أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ماريو أنور - القرآن كتاب دين ، لا كتاب علم - الكونيات -















المزيد.....


القرآن كتاب دين ، لا كتاب علم - الكونيات -


ماريو أنور

الحوار المتمدن-العدد: 1312 - 2005 / 9 / 9 - 10:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الإعجاز في العلم
"بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم"

(العنكبوت 49)

"وليعلم الذين أوتوا العلم أنّه الحقّ من ربّك"

(الحج 54)

"وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا"

(الإسراء 85)

توطئة
تعبير "العلم" في لغة القرآن واصطلاحه
يرد تعبير "العلم" اسما وفعلا مع مشتقاتهما كثيرا في القرآن . ويظهر بين هذا "العلم" ، و "أولي العلم" و "الراسخين في العلم" – وبين القرآن صلة متواصلة متأصلة كأنه يستشهد بهم ، ويستعلي بهم ، ويتحدّى بهم ، كما في قوله : "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون" (العنكبوت 49) ؛ "وليعلم الذين أوتوا العلم

أنه الحق من ربك ، فيؤمنوا به ، فتخبت له قلوبهم" (الحج 54) ؛ "والراسخون في العلم يقولون : آمنا ، كلٌ من عند ربنا" (آل عمران 7) .

وكأن أولي العلم يشهدون مع القرآن "إن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 19) فظن فريق أول أن القرآن ، كما هو كتاب دين ، هو أيضا كتاب علم . وأفرط بعضهم في الظن فرأوا فيه جميع علوم الأولين والآخرين . وانتهى الأمر ببعضهم فقالوا بإعجاز القرآن في العلم ، فقد سبق القرن العشرين الى الكشف عن علم الذرة ، لأن كلمة الذرة اللغوية وردت فيه . وقام فريق آخر منذ الشاطبي يردعون الناس عن ذلك الاسراف ، وينادون بأن القرآن كتاب دين لا كتاب علم . وقام فريق ثالث ، مثل عبد الكريم الخطيب في (اعجاز القرآن) يقف في منزلة بين المنزلتين ، فيرى " ان العلم هو الذي يخدم قضية القرآن ، إذ هو الذي يكثر له من القوى المبصرة التي ترى ما فيه من حِكم وأسرار ... وفي هذا يتجلّى وجه جديد من وجوه الاعجاز في القرآن ، وهو خلوده على الزمن ، مع احتفاظه بمكانه من السمو والهيمنة على كل ما تبلغه العقول من مدركات ، وما تلده الحياة من أسرار" (27:1) .

وهذا الخبط كله فيما بينهم قائم على سوء فهم التعبير القرآني : "العلم" و "أولي العلم" . انهم يفهمونه على حرف اللغة ، وهو اصطلاح قرآني ذو مدلول خاص . واصطلاح القرآن لتعابير "العلم" و "أولي العلم" ، وموضوع صلتهم بالقرآن ، يجعل صلة القرآن بالعلم ، بحسب حرفه اللغوي والعلمي ، لا وجود لها ؛ ويجعل ما قالوه من اعجاز القرآن في العلم من دون أساس : "وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا" (الاسراء 85) . فالقرآن كتاب دين ، لا كتاب علم .
القرآن كتاب دين ، لا كتاب علم "الكونيات"
إن تعابير "العلم" ، وتصاريح القرآن : "ما فرّطنا في الكتاب من شئ" ، "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ" ، كلها جعلت بعض القوم يرون في "الكونيات" القرآنية معجزة علميّة .

أولا : التطرّف قديما وحديثا

1 – عقد السيوطي ، آخر المحققين القدماء ، فصلا من (الاتقان 125:2) "في العلوم المستنبطة من القرآن" ، حيث يجعلونه موسوعة العلوم الحاضرة والماضية والمستقبلة ، من لغوية وعلمية وفلسفية . ونقل عن الطبري قوله : "وأنا أقول : قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شئ . أما أنواع العلوم ، فليس منها باب ، ولا مسألة هي أصل ، إلاّ وفي القرآن ما يدل عليها . وفيه عجائب المخلوقات ، وملكوت السماوات والأرض ، وما في الأفق الأعلى ، وتحت الثرى ، وبدء الخلق ... وقد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل مثل الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبْر والمقابلة والنجامة وغير ذلك ... وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله : ما فرطنا في الكتاب من شئ ... حتى لقد قال قائل : إن علوم القرآن خمسون وأربعماية وسبعة آلاف علم . أو سبعون ألف علم على عدد كَلِم القرآن مضروبة بأربعة إذ لكل كلمة فيه ظهر وبطن وحد ومطلع . وقال قائل : لكل آية ستون ألف فهم . حتى قال ابن عباس : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله" .

