرها هي. والخيرُ خيرُها هي، ولا خيرَ عداه. وهي تكرِّسُ بهذا، في أذهان أتباعها، فكرةَ التضاد ـ النفي في النظَر إلى الثقافات والعقائد الأخرى، وليس فكرةَ التعرُّف عليها والتفاعل معها، مثلما تدعو إليه بعض آيات (الكتاب). وإزاء هذا لا تعود هذه "الثقافة"، في الحقيقة، سوى سجن للعقول والأفكار والناس كذلك. وهنا يكمن المصدر الأصولي الذي تتغذى منه أوردة وشرايين العقل المتشدد فيها، وتعود إليه تياراته ومدارسه المختلفة إلى عصرنا هذا. ما جاء به السَلَفُ ينبغي أن يكون، وكما يفهمُ أهل الإتباع والتقليد، حجةً علينا، وحجةً لنا في مخاطبة الآخر المخالف لنا، والصراع معه. علينا أن نحتجُّ بآراء الأسلاف دوماً، حتى ضد عقولنا وتجاربنا. ليس لنا أن نُحاججَها أو نحتَجَّ عليها. الأسلاف، عبرَ هذا الفهم، همُ المنطقةُ الثقافية المُغلَقَةُ التي يجب علينا الدورانُ فيها حتى نهاية الدنيا. ولكن من يقولُ بهذا المنطق يتجاهلُ أن السلفَ نفسَه لم يصلْ إلى ما وصلَ إليه إلا بمُحاججة ما كان قائماً، في زمانه، والاحتجاج عليه، والخروج من أقبيتهِ المُقفلَة. تغيُّرُ الأزمان وحاجات الحياة، وتطور الثقافات نفسها، تشترطُ جميعُها البحثَ عن أفكار وطرق جديدة، لا يمكن الاهتداءُ إليها دونَ الخروج على غير القليل من المألوف والبديهي، بعدما صار جدارا عالياً يحجب الرؤيةَ الصحيحة، أو حتى محاولة الوصول إليها.
تحريمُ مثل هذا الخروج المُعافى يؤدي، في النهاية، إلى "تَوْثين" كلِّ ما قاله السلفُ وقام به، ووضْعِه خارج أسئلة النقد والغَرْبلَة والتقييم. وهو حالٌ لا يختصُّ، في تقديري، بالإمام الغزالي وحده، وإنما يصِحُّ على أهل النَقْل والتقليد في ثقافتنا باختلاف نِحَلِهم ومذاهبهم، في الماضي والحاضر كذلك. وقد يجتمع معهم في هذا من يماثلهم في الثقافات الأخرى، فلكلِّ فريق منهم قرنُه وأسلافه وحجَجُه الذين يقتفي أثرَهم، ولا يحيدُ عنه مهما تغيرت الدنيا وتبدَّلت أحوالُها! فالجميعُ يلتقي في حَجْر الكوني الواسعِ، الروحي والمادي معاً، ومعهما الحياة والأفكارُ وغناهما وتبدّلاتهما كذلك، ورَبطهِ بالضيِّقِ، وهو ما قاله السلف، وإلحاقِه به وإسباغ قدسيةِ ذاكَ على هذا، مع أنّ قول هذا في ذاك اجتهادٌ بشريٌّ قد يصيبُ الحقَّ وقد يُخطئه. وهو اجتهادٌ حصلَ لصاحبه في سياقِ زمان بعينه، ومعارف وعادات ومجتمعات بعينها كذلك، لابدَّ لها، جميعاً، أن تكون ذات أثرٍ فيما استنبطه هذا العالم، أو ذاك الفقيه، واهتدى إليه في حينها. ولعله لو كان بيننا اليومَ، وتمثَّلَ أحوال عصرنا، وحركةَ المعارف والعلوم فيه لقال بما يناسب هذا العصرَ ويُسايرُه قبولاً ورفضاً، حيثما تطلَّبت الحياةُ ذلك. ثم أنَّ تجاربَ التاريخ وعِبرَه، في عالمنا كله، أظهرت لنا أنَّ ارتهان الواسع المقدس بالبشري الضيّق ومقاصده، إذا ما ارتبطَ بالسلطان خاصة، هو ما يفتح السبيل، غالباً وفي كل مكان وزمان، للتضييق على الأفكار المتحررة وأسئلتها وجدلها واجتهاداتها، وقيام الاستبداد على الناس في النهاية. ومثل هذا الارتهان إساءةٌ للمقدس لا شكَّ، إذ غالباً ما يحسبُ الناسُ جهالةَ البشري المتشدد، وتخلُّفَهُ وعداءَه للعلم والتطور والتحرر، ولكل ما هو جديدٌ، على المقدّس الذي صار يزعمُ الاجتهاد البشريُ الجاهلُ أنه لسانُه ووصيه على الأرض. وهكذا تَزِرُ الأفكارُ الانسانية الكبرى، دينية كانت أو دنيويةً، وزْرَ من يدَّعي الوصايةَ عليها، وتُؤْخَذ بجريرته.
#حميد_الخاقاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في نقد -ثقافة- الاتباع والتقليد (1) أسئلة الثقافة وصدأُ العق
...
-
إضافة مفهوم -ثقافة- إلى ما لا يُضاف إليه
-
قيامة الطائر
-
صناعة السلطة
-
شبح الشيوعيين مرة أخرى
-
-ديمقراطيو- السلطة وأشباح اليسار الديمقراطي
-
الطيب صالح ومعضلة الهوية
-
جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين
المزيد.....
-
اللواء باقري: القوة البحرية هي المحرك الأساس للوحدة بين ايرا
...
-
الإمارات تكشف هوية مرتكبي جريمة قتل الحاخام اليهودي
-
المقاومة الإسلامية تستهدف المقر الإداري لقيادة لواء غولاني
-
أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال
...
-
كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان
...
-
قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر
...
-
قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب
...
-
قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|