|
أيّوب
إسماعيل خليل الدباغ
الحوار المتمدن-العدد: 4687 - 2015 / 1 / 10 - 19:54
المحور:
الادب والفن
أيّوب قصة قصيرة 1- الهيئة تَواصَلَتْ أعمالُ حَرقْ الكتبْ للشهر الثاني على التوالي وإتَخَذَتْ طابعاً إحتفالياً ، ألأمرْ الذي بدأ كنزوة لمجموعة من الكتبة والوراقين تحول إلى طقس اسبوعي تُشرِفُ عليه الهيئة التي شَكَّلَتها الحكومة بناء على الإرادة السامية والنابعة من رغبة الشعب . وَكَلَفَتْ الهيئة اللجان التابعة لها في العاصمة والمحافظات بِمُصادَرة وإتلاف أي مطبوع يشكلُ خطراً على المجتمع . بات واضحاً الأن ، إن الحكومة الرشيدة لن تتهاون مع المارقين والفسقة من الكتاب والشعراء أو مع أصحاب الأفكار الهدامة من مدَّعي الثقافة . 2 – أيوب منذ اللحظة الأولى التي رَأيتَهُ فيها ، أدركتُ إن شيئا ً خاصاً يجمعني به ، كنتُ متكئاً ، حين لَمَحتَهُ ، على أحدِ الأعمدة المجاورة لحملات بيع الحقائب وانا انقل بصري بين كدس الكتب الذي يزدادُ ارتفاعاً بعد كل وجبة يَنقُلُها الحمالون تحت قَدَمَّي تمثال معروف الشرقي ، وبين حركة يد أبو عماد وهو يَصُفْ كرات اللحم المشوي و الطماطم المشوية داخل الصَّمونْ الحار ويدفع بها إلى الزبائن. كان قادماً من جهة النهر على الجانب الآخر من الشارع ، حيث باعة الصنادل والأحذية الرياضية يفترشون بسطاتهم كل جمعة عندما تكون أغلب محلات الجملة مغلقة . جذب انتباهي هندامه وطريقته بالمشي ، وخطواته التي ينقلها بعناية فوق أثر وهمي لِخُطى سابقة مُندَثرة على نفس الرصيف . خَمَّنتُ أنه من خارج العاصمة ، وبدا لي حينها كأنعِكاس ثُلاثي الأبعاد لشخصٍ يتحركُ في مكانٍ أو زمانٍ آخر ، مثل أن ترى كاناً سحرياً ، أو صورة من جريدة بالأسود والأبيض . فيما عدا ذلك كان حقيقياً تماماً . كان الدغلُ البشري قد بدأ بالتوافد ، حين عَبَرَ هو المجال البصري أمامي ، راقَبتُهُ ينساب مثل جدول فوق حصى ملساء ، لا يكلمُ أحداً أو يشتري شيئاً ، بدا مستغرقاً بهمهِ الخاص ، وأكملَ مسيرته حتى وصلَ إلى حافة قوس الرصيف المطل على الساحة ، حيث يتقاطع شارع الملك الصالح مع شارع الجسر العتيق .
غادَرتُ متَّكَئي بخطوات اشبهُ بالهرولة ، ونزلتُ إلى نهر الطريق الخالي من السيارات ، لم اشأ ان أفقده وسط روافد المارة وهي تصب من كل اتجاه نحو وسط الساحة ، دَنَوتُ منه حتى باتت المسافة بيننا بضعة أقدام ، وصار بأمكاني لو مَدَدّتُ يدي وأنحنيت قليلاً أن ألمسه ، كان يرتدي قاطاً رصاصياً واسعاً نسبة إلى جسده الضئيل ، رأسه مدببة كحبة لوز ، رقبته دقيقة ومنحنية ، و بدا لي دَميماً بأذنيه النافرتين وشاربه المثلث الحاد ، ورغم ذلك فأن هاجساً ما ظلَّ يدفعني لملازمته . حَصَرَ انتباهه بموقع الحرق ، ولم يعبأ بصياح الباعة حوله وهم يتبارون في عروض لِأسعار مخفَّضة ، كان يتصرف وكأنه في مهمة محددة ، لم يشعل سيكارة او يبصق على الأرض ، إنتابني شعور إننا التقينا من قبل ، ويبدو إن أحداً غيري لم ينتبه له . أخرَجَ يديه من جيوبه وعَقَدَها فوق صدره ، ثم التفت يساراً حيث أقف ، إلتَقَتْ ابصارنا لثوان قبل ان يومئ برأسه نحو الأعلى وكأنه يدعوني الى شيء ما ، لَمَعَتْ ياقة قميصه الأبيض كعلامة مرور فسفورية لتشغلني عن دعوته ، كان القماش نظيفاً على نحوٍ غير مألوف ، يتوسطه ربطة عنق بهية كشتلة رازقي غُسِلَتْ للتو ، أنساني ذلك الصفاء وجع معدتي الذي ينعق منذ الصبح ، وتعزز شعوري برابطٍ لاعهد لي به يشدني لهذا الغريب . * * * * *
