سؤال الهوية
مجموعة مقالات جمعت فى كتاب من تأليف شريف يونس
تعقيب منهجى وسياسى
رغم أن هذه المقالات لا تشكل فى مجموعها عرضا منهجيا متسقا للموقف الذى تدافع عنه ، فإنها فيما آمل تكفى لتحدى العديد من مسلمات ثقافة الهوية .. تلك "البؤرة الصراعية" المهيمنة الآن على أفق المجال الثقافى المعاصر فى مصر ، والتى تشكل بالتالى محورا ونقطة انطلاق فى الصراع حول مختلف القضايا ، بدءا من "مستقبل السلام" فى المنطقة وانتهاء بأحداث ثقافية بحتة مثل نشر رواية "الصقار" . وإذا كان صحيحا أن "بومة مينرفا لا تحلق إلا عند الغسق" فإن ثمة شواهد عديدة على دخول ثقافة الهوية مرحلة احتضار طويلة .. لعل من أهمها انتقال هذه الثقافة من "سوق المعنى" - أى الصراع حول الأفكار - إلى سوق الورق المطبوع - إن جاز التعبير - أى البيع عن طريق الإثارة القائمة على الدق المتواصل على طبلة الهوية فى كل كبيرة وصغيرة ، وبأعلى صوت ممكن .. مثلما شوهد فى "الدستور" قبل إغلاقها هى والعديد من الدوريات المشابهة ، ويُشاهد الآن فى دوريات أخرى مثل الشعب وروز اليوسف .
غير أن ما يعنينى هنا فى هذه الخاتمة التعقيبية ليس استكمال تفسير هذه الظاهرة ولا مواصلة نقدها ، وإنما استكشاف الأبعاد المنهجية والسياسية لهذا التفسير وذلك النقد .
وأقصد بالأبعاد المنهجية تحديد الأسس المنهجية التى استندت إليها هذه المقالات ضمنا ، وما تثيره هذه الأسس بشأن الموقف من قضية الحقيقة ، بينما أقصد بالأبعاد السياسية تحديد أكثر وضوحا للموقف من قضايا القيمة السياسية التى يمكن أن تترتب على هذه الأطروحة . وذلك بهدفين أساسيين : أولهما استباق إمكانيات سوء الفهم بقدر ما أستطيع أن أتوقعها ، والثانى إلقاء مزيد من الضوء على الإشكاليات التى يثيرها هذا الطرح ، وهى : أنه لا يوجد نقاش ممكن بغير افتراض وجود الحقيقة - بألف لام التعريف - ولا يوجد هدف سياسى بغير قيمة تعتبر مطلقة . وسوف أبدأ بمناقشة المشكلة المنهجية نظرا لدورها التأسيسى من منظور الصراع الفكرى ، الذى هو المجال الذى يُسهم فيه هذا الكتاب
سعت هذه المقالات كما اتضح للقارئ إلى التشكيك فى بداهة سؤال الهوية بالدخول فى محاولة لتفسير سيادة هذا السؤال فى لحظة تاريخية معينة ، من حيث السياق التاريخى وتفاعل القوى الاجتماعية الذى ولَّدها . وقد انطوى هذا الموقف على ما قد يبدو أنه إنكار لوجود الهوية .. لأن المقالات لم تنحز إلى أى من التصورات المطروحة عن حقيقة هوية الشعب ، سواء بالقول بوجود هوية واقعية أو هوية نموذجية يجب أن نسعى إليها ، كما أنها لم تقدم تصورا جديدا منافسا بشأن ما يسمى "هويتنا" . ومن هذه الزاوية سوف يبدو هذا الطرح "عدميا" ، أو أنه يتهرب من السؤال الأساسى والحتمى فى ظل سيادة ثقافة الهوية : ما هى هويتنا ؟ بينما قد يرى البعض أن هذا الطرح يرفض فكرة الهوية ذاتها ضمنا بغير أن يقول ذلك صراحة . ولكنى آمل أن يدرك القارئ أن هذا الانطباع غير صحيح لأننى حاولت فى بعض المقالات أن أوضح أن هوية الفرد والجماعة شىء متغير باستمرار ، ومتعدد الجوانب أيضا فى اللحظة الواحدة ، وأن أيديولوجيات الهوية - كما أشار أحد المقالات - عبارة عن تثبيت لأحد هذه الجوانب وتحويله إلى قوة قاهرة لأية خصوصيات أخرى .. منافِسة أو فرعية . وبالتالى تكون أيديولوجيات الهوية قوى سياسية/ أيديولوجية لا تكشف عن هوية بقدر ما أنها تصنعها ، أو بالأدق تساهم فى صنعها ، ثم تترجمها إلى مقولات سياسية وتحولها إلى بؤرة نشطة تجذب وتستبعد وتقمع وتحدد أطرا معينة للحركة ومجالا أيديولوجيا معينا .
غير أن هذه الإجابة بدورها تنطوى على إشكالية رئيسية .. هى أنها تتكلم عن أيديولوجيات الهوية وآلياتها ، دون أن تتكلم عن الهوية ذاتها ، بما قد يعنى أنها "تتهمها" بأنها "وهم" - إن جاز التعبير - أو كذبة مُغرضة تهدف للقمع . وسوف أؤجل مناقشة مسألة القمع إلى الجزء السياسى من هذا التعقيب .. أما ما يعنينا هنا فهو أن المسألة تبدو كما لو أن "الهوية" ذاتها تختفى كقضية على أساس أنها كاذبة ، وأن تكذيبها بالتالى مطروح من وجهة نظر أخرى تعتبر نفسها الحقيقة الجديدة التى تحل محل الهوية الكاذبة هذه .
غير أن هذا بالضبط هو ما يسعى هذا الطرح إلى تجنبه . فمن الناحية المنهجية حاولت هذه المقالات - مقتفية أثر ميشيل فوكو إلى حد ما ، ولكن ليس تماما - أن تقول أن أيديولوجيات الهوية ليست أكاذيب ، وإنما قوى ، انطلاقا من رفض الفكرة الشائعة التى تعتبر أن الفكر يختلف اختلافا جوهريا عن العنف والسلطة ، وأنه منفصل عنهما . وبالتالى فإن أيديولوجيات الهوية ليست أكاذيب إلا من منظور الحقيقة المطلقة ، أى من المنظور الذى تطرح به أيديولوجيات الهوية نفسها. ذلك أن أيديولوجيات الهوية تطرح نفسها بوصفها "الـ"حقيقة ، أو بوصفها تعبيرا ودفاعا عن حقيقة ثابتة وقاطعة ، وبالتالى فإن ما طرحته المقالات يعنى بالنسبة لها محاولة لتقويضها من الجذور ، أى من ادعاء صحتها المطلقة (وهو هدف مقصود بالطبع) . ولكن من وجهة نظر هذه المقالات فإن سؤال "حقيقة الهوية" الذى تشترك كل أيديولوجيات الهوية فى الاعتراف بمشروعيته المطلقة هو فكرة وسلطة وآلية فى ذات الوقت ، أو بؤرة "وهمية" أو "قوة عظمى" أنتجها وغذاها هذا الصراع الضارى بين أيديولوجيات الهوية حول تسييد إجابة معينة على هذا السؤال المشترك فى مواجهة الآخرين . وبهذا المعنى ليس سؤال الهوية كاذبا ، برغم أنه سلطوى ، ولا تكون أيديولوجيات الهوية وهمية ، وإنما تكون ، على العكس ، "حقائق" .. وبالأدق وقائع .. ولكن بمعنى مختلف تماما : أفعال هيمنة وُلدت فى سياقات أفعال تاريخية معينة ، ولا تختفى إلا من خلال تفاعلات معينة .. أى أفعال أخرى .
وعلى ذلك تأسست هذه المقالات من الناحية المنهجية ، ضمنا ، على نظرية عامة فى الفعل عموما ، والفعل الأيديولوجى الفكرى خصوصا ، لتحل محل نظرية الحقيقة . ووفقا لهذه النظرية تكون الأيديولوجيات أفعالا ، وبالتالى فإنها تكون واقعية ، لا كاذبة ولا صادقة .. وعلى ذلك فإن كلمة "أيديولوجية" لا تعنى هنا ، على خلاف الاستخدام الشائع ، مجموعة الأكاذيب التى تخفى واقعا آخر .. تكشف عنه نظرية أخرى تدعى أنها هى التى تعبر عن الواقع ، وإنما تعنى الإشارة إلى نوع معين ، واقعى للغاية ، من الأفعال : الأفعال الأيديولوجية ، التى لا تقل واقعية عن غيرها من الأفعال الاجتماعية ، كالأفعال الاقتصادية مثلا .
وينطوى القول بأن الأيديولوجيات أفعال اجتماعية على التخلى عن فكرة "التعبير" ، أى القول بأن الفكر يعبِّر ، أو "يجب أن" يعبر ، عن شىء آخر يسمى الواقع أو حقيقة الواقع .. وأن معياره بالتالى هو التناظر : اتفاق الفكر مع الواقع . لأن الفكر كفعل اجتماعى هو جزء من الواقع الاجتماعى ، مثله مثل الأفعال الاقتصادية مثلا ، وبالتالى فإنه لا يقف "خارج" الواقع "ليعبِّر" عنه ، وإنما يمارِس تأثيرا معينا . وهنا تجب الإشارة إلى أن هذا لا يعنى أن التصور القائل بأن الفكر يعبِّر عن الواقع هو محض خطأ ، لأن هذا التصور ، هو ذاته فعل أيديولوجى وآلية من آليات عمل الفكر ، وجزء من قوته كفعل . غير أن هذا لا يمنع من القول بأن اعتبار الفكر تعبيرا عن الواقع أمر لا ينتمى إلى ما يمكن أن يسمى "طبيعة الفكر" ، وإنما هو شكل الفعل الفكرى فى عصرنا هذا وحده . ففى هذا العصر يتسم الفكر باستمداد مشروعيته من القول بقيامه بهذا التعبير - على نحو صحيح فيما يدعى طبعا - عن شىء آخر خارجه يسمى الواقع . وفى كل الأحوال فإن التصور القائل بأن الفكر فعل نوعى يجعل من المستحيل أن تقوم علاقته بغيره من الأفعال على التناظر .. فالأفعال لا تعبر عن بعضها البعض وإنما بالأحرى تتفاعل وفقا لقواعد محددة تتحدد من منظورات مختلفة .. تماما مثلما نقول أن الشمس تساعد على نمو الأشجار أو تعيقه ، لا أنها "تعبر" عنه .
وللوهلة الأولى قد يبدو أن هذا التصور يؤدى إلى عدمية فكرية محضة .. برغم كل هذا الكلام عن الفعل الفكرى والأيديولوجى .. لأنه إذا كانت الأفكار أفعالا كغيرها فسوف تفقد مصداقيتها التعبيرية التى اعتدنا عليها ، وتصبح كل الأفكار متساوية من حيث كونها أفعال بعدما كانت متمايزة من حيث كونها صحيحة أو خاطئة ، جزئيا أو كليا . كما يمكن القول أيضا بأن هذا الطرح يؤدى إلى القول بأن الأفكار السائدة هى الأفكار الصحيحة ، لأنها أفعال قوية ، أو أن "الحقيقة هى مصلحة الأقوى" كما قال السفسطائيون قديما . وفى قول آخر يمكن أن يفضى هذا التصور إلى القول بحتمية إقرار كل ما يُقال ، أو "كله ماشى" ، وهو النقد الذى وُجِّه كثيرا إلى أفكار ما بعد الحداثة كما تسمى ، أو ما بعد البنيوية .
وقبل أن نوضح كيف يكون هذا التصور غير عدمى يجب أن نشير إلى أن تصور "التعبير" ، أى القول بتعبير الفكر عن الواقع ، الشائع والمألوف والمسلم به، لا يخلو من مشكلات خطيرة ، لأنه يفترض أنه يمكن أن يوجد موقع فكرى مستقل مطلق نستطيع من خلاله أن نحاكم الأفكار و"الواقع" بالطريقة المعروفة : طريقة "الصح والخطأ" . وبصرف النظر عن مجمل تحليل فوكو للعلاقة بين المعرفة والسلطة فإن فكرة "التعبير" نفسها تخون ذاتها يوميا حين يتناول أنصارها أفكارا أخرى غير التى يتبنونها . فكل أيديولوجية وكل فكرة تُخضع غيرها من الأيديولوجيات والأفكار المنافسة للتحليل انطلاقا من أنها أفعال مندرجة فى شبكة الأفعال الاجتماعية ، وترفض أن تعتبرها "تعبيرا" عن الواقع . ويتخذ هذا التحليل أشكالا مختلفة ، بدءا من المقولات الساذجة عن "المؤامرات" وانتهاء بالقول بأن هذه الأيديولوجيات المنافسة أدوات فى أيدى قوى متخلفة أو طبقات اجتماعية ، أى قوى مجردة غير ملموسة بشكل مباشر ، موصومة بأنها رجعية ، وراغبة فى أن "تشوه" صورة الواقع للحفاظ على سلطتها وبالتالى فإنها أفعال "مُغرضة" ولا تعبر عن الواقع .