2 – وقد زاد بعض أهل العصر على تلك الخوارق والمخاريق : "أما بعد فيقول عبد ربه تعالى خادم الكتاب والسنة ، محمد العرب العزّوزي(1) : إن أوسع دائرة للمعارف تناولتها البشر القرآن الكريم" . والسيد عفيف عبد الفتاح طبّارة ، في كتابه (روح الدين الاسلامي) يعدّد " معجزات القرآن العلمية " , ويجد في بعض آياته النظريات العلمية الحديثة . والسيد عبد الرزاق نوفل ، في كتابه ( القرآن والعلم الحديث ) يرى فيه : أسرار علم النفس ، وأسرار علم الفيزياء الطبيعية ، وأسرار نظرية اينشتين في النسبية ، وأسرار علم الوراثة ، وأسرار علم الحياة ، وأسرار العالم غير المنظور في قوله في 73 آية " رب العالمين " ، كقوله : "وقد سبق القرآن علم الذرة وتفجيرها كما قال فيها : (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس ، هذا عذاب أليم ... وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا : سحاب مركوم ) . فقد وضعت سورة الدخان تفجير الذرة ومفعولها قبل 1400 سنة ونيف" . وقوله أيضا : "وأهم حدث في القرن العشرين ، إن لم يكن في حياة الأرض ، هو الأقمار الصناعيّة التي تنبأ بها القرآن الكريم في سورة النمل (82) : "واذا وقع القول عليهم ، أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون" .

________

(1) وهو أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية ، في "دليل مباحث علوم القرآن المجيد" – المقدمة ص 12
ثانيا : الاعتدال قديما وحديثا

القرآن مثل الكتاب والانجيل ، كتاب دين ، لا كتاب علم . فهو صريح كل الصراحة في اقتصار وحيه على الدين : "قل : إنما يوحى إليَّ إنما إلهكم اله واحد ، فهل أنتم مسلمون"؟ (الأنبياء 108) . فليس من وحي في القرآن سوى التوحيد وأحكام الدين والشريعة : " إنما أعظكم بواحدة : أن تقوموا لله" ! (سبأ 46) . ويركّز دعوته كلها على حصر الوحي القرآني في التوحيد وعقيدته وشريعته : "قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليَّ إنما الهكم اله واحد ، فاستقيموا إليه واستغفروه" (فصلت 6) .

1 – وقديما رأى ذلك بعض العلماء ، مثل الإمام الشاطبي (1) الغرناطي ، قال : "إن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد ، فأضافوا إليه كل علم يُذكر للمتقدمين والمتأخرين ، من علوم الطبيعيات ، والتعاليم – أي العلوم الرياضية – والمنطق ، وعلم الحروف ، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأسبابها . "وهذا اذا عرضناه على ما تقدم ( من أن القرآن إنما خاطب العرب بما كان واقعا في حياتهم ) ، لم يصح . والى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه ، وما أودع فيه . ولم يبلغنا أنه تكلّم أحد منهم في شئ من هذا المدّعى سوى ما تقدم ، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة ... ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدل على أصل المسألة ... إلاّ أن ذلك لم يكن ، فدلّ على أنه غير موجود عندهم ... وذلك دليل على أن القرآن لم يُقصد فيه تقرير شئ ممّا زعموا . نعم ، تضمّن علوما هي من جنس علوم العرب ، أو ما يُبنى على معهودها " .

2 – وحديثا أبدى بعض العلماء رأيهم كذلك :

يقول عبد المتعال الصعيدي في مقاصد القرآن : "مقاصد القرآن لا تخرج عن الوظيفة الدينية للقرآن ، لأنه نزل لتشريع العقائد والأحكام . فيجب أن يقف عند حدودها . فلا يُقصد منه غير هذا من بيان مسائل التاريخ أو الطب أو غيرها من العلوم ،

––––––––

(1) الموافقات 81:1

(2) النظم الفني في القرآن ص 36 – 37

لأنه لم ينزل لغرض من هذه الأغراض . وإنما نزل للأغراض السابقة التي لا سبيل الى معرفتها إلا بالوحي . أما هذه الأغراض العلمية فإنها تُعرف بالعقل ، ولا تتوقف معرفتها على الوحي . فلا يصح أن يخلط بينها وبين الأغراض السابقة في كتاب ديني كالقرآن أو غيره " .