بدأتْ طلائع الغيمات بالأغارة على الفضاء مافوق الساحة وهي تَنُثُ رذاذاً من مطر ناعم ، يهدد اذا ماتواصل بألغاء العملية برمتها ، شَقَّ طريقه في غمار الجموع بخط مستقيم وكأن برزخاً شفافاً يفصله عنهم ، لحقتُ به مثل طفل يتبع أمه في سوق و أصطففتُ إلى جواره في الحلقة الأضيق إلى الحدث ، في الجهه البعيدة عن اللجنة التي وصلتْ للتو . تَكَوَنَتْ لجنة الحرق وفي مصادفة عجيبة من ثلاث شخوص معقوفي الأنوف ، إتخذوا مواقعهم في مواجهة كومة الكتب التي صارت بارتفاع قامة رجل . في حين توزَّعَ افراد فوج الحماية مع عجلاتهم على نقاط منتقاة بعناية حول الساحة ، تحسباً لأي طارئ ، وخشية من تكرار ماحدث الأسبوع الماضي ، حين حاول احد الحمقى انتشال كتابه المفضل من النار والهرب ، اما كادر التصوير المكون من عنصرين ، فقد حطَّ على احد الشرفات . طاف َعضوا اللجنة القصيران حول الكدس ، وأفرغا فوقه بحركة سقي ترددية صفيحتي نفط يحملاها معهما ، قبل ان يرجعا الى مكانهما ، وأستَلَّ العضو الثالث الأطول قامة ولاعة ذات رقبة طويلة من جيبه ، لكنه وقبل ان يوقد بها ، لَوَحَ بالنصل في الهواء ، فَعَمَّ الصمت ، أظهَرَ ذلك مقدار مايتمتع به من سلطة ، وراح ينقل عدسة نظارته بين المحتشدين واحداً واحداً بحركة بطيئة وكأنه جهاز سونار ، قَدَحَ بالحجر فارتفعت النار بسرعة ، ورسمت أذرعها خارطة اخطبوطية تحاكي مناطق تمركز النفط ، فتعالت صيحات الحشود الذين شكلوا بتدافعهم نحو المركز دوائر متراصّة غير منتظمة . أدى التمدد المفاجئ لألسنة اللهب إلى تقهقر الصفوف الأمامية بقفزات لا أرادية مضحكة ، استغلها بعض من في الخلف لاحتلال الفجوات التي توفرت فوراً ، وراحوا يسخرون من المتقهقرين ويتضاحكون بينهم ، وسريعا ماسَرَتْ حالة من البهجة ، وأنتشى البعض بالدفء الذي تبعثه النار ، كان معظمهم من المارة والمتسوقين وبعض الحمالين والباعة والقليل من الطلاب ، كنتُ أعرفُ بعضهم ، وشعرت أنني واحداً منهم حين بدؤا بالتصفيق ، وإلقاء التعليقات ، او بالصفير بنغمات متقنة . لكن امتدادات النيران مالبثتْ ان تخاذلتْ ، النفاد النفط ولتواصل إنثيال البغش ، وتراجعتْ الكتلة المشتعلة قليلاً ، بيد إن وهجها بألوانه البرتقالية الزاهية ظلَّ ينعكس على وجوه الجميع . . . . الا هو . سحرني منظره كمعجزة وسط الحشد ، وأعادني الى عالمه الفريد مثل قابس كهربائي يعاد وصله . سألته : من أنت ؟ لكنه لم يُجِبني وانحنى الى الأمام بزاوية حادة وراح يحدِّقُ في صلب الكتلة النارية ، ويُتَمتِمُ بالكلمات ، ظننته في البداية يتلو تعويذة ما ، لكني حين انثنيت بموازاته ، أدركت على نحو مؤكد ، أنه يقرأ ما تجلوه النار وهي تكشط الطبقات المتفحمة كجلدٍ محترق . كانت أغلفة الكتب تُبرَمْ أولاً ، بفعل الحرارة ، ثم تتعرى الصفحات الداخلية تباعاً وكأن يداً من لظى تقلبها قبل أن تحيلها إلى صفائح سوداء متراقصة كفراشات صغيرة تطفو مع التيارات الساخنة لتحط في الجوار ، فوق الأرصفة وواجهات المحلات والشرفات المطلة على الساحة ، فتحيلها الى لون رمادي فاتح . يحدثُ ذلك في فسحات من الوقت تكفي كل مرة لقراءة عدة أسطر من الصفحات الطازجة ، يكون فيها وضوح الطباعة تحت تلألؤ اللهب مدهشاً ، لينداح بعدها الحبر عبر ممرات أبرية دقيقة متشعبة تصب سريعاً في السواد الذي يصبغ كل شيء . سابَقَتْ السنتنا ابصارنا نحو الحروف النابضة ، فَتَعَثرَتْ تراتيلنا العَجولة بِبَعضِها ، قبل ان تَتَناغما في انسجام كورالي رَشيقْ ، ومَرَّتْ بذهني ذكريات المدرسة وأنا أردد معه أخر العبارات التي برزتْ أمامنا ، فَقَرَأناها بصوتٍ واحد ، كطلاب على رَحلةٍ واحدة :