وبمعنى أوضح فإن كل أيديولوجية تستثنى نفسها بالذات من تحليل الأفكار كأفعال اجتماعية ، لتنفرد بالقول بأنها ، وحدها ، التى تعبر عن الواقع () . ومن زاوية ما يمكن القول بأن التصور المطروح هنا يمد هذا النقد المتبادل على استقامته ليشمل المحتوى الأيديولوجى أو الفكرى بصفة عامة . غير أنه لهذا السبب بالذات يطرح بشكل حاد مشكلة "الـ"حقيقة ، لأن جميع التصورات الأخرى تظل ، وهى تنتقد غيرها من التصورات باعتبارها أفعالا مُغرضة ، تستأثر لنفسها بموقع الحقيقة الحصين : الحقيقة بألف لام التعريف ، ثم تنطلق منه لإدانة الآخرين . ومن خلال هذا السلوك المتبادل بين الأيديولوجيات المختلفة تعترف جميعا بأن "شرف" التعبير عن الواقع تحتكره حقيقة واحدة ، ينحصر اختلافهم فى تعريفها . وبالتالى تتأكد من خلال هذا الصراع عينه بين حقائق مختلفة فكرة وجود حقيقة واحدة .
غير أن مد هذا النقد المتبادل على استقامته ليس إجراء بسيطا ، لأنه يعنى التخلى عن هذا الموقع الحصين وعن فكرة الحقيقة الواحدة ومواجهة مشكلة "كله ماشى" التى أشرنا إليها .
وبداية ينبغى أن نقرر أن موقف "كله ماشى" مستحيل أصلا . لأنه يفترض امتلاك موقع يقف على النقيض تماما من موقع حملة "الحقيقة" على اختلافهم : موقع الافتقار المطلق إلى أى أساس وإلى أى موقع ، تاريخيا وجغرافيا وسياسيا واجتماعيا ... الخ . وهذا موقع خيالى ، يستحيل أن ينطبق على أحد ولو كان صوفيا . فالصوفية ذاتها لها تاريخ ، ولها مقولات متغيرة عبر العصور ، ولها جماعاتها وخطاباتها المشتبكة بفعالية مع خطابات معاصرة وفاعلة أخرى ، موروثة أو مستجدة . وأن تكون صوفيا يعنى أيضا أن يكون لك موقف من الخطابات الصوفية المختلفة ، فتتفق وتختلف ، وتؤيد وتجدد . فالصوفية ذاتها ليست كتلة مصمتة ولا متجانسة ، بل هى عالم حى من الصراعات .
غير أن المشكلة لا يمكن أن تُحل بهذه البساطة ، لأنه وإن كان موقف "كله ماشى" مستحيلا ، فإن البرهنة على استحالته لا تغنى عن البرهنة على إمكانية تعدد "الحقائق" . وتسمى هذه المشكلة فى الأدبيات الفلسفية مشكلة "المنظورية" perspectivism ، أى القول بتعدد المنظورات للواقع . وتوصف المنظورية فى الأدبيات الفلسفية الناقدة باللا أدرية ، لأنها تنكر مبدأ الحقيقة ، وبأنها تدعى فى ذات الوقت أنها الحقيقة . بمعنى أنها فى نقدها هذا للحقيقة تقرر ضمنا أنها نظرية محايدة ومتعالية على كل المنظورات ، أى على الادعاءات المختلفة بامتلاك الحقيقة، وبالتالى فإنها تدعى أنها منظور أشمل ، نجح - يا للتناقض - فى أن يقول أخيرا الحقيقة - بألف لام التعريف - التى ينكر على الآخرين ادعاءهم بأنهم يقولونها ! وبمعنى آخر يرى هذا النقد أنه يستحيل أن توجد فكرة لا تدعى أنها تقول "الـ"حقيقة . وبالتالى فإن المنظورية هى الخدعة الكبرى ، لأنها حقيقة متنكرة.
تلك هى المشكلة الجوهرية التى سأحاول الآن أن أساهم فى حلها بشكل ما . ويدفعنى إلى ذلك إدراك أن العودة إلى الموقع الحصين للحقيقة التعبيرية أصبح شبه مستحيل نظريا بعد هذا النقد الذى وجَّهته المنظورية على مدى عقود مضت فى مختلف العلوم الإنسانية للمسلمات القديمة . وتتمثل مساهمتى فى هذا الطرح الذى يقول بأن الأفكار أفعال ، ومحاولة التمسك به ليشمل المنظورية بدورها . بمعنى أن المنظورية ليست هى "الـ"حقيقة التى تُقال الآن أخيرا بشأن الفكر ، وإنما هى فعل اجتماعى فى المجال الفكرى والأيديولوجى ، له سياقه الذى يفسره ، سواء كان فكرة هامشية أو سائدة - إذا سادت يوما ما . بل ويمكن - كغيرها من الأفكار - أن تكون لها دلالات وآثار مختلفة تماما وفقا للسياقات الاجتماعية المختلفة التى تندرج ضمنها.
ومن جهة أخرى يتطلب الأمر أن نقرر أن نظرية الأفكار/ الأفعال ، أو المنظورية وفق تصورى لها ، لن تتعامل مع الأفكار بمنطق "الصح والخطأ" ، وإلا وقعت فى التناقض الذى أشرنا إليه . فهى لن تضع "أفكار الحقيقة" فى موقع الأخطاء لتدَّعى بناء على ذلك أنها قد نجحت فى كشفها . وإنما يجب أن تنطلق من أن هذه الأفكار ، كأفعال ، واقعية ، أو ظواهر تاريخية ، وأن المسألة ليست بالتالى الحكم على صحتها ، وإنما تعيين موقعها فى شبكة الأفعال الاجتماعية العامة وآثارها ودراسة تفاعلاتها . وبهذا المنطق سوف تتغلب أيضا على اعتراض آخر .. فلن تعود كل الأفكار ممكنة فى كل زمان ومكان ، لأنه لا يوجد أى زمان ومكان تكون فيه جميع الأفعال ممكنة ، سواء كانت أفعالا فكرية أو اقتصادية أو غيرها . فبدلا من نظرية "التعبير" تكتسب الأفكار "واقعيتها" ، أو فاعليتها ، عن طريق خصائصها العينية التى تمكنها من التفاعل مع أفعال اجتماعية أخرى فى لحظة تاريخية معينة . فالفعل الأيديولوجى أو الفكرى لا يقف فى فراغ تاريخى ، بل هو نوع معين من الأفعال الاجتماعية مندرج فى شبكة عامة من أفعال اجتماعية متنوعة ، يدين بوجوده إليها . وعموما فإن كل سياق اجتماعى/ تاريخى يفرض المنظومات الأيديولوجية المختلفة التى تناسب تكوينه المعقد . فالفكرة بوصفها فعلا لها حدودها وشروط إمكانها .. التى لا تحدد إمكانية وجودها من عدمه فحسب ، بل موقعها فى المجال الفكرى وتأثيرها فى هذا المجال وغيره من مجالات الفعل الاجتماعى . وعلى سبيل المثال فقد طُرحت فكرة مركزية الشمس بالنسبة للأرض فى الفكر اليونانى القديم كفرضية ضعيفة فى سياق الأبحاث الفلكية ، ولم تثر وقتها تلك الضجة الكبيرة التى أثارتها حين أعاد برونو وجاليليو طرحها ، حيث أصبحت بؤرة صراع هائلة على مستويات عديدة أوسع من مجال الفلك وحده ، ولعبت دورا تأسيسيا فى صياغة الثقافة الحديثة فى أوربا .
بذلك نكون قد فرغنا من الطرح الأولى بشأن المشكلة الرئيسية لنظرية الفكر/ الفعل . وننتقل الآن إلى تحديد موقع الأفعال الفكرية من الشبكة العامة للأفعال الاجتماعية ، ومدى استقلاليتها . ففهم الفكر كفعل لا يعنى أن المجال الأيديولوجى/ الفكرى عنصر تابع أو أداة فى الشبكة العامة للأفعال الاجتماعية ، فله سياقه الخاص الذى يحفظ له تماسكه الخاص كمجال . وأبسط مظاهر هذا السياق الخاص هو المعيار المشترك له ، والذى يمكن أن نسميه معيار "التفسير الأقوى" . ونعنى بالتفسير الأقوى القدرة على الربط بين أكبر مجموعة ممكنة من الوقائع وفق مبدأ تفسير معين . لأن تغطية أكبر مجموعة ممكنة من الوقائع يعنى التحكم فى التصورات السائدة عنها .. وبالتالى التأثير على مجالات أكبر من الأفكار المتداخلة فى شبكة القوى الاجتماعية العامة ، وهذا هو معيار القوة .. دون أن نُغفل بالطبع أن الوقائع ذاتها لا تتساوى فى أهميتها .. وأن السيطرة التفسيرية على عدد أقل من الوقائع الأكثر أهمية من حيث وضعها فى شبكة القوى الاجتماعية العامة يمكن أن يولِّد قوة تفسيرية أقوى بكثير . غير أن الغرض من هذه الخاتمة هو مجرد الإشارة لحدود منهجية بما لا يسمح بالاستفاضة فى شرح التفاصيل . وفى جميع الأحوال فإن التفسير الأقوى مبدأ لا معنى له إلا بالمقارنة بين الأفكار المعاصرة حول نفس الموضوع .
أيضا يحتفظ المجال الأيديولوجى/ الفكرى بتماسكه بفعل سياقه التراكمى الخاص . فالأفكار المعاصرة لبعضها البعض تتخذ مواقف مختلفة من بعضها ، وتشتبك الأفكار الجديدة مع الأفكار السابقة حتى تحفر لنفسها موقعا لمشروعيتها، لأنه لا توجد فكرة تنشأ من العدم ، أو بمعزل عن عالم الأفكار المعاصر لها ، بل هى تولد فى صميم شبكة التفاعل القائمة والتى لا تتوقف أبدا عن الحركة فى انتظار الجديد .. فالأفكار الجديدة تتخلق من خلال هذا التفاعل ذاته .
غير أن الفكر كفعل اجتماعى ليس مستقلا تماما .. بل مندرج كما قلنا فى الشبكة العامة للأفعال الاجتماعية .. ولا يمكن فهم تحولاته بغير وضعه فى سياق الأفعال الاجتماعية بأوسع معنى ممكن . فإذا تناولنا معيار "التفسير الأقوى" الذى ذكرناه منذ قليل ، يمكن أن نلاحظ أن معيار قوة التفسير ذاته يختلف باختلاف العصور . فتفسير جميع الوقائع الاجتماعية والطبيعية من خلال النصوص الدينية وإدارة الصراعات الاجتماعية من خلال التبارى فى تفسير النص الدينى يقدم معايير مختلفة تماما للتفسير الأقوى عن معايير التفسير العلمى الأقوى المعاصرة . أما سيادة كل منهما فى حقب تاريخية مختلفة فإنما يعود إلى بنية شبكة الأفعال الاجتماعية العامة بأكثر مما يعود إلى مبدأ "التفسير الأقوى" المجرد بحد ذاته . وإذا كان تفسير النص كمرجعية أعلى قد هُزم تاريخيا فى معركة جاليليو مع الكنيسة فإن هذه الهزيمة ترجع بلا شك إلى سياق اجتماعى أوسع بكثير ، جعل فكرة "إجراء تحقيق مع الطبيعة" ، بتعبير فوكو ، أكثر اتساقا مع مناهج التحقيق والانضباط التى ابتكرتها الكنيسة ذاتها من الأفكار العقائدية المسبقة التى تبنتها الكنيسة الرومانية بشأن العلاقة بين الأرض والشمس انطلاقا من النصوص المعتمدة ، فضلا عن اتساقها مع المصالح التجارية والمدينية الجديدة ، وأوضاع الإنتليجنسيا الحديثة المتنامية القوة فى عصر النهضة وما بعده .