والأستاذ دروزة(1) يرى أن "الكونيات" في القرآن هي من المتشابه فيه ، لا من اعجازه ، واستخراج النظريات العلمية منها إنما هو تمحّل لا يليق بقدسية القرآن . قال : "لعلَّ في تعبير الأوتاد عن الجبال ، والسقف المبني عن السماء ، والمصابيح المضيئة التي زينت بها السماء عن النجوم ، وجريان الشمس ومنازل القمر ، والسراج الوهّاج للأولى ، والمصباح المنير للثاني ، وفي ذكر انزال الماء من السماء ، وتسيير السحاب وتصريف الرياح ، وارسال البرق والرعد والصواعق ، وإثبات مختلف الزرع والأشجار ، وتسخير الدواب والأنعام ، وتسيير البحار والأنهار والفلك ، وجعل الأرض بساطا ، وتصويرها مركزا للكون ، والانسان قطبا للأرض ، حيث سخّر له كل ما في السماوات والأرض ، وسوّاه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ... ما جاءَ متّسقا مع مشاهد ومدركات مختلف فئات الناس الذين يوجه اليهم الكلام . وان ما ورد في القرآن من مشاهد الكون ونواميسه قد استهدف العظة والتدعيم دون أن ينطوي على قصد تعزيز ماهية الكون ، وأطوار الخلق والتكوين ونواميس الوجود من الناحية العلمية والفنيّة ... وهذه النقطة متصلة بالمبدأ العام الذي ما فتئنا نقرّره من أن القرآن خاطب الناس بما يتّسق في أذهانهم إجمالا من صور ومعارف ، لما يكون من قوة أثر الخطاب فيهم بمثل هذا الأسلوب . وملاحظة ذلك جوهرية جدا ، لأنها تحول دون التكلّف والتجوّز والتخمين ، ومحاولة استخراج النظريات العلمية والفنّية ، في حقائق الكون ونواميسه وأطواره منها ، والتمحّل والتوفيق والتطبيق ، ممّا يخرج بالقرآن عن نطاق قدسيته " .

فالقرآن كتاب دين – وكفاه ذلك فخرا – لا كتاب علم . ومن انتهاك حرمته ، جعله كتاب علم ، والكلام فيه عن الاعجاز في العلم .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) القرآن المجيد ص 190 – 192
"العلم" و "أولو العلم" في اصطلاح القرآن
إن القرآن يأخذ اسم "العلم" وفعل "علم" ومشتقاتهما ، أحيانا بحسب حرف اللغة ؛ ولكن أحيانا بحسب اصطلاح خاص يتّضح من القرائن . وهذا الاصطلاح الخاص هو الذي غفل عنه القوم في صلة "العلم" والذي يعلمون بالقرآن ؛ وبنوا عليه نظريات لا أساس لها في القرآن .

إن الاصطلاح " أولي العلم " مرادف لأهل الكتاب الذين كانوا يسمّون المشركين الذين لا كتاب لهم ، وليس عندهم " العلم " المنزل : "الذين لا يعلمون" ، فهم أهل الجهل والجاهلية ، لا بالعلم المعروف والمعارف البشرية ، بل بالعلم المنزل في الكتاب .

في خطاب بولس الرسول في جامعة أثينا يقول : "ولقد أغضى الله عن أزمنة الجاهلية وها هو الآن ينذر جميع الناس ، في كل مكان ، أن يتوبوا ؛ لأنه قد حدّد يوما سيدين فيه المسكونه بالعدل ، بذلك الإنسان الذي عيّنه ، مقدّما للجميع ضمانة بإقامته من بين الأموات" (سفر الاعمال 30:17 – 31) .