" ألا فانظروا و احسدوني فهذي هدايا حبيبي وإن مَسَّت ألنار حرَّ الجبين تَوهمتها قُبلة منك مَجبولة من لهيب "
دَغدغتْ الكلماتُ ذاكرتي السحيقة ، وأستَفَزَّتْ ذَوائقي ألتي حسبتها تَبَلَدَتْ منذ زمن ، استَقَمتُ واقفاً ، فلامستْ جبهتي المشوية رذاذ المطر البارد . لاحظتُ ان الجدار المَضروب حوله قد بدأ يتخلخل ، فقررتُ أن أخرقه . قلت : هل اعرفك ؟ قال : حتما . . أنا أيوب . حاولتُ تذكره دون جدوى ، رغم ان اللأسم شديد الندرة . قُلتُ بنوع من التهكم : أيوب . !! . . هل أنت نبي ؟ قال دون ان يفطن لتهكمي : البعضُ يعتبرني كذلك ، لكني أظنهم واهمين . فاجأني رده ، قلت : هل انت جاد ؟ أجاب بعفوية : مؤكد ، فالأنبياء كثيرون جداً ، أكثر مما تتخيلون . لم أفقه تماماً كلامه ، وبدا مثل أُحجية ، لكن عبارته الأخيرة سطَعَتْ في داخلي كتَوَقُّدْ لعشرات المصابيح دفعة واحدة ، تَفَشى دفئها في أوصالي بلذَّة ، تشبه إحتساء كوبٍ من الشاي الساخن المحلى ، تَطَلَّعتُ الى الناس التي تموجُ حولي ، والى التمثال المنتصب هنا منذ عشرات السنين ، كان المطرُ قد غَسلَ وجهه و كتفيه وبللَّ الأجزاء الناتئة منه ، وتركَ الباقي تحت طبقة من الغِرْيَن الأحمر . * * * * *
سَيطَرَتْ حالة من الجمود على الساحة ، وغشى الوجوم والترقب وجوه الجميع ، وكأننا دخلنا وقفاً لأطلاق النار على احدى الجبهات وتَغَيرَ المزاج العام للجمهور بطريقة لافتة ، تَبَعاً لاندحار النار المتواصل ، وانعكس اثر ذلك على اللجنة التي أصابها الارباك ، فَأنشَغَلَ العضوان القصيران في نقاش حاد بينهما في حين انتَصَبَ العضو الثالث امام تل الكتب الذي لايريد ان يحترق وهو يحدق صامتاً ، وبدا بانفه المعقوف ونظارته ، داخل البالطو الطويل ، كجرذ هائل . إلتَمَعَتْ السماء وضربَ البرق ، في تحدٍ معلن لأرادة اللجنة ، فماجَ الناس وعَمَّ اللغط بين الجمهور الذي أعاد انتشاره على مساحة اكبر ، مما سمح بظهور بعض الثغرات بين الصفوف تطورت الى مساحات بينية خالية ، وبات واضحاً ان الحشد سيبدا قريباً بالتبعثر . إقتَرَحَ العضوان القصيران نقل الكتب بواسطة العجلات الحوضية لفوج الحماية الى المحارق الخاصة ، لكن رئيس اللجنة نَهَرَهُمْ مكشراً عن أسنانه ، خَلَعَ نظارتهُ ، فَتَجَلَّتْ بَصْمتُها كَسَواقي حمراء على جانِبَي الوجه ، وفوق تَحَدُبْ الأنف وتحتَ العَينَينْ ، ثُمَ وَثبَ الى داخلْ سيارة أمر الفوج واغلق عليه الباب المعدنية الثقيلة ، راقَبهُ الجميع وهو يُجري اتصالاً هاتفياً مطولاً . وتابَعوه بَعدَ ذلك وهو يُعَدِلْ أوامرهُ لكادرْ التصوير ، ولأفراد الأمن . عندما عاد ، كان وَجههُ ينمُ عمّا يحملهُ من أخبارْ ، فقد قَرَرَتْ الهيئة دعمهم بالمزيد من النفط ، إضافة الى أخبار اكثر إثارة ، فَحَفل اليوم سيتضمن رقصات شعبية وَوَجَباتِ طعام مضاعفة ، تقدِمةَ من رجال الهيئة . أعادَ ذلك الحماس للمتفرجين .