كذلك فإن بمقدور الأفعال الاجتماعية المختلفة أن تدفع بفكرة معينة إلى الظلام ، سواء بالقمع أو حتى بالتجاهل . وقد تتراكم الأفكار/ الأفعال المناقضة للسياق السائد دون أن تنجح ، بسبب غياب تحالفات مع قوى/ أفعال اجتماعية أخرى ، فى تحقيق ترابط يحولها إلى بؤرة قوية . وعلى ذلك فإن مبدأ "التفسير الأقوى" مثالى أكثر مما ينبغى ، إذا فُهم على أنه الكلمة الأخيرة فى صراع الأفعال الفكرية ، لأنه يتصور أن صراع الأفعال الفكرية صراع منعزل للأفكار المجردة ، على نمط صراع اللاعبين المهذب فى مباريات الشطرنج ، ويتجاهل أن "قمع ألعاب اللغة" - على حد تعبير ليوتار - من داخل مجال الأفكار ومن خارجه ، جزء لا يتجزأ من لعبة الأفكار ذاتها .
وثمة معيار آخر لا يمكن إغفاله تماما .. يشمل كلا من السياق الخاص والسياق العام للأفكار/ الأفعال ، هو قدرة الأفكار على توليد أفكار أخرى . فالتفسير الأقوى ليس هو ما يُفسِّر فحسب ما هو معروف ، ولكن أيضا الذى يفتح مجالات لاستكشاف وقائع صغرى أخرى ، ويبرهن على قدرته على إدماجها. فالأفكار الكبرى ، مثل الأديان والماركسية ونظريتى أينشتين ونيوتن ، لم تقدم فحسب تفسيرات قوية ، وإنما مجالات عمل ، فكرى أو سياسى أو كلاهما ، جديدة وواعدة . ومن هنا هذه العبارة الشهيرة القائلة بأن "الأنبياء لا يهدون إلا المهتدين" .. فالأفكار/ الأفعال الكبرى تأتى لكى تحتل أرضا ممهدة ، تراكمت فيها أفكار/ أفعال ، وأوضاع/ أفعال جزئية كثيرة وأصبحت مستعدة لهذا الفعل الأكبر .. ليفسرها ويمنحها وحدة ويفتح لها آفاقا جديدة فى ذات الوقت .
ويفضى مجموع ما ذُكر إلى أن دراسة الأفكار كأفعال ، كدراسة ، مهمة واسعة للغاية ، ولا نهائية تقريبا ، حتى ولو قصرنا جهودنا على تفسير فكرة واحدة مثل بؤرة الهوية الصراعية ، أو أحد أيديولوجيات الهوية . ومن هنا فإن التفسير يكون دائما غير نهائى . غير أن المسألة ليست فى مدى "الاقتراب من تفسير كامل" - وهى بالمناسبة فكرة متناقضة - وإنما هى مسألة الفعل الفكرى كحدث مندرج فى شبكة الأفعال الاجتماعية . ذلك أن ما يجعل مهمة التفسير ، سواء وفقا لنظرية الحقيقة أو غيرها ، متواصلة ليس السعى إلى التوصل إلى "التفسير النهائى" الشامل ، وإنما لأنها مهمة داخلة فى سياق شبكة الأفعال الاجتماعية الأوسع . فالمسألة المطروحة هنا ليست التفسير النهائى ، ولكن التفسير الأقوى نسبيا ، بالإضافة إلى التحالفات الأقوى أيضا مع قوى الشبكة الاجتماعية الأخرى .. الأمر الذى يؤكد مزيدا من التأكيد على أن جميع الأفكار ، بما فيها الفكرة المطروحة هنا ، هى بالدرجة الأولى أفعال اجتماعية مندرجة فى شبكة واسعة ، تستمد منها قيمتها وفاعليتها ، وليس من انطباق "موضوعى" مُدَّعى على الواقع .
فإذا عدنا إلى مسألة تساوى الأفكار فإن عدم مساواتها يرجع لوضعها داخل شبكة الأفعال الفكرية خصوصا والأفعال الاجتماعية عموما ، وليس لأن بعضها يتميز بالشمول والإحاطة . ذلك لأن هذا الشمول يتطلب أن تحتل الفكرة المعنية جميع المواقع التى تنطلق منها الأفعال الاجتماعية المختلفة فى ذات الوقت ، أو ، بالعكس ، أن تستطيع أن تخرج منها جميعا لتنظر من نقطة محايدة ، أو "برج عاجى" كما يقولون . ولا تستطيع أية فكرة أن تدعى أنها وحدها التى تتمتع بالوضع المركزى فى عالم الأفكار .. لأن هذا يتطلب أولا تعيين المركز من نقطة محايدة .. أى النظرة الشاملة المستحيلة . وبالمقابل لا يستطيع الفكر - كفعل - أن يستقيل، أو أن يكون بلا موقف ، لأنه عنصر من شبكة الأفعال الاجتماعية ، يستمر مؤثرا حتى فى حالة الامتناع عن الفعل ، فضلا عن أنه لا يوجد فاعل اجتماعى ، ثقافى أو سياسى أو اقتصادى أو غير ذلك ، يكون فى وضع الاختيار المطلق بين الفعل وعدم الفعل .. فهو لا يستطيع أن يتخذ موقف "كله ماشى" .
وعلى ذلك فإن تصور الأفكار كأفعال ، المطروح هنا ، لا يعنى بأى حال تقديم "الـ"حقيقة بشأن الأفكار ، وإنما هو طرح يعتبر نفسه "تفسيرا أقوى" ، سواء من حيث شموله لوقائع موضوعه أو من حيث قدرته على توليد مزيد من الأفكار .. مدركا فى ذات الوقت أنه ، كتصور ، فعل ، له موقع داخل الشبكة العامة للأفعال الاجتماعية ، ليس خارجها ولا أعلى منها ، ولا هو "يُعبر" عنها .
على هذا النحو نكون قد طرحنا الافتراضات المنهجية التى تسمح بتناول الهوية كفعل أيديولوجى ، بعيدا عن أحكام فكرة صحة أيديولوجيات الهوية المختلفة أو خطأها . فالمطروح هنا ليس تكذيبها ولا تصديقها ، ولا ما يسمى فى نظريات الحقيقة "كشف زيفها" ، بل تعريتها من مبدأ ادعاء التعبير عن "الـ"حقيقة وتعيين موضعها فى شبكة الأفعال الاجتماعية وبنيتها ، على نحو ما جاء فى هذه المقالات .
وبناء على ما سبق يمكن أن أطرح تصورى عن البؤرة الأيديولوجية الصراعية على النحو الآتى :
1 - فى كل لحظة تاريخية معطاة ، وبصدد كل مسألة مطروحة للنزاع بين اتجاهات مختلفة يدعى كل منها أنه المعبر عن الحقيقة بشأنها ، توجد بقعة عمياء blind spot يعجز جميع الأطراف بالضرورة عن فحصها أو الكلام عن حقيقتها ، هى بالذات القيمة المشتركة التى يجرى حولها النزاع . وفى حالة الهوية سيكون مفهوم الهوية ذاته هو هذه البقعة العمياء ، لأنه يكون محل تقديس ، لا تساؤل . فهو بالنسبة لكل الأطراف بديهى ، غير مُختلَف على أهميته ووضعه ، برغم اختلافهم على تعريفه أو وصفه () . وفى ظل هذا الوضع ستكون رؤية كل طرف مُركزة على أفعال الآخرين المتصارعين معه على احتلال ذات الموقع ، أى ستنصب الرؤية على المواقع النسبية لكل منهم من الهدف المُجمع عليه .
2 - إذا افترضنا أيضا وجود مراقب خارجى ، ليس بمعنى أنه محايد ، ولكن بمعنى أنه لا يشارك بحكم موقع معين يشغله فى الشبكة الكلية فى الصراع على هذا المفهوم - وإن كان يشارك بالطبع فى صراعات أخرى - سنجد أن هذا المراقب سيرى صورة مختلفة تماما .. فسوف يرى المتصارعين كجماعة واحدة محتشدة ومتحلقة فى مكان واحد حول هدف واحد تتفق على أهميته .. وبالتالى ستكون رؤيته منصبة على محور الصراع : الهدف ذاته، ولن تنكشف له الفوارق الدقيقة بين مواقع المتعاركين بوضوح .
3 - أما إذا دققنا النظر فى وضع أحد معسكرات الهوية الكبرى ، فسيتضح لنا أنه ليس هذه الكتلة المصمتة المتحدة التى تبدو للوهلة الأولى ، بل غابة واسعة مليئة بالأشجار ، البعض فى القلب ، والبعض فى المواجهة ، والبعض فى الأطراف. وبعض هذه الأطراف يكون أكثر قربا من أحد الاتجاهات المنافسة الأخرى . وعلى سبيل المثال فإن حملة الأيديولوجية الحاكمية ليسوا سواء ، فبعضهم أكثر اقترابا من فكرة الحقوق الديمقراطية ، أو بالعكس من فكرة السلطة المطلقة للفقيه أو الزعيم ، وبعضهم أكثر تصالحا مع الفكرة القومية العربية من غيرهم ... الخ . وبمعنى آخر فإن النقطة الضخمة التى تمثل الاحتشاد فى معسكر هوية محدد ستبدو عن قرب مكونة من عدد كبير من التجمعات الأصغر التى يمكن أن نرصد وسطها بؤرة صراعية طرفية تحفظ للمعسكر المعنى تماسكه .. مثل فكرة الحاكمية المشتركة بين جميع فصائل الحركة الإسلامية ، والتى يحدد الموقف منها "نمط التكفير" لكل فصيل ، والذى يمنحه توجهه السياسى الخاص ... وهكذا . وفى خضم حركة الصراع قد تتبادل هذه التجمعات مواقعها ، فيحتل بعضها القلب بعدما كان فى الأطراف .. حسب سياق التطورات العامة المحيطة والتحالفات الناجحة ... الخ .
4 - ومن المفهوم أنه سواء بالنسبة للمعسكرات الكبرى أو مكوناتها من التجمعات الأصغر أو المراقب الخارجى المُفترض ، أننا لسنا بصدد نقاط ساكنة مرسومة على سطح ، بل بصدد قوى تتجاذب وتتنافر ، وتقوى وتضعف بالحشد والانفراط .. وباختصار : أفعال . وبالتالى نحن نفترض هنا أن المعسكرات الكبرى ليست سوى تجمعات كبرى من القوى ، ولهذا السبب تجذب من حولها تجمعات أخرى أصغر ، لها بؤرها الصراعية الصغيرة ، وتقل قوة جذبها مع ازدياد المسافة - إذا استخدمنا هذا التشبيه الميكانيكى من باب التبسيط . وبالتالى أيضا فإن المراقب الخارجى الذى افترضناه يمكن أن يشغل مواقع نسبية متعددة ، بحيث يكون أقرب إلى أحد المعسكرات الكبرى المتصارعة من سواه .. وبالتالى يمكن أن يُعتبر من زاوية ما أحد الأطراف البعيدة أو الهامشية لأحد المعسكرات ، وإن كان يتمرد عليها (وهذا بالمناسبة يمكن أن ينطبق على هذا الطرح نفسه) .
5 - توجد علاقة اعتماد متبادل بين البؤرة الصراعية (أو الوهمية .. بمعنى غير المرئية) وبين القوى المتصارعة عليها .. لأن هذه البؤرة ضرورية لإضفاء المعنى على الصراع ذاته ، وهى بالتالى تعزز موقف كل المتصارعين عليها ، وفى ذات الوقت تستمد منهم القوة . ويترتب على ذلك توليد قوة تستبعد كل الأطراف الأخرى غير المشاركة فى الصراع ، أو خلع الشرعية عن مواقفها . كذلك تقيد هذه القوة كل طرف من أطراف الصراع الكبرى وتحول بينه وبين الانحراف عنها. ولذا - فى الأحوال العادية - يكون الجناح المسمى الوسط داخل كل معسكر أقوى الأجنحة ، لأنه معنى بالبؤرة الصراعية الكبرى ذاتها .. أما الأجنحة الطرفية فهى المؤهلة أكثر للتجديد والتمرد أو حتى الالتحاق بمعسكرات منافسة فى أوقات الأزمات الحادة .. بينما تتميز الأجنحة المتشددة باهتمامها بالبؤرة الصراعية الطرفية الداخلية (داخل المعسكر ذاته) أكثر من البؤرة الصراعية العامة.
