نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4689 - 2015 / 1 / 12 - 15:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قراءة في القداسة - 2 - عن المقدس و الطاهر و العلاقة بينهما.
تحدثنا في المقال السابق عن مفهوم المقدس (كوديش) و ضدة المدنَّس (حول)، و رأينا كيف أن المقدس صفة ٌ تٌعطى لشئ ٍ ما يراه الإله "خاصا ً به" لوحده، و "مقطوعا ً" له، بينما المُدنس صفة ٌ تُعطى كحكم ٍ على شئ له صفة القداسة لكن تم استباحته أي استخدامه في غير الطريقة التي يحددها الإله أو يسمح بها. و تعرفنا على الفعل الذي تستخدمه العبرية لوصف هذا الفعل (حيل ليل) و يُلفظ قريبا ً جدا ً من لفظ الفعل العربي "حلـَّل" و له نفس معناه، أي أنه جعله حلالا ً للاستخدام.
و سنتعرف ُ في هذا المقال و هو الثاني من هذه السلسلة على مفهوم: الطهارة (تاهارا) و يُلفظ بتطابق مع الكلمة العربية (طهاره) لكن بلفظ الطاء العربية تاء ً في العبرية، و ضده: النجاسة (تووما).
إن القاعدة الأولى التي يجب أن ننطلق منها لفهم: الطهارة، هي أنها صفة ٌ طقسية (لها علاقة بالطقوس) أي صفة روحية تعبُّدية و ليست صفة ً جسدية مادية، بمعنى أنها تصف حالة َ الشخص أو الحيوان أو المكان، و لا علاقة لها بنظافة الجسد أو الأرض. لذلك فإن جميع الأبحاث و المقالات و الدروس اليهودية التي تتناولها تركز على هذه القاعدة و تصفها دوما ً بأنها Ritual Purity (طهارة طقسية) لا Matter of Hygiene (مسألة نظافة جسدية).
على اليهودي قبل أن يتعبَّد َ أن يتأكد من أنه طاهر ٌ (نظيف طقسيا ً)، لأن النجاسة (القذارة الطقسية) تمنع حلول الفعل الإلهي التقديسي، حيث أن صاحبَها يفتقر بنجاسته إلى استحقاقِ ممارسة العبادة و الدخول إلى حضرة القدوس و التعامل ِ مع المقدس (كوديش). لكن المفارقة هنا أن الطاهر (النظيف طقسيا ً) لا يتقدس بمجرد أن يُصبح طاهرا ً نظيفا ً، إنـّــَما يُصبح أهلا ً لأن يتقدس. فإذا ً نحن هنا ننظرُ إلى صفة ٍ خاصة بالإنسان لا بالإله، فالإله صفته القداسة و هناك أشياء مقطوعة له هي الأخرى مقدسة لكن يمكن أن تتدنس، أما البشري فصفته الطهارة أو النجاسة.
و كقاعدة ٍ ثانية يجب أن نعلم َ أن َّ الأصل عند اليهود فيما يخص الموجودات في حالتها الطبيعية أنَّ:
- معظمَها (أغلبها) طاهرة.
- و جميعَها مُدنَّسة في نفس الوقت.
و حتى نفهم هذا جيدا ً لنتذكر أن الطهارة معناها أنها جاهزة و نظيفة للاستخدام و للعبادة، بينما الدنس معناه أنها غير مخصصة للإله بعد، فإن فهمنا هذه المعاني زال الغموض و استطعنا أن نُكمل لنفحص َ الحالات التي تصبح (أو تكون) فيها الموجودات غير نجسة.
من جهة الإنسان
----------------
الإنسان طاهر ما لم يصبح نجسا ً. و يُصبح نجسا ً في هذه الحالات:
- إذا لمس َ ميتا ً أو أرضا ً فيها جثة ميت متحللة.
- إذا دخل بيتا ً أو حيزا ً فيه جثة ميت.