وانتقل تعبير " الجاهلية " الى القرآن ومنه إلى الأدب العربي : "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية" (آل عمران 154) ؛ "أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" (المائدة 50) ؛ "وقرْنَ في بيونكن ، ولا تبرّجْن تبرّج الجاهلية الأولى " (الاحزاب 33) ؛ "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية" (الفتح 26) . فهو يقرن الكفر بالجاهلية . ويقابل بين أهل الكتاب "الذين يعلمون" ، والمشركين "الذين لا يعلمون " : "وقالت اليهود : ليست النصارى على شئ ! وقالت النصارى : ليست اليهود على شئ ! وهم يتلون الكتاب ، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ... وقال الذين لا يعلمون : لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ؟ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم : تشابهت قلوبهم" ! (البقرة 113 و118) . فالنص صريح بأن "الذين لا يعلمون" كناية عن المشركين ؛ وبالعكس "فالذين يعلمون" أو "أولو العلم" كناية عن أهل الكتاب ، كما جاء في

الآية : " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " (الزمر 9) . وهو اصطلاح قرآني للمقابلة بين أهل الكتاب "الذين يعلمون" والمشركين "الذين لا يعلمون" .

والقرآن يستشهد "بالذين يعلمون" ، ويستعلي على المشركين بهؤلاء "العلماء" بكتاب الله ، كما في قوله : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " (فاطر 28) أي " مَن عنده علم الكتاب " (الرعد 43) .

هل كان في الحجاز قبل الاسلام علماء بالطبيعيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وسائر العلوم الطبيعية ، حتى يخاطبهم القرآن ويستشهد بهم ، ويستعلي بهم ، ويكون معهم "أمة واحدة" في الدعوة القرآنية ؟

إن " الذين أوتوا العلم " في اصطلاحه المتواتر كناية عن أهل الكتاب ، كما في قوله : "قل : آمنوا به أو لا تؤمنوا ؛ إن الذين أوتوا العلم من قبله ، إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سُجّدًا" (الاسراء 107) . فالعلم على الاطلاق ، العلم المنزل ، هو عند أهل الكتاب ؛ ومعهم في القرآن ، الذي "هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم" (العنكبوت 49) . لذلك "يرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل اليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد" (سبأ 6) . فالقرآن يستشهد بطائفة قائمة على صحة تنزيل القرآن ودعوته .

والقرآن يقسم أولي العلم الى طائفتين : اليهود أولي العلم الظالمين ، والنصارى من بني اسرائيل أولي العلم المقسطين أو المحسنين . وقد تأتي صفتهم صراحة أو ضمنا في القرائن اللفظية أو المعنوية . والتقسيم والصفة ظاهران في قوله : "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن – إلاّ الذين ظلموا منهم " (العنكبوت 46) .

قبل الانجيل ، "الذين أوتوا العلم" هم أهل الكتاب على العموم : "إن قارون كان من قوم موسى ... وقال الذين أوتوا العلم : ويلكم ثواب الله خير" (القصص 76 و80) . وظلوا بعد الانجيل حتى القرآن كذلك على العموم ، كما في قوله بحق اليهود : "ومنهم من يستمع اليك حتى إذا خرجوا من عندك ، قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا" (محمد 16) . ولكن تعبير "أولي العلم" يخصّه بالنصارى من بني اسرائيل الذين هم "أمة واحدة" مع محمد . إنه يميّزهم ، في خطاب القاء الشيطان في الوحي ، من "الذين في قلوبهم مرض (المنافقين) والقاسية قلوبهم (المشركين) ، وإن الظالمين لفي شقاق بعيد (اليهود) . وليعلم

الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ، فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاد الذين آمنوا (جماعة محمد من العرب) الى صراط مستقيم" (الحج 53 – 54) . فهؤلاء "الذين أوتوا العلم" ، النصارى من بني اسرائيل ، هم الذين يشهدون للقرآن ، ويستشهد بهم النبي على الدوام : "وقال الذين كفروا : لست مرسلا ! – قل : كفى بالله شهيدا ومَن عنده علم الكتاب " (الرعد 43) . وشهادتهم تدوم الى يوم الدين : "ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول : أين شركائي الذين كنتم تشاقّون فيهم ؟ قال الذين أوتوا العلم : إنّ الخزي اليوم والسوء على الكافرين" (النحل 27) . فتعبير "الذين أوتوا العلم" أو "أولي العلم" عند الثناء والاستشهاد ، هو مخصوص بالنصارى من بني اسرائيل .