6 - ونظرا لهذا الارتباط الشديد بين القوى المتصارعة والبؤرة الصراعية - سواء على مستوى البؤرة الصراعية العامة أو الطرفية الداخلية ، فإن ثمة ضغوطا متواصلة لإشراك الجميع فى مبدأ الصراع ذاته ، وسعى دائب لاستيراد قوى من أية حقول قوة (أى فعل) أخرى . ومن أمثلة ذلك على صعيد البؤرة الأيديولوجية العامة أدلجة الفن والأدب ، من خلال النقد الفنى والأدبى الأيديولوجى ، أو أدلجة مفاهيم الأسرة وإدماجها فى الصراع السياسى من خلال النقد الأخلاقى ... الخ . ويجرى هذا الاستيراد بمنطق التحالف أو تبادل المنافع . فالأديب اليسارى مثلا سيحقق له الجناح الأيديولوجى اليسارى الشهرة وفى ذات الوقت سوف يُفيد التيار السياسى الذى يؤيده . ولذلك أيضا فإن كل رفض صريح للاعتراف بالبؤرة الصراعية ومركزيتها سيواجه بالهجوم المشترك من كل الأطراف المتصارعة، باسم رفض الإباحية أو بالقول بمؤامرات مشتركة مع الأعداء ... الخ . ويضفى الصراع بين الأطراف الرئيسية حدة أكبر على مثل هذه الاتهامات لأن الهجوم على أعداء البؤرة الصراعية العامة يعنى إثبات مزيد من الولاء لها فى إطار التنافس المحموم بين هذه الأطراف على امتلاكها ، كما يعنى بالنسبة للصراع الداخلى فى كل معسكر التنافس بين الأجنحة والفصائل المختلفة على إثبات الكفاءة فى العمل العام .
7 - وإذا كانت هذه الشبكة مفتتة كما هو واضح إلى عشرات القوى والمنظورات (حيث أن كل طرف له منظور وقدرة على الرؤية تتفق مع وضعه داخل الشبكة الكلية) ، فإنها أيضا تجتمع فى حقل صراعاتوحيد جامع ، متحلق حول بؤرة الصراع الرئيسية ، بحيث تشكل أوضاع هذا الحقل المتباينة شروط وجود بالنسبة لكل طرف على حدة ، بينما تتشكل أوضاع الحقل ذاتها من تباين مواقع الأطراف المختلفة وضغوطها الفاعلة والبؤر الفرعية .. دون أن يمكن رد أحدهما إلى الآخر باعتباره أصلا له .
8 - ومع ذلك فهذه الوحدة ليست شاملة ولا كلية ، ولا قابلة للاختزال فى مفهوم شامل . لأنه أولا يستحيل أن يوجد مفهوم بلا موقع ، أى بلا وضع داخل شبكة صراعات المفاهيم الكلية ، وبالتالى لا يوجد مفهوم شامل أو كلى . وثانيا لأن حقول الصراع كثيرة .. وبالتالى يمكن أن تنفصل أجزاء من شبكة ما لتدخل فى مجال شبكة أخرى مختلفة . فقد ينفصل الأدب مثلا عن الشبكة الأيديولوجية العامة ويتلاعب بها ضمن مجال خاص . وفوق ذلك فإن الأطراف البعيدة على حواف الشبكة تنسج بحكم موقعها بؤرها الصراعية الصغيرة على أطراف النظام العام دون أن تجذب انتباها ، وهو ما قد يؤدى فى ظروف تاريخية معينة إلى قلب التوازنات الكبرى . فذات يوم ، مثلا ، فوجئت الإمبراطورية الرومانية بصعود المسيحية التى آمن بها ما يقدر بعشر السكان قبل الاعتراف بها رسميا . لأنها صعدت من مجال بعيد تماما عن اهتمامات الإمبراطورية وصراعاتها الكبرى ، هو مجال الديانة اليهودية المنسية ، ولأنها كانت تمارس نوعا من المقاومة لا تعرف الإمبراطورية كيف تتعامل معه بمنظوراتها .. فلا يوجد جيش لتهزمه ولا مقاتلين لتأسرهم ولا ملكيات لتصادرها . ومع ذلك فإن هذه القوى الهامشية لا تنمو من العدم ولا بحرية مطلقة ، وإنما كجزء من تفاعلات الشبكة الكبرى .
9 - ومن الواضح أن هذه النقاط السابقة تطرح تصورا مؤداه وجود شبكة من صراعات القوى (وتحالفاتها أيضا) ، هى ذاتها التى تضفى القيمة والحقيقة على موضوع الصراع . فلا المبدأ سابق على القوى المدافعة عنه ولا القوى سابقة على المبدأ .. فكلاهما ضرورى .. أو بمعنى أوضح أننا بصدد نوع من التحليل التزامنى (الذى يتناول لحظة معينة) ، لا تحليلا تاريخيا يبحث عن الأصل . فالأصل والمبدأ وغير ذلك من المطلقات يتم ردها ، أو بالأدق رد إعادة إنتاجها ، إلى واقع الصراع اللحظى .. ومن الناحية التاريخية ، نكون أمام تسلسل لا نهائى من التفاعلات المتراكمة والتى تؤدى إلى تغيرات مستمرة فى الضغوط بين قوى الشبكة ، لا نلمح منها عادة إلا نتائجها الكبرى ، التى تتمثل فى التغيرات التى تمس البؤرة الصراعية الكبرى .
10 - ويتضح من ذلك كله أيضا أنه برغم سيادة بؤرة صراعية ما فى لحظة محددة فى أية شبكة نوعية ، تمنح هذه الشبكة استقلالها النسبى داخل شبكة الأفعال الاجتماعية العامة ، فإن هذه الشبكة مليئة أيضا بالبؤر الصراعية الصغرى، سواء داخل المعسكرات الكبرى أو على هوامش الشبكة المعنية . أما بالنسبة للتفاعلات الممكنة بين البؤر والقوى الكبرى والصغرى فمسألة تحتاج إلى دراسة واسعة لا تحتملها هذه الخاتمة . ولكن من الضرورى أن نشير هنا إلى أن البؤر والقوى الكبرى لا تهيمن على نظيرتها الصغرى بصفة مطلقة ، وإنما تكون هذه المسألة من جهة محل صراع ومقاومة ، وتكون من جهة أخرى معتمدة على سمات معينة فى البؤر والقوى الصغرى تجعلها قابلة للتدخل من جانب نظيرتها الأكبر . وعلى سبيل المثال فقد وجدت مجمل القوى السياسية الكبرى ، وما يرافقها من مغريات جهاز الدولة والمجتمع الحديث ، صعوبة كبرى فى التأثير على جماعة "التكفير والهجرة" (حسب اسم الشهرة) التى رفضت الحضارة الحديثة من حيث المبدأ . كذلك فإن القانون ، كفعل سلطة مركزى مدعوم بقوة الدولة الهائلة ، لا يستطيع أن يفعل إلا من خلال النزاعات الصغرى النوعية بين الأفراد ، وتوازنات معينة فى عوالمهم الخاصة تجعل البعض منهم يقرر أن يستفيد من قوة مؤسسات القانون فى حسم صراعاته . وهو قرار يتوقف على عوامل كثيرة بخلاف مجرد صدور القانون . كما تنبغى الإشارة أيضا إلى أن البؤر والقوى الصغرى تساهم بدورها فى صياغة توجهات القوى الكبرى ، التى لا تستطيع أن تفعل فى فضاء يقتصر عليها وحدها . وقد شرح فوكو هذا الجانب الأخير بتفصيل أكبر .
11 - ويفترض هذا الطرح أنه لا ينطبق على صراعات القوى الأيديولوجية/ السياسية وحدها .. وإنما أيضا على الأفكار بحد ذاتها . فالأيديولوجيات ذاتها ليست وحدات مصمتة ، بل مكونة من مقولات متعددة مركبة ، يمكن أن نسمى كل وحدة صغرى منها "أيديولوجيم" [مثلما نسمى وحدة الصوت : فونيم] ، ويمكن بالتالى أن نرسم شبكة تناثر الأيديولوجيمات ونكتشف الأيديولوجيمات المركزية والطرفية والعلاقة مع أيديولوجيمات الأيديولوجيات المنافسة الأخرى . وهذه بالطبع مجرد إشارة أولية لاتجاه منهجى ممكن .
12 - وسواء بالنسبة للصراعات السياسية أو التكوينات الفكرية أو الأيديولوجية ، من الواضح أن هذه الأطروحة المنهجية التى تقول بأن الأفكار أفعال تفترض وجود وحدات صغرى تتشكل منها قوى الشبكة ، سواء القوى الكبرى أو التابعة . ومن حيث العلاقة بين هذه المكونات الصغرى والتشكيلات الأكبر فإن كلا منهما ينتج الآخر . ففى مجال الأفكار الذى يعنينا هنا فإن الوقائع لا "تُكتشَف" أو يتم إحياؤها إلا انطلاقا من فرضيات عامة معينة . ففكرة روح الشعب مثلا هى التى تلهم البحث فى مجال الفلكلور و"اكتشاف" ما يتعلق به . وفى ذات الوقت فإن الوقائع التى يتم الكشف عنها فى سياق البحث ولا تستجيب للفرضيات الفكرية تصبح "أيديولوجيمات" عاصية مؤهلة يوما ما للمشاركة فى بؤرة صراعية جديدة ، لأنها تحدت مبدأ "التفسير الأقوى" وأوجدت بالتالى مجالا لعمل أفكار عامة بديلة ممكنة .
ويمكن أن نقول أن المخطط المنهجى المطروح هنا يهدف إلى ما يمكن أن نسميه وصف استراتيجية تكوين الواحد ، أو "الحقيقة" - حقيقة الواحد طبعا - أيا كان موضوعها ، وذلك بهدف التفسير : بمعنى أن المنظور المطروح يُثبت نجاحه بقدر اتساع طاقته التفسيرية إن جاز التعبير . وبهذا المعنى فإنه لا يقف على النقيض من نظريات الحقيقة وإن كان يتجاوزها ، لأنه مثل كل نظريات الحقيقة يتناول نفس الموضوع : تفسير الواقع . غير أن ما يميز هذا الطرح هو التخلى عن طموح إنشاء المحاكم الفكرية والأيديولوجية التى تدعى الحياد وتتكلم باسم المبادئ المطلقة ، وبالتالى يُخفض حجم الأوهام الأيديولوجية القمعية .. فهو لا يطرح نفسه إلا بوصفه تجريدا أفضل أو أكثر قدرة على التفسير ، وبالتالى فإن ما يطرحه فى أية لحظة معطاة قابل من وجهة نظره نفسها للتغيير وحلول منظورات أفضل وأدق .. فضلا عن أنه أشبه بالقوالب المنطقية الفارغة لمنطق أرسطو ، أى لا يفرض على أى باحث لتكوين أيديولوجى أو فكرى معين نتائج معينة بشكل مسبق .
غير أن هذا الطرح ، مع ذلك ، لا يدعى الحياد ، ولا يبشر بلحظة مجيدة ينتهى فيها الصراع ، بل هو فى المقام الأول إنشاء لموقع يصارع ضد الحقيقة الواحدة ، بتفسيرها وتفكيك أوهامها . غير أن هذا الحدث بدوره ليس أكثر من لحظة فى تاريخ الصراع ، أصبحت ممكنة الآن بفعل تراكمات - أى أفعال - ليست محض معرفية ، بل سياسية واقتصادية واجتماعية وتكنولوجية وغير ذلك . وهى تراكمات أصبحت تسمح بإنزال الفكر من فوق عرشه الوهمى ومعاملته كغيره من الظواهر . فببساطة ، وكما هو معروف من عهد ماركس ونيتشة ، لا توجد مشروعية فكرية للفكر ، بل مشروعية اجتماعية بأوسع معنى ممكن للكلمة، هذا فضلا عن أن القضية ليست قضية مشروعية أصلا .. لأن كل ظاهرة فكرية مهما بلغت هامشيتها أو تمردها ، أى مهما قلت مشروعيتها العملية ، هى مكوِّن قابل للتفسير من مكونات "الشبكة" أو البنية الاجتماعية ككل فى لحظة وجودها.