* * * * *
قال : سأغادر الان . قلت : إنتَظِرْ قليلا . قال : الوقتْ ينفد. قلت : لكني جائع . . جائع جدا . طأطأ برأسه ولم يجب .
لمعَ البرق للمرة الثانية ، بشكل اكثر حدة ، وامتدَّتْ تشعباته الكهربائية كجذور لشجرة عملاقه ، رأيتها وهي تضرب ساحة الميدان عبرَ الفسحة التي يحفرها الشارع كخندق وسط البنايات المتهالكة على جانبيه ، كنت اشعر بخواء غريب ، وتجاذبتني القوى من كل إتِجاهْ ، رَفَسَتْ معدتي كَفَرَسْ جامِحة ، لكن وجعاً آخر هو ماسطا على كياني ، وتركني أتَلَوى عِندَ عَتَبَة الباب نصف الموارب الذي دَحاهُ هذا الزائر، حاولت تهدئة نفسي لكن دفاعاتي تهاوت تماماً ، وبت الان ضائعا ومنهكا ، مثل جندي تاه في الأرض الحرام .
قلت: سيحرقونها اليوم . . كلها . قال : لاتخف . قلت : من سيردعهم ؟ قال : انا وانت . قلت : والنار ، انا أخشى النار . قال : وانا اثق بالمطر . قلت : هل انت حقيقة ، أم وهم . قال : لايهم . قلت : الا تخشى الموت . قال : ابداً فقد هزمته . قلت : وهل يمكن هزيمته ؟ قال : مؤكد ، الجميع يمكنهم ذلك . قلت : وانا ؟ قال : انت ايضاً . قلت : سأهزمه ؟ قال : ستهزمه . قلت : كيف ؟ قال : حين تنتصر على الحياة ، ستنتصر على الموت . هَزَّتني كلماته ، وأحسسَتُ كأن روحي قماش مشبع بالأدران نَفَضَتْهُ يدُ مارد في فضاء فسيح ، تماماً كما تفعل يد الأمهات وهي تنشر الغسيل في يوم مشمس ، تَقَصَّفَتْ على اثرالإهتزازالالاف الرزايا العالقة بين ثَنايا النَسيج كأشنات متعطنة ، لتَتَشَتَتْ و تَتَبَدد إلى البعيد كغبار كوني . دأعَبَ حُبُك الاسفلت أسفَل قدمي بلطف ، وانا اتَحرَّر من الهَم الذي تراكم فوقي لسنوات ، بتُ خفيفاً وشفافاً كقطعة شاشٍ ابيض ، وشعرتُ بقطرات المطر وهي تنفذ خلال جسدي ، لتداعب أحشائي بدماثة في طريقها نحو الأرض . نَظَرتُ اليه وأدركتُ اني عرفته منذ البداية ، تبسم وقالت غمازتيه ( معاً ) فقلت ( معاً ) . أزالت ابتسامته التي كشفت عن صف أسنانه الأمامية البارزة ، آخر الحواجز بيننا ، وطغى حضوره على كل شيء حولي ، لم تعد هناك كلمات او ضجيج او حشد ، وانسَحَبَتْ ذاتي مني لتَنحَشرْ دون تَكَلُّف معه داخل القاط بنوع من التوحد ، مثل ولدين سكنا للتو بيتاً من الطين ، عَجَناهُ وصَقَلاه على كتف ساقية . ولأول مرة ، كنت انا هو .
