|
اخلعوا رؤوسكم تنامون بهدوء
مفيد عيسى أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1311 - 2005 / 9 / 8 - 07:29
المحور:
الادب والفن
فوضع الحجاج عمامته وقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العماعة تعرفوني إلى أن قال...........................( أرى رؤوساً أينعت وحان قطافها .. و إني لقاطفها) كان ذلك بعد أن ولي على العراق و اعتلى المنبر لإلقاء خطبته لكنه أطال الصمت فنطق بما نطق وفعل ما فعل. ورد ذلك في كتب التاريخ والسير و لم يغفلوا أن الحجاج سمي بهذا الاسم لأنه كان يحج كل عام أو بالتناوب والله أعلم . وتدحرجت الرؤوس، لم يكن في ذلك الزمن إحصاءات دقيقة و لا في هذا الزمن، الكثير من الرؤوس لم يكترث به أحد، هل الرؤوس هي الرؤوس في كل عصر وزمان؟. أربعون قتيلاً في بغداد ...خمسون في بعقوبة ..........عشرون في البصرة، و جثث مقطوعة الرؤوس في كربلاء و تلأعفر.....هذا ما أراه و أسمعه. أسمع كل هذا و أنام ... أنام كل يوم، أليس جميلاً أن ينام المرء....فالأمرأصبح معتاداً، أستيقظ ،أستصعب فتح عيني، أرى امرأة تتمطى، تفرد مفاتنها بتؤدة كوردة تتفتح و رجل رأسه يشتعل و يأز و طفل يبكي بحرقة ثم يتهامد بكاؤه إلى ما يشبه الشكوى، ثم يصمت ويشير على قائلاً أنا أنت. يضحك الرجل و تضحك المرأة و أنتفض من فراشي . أسرع إلى الحمام أضع رأسي تحت صنبور الماء البارد أشعر به ينتبج بالبرودة، ثم أنظف أسناني ببطء و أحلق ذقني وهو العمل الذي أكره القيام به و لا أتقنه حتى الآن لكني لا أحتمل أن تطول ، أسرح ما بقي من شعري أنظر إلى رأسي في المرآة كم تغير..؟ أتحسس عنقي و أستغرب ما الذي يدفع الناس لقطع الرؤوس...يضحك رجل معمم في المرآة بعنق دام و ملامح حازمة و يقول الدافع لقطع الرؤوس هي الرؤوس أنا أكثر من يعرف ذلك قلت: و من أنت ..؟ - أنا عمرو بن الحمق الخزاعي. - أنا لا أعرفك - لكني أعرفك، أعرفكم جميعاً لا داعي لمعرفة أسماءكم فالاسم إشارة و المعرفة شمول، أعرف عيونكم. أنا من قطعوا رأسه و ألقوه في حجر زوجته السجينة في قلعة دمشق، و كان أول رأس ينقل في الإسلام. - قلعة دمشق.......... معلم سياحي و مزار و معهد للتعليم. - حدث ذلك منذ زمن يا غبي، أيام كان للرؤوس قيمة ... انظر إلى هذا الدم و لمس عنقه فخضب سبابته بدم قان ابتعدت عن المرآة خائفاً لأخرج من البيت... من باب غرفة النوم رأيت زوجتي تنام بوداعة، تحسست رأسي من جديد وقلت ليس فيه ما يغري و هو ليس بحجم رأس عمرو بن الحمق .... ثم إن زوجتي لا تستحقه. في الجهة المقابلة من الشارع رأيت امرأة تنظر إلي، لم أعرفها لكني رأيتها كثيراً من قبل، امرأة جميلة، قريباً منها وقف رجل متوسط العمر برأس أشيب و بدأ ينظر إليها، يحدق بتثني جسدها. - يا له من وغد لو لم يكن رأسه أشيباً لكان الأمر مقبولاً. تأخر الباص بالمجيء، عاودت النظر إلى المرأة، كان الرجل قد انصرف، جسدها يطفح أنوثةً في مشيتها تناسق و دل طبيعي كفاها ناعمان ككفي طفل.... انتبهت إلى بوق الباص و صراخ زملائي صعدت سألني أحدهم هل جرى لرأسك شيء؟ أين كنت شارداً؟ مع الغزلان ..... و غمز بعينه. أحسست بإعياء وصداع لم أكن أستطع حمل رأسي أسندته على زجاج النافذة، هدهده اهتزاز الباص فكبوت و حلمت بأماكن وأشخاص، أراض شاسعة و جبال لا أذكر أتي رأيتها من قبل، أبطال من السينما، أبطال من التاريخ سيوف مرهفة و رؤوس تتدحرج، أطلق الباص بوقه فانتفضت، رأيت السائق يخرج رأسه من النافذة و يشتم المارة و الزحمة وهذه الحياة، بدأت الرؤوس تكبو من جديد، إذاً لست وحدي من كان يكبو، غير أني هذه المرة بقيت صاحياً أنا والمرأة التي رايتها على الموقف، لا أدري أين ومتى صعدت إلى الباص كذلك رجل يقرأ جريدة وطفل يعبث بشعر أمه. أسندت رأسي من جديد على الزجاج، ارتج ارتجاجات لطيفة مع تواتر الارتجاجات بدأت عبارة تتردد في رأسي : أكل الرؤوس سواء؟ ... أكل الرؤوس سواء ؟ بدأت أغفو على هذه العبارة كأنها تقودني لأتماوج على هدير الباص . أكل الرؤوس سواء ..؟ صرخ في وجهي رجل وعر الملامح فانتفضت من جديد، ثم عدت لأغمض عيني فوضح وجه رأيته مرة على غلاف كتاب يشبه فلاح مصري صعيدي قال: - لما تردد عبارتي؟ - لست أنا.. أسمعها فقط. - من يصرخ بها إذاً..؟ بدا الرجل يائساً متعباً سألته : من أنت و من أين قدمت ؟ قال: أنا أمل دنقل و قد خرجت للتو من الغرفة رقم / 8 / في المشفى. - لكنك ميت من زمن فكيف أتيت من المشفى للتو . - لا أذكر ذلك .....أنا لم أبارح المشفى. كنت سأخرج فقط حين يصرخ أحدهم بهذه العبارة و ها أنت تفعل. - قلت لك لست أنا...... - لا بأس لا بأس.. المهم أن أحدهم صرخ بها. - ربما أنت. عبر وجهه طيف حيرة و قال: ربما.....ربما و شرد متحولاً إلى الحزن. قلت: أحب قصيدتك( مقتل كليب و الوصايا العشر). - لا أذكرها - كيف لا تذكرها، هذه العبارة منها . - لا أذكرها - ألا تذكر سوى هذه العبارة. - نعم ...نعم . أذكر عبارة أخرى ربما هي : خلف كل قيصر قيصر جديد . - هذه الشطرة من قصيدة( كلمات سبارتكوس الأخيرة ). سأل: لمن هذه القصيدة ؟ - لك. - لا أذكرها. إربد وجهه و كأنه يريد قول شيئاً آخر لكنه لم يلحق فقد سارع رجل ضخم ليكم فاه، و يجره بعيداً، بدأ يصرخ : استيقظ... هيه هــيا ....كنت متشبثا بحديد المقعد لكزني زميلي قائلاً: ما بك ألا تنام ليلاً.....؟ منذ دقيقتين و أنا أصرخ لأوقظك. جلست خلف طاولتي لم يكن لدي رغبة في العمل، و كنت أجد مشقة في الكلام عاودتني العبارة :أكل الرؤوس سواء ..؟ أكل الرؤوس... تفرست في الرؤوس كانت كلها متشابهة، النساء كأنهن امرأة واحدة مستنسخة، و الرجال كأنهم رجل واحد مع اختلاف القامات والأجساد. تحسست رأسي و انسللت إلى الحمام رأيته في المرآة كالرؤوس الأخرى فارتعبت وبدأت بشده و كأنه قناع أريد انتزاعه اصطف بجانبي عدة أشخاص يحاولون ما أحاوله لكنهم فشلوا، لم نستطع نزع رؤوسنا ، استسلمنا و عدنا إلى مكاتبنا. على حائط مكتبنا علقت صورة متخيلة لعنترة العبسي بملامح وديعة لا تليق بمحارب، و صورة لفريق كرة قدم و صور أخرى لممثلين وممثلات، صورة لشاعر متجهم، كل رؤوسهم تحولت إلى نسخة لرأس واحد، كانت الرؤوس المتشابهة تزداد و تزداد اكتشفت أن المراجعين أيضاً رؤوسهم متشابهة، لو لم نكن نعرف بنية كل زميل لنا وما يرتديه من ثياب و تكوين يديه لما عرفنا بعضنا، اعتصمنا خلف مكاتبنا لأن ما يجري حالة طوارئ . ضقت بالمكتب فخرجت، الشارع يجيش بناس رؤوسهم متشابهة لدرجة التطابق و أجسادهم مختلفة، حالة من الذهول خلفت آثرها في العيون، ارتباك بالحركة، لم تعد النظرات توجه للعيون بل للأرجل و الأيدي، رغم كل هذا و كان الناس يتعاملون مع بعضهم ببساطة و يسر، ربما أنا من طرأ على رأسه شيء لكني رأيتهم بعيني يحاولون خلع رؤوسهم بدون جدوى. صعدت إلى الباص في طريق عودتي إلى المنزل صممت أن أبقى منتبهاً و صاحياً الرؤوس هي الرؤوس تأكدت من ذلك و الباص يدرج على مساره لكن في ميدان المدينة الرئيسي عند طرف الحديقة الكبيرة رايت أمل دنقل يجري بجسده الهزيل لاهثا وهو يصيح: كل الرؤوس سواء .................كل الرؤوس سواء و رأس الغريب كرأس أخيك . يطارده كلب وعشرة رجال معممين ويرتدون ألبسة مزركشة عرفت فيهم شرطة المعتمد بن عباد الذي كان يغرس حديقة قصره بالرؤوس اختفى أمل دنقل بين الأشجار سمعت الكلب ينبح بشراسة و الرجال يصيحون أين اختفى ؟ صاح أحدهم اتركوه .... لا خير فيه ولا في رأسه، فالشعراء يتبعهم الغاوون، هل ترجون أن ينبت رأسه ورداً وآساً . لآبد أن ينبت شوكاً و حجارةً ... اتركوه . مددت رأسي من النافذة متطاولاً لأتحقق أين ذهب، رايته يجري بحذاء الباص و في عينيه غربة ودموع ثم اختفي مخلفاً غيمة صغيرة . فرمل سائق الباص وصرخ أدخل رأسك ... ربما لست بحاجة إليه لكن عليك أن تتخلص منه في مكان آخرو ليس في هذا الباص. في البيت كانت زوجتي ما تزال نائمة، هناك فقط نجحت في خلع رأسي ونمت ... أنا نائم الآن. اخلعوا رؤوسكم أيها السادة ستنامون بهدوء وراحة و .....
#مفيد_عيسى_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انقسامات الحزب الشيوعي السوري ، من زاوية ليست فكرية
-
زبيدة و نسيم البحر
-
دعونا نجرب
-
عندما يحب عادل إمام الجميع ...!
المزيد.....
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|