وبالتالى فإن كل ما قيل بشأن أطروحات الهوية المختلفة ، وإن كان ينزع عنها قدسيتها ، التى ربما كانت ضرورية بالنسبة لها كأيديولوجيات واحدية المظهر تتشبث بادعاء احتكار "الـ"حقيقة ، فإنه لا "يشجبها" ، بل يفسرها . ولا شك أن التفسير بطبيعته هادم للمقدسات ، ولكنه لا يحل محلها . وبمعنى آخر فإن تجاوز معارك الهوية ليس رهنا بمجرد نزع مشروعيتها المقدسة ، بل هو رهن بتفاعل اجتماعى واسع داخل الشبكة الكلية التى تكتنفها وتحركها . ذلك أن تجاوز القضايا المركزية المهيمنة لا يعتمد على مجرد نقدها .. ناهيك عن أن هذا النقد قد لا يطرح بالضرورة أفقا بديلا .
لقد سعت هذه الأطروحة المنهجية إلى إدراج الفكر (وفكر الهوية طبعا) ضمن نظرية عامة فى الفعل . وبدلا من نظرية الهوية (بالمعنى المنطقى الأرسطى العام : أ=أ) يفترض هذا المنهج أن كل هوية ، بالمعنى الأرسطى ، أو حقيقة ، هى فعل تم تثبيته فى مفهوم ، كما تفترض أن المفهوم ذاته فعل ، سلاح للتملك ، سواء فى عالم الفكر المحض أم العالم الاجتماعى عموما .. فالفعل هو الذى يحدد الصفة والمفهوم .
وفوق ذلك يمكن القول بأن هذا النموذج المنهجى الذى لمسنا أبعاده لمسا سريعا من القوة والشمول بحيث أنه قادر على إنتاج "أنطولوجيا" كاملة . فنحن نستطيع أن نعممه على أية ظاهرة اجتماعية أو طبيعية ، لأن كل كائن ، لأنه فعل، هو فى ذات الوقت نفى أو سلب (مقولة هيجل الشهيرة : كل تعين سلب وكل سلب تعين ، منقولة على صعيد الفعل) ، لأنه يحتل مكانا لا يحتله كائن آخر ، ويتمتع بخصائص فاعلة فى غيره من الكائنات . فكل وجود هو إذن فعل استبعاد وقبول .. وبالتالى فهو "منظور" . فالبكتريا على سبيل المثال لها منظور .. لأنها "تدرك" العالم فى حدود قدرتها الكيميائية على استقبال المؤثرات ، وتتحرك وفقا لهذه القدرة وتفعل وتحوِّل غيرها من الموجودات . فالمسألة ليست فحسب أن الفكر فعل اجتماعى لكائن طبيعى (الإنسان) ، ولكن أيضا أن كل وجود فعل .. لأن كل وجود هو فى حده الأدنى تمييز واستبعاد وانتقاء ، كالفكر . ذلك أنه لا يوجد وجود محايد أو "طبيعى" ، فكل وجود فعل ، لأنه - شئنا أم أبينا - فرض لأمر واقع : لأنه يفرض على كل ما يحيط به أخذه فى الحسبان .. دون أن يعنى هذا بالطبع أنه ينشئ وجوده بنفسه . وعلى سبيل المثال فإن العالم الذى نعيش فيه مكون من ذرات ، وهذه الذرات ليست سوى الحالة التى وصلت إليها المادة بعد الانفجار العظيم بزمن معين ،أى فى ظل درجة معينة مما يمكن أن نسميه الضغط العام للكون .. فالذرة إذن كيان يدين بوجوده لمجموع توزيع المادة فى الكون فى لحظة معينة . وعلى نمط التحديدات المنهجية السابقة نستطيع أن نقول أنه إذا كان كل وجود فعل فإن هذا الفعل بدوره ليس ممكنا فى طبيعته وخصائصه إلا فى ظل شبكة عامة معطاة سلفا من الأفعال .
بناء على ذلك كله لم تطرح هذه المقالات سؤالا عن "هوية" مصر ، ولكن عن "خطابات حقيقة" حول الهوية نشأت فى ظروف معينة وواكبت إنشاء الدولة الحديثة ، التى تُعد أجهزتها أساس كل شعور قومى . وهذا هو أساس ما أكدت عليه المقالات من أن أفكار الهوية لا "تكتشف" الهوية وإنما تخلقها خلقا ، وتقمع خصوصيات بعينها وتعمق خصوصيات أخرى وتخلق منها بؤرة صراعية ضمن سياق عام لإنشاء القومية بالحديد والنار . وبناء على التحديدات المنهجية السابقة لم تقل هذه المقالات بأن نشأة أيديولوجيات الهوية أمر يترتب بشكل آلى على فعل إنشاء الدولة الحديثة ، وإنما أشارت إلى الدور الكبير الذى لعبته الإنتليجنسيا الحديثة فى إبراز مفهوم الهوية كبؤرة صراعية مع تصاعد احتجاجها على النظام فى أوقات مختلفة . وعلى ذلك فإن الهوية كبؤرة صراعية محورية نشأت فى ظل خريطة محددة من الصراعات (أى الأفعال) الاجتماعية التى واكبت إنشاء وتوطيد دعائم سلطة هذه الدولة ونشرها فى أعماق البلاد ونفوس الأفراد . وبغير هذه الخريطة المحددة من الصراعات ، ووضع الإنتليجنسيا الحديثة داخلها ، كان يمكن للصراع الأيديولوجى أن يتخذ مسارا آخر ، حتى مع وجود الدولة القومية الحديثة . وأخيرا فإن محاولة فك هيمنة أيديولوجيات الهوية تدرك أنها فعل هدم مقصود ، وليس مجرد اكتشاف "حقيقة" ، ولا تلزمها من فكرة أن تكون حقيقة أكثر من أن تكون مناسبة ، كفعل أيديولوجى ، لآفاق تغيرات اجتماعية ، محلية وعالمية ، ممكنة فى الحاضر والمستقبل ... وهذا ما ينقلنا إلى التعقيب السياسى
كانت المقدمة التى كتبها طارق البشرى عام 1981 لطبعته الثانية من كتابه الأشهر "الحركة السياسية فى مصر 1945 - 1952" شهادة فكرية عالية القيمة عن تحول واحد من كبار مفكرينا - فى تقديرى - إلى تبنى أيديولوجية الهوية الإسلامية .. أو بالأدق الخطوة الأولى فى هذا التحول . وبالطبع فإننى لا أنوى هنا أن أناقش مجمل الأسس الفكرية لهذه المقدمة المهمة ، ولكن سآخذ منها ما يتعلق بمشكلة "الموضوعية" فى مقابل "الالتزام" . فوفقا لطرح طارق البشرى فإن العلاقة بينهما تشبه العلاقة بين "علم" الحرب وقرار القتال ، والباحث بالجندى :
محاولة نزع عنصر الانتماء من الباحث فى تناوله لقضايا قومه ، هو جزء من عملية "تحييده" ، أى عزله عن قضايا وطنه وشعبه ، أى أن خلع الانتماء يُفيد خلع الباحث نفسه ... وعندما يتم ذلك نكون قد اغتربنا عن ديارنا وعن أنفسنا ...
على الجندى أن يكون موضوعيا بطبيعة الحال ، ومعترفا بالحقائق إلى أقصى درجة ، ودارسا لكل ما يحيط به . ولكن إذا اشترطنا عليه فى كل ذلك أن يطرح انتماءه ، لأنه مجرد تحيز قد يخفى عنه الحقائق ، إن فعلنا ذلك نكون قد حيَّدناه ، أى أخفينا عنه أهم الحقائق ، وهى من هو وما وجهته . نكون قد اشترطنا عليه ليمسك بالسلاح أن تُسمل عيناه ، وهما من الناحية القتالية نفسها ، أهم من السلاح فى يده بطبيعة الحال . هذا السلاح الضرير سلاح أعزل ، فاقد للوجهة والمنطلق (ص ص 10 - 11 من مقدمة الطبعة الثانية).
وكما هو واضح فإن الباحث - ولنقل المثقف عموما - جندى .. والبحث والثقافة هما سلاحان يستخدمهما بصدد معركة معينة ، هى الدفاع عن قومه (ولنقل هويته) . ويقول لنا طارق البشرى أن هذا الجندى يجب أن يكون موضوعيا ، بالطبع لكى يتعرف على نقاط الضعف والقوة فى جيشه (أى قومه) وجيش الأعداء على حد سواء . ولكن انحيازه ليس بالطبع مرتبطا بهذا التحليل الموضوعى ، فهو ينتمى لهذا الجيش وليس الجيش الآخر ، وهدفه هو تحقيق أفضل النتائج لجيشه وليس الانحياز لواقع موضوعى مجرد . فهو إذن منحاز لقومه دون أن يمنعه ذلك من الرؤية الموضوعية . وبمعنى آخر فإن المفكر يفكر فى حدود مهمته القتالية ، فى حدود هويته المعطاة سلفا . وكما يتضح من سياق المناقشة كما أوردها طارق البشرى فإن الموضوعية مسألة نسبية ، أما الالتزام فليس نسبيا بأى حال .
وهكذا يمكن أن نقول أن طارق البشرى يطرح تصورا "منظوريا" .. فالموقع الذى ترى منه ثابت ، أو يجب أن يكون ثابتا ، بفعل التزام أخلاقى وانتماء أصلى، أما الرؤية الموضوعية فاجتهاد تالٍ لهذا الانتماء ، يتوقف على قدرتك وما أُتيح لك أن تعرفه . فالجندى لا يعرف طبعا كل كبيرة وصغيرة عن جيشه هو ، ناهيك عن جيش العدو .. وقد يصل بالتالى إلى نتائج خاطئة جزئيا أو كليا عن نواحى القوة والضعف .. ولكنه يظل ملتزما دائما بأنه يحاول أن يحقق "النصر" . وعلى ذلك فإن ما رصدناه بصدد أيديولوجيات الهوية كواقع يتم تحليله وفقا للمنهج المذكور سابقا ، يقدمه طارق البشرى هنا من الناحية العكسية ، كالتزام أصلى ، على الباحث/ الجندى أن يكافح للحفاظ عليه ، بحيث لا يقع فى شراك الأعداء الذين يخدعونه بمقولة "الموضوعية المطلقة" . فالالتزام ، الذى يمكن أن نسميه من حيث المنهج المطروح هنا الموقع الخاص داخل الشبكة الاجتماعية والأيديولوجية يقدمه طارق البشرى من زاوية اختيارية وأخلاقية .
وإذا أحببنا أن نمد هذا التصور على استقامته سنقول أن عليك أن تفهم دوافع جنود (باحثى) الأعداء ، ولكنك لن تتبناها أيا كانت قوة منطقها .. فهذه هى الخيانة بعينها . وعليك أيضا أن تحرم ذلك الجندى الخصم بقدر الإمكان من فهم مواطن قوتك وضعفك ، ولك أن تستخدم كل الوسائل الممكنة فى خداعه . وأنت إذن ، كجندى ، تشكل مع جيشك ذاتا فى مواجهة ذات نقيضة أخرى ، لها أهدافها المناقضة تماما لأهدافك . غير أن مطلب الموضوعية سوف يجعلك فيما أظن تحاول أن تفهمه كذات أخرى نقيضة .. وهذا - على صعيد الفكر السائد هنا - موقف أكثر تقدما بكثير من بروباجندا الهوية "الشغالة" هنا ليل نهار، والتى تعجز عجزا مطلقا عن مجرد طرح فكرة فهم الأعداء ودوافعهم . غير أن هذا الموقف الموضوعى ، القائم على الاعتراف بذات الخصم المتميزة ، ليس طبعا أكثر من خطوة لنفيها ، لتحويلها إلى موضوع ، سواء بمحاولة زعزعة إيمان جندى العدو الذى افترضناه بقضيته ، أو بتحطيم إرادته وابتلاعه وإدماجه عن طريق الحرب . فأنت كجندى تدرك أن عدوك ذات نقيضة ، وتحترم هذه الحقيقة مؤقتا ، ولكن بهدف إنهائها وتحويله إلى موضوع لك .. فالمعسكرات الثقافية محددة سلفا: إنها خنادق الهوية .
فعلى خلاف ليوتار المثالى الذى ينادى باحترام استقلالية "ألعاب اللغة" - أى الأفكار ، وإدانة كل محاولة للحد من حرية هذه الألعاب ، يطرح البشرى تصورا أداتيا تماما للفكر : فالفكر جندى فى خدمة الهوية . وبالتالى أستطيع أن أقول أنه مضطر لأن يقبل منطقيا بجميع أنواع القمع إذا ثبت أنها تحقق مصلحة الهوية المختارة . ولا أقصد طبعا أن طارق البشرى ، فى كتاباته فى التاريخ ، معاد لحرية الفكر ، ولا أنه ممن يؤرخون كنوع من المناورة المحسوبة فى خطة حربية ، بكل ما يتطلبه ذلك من خداع وإخفاء للأفكار ، وربما الوقائع أيضا .. بل ربما كانت كتاباته المهمة نموذجا عكسيا تماما . ولكن المسألة هنا هى ما يترتب منطقيا على التشبيه الذى اختاره للمفكر .. التشبيه بالجندى .