وقد يقترن التعبير بصفة تميّزهم عن اليهود ، أولي العلم الذين "اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ، بغيًا بينهم" – بالمسيح ثم بمحمد . فهم أهل العلم والايمان : "وقال الذين أوتوا العلم والايمان (للمجرمين) : لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث ، فهذا يوم البعث ، ولكنّكم كنتم لا تعلمون" (الروم 56) . وهم الراسخون في العلم : "لكن الراسخون في العلم منهم (من أهل الكتاب) والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل اليك وما أُنزل من قبلك" (النساء 162) . وهؤلاء "الراسخون في العلم" يؤمنون بالقرآن ، ويؤمنون بالمتشابه فيه كما بالمحكم : " والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كلٌ من عند ربنا" (آل عمران 7) . فهو يضع في منزلة واحدة ، كأمة واحدة ، "الذين آمنوا" من العرب ، "والذين أوتوا العلم" كقوله : " يرفع الله الذين آمنوا منكم ، والذين أوتوا العلم ، درجات " (المجادلة 11) ؛ لاحظ التمييز والعطف والجمع ، فهم أمة واحدة (الانبياء 92 ؛ المؤمنون 52) .

وهم خصوصا أولو العلم المقسطون الذين يشهدون مع الله والملائكة – والقرآن يدعو بشهادتهم – أن الدين عند الله الاسلام : "شهد الله أنه لا إله إلا هو ، والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط – لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم – أن الدين عند الله الاسلام . وما اختلف الذين أوتوا الكتاب (اليهود) إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بغيا بينهم" (آل عمران 18 – 19) . لذلك فاليهود الذين كانوا "يقتلون النبيّين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط : فبشرهم بعذاب أليم" (21) .

وهذا هو القول الفصل ، في هذا الفصل : إن "أولي العلم قائما بالقسط" هم النصارى من بني اسرائيل . وهم يدعون الى الاسلام قبل محمد (الحج 78) ، والقرآن يدعو

بدعوتهم الى الاسلام ، ويشهد بشهادتهم "أن الدين عند الله الاسلام" . هذا هو "علم" القرآن كله.

والنتيجة الثانية أن " العلم " في القرآن هو العلم المنزل على الاطلاق ، والعلم "النصراني" على التخصيص الذي جاء به المسيح في الانجيل ، فاختلف فيه اليهود من أهل الكتاب : " وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم " (19:3 ؛ 14:42 ؛ 17:45) . وهذا "العلم" الانجيلي "النصراني" هو الذي وصل الى محمد في القرآن : "بعد الذي جاءَك من العلم" (البقرة 120) ، "من بعد ما جاءَك من العلم" (البقرة 145 ؛ آل عمران 61) ، "بعد ما جاءَك من العلم" (الرعد 37) .

وبعلم الانجيل ، وهدى الكتاب يجادل القرآن المشركين : "ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" (لقمان 20 ؛ الحج 8) . أما محمد فهو يجادل في الله بعلم وهدى الكتاب المنير ، ويتحداهم بالكتاب والعلم المنزل : "قل : أرأيتم ما تدعون من دون الله ؟ أروني ماذا خلقوا من الأرض ، أم لهم شرك في السماوات ؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو إثارة من العلم ، إن كنتم صادقين" (الاحقاف 4) . فالعلم الحق هو العلم المنزل في الإنجيل ، وينادي به النصارى من بني اسرائيل .

وهكذا ، ففي اصطلاح القرآن ، إن "العلم" الذي ينادي به هو علم الكتاب ، "ومَن عنده علم الكتاب " (الرعد 43) . فليس القرآن اذن معجزة في علم المعارف البشرية . وليست هي من مقاصد القرآن . إنهم يقولون بمعجزة لا أساس لها في القرآن .

والاعجاز في "العلم" الذي يتحدّى به القرآن هو الاعجاز في "علم الكتاب" الذي هو مع "مَن عنده علم الكتاب" (الرعد 43) ، مع "الراسخين في العلم" (آل عمران 7 ؛ النساء 162) مع "الذين أوتوا العلم من قبله " (الاسراء 107) ، مع "الذين أوتوا العلم والايمان" (الروم 56) ؛ يقول : "فبهداهم اقتدِ" (الأنعام 90) ، "وأُمرتُ أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن" معهم . (النمل 91 – 92) .