- إذا لمس جثة بعض الحيوانات (من ضمنها الحشرات)، كما ورد تفصيلها في سفر اللاوين.
- إذا لمس سوائل الحيض أو المني.
- إذا ولدت المرأة.
- إذا ظهر في جسده نوع (أنواع) الأمراض الجلدية التي تعرف بالعبرية باسم (تسارات) و هي أمراض النتوء و القوباء و تغير حالات الجلد (و لا تشمل الحروق).
- إذا لمس شخصا ً نجسا ً غير طاهر.
عندما يصبح الشخص ُ نجسا ً فإن عليه أن يتطهر من هذه النجاسة. ترد أحكام الطهارة مفصلة ً في سفر اللاوين، و تتراوح بين النضح بالماء، الاغتسال، الاستحمام، غسل الثياب، و الانتظار فترات زمنية محددة (حتى المساء أو بضعة أيام)، قبل أن يُعلن نظيفا ً طاهرا ً من جديد.
أضاف َ رابِّيو اليهود إلى أحكام التوراة سُننا ً خاصَّة ً بالطهارة، ففرضوا وجوب الاغتسال في أوقات ٍ و حوادث معينة، حتى يضمنوا ألا يقوموا بأي عمل ٍ له أهمية دينية إلا و هم طاهرون، خصوصا ً أن الشعب كان يقدم الأعشار للكهنة في الهيكل و كان من الضروري ضمان طهارتها و بالتالي وجب أن يكون مُقدِّم هذه الأعشار نظيفا ً طاهرا ً و إلا انتقلت نجاسته إلى ما يقدمه فلا يُقبل منه.
التالي هي الأوقات و الحوادث التي سنها الرابيون للاغتسال:
- قبل أكل الطعام و الخبز، بشرط أن يكون مصحوبا ًبصلاة بركة خاصة. (و هناك سنة بعد الطعام أيضا ً).
- عند الاستيقاظ في الصباح أو بعد قيلولة، بحسب طريقة معينة للغسل.
- عند التطهر من النجاسة، و لا حاجة هنا لصلاة بركة، في الحالات التالية: 1 لمس أجزاء من الجسم عادة ً ما تكون مغطاة مثل الظهر، الإبطين، الأعضاء الخاصة، 2 داخل الأنف أو الأذنين 3 أصل منبت الشعر في الجمجمة (شعر الرأس لوحده لا يسبب النجاسة)، 4 الأحذية الجلدية، 5 حيوانات أو حشرات نجسة (سنتكلم عن هذه النقطة بعد قليل)، 6 عند لمس الأحذية الجلدية 7 عند خلع الأحذية 8 عند قص الأظافر 9 عند زيارة المقبرة 10 بعد الفعل الجنسي.
- بعد الخروج من الحمام (الانتهاء من التبول أو التبرز).
- بعد الاشتراك في مراسم تشيع جنازة، أو الاقتراب من ميت.
- أثناء التعبد في وليمة ذكرى الخروج من مصر (الفصح اليهودي) قبل تناول الوجبة الرئيسية.
- (خاصة بالكاهن) قبل أن يتلو الكاهن البركة على المصلين.
- (خاص ببعض الكتبة) قبل الشروع بكتابة النصوص الدينية.
كما أن الاغتسال بقصد الطهارة يتخذ بعدا ً أعمق حينما تطلب السُّنة انغماسا ً تاما ً للجسد في الماء المسمى (ميكفا) و هو ما سنتحدث عنه في المقال الثالث عندما نتكلم عن دلالة طوفان نوح، و تتم ممارسته في الحالات التالية:
- بعد أن تنتهي المرأة من فترة الحيض.
- العشية السابقة ليوم الغفران.
- عشية الجمعة (قبل بدء يوم السبت المقدس).
- عند التحول من أي دين إلى اليهودية (و هو هنا مُطابق لطقس العماد المسيحي).
- (خاص بالبعض) غمس جسد الميت في الماء قبل دفنه.
