ميساء البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 4689 - 2015 / 1 / 12 - 12:30
المحور:
الادب والفن
زوابع الياسمين
تناول رشفة أخيرة من فنجان قهوتها ، وبأصابع تنوي الرحيل سحبَ مسبحته المسجاة على الطاولة ، ونهض كمن لسعه عقرب الوقت ، ينفض الزمان ، والمكان ، وبقايا عمر فائت .
لم تقل له شيئاً ، لكنَّ نظراتها إليه قالت الكثير ، الكثير من الرجاء ، الكثير من التوسل ، الكثير من التذكير، بأن عليه ألَّا يغادر الفصول ، وأن يبقى ربيعاً مزهواً ، ويبقى الاخضرار له عنوان .
عصفورة أخرى ، على غصن آخر ، تهمس إليه أيضاً بالكثير ، الكثير من الدفء ، الكثير من الحنان ، الكثير من الأمل ، وتدعوه أن يشرب من عينيها المزيد .
عاتبت نفسها في البدء ، ولامتها كثيراً ، كيف تستوقفي يا نفسٌ ، من ينوي الرحيل ؟
ليست كل العصافير سواء ، هي تدرك تماماً هذا ، لكنَّها أخبرته أنه لا فرق بين عصفورة وأخرى ، كلها طيور من ورق ، لا تستقرُّ على أرضٍ ، ولا تنتمي إلى سماء ، تبني عشاً ، وتهدم عشراً ، وتعربد كثيراً في الهواء ، فلا داعٍ لكي تحزم مشاعرك ، وتضُّمها تحت إبطيك ، وترحل !
هو لم يصدق كلامها الأخير ، فالياسمين يشتم رائحة العصافير وهي في باطن الكتب ، ويدرك جيداً أنه يوجد فرق شاسع بين عصفورة من ورق ، وأخرى تختال على الغصن , لكن الياسمين كعادته لا يحب الجِدال عندما ينوي الفرار .
ترجلَّ الياسمين عن مسافات كانت له ، خلع نعليه ، وخطوات كانت له ، ومضى إلى قدره حافياً ، يحمل مسبحة تتلألأ أحجارها ، وقصيدة فاحت من جنباتها قوافي أبي العتاهية ، وسلالاً من عناقيد الأمل !
منىَّ الياسمين نفسه ، وحلم كثيراً ، بقهوة تنساب من الأحداق ، تشتعل لها العينان ، تغرد فيها الهمسات ، ولا تذوب ، مهما حاصرتها ثلوج المسافات ، وفرقت بينها أنامل وسطور ، وفي القاع حكايات خرافية تتجدد ، تطيل عمر المساء ، وتوقد لأجلها الشموع .
أقفل الياسمين أبواب الماضي، وأحكم إغلاق نوافذ الحنين ، لا داعٍ لتقلب الصور في الأوردة والشرايين ، فالمشوار طويل يا ياسمين ، والذكريات تقتل الشغف المتطاير مع فراشات الحقول .
رحل الياسمين وبقايا قهوتها تستلقي على شفتيه ، وأنامل نظراتها تداعب أجفان الكرى في عينيه ، وهمسات ذائبة في فنجان الروح كانت تتوسل بقاءه ، لكنها ذابت مع أول خيط شمس عانق كهفاً من الثلج ، ولامس مسافات من الصقيع ، ومسح بكفٍّ دافئة زوابع الياسمين .
#ميساء_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