إن الإعجاز في العلم هو إعجاز "علم الكتاب" .
"الكونيّات" القرآنية من متشابه القرآن
لقد ثبت لنا ، في البحث السابق ، أن الاعجاز القرآني في "العلم" مردود شكلا ولفظا ، لأن "العلم" الذي يذكر ، ويتحدّى به ، هو علم "أولي العلم" ، وهم في اصطلاحه المتواتر النصارى من بني اسرائيل .

ونقول أيضا : إن الإعجاز القرآني في "العلم" مردود أيضا موضوعا لأن "الكونيات" القرآنية هي من متشابه القرآن ، فلا تصح معجزة للتحدّي . وكون هذه "الكونيات" أو العلوم الكونية في القرآن ، هي من متشابه القرآن ، أنّ أحدا لم يذكرها في المحكم منه . قال السيوطي في (الاتقان 2:2) : "وقد اختلف في المحكم والمتشابه : "عن ابن عباس ، قال : المحكمات ناسخه ، وحلاله وحرامه ، وحدوده وفرائضه ؛ ما يؤمن به ويعمل به . والمتشابهات منسوخه ، ومقدمه ومؤخره ، وأمثاله ، وأقسامه : ما يؤمَن به ولا يُعمل به . وقيل : المحكم الفرائض والوعد والوعيد . والمتشابه القصص والأمثال . وعن مجاهد : المحكمات ما فيه الحلال والحرام . وما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضا . وعن الربيع : المحكمات هي أوامره الزاجرة" . وهكذا فالمحكمات من آيات القرآن هي الأحكام المحكمة في شريعته . وبما أن "الكونيات" القرآنية أي العلوم الكونية فيه ، ليست من شريعته ولا من أحكامها المحكمة ، ولا من محكم التنزيل فيه ، بل من متشابه القرآن ، فلا يصح التحدي بها كعلم منزل في القرآن .

والتحدّي بها قد يرتد على القرآن نفسه : فإن تصوير الأرض مركزا للكون وجعل الأرض بساطا ، بحسب نظرية الأقدمين التي جاءَ عليها القرآن ، يُخرجه من دائرة العلم المعروف . "وأن ما ورد في القرآن من مشاهد الكون ونواميسه قد استهدف العظة والتدعيم ، دون أن ينطوي على قصد تعزيز ماهية الكون وأطوار الخلق والتكوين ونواميس الوجود من الناحية العلمية والفنية ... وملاحظة ذلك جوهرية جدا ، لأنها تحول دون التكلّف والتجوز والتخمين ، ومحاولة استخراج النظريات العلمية والفنية في حقائق الكون ونواميسه وأطواره منها ، والتمحّل والتوفيق والتطبيق ، ممّا يخرج بالقرآن عن نطاق قدسيته " (1) .
فليس في "الكونيات" القرآنية من نظريات علمية وفنية يصح القول بها . فلا يجوز بحالٍ التحدي بإعجاز العلم في القرآن ، لأنه ليس من أغراضه ، ولا من أعراضه .
"العلم" الوحيد في القرآن هو "علم الكتاب"
ظل القرآن يستشهد طول العهد بمكة بمن عنده علم الكتاب : "ويقول الذين كفروا : لست مرسلاً ! – قل : كفى بالله شهيدا ومَن عنده علم الكتاب " (الرعد 43) . فهو يكتفي بالشهادة على صحة رسالته وصحة دعوته بشهادة مَن عنده علم الكتاب ؛لذلك يسميهم " أولي العلم " فهم أهل "العلم" من دون العالمين . وهم "الذين أوتوا العلم من قبله " (الاسراء 107) : "فالعلم" على الاطلاق هو علمهم – لاحظ التعريف والاطلاق في تعبيره : "العلم" . فهذا هو "العلم" الوحيد الذي يذكره القرآن ، وبه يستشهد ، وبه يتحدى : "قل : آمنوا به أو لا تؤمنوا : إن الذين أوتوا العلم من قبله ، إذا يُتلى عليهم ، يخرّون للأذقان سجدًا" (الاسراء 107) . فيكفيه ايمانهم وتكفيه شهادتهم .