من جهة الحيوانات و الحشرات
--------------------------------
الحيوانات في اليهودية طاهرة و نظيفة في حالتها الطبيعية إلا بعضُها، و يُفصِّلها سفر اللاوين في الفصل الحادي عشر منه لمن أراد التعمق. يكفي في هذا المقال و لغايات الفهم و الاضطلاع أن أقدم الملخص التالي: الحيوانات النجسة هي التي لا تمتلك ظلفا ً مشقوقا ً أو(و) لا تجتر، و لذلك فالأرنب و الجمل و الخنزير نجسة. أما من عوالم الماء فيُعدُّ نجسا ً أي ُّ كائن ٍ ليس له حراشف أو زعانف، و بذلك يكون الجمبري و الاستاكوزا و أشباههُما نجسيــِن ، بالإضافة إلى طيور يتم عدُّها بأسمائها. بل و يمضي تحديد ُ النجاسة إلى تعريف فئة ٍ بأنها مكروهة و هي كلمة ٌ تشير ُ إلى مقدار ٍ أعظم من النجاسة، و هي فئة الحشرات التي تدب على الأرض (عدا الجنادب و الجراد فهي طاهرة)، و ما يمشي على بطنه و ما كثُرت أرجله.
يحل ُّ لليهودي استخدام الحيوانات حتى لو كانت نجسة، و يحل ُّ له لمسها، لكن لا يحلُّ له أكلها أو لمس جثتها الميتة، فإن فعل عليه أن يتطهر كما شرحت سابقا ً في الجزء الخاص بالإنسان (النضح بالماء، الاغتسال، الاستحمام، غسل الثياب، الانتظار فترات زمنية محددة).
تلخيص
---------
مما سبق يتضح لنا أن الطهارة و النجاسة اليهودية هي أحكام ٌ موضوعها الرئيسي هو الإنسان أو الحيوان (الجماد أيضا ً لكني لم أتطرق له) و ليس الإله، و تهدف ُ إلى ضمان ِ استحقاقِ اليهودي للتعبُّد ِ و نيل القداسة و الامتلاء بها، و ينبغي أن أضيف هنا أن القداسة التي يعطيها الإله تُعدُّ هبة ً مجانية ً تابعة ً لاختياره للشعب اليهودي دون فضل ٍ أصيل ٍ من هذا الشعب أهـّــَـلـَهُ للاختيار، لكن بشرط أن يتطهر و يتبع الشريعةَ.
يتبع ُ المقال ُ الثالث: في تبيان ِ العلاقة بين المقدس و المدنس و الطاهر و النجس و دلالات هذه الألفاظ في الحياة الروحية للشعب اليهودي و مواضع استخدامها و دائرية تأشيرها على بعضها مع تطور استخدامها عبر السنين.
----------------------------------------------
المصادر:
1- كتاب: المقدس و المدنس، المؤلف: مرسيا ألياد، الترجمة: المحامي عبد الهادي عباس، الناشر: دار دمشق للطباعة و النشر و التوزيع، طبعة أولى، العام 1988
2- Profane (chol, chalal) Study (مقال منشور)، الكاتب: Yochanan Zaqantov،رابط المقال: http://www.karaitejudaism.org/talks/Profane-Chol-Chalal_study.pdf
3- القراءات النصية للتوراة باللغة العبرية: http://www.torahclass.com/audio-bible-in-hebrew
4- On the essence of ritual impurity (مقال منشور)، الكاتبة:Dr. Susan Handelman، رابط المقال: http://www.chabad.org/theJewishWoman/article_cdo/aid/1542/jewish/On-the-Essence-of-Ritual-Impurity.htm
5- درس توراتي في الطاهر و النجس، موقع: دروس التوراة، الرابط: http://www.torahclass.com/old-testament-studies/36-old-testament-studies-leviticus/166-lesson-14-chapter11
رابط المقال الأول:
قراءة في القداسة - عن المقدس و الطاهر و العلاقة بينهما.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=449655
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