* * * *
3 – الجسر
لا أحد يدري كيف تَجَمعتْ كل هذه السحب الرمادية فوقنا ، ولماذا تَحومْ بهذا القربْ ، كانت قريبة الى درجة انها لامَسَتْ أسطُحْ العمارات المحيطة بالساحة ، وتَصَورتها تكثفاً غير معقول للدخان المتصاعد عن النار وهو يعود بقوة رد الفعل الحتمي ، طلباً للثأر . تساقطتْ أشدُ زخات المطر حدة ، فَعَجَلتْ بأنفضاض الجمع بنوع من الفوضى العارمة ، تَسَرَبَ أغلب الحضور عبر الشوارع والأزقة الجانبية التي وفدوا منها ، ولاذَ الأخرون ومعهم العضوين القصيرين بمسقفات المحلات القريبة ، وراحوا ينفضون البلل عن وجوههم وملابسهم وهم يرقبون رئيس اللجنة الذي رابطَ في موقعه تحفُّ به عناصر الأمن ، صار الان وحيداً ، وبهدؤ دَسَّ نظارته التي أغرورقت بالسيل في جيبه ، وبدأ بنبش الركام بعد ان تَقَوَسَ فَوقَهُ وهو يَضَعُ عَلَيه إحدى قدميه ، كان الفشلُ مُدَوِّياً ، فَتَلُّ الكتب لازال شامخاً واغلب الطبقات العميقة نَجَتْ تماما من أي أثر ، أما القشرة الخارجية فَقَدْ تَضَرَرَتْ بِدَرَجاتٍ مُتَفاوتة ، فبعض الكتب تفحمت بالكامل في حين طال الحرق أغلفة وحواف البعض الأخر او إكتَسَبَتْ لوناً بنياً على الجوانب . بنفس الهدوء رفع بصره نحوي ، لم يكن هناك احد غيرنا ، رصدني بعينيه الضيقتين الحادتين كأنه اكتشف وجودي تواً ، ثم تجاهلني تماماً وَراحَ يَرعُدُ بالحرس بلغة لم اتبينها ، فَدَبَّ فيهم النشاط وجَعَلوا يتبادلون الأوامر والمهمات بينهم ، أدركتُ عندها ان لديه المزيد من الخطط البديلة ، وانه لن يتراجع . * * * * *
لا أدري لماذا تَذَكَرتُ صورة الدبابات وهي تعبر شوارع العاصمة حين اختَطَفتُ الكتاب من بين الركام وانطَلَقتُ اعدو ، سمعتُ صوته في صدري وهو يقول : الجسر . . الجسر . أخَذَتْ المفاجأة عناصر الأمن لدقائق ثمينة ، مَكَنَتني من اجتياز كامل الحائط الخارجي المزخرف لبناية المتحف ، قبل ان يبدؤا بأطلاق الرصاص ، برشقات متقطعة مركزة ، وهم يتعقبونني ، كنت اركض اسرع وقد غَمَرَتني نشوة النصر ، وكأني ظَفَرتُ بكل شيء سَبَقَ وتمنيته ، مَرَقَتْ عشرات الأطلاقات من جانبي وطنَّ فحيحها في أذني ، لكني لم اعد خائفاً . أحسَسَتُ اني حر ، وانا أتَطَلَعُ جهه اليمين حيث ساعة القلعة ومقهى التجار ، رأيتُ مقعدي هناك عبر المسافات والجدران وقد تشاطره ثلاث فتيان يافعين . قال الصوت : لن يلحقوا بنا . . . حين نصل الجسر . . سنطير . عندما لامَسَتْ أقدامنا الراكضة رصيف الجسر . . . ارتفعنا في الهواء . كنا نضحك ، نضحك ..... ونحن نعبر بين الغيمات نضحك ، كما لم نضحك من قبل .
- - انتهى - -
إسماعيل خليل إبراهيم الدباغ كاليفورنيا ، الولايات المتحدة الأمريكية 25 / 12 / 2014
ملاحظة : الكلمات بين القوسين المزدوجين " " هي من قصيدة ( سفر أيوب ) للشاعر العراقي ( بدر شاكر السياب ) ، الذي أخذت بعض أوصافه من معاصرين له ، منشورة على الإنترنت . (الكاتب ) .
#إسماعيل_خليل_الدباغ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|