وإذا كنا نتذكر ، فقد بدأنا هذا التعقيب بسؤالين ، كان ثانيهما عن القيمة ، ويقول : كيف يمكن أن يوجد هدف سياسى بغير قيمة مطلقة ؟ وبرغم اتفاق هذه المقالات مع طارق البشرى بشأن نسبية الطرح المعرفى عموما لارتباطه بالموقع الذى يشغله الرائى ، فإنها على خلاف طرحه "أدانت" - إن جاز التعبير - أطروحات الهوية لأنها تضفى على ذاتها قيمة مطلقة ، ورفضت الموقع الذى أدمن المثقفون هنا على ادعائه ، وهو القول بأنهم ضمير الأمة - أيا كانت هذه الأمة فى مفهوماتهم المختلفة . فإذا جارينا طارق البشرى فى تشبيهه العسكرى يمكن أن نقول أن هذه المقالات تفترض نوعا آخر من المثقفين/ الجنود .. فمن هو ذلك الجندى ؟
لو افترضنا أننا أمام جندى غير مشبع تماما بـ"التوجيه المعنوى" الذى يجعل منه جنديا منتميا على نحو ما يريد طارق البشرى ، فسوف يرى الأمور بمنظور مختلف تماما . فهو لم يبتلع بسهولة بروباجندا "التوجيه المعنوى" التى تُمارَس عليه يوميا من جانب أجهزة "الجيش" ، ولن يسمح بالتالى بأن تدعه هذه الأجهزة "يكتشف" فجأة أنه "أصلا" !! جندى من جنود الدين أو الوطن أو العروبة وما إلى ذلك ، وسيظل يتذكر أنه قد تم سحبه من قريته أو حيه بالقوة الجبرية ، وأُخضع لتدريبات وعقوبات وأوامر بغير أن يكون مطلوبا منه أن يفهمها أو يقول رأيه فيها .. ناهيك عن أن يوافق عليها ، فضلا عن غسيل المخ المتواصل والمحظورات التى لا تنتهى ، والتى تهدف بالضبط إلى الحفاظ على وضعه كجندى ، أى كترس مسخر فى آلة الوطن والدين وما إلى ذلك . وسوف يدرك جيدا أنه إذا حاول أن يبدى رأيا فى المعركة وجدواها فسيكون مهددا بالمحاكمة العسكرية بتهمة الخيانة العظمى . أما بالنسبة للمثقف غير المشبَّع بالتوجيه المعنوى فيدرك أن مصيره هو "بوتقة التكفير" التى تناولتها المقالات مرارا .
وسوف يدرك هذا الجندى ، إذن ، أن الحرب من خنادق الهوية لم تكن بالنسبة له خيارا ولا قرارا أخلاقيا أو غيره ، على نحو ما توحى صياغة طارق البشرى ، بل أمرا عسكريا جبريا ، أو بالأدق ضغوط متواصلة من جانب الأيديولوجيات السائدة ، أو "التوجيه المعنوى" ، لتصوير الأمر على أنه معركته الخاصة "البديهية" والوحيدة التى تستحق حياته نفسها .
وإذا أمعن هذا الجندى الافتراضى فكره قليلا فسوف يدرك أن جنود الأعداء لا يختلف وضعهم عن وضع زملائه ، وأنهم إما مجبرين على القتال وإما تعرضوا لعمليات غسيل مخ جعلتهم متلهفين حقا على قتله . غير أن هذا الجندى لن يخلص من ذلك إلى التمرد مباشرة .. فسوف يدرك أنه نظرا لوقوعه فى الأسر بالفعل (أى أسر جيش الأمة والدين وما إلى ذلك) فإنه قد أصبح عمليا تحت رحمته، وأن من مصلحته أن تنجح خطط "جيشه" العسكرية ، لأن نجاحها سيعنى تقليل الخسائر البشرية ، وبالتالى تقليل فرص قتله هو وزملائه فى المعركة التى لم يخترها ولم يكن له رأى فيها .
فإذا تصورنا أن هذا الجندى قد قرر أن يُعمل فكره فى وضع استراتيجية تنجيه من هذا المأزق فسوف تكون على الأرجح تدبير نوع من الفرار الجماعى الذى يجعل أجهزة "الأمة" عاجزة عن إلقاء القبض عليهم وردهم إلى "هويتهم" المنصوص عليها . وسوف يحاول طبعا أن ينشر هذه الفكرة إذا استطاع عند جنود الأعداء أنفسهم . ولكن عليه أيضا أن يقنع المدنيين .. فكيف سيهرب مع زملائه إذا كان سيواجه بعد هربه بيئة معادية ترفض مشروعه أصلا ؟
غير أن هذا كله يعنى أن جندينا الافتراضى هذا أصبح يفكر بطريقة مختلفة تماما عن طريقة الهوية .. وأن القيمة لم تعد بالنسبة له مطلقة ، وإنما مناسِبة فحسب .. فهو لا يفكر كممثل للأمة ، وإنما كفرد يبحث عن حريته .. وهو لا يتكلم باسم أمة أو جيش أو أى مطلق آخر ، بل باسم قيمة نسبية تتعلق بأن يعمل الإنسان ما هو مقتنع به ، وأن يملك مصيره بيديه ، وأن يختار معاركه . صحيح أن هذا الموقف يشبه من أحد نواحيه "الأمر الأخلاقى المطلق" عند كانط ، ولكنه من ناحية أخرى غير محدد سلفا .. فهى أخلاق نسبية وفقا لمقتضى الحال .
والحال أن المثقف المصرى ليس حتى هذا الجندى المنتمى الذى يصفه طارق البشرى ، فهو لا توضع فى يديه أسلحة ، بل يرى نفسه ، على العكس ، مسئولا عن وضعها فى أيدى "الأمة" . فهو إذن على أقل تقدير "ضابط" على مدى تاريخه المعاصر . والضابط يتصرف دائما كقائد محتمل ، برغم أنه مرءوس ، فوظيفته ، مثل ملاحظ العمال فى المصنع ، أن يفرض الانضباط وينقل التعليمات ويشرف على تنفيذها ، ويمارس بوصفه "ضابطا ثقافيا" مهمة أساسية ، هى "التوجيه المعنوى" بالذات . فإذا لم يعجبه القائد فإن طموحه يتلخص فى أن يحل محله .. ويبدأ فى الشعور بأنه وحده القادر على إصلاح الأحوال ووضع الخطة الصحيحة للنصر. فإذا كانت الهوية تستند من حيث النظرية إلى مقولة الحقيقة فإنها تستند من حيث القيمة إلى مقولة القيادة : قيادة العرب ومصر والإسلام ... الخ .. أو مقولة "ضمير الأمة" . فالمثقف المصرى ضابط ، سواء بحكم موقعه الاجتماعى أو بحكم أيديولوجية الهوية التى يحملها . وبالتالى فإن طموحه يتمثل فى أن يصل إلى موقع القائد .. إما بالترقى تحت جناحه أو بالانقلاب عليه .. برغم أن جانبا كبيرا من هؤلاء المثقفين جنود ، أو حتى أقل من ذلك ، مهمشين خارج المنابر الثقافية الكبرى . ولكنهم فى الغالب الأعم من الحالات ، بفعل امتيازات الإنتليجنسيا المصرية ، يتقبلون عقلية القائد ويعملون على نقل "أوامر" القائد الحالى ، أو قل أحد القادة الحاليين حسب أيديولوجية الهوية التى يعتنقها كل منهم ، إلى الجنود الحقيقيين ، "الشعب" الذى يستهلك الأفكار ، أو إقناعه ، إذا كان مثقف الهوية متمردا ، بأن تحسين أوضاعه إنما يكمن بالضبط فى تغيير القيادة ، ومساعدته هو على احتلال هذا الموقع .
نخلص من ذلك إلى أن "النظرة الموضوعية" التى يقترحها طارق البشرى ليست هى "النظرة" الوحيدة الممكنة ، ليست هى "النظرة الموضوعية" بألف لام التعريف . كما أن القيمة التى يطرحها ليست القيمة الوحيدة الممكنة .. فهى نظرة الضابط ، وقيمة القائد الثقافى .. الذى قد يحب جنوده ويهتم بأمرهم ، ولكن فى إطار الطاعة والهدف المحدد سلفا ، والذى ترتبط عنده القيمة بتحقيق النصر لهويته .. التى تؤكد أجهزة "التوجيه المعنوى" التى يباشر الإشراف عليها لكل الجنود المحتملين أنها "الـ"قيمة ، وأنها "الـ"حقيقة ، بل ومعنى الحياة الوحيد .
كذلك تتميز نظرة البشرى الموضوعية لهذا السبب بأنها لا أخلاقية بعمق .. فكما تكون الأعمال الأكثر قذارة كالتجسس والقتل الجماعى والخداع هى الأكثر بطولة ما دامت تمارَس تحت عباءة الهوية المقدسة (رأفت الهجان مثلا) ، تكون أفعال التكفير والتشهير هى الأكثر خلودا وتأثيرا فى الممارسة الثقافية . ومثلما يخفى الضابط عن جنوده معظم المعلومات عن العدو - سوى ما يفيد فى توجيههم للقتال ، بعد "تفتيح أعينهم" بالتوجيه المعنوى - يَنهَى مثقف الهوية "الشعب" عن التأثر بأفكار الهويات المضادة والأفكار المضادة للهوية على السواء ، ويطالب بحظر النشر وحماية الأمة وما إلى ذلك . وبرغم أن هذا كله لا يكاد يتصل بإسهامات طارق البشرى البارزة كمؤرخ ، فإنه ينطبق على منظوره ، وعلى الكثير مما ينشره الواقفون معه فى ذات الخندق ، بل وفى خنادق الهوية الأخرى المعادية .
والحال أن المشكلة ليست هى الهوية أصلا .. بل ويمكن من زاوية ما أن تُعتبر هذه المقالات نفسها "شديدة" الانتماء لهوية ما ، بقدر ما أنها "مهمومة" - حسب التعبير السائد - بمشكلات الثقافة المصرية المعاصرة وطابعها القمعى . غير أن طرح مشكلة الهوية كبؤرة للفعل الثقافى ذاته .. أو بعبارة أكثر "عسكرية" : جعل التدريب العسكرى الأساسى منصبَّا على "تفتيح الأعين" ، لا معرفة الواقع ولا حتى حمل السلاح واستخدامه ، هو أمر يُخفى أكثر مما يُظهر ، ويُخفى على وجه التحديد هنا طابعه القمعى اللا أخلاقى .
ومن الواضح أن هذه المقالات ، إذ تنطلق من رفض وصاية الدولة والمثقف ، ترفض منظور هذا "الضابط الثقافى" ، وتطرح بالمقابل ثقافة تقوم على العداء للوصاية بكافة أشكالها ، يمكن أن تسمى تجاوزا "ثقافة المقاومة" . أما لماذا "تجاوزا"، فلأن المقصود ليس وضع "الخير" فى مقابل "الشر" : المقاومة فى مواجهة الوصاية .. وذلك لسببين : أولهما أن ثقافة الحرية أو المقاومة هى سلطة ، مثل كل ثقافة ، بل وقابلة للانقلاب إلى أسوأ أشكال السلطة : القمع باسم الدفاع عن الحرية بالذات ، على نحو مطالبات التنويريين عندنا برقاب الإسلاميين باسم الحرية. كذلك فإن ثقافة الهوية هى من أحد جوانبها ، خصوصا فى ماضيها المجيد ، ثقافة مقاومة من أحد نواحيها : مقاومة الريف لاستغلال المدينة ، والأقاليم للعاصمة ، والعاصمة للنظام العالمى الجديد . إلا أننى أعتقد أن هذه المقاومة لم تحتج إلى اكتساب هذا الزى الهوياتى ، وتبنِّى هذا الكلام الكثير عن "الموروث والوافد" ، إلا بسبب الافتقار إلى تقاليد المقاومة المباشرة ذاتها ، فتنحو إلى استبدال قهر بقهر وسلطة "خيرة" بسلطة "سيئة" .