وشهادتهم للاسلام من شهادة الله وملائكته ، والقرآن كله يشهد بشهادتهم "أن الدين عند الله الاسلام" ؛ بهذه الشهادة هم "أولو العلم قائما بالقسط" (آل عمران 18 – 19) . وفي هذه الشهادة علم القرآن كله ، وسرّ القرآن كله . فالاسلام الذي ينادي به القرآن هو اسلام "أولي العلم من قبله" (الحج 78) ؛ وهو العلم الوحيد الذي يتحدى القرآن بإعجازه ؛ إنه علم "مَن عنده علم الكتاب" في الاسلام ، علم "الراسخين في العلم" (آل عمران 7 ؛ النساء 162) . إن علم القرآن علمهم ؛ واسلام القرآن اسلامهم ؛ واعجاز القرآن في العلم والاسلام هو إعجازهم : "قل : كفى بالله شهيدا ومَن عنده علم الكتاب" (الرعد 43) .

هذا هو العلم الوحيد الذي جاء محمدا في القرآن : "بعد الذي جاءَك من العلم" (البقرة 120) ، "من بعد ما جاءَك من العلم" (البقرة 145 ؛ آل عمران 61) . وهذا هو "العلم" الانجيلي ، "النصراني" ، الذي اختلف فيه اليهود من أهل الكتاب ، مع المسيح ثم مع محمد : "وما اختلفوا إلاّ من بعدما جاءَهم العلم" (19:3 ؛ 14:42 ؛ 17:45) . وبهذا "العلم" المنزل الانجيلي "النصراني" يجادل القرآن اليهود ثم المشركين الذين يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان 20 ؛ الحج 8) . فالاسلام هو علْم القرآن كله ، وهذا الاسلام من علْم الكتاب ، "ومَن عنده علم الكتاب" (الرعد 43) . لذلك يخص القرآن اسم "المسلمين" بأولي العلم المقسطين وحدهم . والقرآن نفسه "هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم" (العنكبوت 49) ؛ "يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم" معرفة مصدرية (البقرة 146 ؛ الانعام 20) .

فالعلم الوحيد في القرآن هو علم الكتاب ، وأهله "من عنده علم الكتاب" .
"وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا" (الإسراء 85)

هكذا فالعلم ، في لغة القرآن ، اصطلاح مقصور على أهله ، "أولي العلم" ، "الراسخين في العلم" . ومصدر هذا "العلم" هو هدى الكتاب الإمام ، و "علم الكتاب المنير" فلا يرى القرآن خارج التنزيل في الكتاب "علمًا" . و "علم" القرآن من "علم الكتاب" ، بشهادة "مَن عنده علم الكتاب" لكنه في نقل هذا "العلم" الى العرب ، "ما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا" . وهذا "العلم القليل" القرآني الكتابي هو كل إعجازه في العلم . ولا اعجاز عنده في "العلم" سواه .



#ماريو_أنور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف نختار شريك الحياة..؟
- الغريب فى القرآن الحلقة الأخيرة
- الغريب فى القرآن الحلقة الثانية
- الغريب فى القرآن
- الحوار بين الأديان: ثقافته ومنطلقاته
- الشرُّ وَالخطيئَة الأصلية
- فى سبيل الحوار بين المسيحيين و المسلمين
- مفهوم الخلق في اللاهوت المسيحي
- دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الخامسة
- بين الإلحاد والإيمان
- دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الرابعة
- حقيقة الإيمَان بالإله الواحِد
- دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الثالثة
- ما هى أسباب إستضعاف المجتمع للمرأة؟ الجزء الخامسة
- ثلاثية أبعاد الحب
- دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الثانية .
- دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الأولى
- ما هى أسباب إستضعاف المجتمع للمرأة؟ الجزء الرابع
- ما هى أسباب إستضعاف المجتمع للمرأة؟ الجزء الثالث
- ما هى أسباب إستضعاف المجتمع للمرأة؟ الجزء الثانى


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة ...
- “فرحة أطفالنا مضمونة” ثبت الآن أحدث تردد لقناة الأطفال طيور ...
- المقاومة الإسلامية تواصل ضرب تجمعات العدو ومستوطناته
- القائد العام لحرس الثورة الاسلامية: قطعا سننتقم من -إسرائيل- ...
- مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
- ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح ...
- أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202 ...
- طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال ...
- آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ماريو أنور - القرآن كتاب دين ، لا كتاب علم - الكونيات -