ومن أحد الجوانب يمكن أن نعتبر اتجاه الحكم إلى الاهتمام بالصعيد وتنميته استجابة لاحتجاج الإرهاب الهوياتى . ومن هذه الزاوية يمكن أن نقول أن مقاومة الصعيد قد حققت بطريقة ملتفة وخطرة بعض مطالبه المهمة . أما خطورة هذه الطريقة فلها جوانب متعددة ، منها إزهاق أرواح الأبرياء ، الذى ينطوى على استرخاصها فى سبيل المبدأ ، وتآكل ذهنيات أعضاء هذه المنظمات أنفسهم بالدخول فى نوع بالغ الضيق من المعتقدات ، والنزعة الديكتاتورية الواضحة ، حيث لا يسعى هؤلاء الناس ، مثل كل حَمَلة أيديولوجيات الهوية ، إلا إلى استبدال قهر يعتبرونه شرا بقهر آخر يعتبرونه خيرا ورسالة إلهية .. فالجميع يقدس "التوجيه المعنوى" مع اختلاف المحتوى جزئيا . والأهم من ذلك كله أن هذه الطريقة فى المقاومة ترسخ السلبية بين أوسع القطاعات ، حيث يجد الناس أنفسهم محصورين بين نيران النخبة الحاكمة ونيران النخبة "المجاهدة" ، ليكون دورهم فى النهاية هو دور الغنيمة التى تتنازع عليها النخب التى تعتبرهم ملحقا ، أو جنودا، لها وتدعى الكلام باسمهم وباسم خيرهم الخاص ، سواء خيرهم فى الدنيا وحدها أو فى الدنيا والآخرة معا .
كذلك فإن ثقافة الهوية لها أسس موضوعية ، عملت على استمرارها حتى وقتنا هذا ، أهمها الاحتياج الذى يفرزه الريف ، أو بالأدق الانتقال من الريف والبنادر للمدن الكبرى ، إلى ثقافة هوية تعويضية عن الأمان المفقود ، خصوصا إذا بقى وضع المتعلمين الاجتماعى على سوئه . فحل الهوية حل سهل وبديهى ومتوفر .. وهو يعوض عن قيم المحافظة التقليدية ويخدمها .. كما يخدم فى ذات الوقت طموحات الارتقاء الاجتماعى من خلال الاحتجاج باسم الهوية ضد الدولة. وأعتقد أن هذا التفسير أفضل من القول بأن أيديولوجيات الهوية تمثل احتجاج الموروث والأصيل على الوافد والدخيل . وبهذا المعنى تحتاج ثقافة المقاومة إلى تغليب فكرة حق المقاومة وتنظيمها على النقد الأخلاقى الذى يدور حول فكرة فساد الدولة والتحلل الاجتماعى وما يسمى "أزمة الانتماء" .
فالمسألة إذن ليست إيجاد "طريق ثالث" - إذا استخدمنا أحدث المصطلحات - بين الفساد والإرهاب كما يطرح البعض ، بل إدراك أن ما يسمى الإرهاب يعمل كحجة لدعم ما يسمى الفساد ، والعكس بالعكس ، وأن القضية الغائبة هنا ليست البحث عن "حجر الفلاسفة" الثالث أو العاشر ، ولكن تأكيد حق المقاومة المباشرة ، حق التنظيم المستقل ، حق الاحتجاج على الدولة وأجهزتها بغير أقنعة هوياتية ، أى بلا وصاية ، وبغير دق طبول الحرب على الفساد والإرهاب .. تلك الطبول التى لا تدعم المقاومة بقدر ما تسبب الصمم وتكرس أدوار نخب هامشية أصبحت دعايتها من أجل الحشد غير فاعلة .
غير أن تأكيد حقوق المقاومة المباشرة على حساب ثقافة الهوية لا يعنى على الإطلاق المطالبة "بحظر" هذه الثقافة بأيديولوجياتها المختلفة ، ولا تجريمها واستعداء الدولة عليها بالطبع ، لأن ذلك يعنى إنهاء المقاومة قبل أن تبدأ ، بتكريس السلطوية ووحدة الحقيقة . فالمطروح هنا ليس "توجيها معنويا" بديلا ، وإنما ثقافة إبداعية متحررة من المحظورات . بل ويمكن القول بأن "ثقافة المقاومة" - اصطلاحا - تقبل التحالف مع ثقافات الهوية أو بعضها بصدد كل قضية تسلك فيها هذه الثقافات كثقافة مقاومة . فالمطروح هنا ليس "تكفير" ثقافة الهوية باسم الحرية ، وإنما تغيير المنظور العام للثقافة بمجمله .
وبالطبع فإن هذا الاقتراح ليس مقدما إلى "جنرالات" الثقافة .. فالجنرال لن يستطيع أن يفكر إلا بوصفه جنرالا ، حتى لو كان جيشه قد هُزم منذ زمن بعيد .. ولكنه مقدم إلى "البروليتاريا الثقافية" التى تتشكل الآن وتتحدد مواقع "طلائعها" فى العشرات من مراكز الأبحاث الجديدة ومنظمات العمل الأهلى والصحف الكثيرة الجديدة وقنوات التليفزيون المتكاثرة ، يعملون فى جمع وتصنيف المعلومات وتجميع الوثائق وإعداد الندوات والمؤتمرات والبرامج ونشر الأبحاث . وهى فئة يُنتظر ، فى ضوء تكنولوجيا المعلومات الجديدة والتطورات التى ترتبت عليها فى البلدان المتقدمة ، أن تتسع .
وهم أيضا يشكلون جيلا جديدا ، اكتسب وعيه فى عهد ما بعد الحروب وما بعد الناصرية ، وفى ظل نظام مستقر أعيدت فيه صياغة الأدوار الثقافية بشكل أكثر "ليبرالية" بكثير من الوضع الناصرى وما قبله ، وفى ظل انفتاح أكبر بكثير على الثقافات "الخارجية" ووفرة فى وسائل الاتصال الفكرى بالخارج التى لا تنى النخبة القديمة عن التحذير من مخاطرها . تلك هى الأوراق الرابحة فى يد "ثقافة المقاومة" المقترحة فى مواجهة ثقافة الهوية ، التى تفقد على مدى عقود طابعها كثقافة مقاومة ، وتزداد سمتها السلطوية تجذرا .. وبالذات فى مواقع المعارضة للحكم القائم أكثر من مواقع السلطة .
وفى مواجهة ما يشتكى منه مثقف الهوية من تآكل المقاومة السياسية وصعود هيبة الدولة - وليس رخاوتها كما يدعى جلال أمين - تطرح ثقافة المقاومة فكرة واجب المثقف ومصلحته فى تشجيع مختلف التكتلات التى تطرح نفسها دفاعا عن حقوق عامة أو خاصة . وبدلا من سلاح الاتهامات المُشهر دائما والدعوة لفكرة الدولة العادلة الخيالية ، التى يُفترض أنها تُعيد أمجادا ماضية بلا خطة أو هدف ملموس ، تفترض ثقافة المقاومة أن المقاومة المنظمة لمختلف البشر هى الوسيلة الفعالة لإيجاد ضمانات حقيقية وملموسة وفاعلة لما يمكن أن يسمى "إنصاف" الأفقر والأضعف . فالرأسمالية المتوحشة لا تحتاج لمواجهتها إلى دولة عادلة خيالية ولكن إلى منظمات مدنية ونقابات مستقلة قوية يتولى أمورها فعليا أصحاب الشأن أنفسهم .. كما تفترض أن "مآل الهوية" - وقل الهويات المتصارعة - يجب أن يخرج عن نطاق معارك النُخب الحاصلة ليكون فى أيدى البشر أنفسهم ، على النحو الذى يرونه هم من خلال تفاعلاتهم مع واقعهم بكل ما يحيط به ، لا على النحو الذى يراه "ضباط الثقافة" مناسبا . فالقضية التى تطرحها ثقافة المقاومة هى قضية الحقوق السياسية والمدنية ، لا المفاهيم الأخلاقية بشأن "الانتماء" و"الموروث" التى تُفرض من أعلى بجهود الأيدى المباركة لمثقف الهوية الطهور الذى يدعى أنه بشير دولة لا تقل طهرا .. ناهيك عن أحلام المجد والعظمة والسؤدد ... الخ ، التى يلهى بها مثقف الهوية الناس عن واقعهم المباشر .
أما بالنسبة للثقافة فمن البديهى أن ثقافة المقاومة تدعو ، لا إلى فتح الأبواب على مصراعيها ولكن إلى تحطيمها .. فلا مجال هنا لوصاية بحجة "حماية الشباب" أو "حماية ضعفاء العقول" . فلكل فرد أن يختار قيمه ومعارفه وعقائده وينشئ ثقافته الخاصة بقدر استطاعته وإمكانياته . وأيا كان أثر ذلك على الهوية فسوف تبقى دائما هوية تجمع البشر جميعا ، وخصائص متغيرة تاريخيا تفرقهم .. إلا أن مستقبل الصراع بين هذين الجانبين يجب أن يترك للتطور الطبيعى العام ، بدلا من المحاولة المضحكة لتجميده باسم ماض "موروث" كان هو ذاته جديدا "وافدا" ومحطما لهويات سابقة يوما ما .
ولهذا كله لا يجد "مثقف المقاومة" - إن جاز التعبير - فى "التحلل" الذى يرصده مثقف الهوية أمرا مكروها بحد ذاته .. بل علامة حيوية . فانهيار نظم الفكر القديمة من العلامات المشهودة فى تاريخ الفكر الحى .. ولم يعرف التاريخ فيما أظن انتقالا سلسا بسيطا يتم فى غمضة عين من نظام فكرى أو سياسى إلى نظام آخر . فالكلمة المكتوبة التى يجرى البكاء على تراجعها تحجرت فى القيم التقليدية الموروثة .. بل وتتراجع نحو مزيد من الأصولية . واللغة التى لا ينقطع البكاء على جهل المتعلمين بها يمكن أن يُعتبر تراجعها خطوة إيجابية نحو الانتقال إلى لغة مكتوبة حية لها صلة باللغة الشعبية المنطوقة وتعبيراتها وروحها . وليست أعراض الإثارة السياسية الجامحة التى تدوى فى صحافة سوى أعراض التراجع الذى يبشر بإمكانية إنهاء السيطرة القمعية لثقافة الهوية .
وتتمثل فرصة ثقافة المقاومة فى استغلال هذا التراجع فى الدعوة لأولوية تمتع الجميع بلا استثناء بالحقوق المدنية والسياسية كافة على أنقاض ثقافة الهوية .. أى حق الجميع فى التنظيم والمقاومة بغير إذن مسبق من الدولة ، وحقهم فى اختيار ثقافتهم ومعتقداتهم وتطوير لغتهم . ومن وجهة نظر ثقافة المقاومة تتبدل الأولويات جذريا : فعلى الصعيد المحلى يكون قانون الجمعيات القمعى الذى يجرى إعداده الآن أخطر من مجموع "المؤامرات العالمية" ، الواقعية والوهمية سواء ، لأنه يكرس السلبية وإحكام قبضة الدولة (غير الرخوة) مزيدا من الإحكام على أية مبادرات أهلية ، وبالتالى محاولة قتل حق المقاومة فى المهد . وبالمثل تكون الحقوق المدنية والسياسية للفلسطينيين ، سواء داخل إسرائيل أو أرض "السلطة الوطنية" أخطر بكثير من التفاوض على كيفية تقسيم الكعكة بين الدولتين القمعيتين : الإسرائيلية والعرفاتية . وتتمثل المشكلة العربية الجوهرية لا فى وجود اليهود أو استيعابهم فى المنطقة ، ولكن فى أيديولوجية الهوية الصهيونية القمعية التى ساهمت إسهاما كبيرا فى دفع المنطقة كلها إلى الخلف وارتمائها فى أحضان ثقافات هوية قمعية مضادة متزايدة الحدة والتطرف .
ومن الناحية الأخلاقية تتضمن ثقافة المقاومة مبدأ احترام كرامة الأفراد وحياتهم ، والتخلى عن فكرة "التضحية" بهم من أجل الهوية المختارة أيا كانت ، ناهيك عن وضع هذه الفكرة كمثل أعلى غير قابل للنقاش . فقضية تغيير العالم ليست هنا قضية هوية ، بل قضية الحقوق الشخصية . وترى هذه الثقافة أن إهانة فرد فى قسم شرطة أو مصلحة حكومية ، سواء كان متعلما أم لم يكن ، إخلالا جسيما بالحد الأدنى اللازم توفره من الكرامة الشخصية لكل فرد .. وبالطبع فإنها ترفض تماما القول بأن "الطبقات المنحطة" تحتاج إلى معاملة منحطة ، على نحو ما يتم "تفهيم" خريجى كلية الشرطة وغيرهم من العاملين فى الأوساط الرسمية التى تتعامل مع هؤلاء "المنحطين" . فالفرد "المنحط" ليس مسئولا عن تسليم "قفاه" للسلطة لكى تشعر ، هى والطبقات العليا والوسطى بالاطمئنان ، بل إن عليها أن تحترم كيانه وتعمل على الحفاظ على ما تسميه الأمن فى حدود الإبقاء على هذا الحد الأدنى المقدس .. فإذا لم تنجح فعليها أن تتنحى ليتولى غيرها المهمة بنفس الشروط . أما النداء من أجل الثورة فأمر مفرغ من المعنى الحقيقى إذا كان ينادى أفرادا عجزوا عن التكاتف دفاعا عن حقوقهم الأولية ، ويقفون فى أفضل الأحوال مستعدين للإلقاء بأنفسهم فى أحضان أول زعيم محتمل يعدهم بالانتقام لهم ، بدلا من أن يملكوا مصيرهم بأيديهم ، وهو فى الوضع الحالى مجرد نداء من جانب النخبة الساخطة تبحث بموجبه عن أتباع لتقودهم .
وقبل أن أطرح اقتراحاتى بشأن المواقف الأساسية لثقافة المقاومة أحب أن أشير إلى أن مجمل هذا الطرح - المتناثر على مدى هذه المقالات العشر وهذا التعقيب - وإن كان يطمح فى التحليل الأخير إلى المساهمة فى إعادة صياغة المحاور الأيديولوجية للثقافة المصرية المعاصرة بتفكيك مفهوم الهوية منهجيا وسياسيا، فإنه ينطلق نحو هدفه هذا - كما لعل القارئ قد لاحظ - من موقع يقع بشكل أو بآخر على حواف معسكر اليسار (الذى لا يشمل فى عرفى الناصرية وما يشبهها ، طبعا) ، ويعنى بصفة خاصة بالإسهام فى إعادة صياغة أيديولوجيته واستعادة روحه الكفاحية التى أشرت إليها فى المقال العاشر على أسس جديدة .
وعلى خلاف الندوات وحلقات النقاش التى اجتمعت لتناقش "أزمة اليسار" و"أزمة الماركسية" ، لتنتهى إلى توصيات عامة حول "إضفاء طابع ديمقراطى" - إن جاز التعبير - على أيديولوجية اليسار ، مع التمسك بمجمل أيديولوجية "التعبير" عن الفقراء أو الطبقة العاملة ، والتشبث إلى النَفَس الأخير بما يُسمى "مكتسبات الناصرية" .. انطلقت هذه المقالات من التسليم بواقع هزيمة اليسار أيديولوجيا وسياسيا ، سواء أمام التيار الأصولى منذ عقود ، أو أمام التيار الليبرالى الجديد الآن . وبدلا من إلقاء اللوم على "البترودولار" و"الأفكار المستوردة من الخليج" ، أو "الانفتاح الاستهلاكى" ؛ وبدلا من منافسة الأصولية على شعارات الهوية على نمط "الدفاع عن الثقافة القومية" ، وألعاب ما يسمى "مقاومة التطبيع" ؛ وبدلا أيضا من دعوة التحالف مع الأصولية باعتبارها تيارا كفاحيا .. انطلق هذا الطرح من ضرورة مواجهة الأصولية ، التى كانت صاعدة ، فى تقديرى ، وتتراجع الآن، لا أمام اليسار ، ولكن أمام الليبرالية الجديدة والأيديولوجية الحكومية التى أصبحت الآن أكثر تقدما من مجمل الأطروحات اليسارية .
غير أن مواجهة الأصولية هنا لا تنطلق من منافستها بشأن "صحيح الدين" على نمط اتهامها من قِبَل ماركسيين بالتأسلم (!!) ، ولكن عن طريق اجتثاث الأصولية من جذورها ، بحرمانها من مناخ "بؤرة الهوية الصراعية" الصحى للغاية بالنسبة لها ، والتى ترعرعت فى ظلاله بفضل الناصرية واليسار المتشبع بها . ومن هنا كان اهتمام هذه المقالات منصبا أساسا ، لا على نقد الأصولية بمفاهيم التنوير الاستبدادى ، بل على توضيح دور "التنوير" و "اليسار" الهوياتى فى بناء مجمل الأسس التى قامت عليها الأصولية ذاتها كأيديولوجية حديثة . إن تحولات مفكرين كبار مثل طارق البشرى ، ويساريين مثل عادل حسين ومحمد عمارة - فى مقابل تاريخ كبار المثقفين الليبراليين مثل نجيب محفوظ - لتقف شاهدة على أن اليسار إنما يجنى على مدى العقود السابقة الحصاد المر لخياراته الأيديولوجية الهوياتية ، التى لا نقول طبعا أنه مسئول عنها ، فهى نتيجة معقدة لتفاعلات شبكة الأفعال الاجتماعية فى هذه العقود وشبكة التفاعلات الأيديولوجية خصوصا .
وعلى ذلك فإن نقد اليسار للأصولية فى ملتى واعتقادى يتطلب أولا أن ينتقد اليسار نفسه .. أن ينتقد على وجه التحديد سقوطه التدريجى فى مستنقع الهوية ، ذلك السقوط الذى وصل ببعض فصائله الآن إلى تصور أن كفاحية اليسار لا تتأتى إلا بتجرع المزيد من سموم الهوية . أما أنا ففى تقديرى أن يسارا غير أممى لن يصلح لشىء على الإطلاق سوى كجثة فاقدة القدرة على المقاومة فى محرقة الهوية الهائلة .
وهنا يتطلب الأمر أن أضع النقاط على الحروف بشأن العلاقة بين هذا ما طرحته هذه المقالات وأطروحات ثقافة أخرى بازغة ، لها أيضا تحفظاتها على ثقافة الهوية .. وهى تيار الليبرالية الجديدة المتمركز فى جمعية النداء الجديد ومركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام ، وبعض جمعيات حقوق الإنسان وأماكن أخرى. فإذا كانت هذه الليبرالية تواكب بنجاح عملية التحول إلى اقتصاد السوق ، فإن دعوتها الليبرالية لم تصل حتى إلى "دعه يعمل ، دعه يمر" ، فمشروعها يتلخص فى دعوة الدولة إلى إفساح مكان للنخبة المالكة والمثقفة فى إطار طبعة معتدلة من أيديولوجية الهوية الوطنية ، وهى تؤكد على أهمية الدولة فى تحقيق الانضباط الاجتماعى الذى يضمن بدوره "اعتدال" هذه الليبرالية وحماية مواقع النخبة الجديدة . وفى أقصى أشكال هذه الليبرالية "تطرفا" - جمعيات حقوق الإنسان - لا تعنى الليبرالية أكثر من التشهير بانتهاكات حقوق الإنسان فى إطار اللعب على حبال التوازنات الدولية والمحلية التى تحكم الدولة . غير أنها لا تفكر على الإطلاق فى تنظيم المنتهَكين أنفسهم ، أو حتى إقناعهم بحق الاحتجاج . فهى تتولى الاحتجاج بدلا عنهم ، وفقا لمفاهيم فى "النضال" قانونية و"إنسانية" - بمعنى خيرى . ولكنها من الناحية السياسية ليست سوى نوع من معارك النخب الجديدة، تُدار فى الكواليس فى المحل الأول ، ولا تتعلق بأى شكل بحق المقاومة ذاته . فمشكلة هذه الجمعيات الأساسية ، برغم أهمية دورها فى اللحظة الحالية ، ليست مشكلة التمويل - التى يكثر الحديث عنها فى إطار المناورات السياسية حول قانون الجمعيات - بل مشكلة التوجه ذاته . وليست مشكلة هذا التوجه أنه يتحالف مع جهات "غير وطنية" وينتهك "قدسية الهوية" ، على نحو ما تتوالى الكتابات الآن بهذا الشأن ، ولكن التنسيق العلوى مع جهات معينة فى إطار مشروع غير نضالى ولا حتى إنسانى (كما تُثبت الممارسات التفصيلية) ، وممارسة ذات الطريقة التى تدير بها نخبة الهوية مناوراتها مع الدولة فى إطار الحفاظ على التوازن الراهن .
وعلى ذلك فالمطروح هنا لا هو "عقلانية" الأهرام ، ولا "كفاحية" منظمات حقوق الإنسان .. وإنما رهان على إمكانية التخلص من ثقافة الوصاية ، سواء كانت هوياتية أو "عقلانية" .. وإمكانية أن يجد بعض المثقفين جدوى فى التخلى عن هذه المواقع الحصينة المرتبة لصالح ثقافة أكثر تحررا ، تفتح آفاقا أكبر أمام المثقف من خلال حرية تنظيم الناس أنفسهم ونمو احتياجهم بالتالى إلى ثقافة غير تلقينية من النمط الهوياتى . وفى هذا الإطار يمكن طرح هذه النقاط كمجرد اقتراحات أولية :
- رفض تحصين ثقافات الهوية من النقد ، باسم الهوية الوطنية أو الدينية أو أى مسمى برَّاق آخر ، وتبنى مبدأ حرية الفكر والعقيدة والنشر والتعبير بغير قيود فكرية أو "أخلاقية" أيا كانت ، بما فى ذلك طبعا حظر مصادرة المطبوعات باسم أى "صالح عام" أيا كان .. ونبذ ثقافة الوصاية والتكفير أيا كانت منطلقاتها ، وتشجيع الجميع على التحرر منها.
- رفض تقييد التفاعل الثقافى بأية حدود هوياتية والدفاع غير المشروط عن حق التفاعل الحر مع جميع الثقافات ، وبصفة خاصة ثقافات المقاومة العالمية ، أيا كان مصدرها .
- مقرطة الدولة بتوفير حق الرقابة من أسفل ومنحه وضعا مؤسسيا : رقابة الجمهور على الأجهزة الرسمية ، والموظف على رئيسه ، والطالب على أستاذه ... الخ . فضلا عن مجموعة الحريات المعروفة : حق الإضراب والتظاهر والاعتصام والدعاية وإقامة الأحزاب والمنظمات الأهلية .
- تشجيع التفكير المستقل لجميع الأفراد والتنظيم المستقل لجميع القوى ، والدفاع المبدئى عن حق الجميع فى ممارسة الاحتجاج بكافة الطرق السلمية .
- نشر الثقافة والقضاء على عقلية وصاية المثقف .. وهذا يتطلب بصفة أساسية تحرير اللغة المكتوبة من القواعد الموروثة وإتاحة الفرصة لها للتطور خارج قفص الوصاية الضيق لمجامع اللغة والمصححين اللغويين ومجمل هذا الجهاز الأيديولوجى الذى يترتب على نشاطه إقامة حوائط هائلة الارتفاع تحول عمليا دون انتشار الثقافة وتحافظ على طابعها النخبوى ، انطلاقا من الحق الديمقراطى البديهى لكل ناطق أصلى للغة فى تغيير مفرداتها ونحت غيرها وتغيير معانيها .. كما يحدث فى كل لغة حية .
وبالطبع فإن هذا البرنامج يعتبر طموحا للغاية - أو مدمرا للغاية ، حسب وجهة نظر القارئ - بالنسبة للحظة الراهنة .. التى لا تكاد توجد فيها حركة نقابية أو أهلية نشطة ، ناهيك عن الحركة السياسية ، بينما ينهمك معظم الأفراد فى "توفيق" أوضاعهم فى المرحلة الانتقالية إلى اقتصاد السوق . وفى ظل هذا الوضع فلا شك أن لواء الثقافة والسلطة معقود للنظام القائم ، الذى هو أكثر تقدما بكثير من معارضيه ، ولليبرالية الجديدة التى تضبط إيقاعها على ضوء التوازنات والممكنات الراهنة بنجاح . غير أن هذا المشروع البديل يستند الآن فى الدعوة له على القدر المتاح من الحريات ، ويراهن بالنسبة للمستقبل ، على خلاف أيديولوجيات الهوية التى أدمنت "اللطم" ، على نجاح التحولات الجارية حاليا ، وما ستفرزه فى حالة نجاحها من تناقضات جديدة وقوى اجتماعية فتية تحل محل نخبة الهوية الهرمة التى تصارع - تاريخيا - سكرات الموت . ووقتها ، فيما آمل ، قد يبدو هذا البرنامج ذاته متواضعا للغاية ، وربما محافظا أيضا !!