االمسعودي محماد
الحوار المتمدن-العدد: 4683 - 2015 / 1 / 5 - 02:31
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
حين يصير القانون جائرا
"إن النظام القانوني يفقد طابعه القانوني ,عندما يكون جائرا على وجه الإجمال."
روبرت ألكسي
جميعا ندرك أن القوانين البشرية المعمول بها في كل المجتمعات, تختلف كثيرا بعضها عن البعض, و أن كثيرا منها يعد منافيا للعقل, أو على الأقل لا يمكن تبريره كلية على أساس عقلاني, لهذا قد نجد نزاع بين الالتزام المفروض في قانون وضعي, و بين الالتزام الذي يوجبه القانون الطبيعي و الأخلاقي, كالسماح بزواج المحارم, أو مثليي الجنس . وقد يفهم الحق على أنه ما يتوافق مع قاعدة محددة, والذي يصير مشروعا المطالبة به, فنحن نطالب بالحق في..و الحق على..و من المشروع المطالبة به لأن القواعد القانونية تنص عليه,أو أنه نتاج عقد قد تم طبقا للقوانين الجاري بها العمل, أو أن نطالب به لأنه يتطابق مع القواعد الأخلاقية. فالحق عندئذ هو ما يسمح به سواء من قبل القوانين المكتوبة, أو لكونه لم ينص على تجريمه عملا بمبدأ " الإباحة هي الأصل". في الوقت الذي يذهب فيه البعض إلى القول بأن الحق هو نتاج طبيعة الإنسان, و هو ما جعل بروتوغراس كبير السفسطائيين يستخف بالقوانين الوضعية, بوصفها تتسم بالقصور كونها صادرة عن الدولة, مطالبا الاستعاضة عنها بالقانون الطبيعي, هذا في الوقت الذي نحا فيه شيشرون مسلكا مغايرا باعتباره أن الحق هو نتاج القوانين المكتوبة, حين قال ليس هناك أي معنى لفكرة العدالة بعيدا عن القانون الوضعي, الذي يسن بملء الإرادة , و تبعا لدلك فإن شرعية الحق تستمد من القواعد القانونية الوضعية, و بدون هذه القواعد ليس ثمة حق و لا شرعية المطالبة به. ألم يقل سقراط بأن العيش وفق القوانين هو القانون الأسمى غير المدون. كلنا استمع لسقراط في محورة كريتو, و هو يشرح لرفيقه كريتو لماذا يتوجب عليه طاعة قانون الدولة الوضعي, على الرغم من أنه خاطئا و جائرا.
هنا يثور التساؤل حول مدى مشروعية القوانين, فهل يمكن أن ننصت إلى القول الذي يرى بأنه ليس على القانون أن يقول ما هو عدل، بل إن على ما هو عدل أن يملي على القانون سلطته،ومن ثم فإن الفرد الذي يقدر أن هناك تضاربا بين القانون والعدالة، فإن عليه اختيار العدالة ومخالفة القانون. فما ينبغي أن يلهم سلوك الأفراد ليس ما هو قانوني، بل ما هو شرعي. ؟ لكن أليس من الخطر أن تترك لكل مواطن حرية تقدير شرعية القوانين؟ ألا يعني السماح لكل فرد بحرية التصرف على هواه ترسيخا للفوضى في المجتمع ككل؟ ألن يكفي أن يمتعض أحدهم من قانون ما لكي يطالب بحقه في عصيان هذا القانون؟ أم أن هذا الخطر يكون أعظم لو اختار الأفراد الانصياع للقوانين الجائرة ؟ ولما كانت القوانين في دلالتها الأكثر شيوعا بحسب مونتيسكيو هي العلاقات اللازمة المشتقة من طبيعة الأشياء, فكيف تقود الرغبة في إذابة الحقوق في قالب قوانين وضعية تناقض العقل و المنطق و توصل إلى طريق مسدود كل الذين ينادون بذلك ؟ كيف يصير سلوكنا مناقضا لما يأمر به العقل لو نحن خضعنا تماما لأحكام القوانين الوضعية ؟ فيغدو المجتمع و من ثم الدولة مناقضة بهده الصورة للعقل؟ ألا يمكن أن نجد الجواب لدى آدم سميت كون الإنسان تقوده يد خفية لتحقيق غاية ليست لها علاقة بمقاصده, وما هو بالأمر المضر بالمجتمع ألا تنتمي هده الغاية البتة إلى هدا المقصد؟
لم يكن هيغل مازحا حين اعتبر أن بعض القوانين هي وليدة العاطفة و الميل و الهوى , وقد تكون ناتجة عن الاستبداد و التحكم القهري في الناس, غير أن هذه القوانين تبقى أمر عارض بالنسبة للقانون الوضعي الحقيقي ,فلما كان القانون الطبيعي يختلف عن القانون الوضعي , فسيكون من الخطأ الفاحش العمل على أن يعارض كل منها الأخر أو يناقضه, هيغل بعد أن أثنى على مونتيسكيو, كونه يعود إليه الفضل كأول من درس القوانين آخذا في الحسبان الوضع التاريخي للشعوب بنظرته الفلسفية السليمة, التي تقوم على عدم النظر إلى التشريع منفصلا و مجردا من الأحوال الجزئية التي تؤلف طابع الأمة و عصرها, انتقد بشكل لاذع كل من هوغو و كانط فالأول لزعمه وجود منطق عقلي في القانون الروماني, متناسيا ما يشوب هدا القانون من عوار خاصة في قانون الملكية و الأسرة و قانون الرق,مما يجعل منه قانون بعيدا جدا عن أبسط مقتضيات العقل,و لم يف في أي عصر من عصوره بالمقتضيات العليا للعقل , يواصل هيغل توجيه سهام نقده فبعد هوغو يأتي الدور على كانط كون هذا الأخير جانب الصواب مرتين , الأولى بتعريفه للحق تعريفا سلبيا لا ينظر إليه كونه واقعا حقيقيا بل كمثال أعلى يرجى الوصول إليه,تهافت كانط حسب هيغل مس تحديد طبيعة الرابطة الزوجية, فصاحب مبادئ فلسفة الحق يرى أننا لا نستطيع أن ندخل الزواج في مفهوم العقد وأن هذا الإدخال مقرر لدى كانط في كل بشاعته وعلى هذا الأساس يرى هيغل أن الزواج من حيث هو علاقة أخلاقية مباشرة يحتوي عنصر الحياة الطبيعية، ومن حيث هو رابطة جوهرية فإنه يحتوي على الحياة في شمولها، وأنه من الحماقة النظر إليه على أنه مجرد عقد مدني كما هو شائع عند كل من يرغب في إضعاف الرابطة الزوجية حينما ينزل بالزواج إلى مجرد عقد يعقد للاستعمال المتبادل. حديث هيغل هذا موجه إلى كانط الذي يقر أن قانون الزواج هو قانون امتلاك شيء خارجي بوصفه شيئا واستعماله بوصفه شخصا، وتبعا لهذا القانون فإن العلاقة الزوجية هي علاقات مشاركة بين كائنات حرة وبالتأثير المتبادل من شخص في الأخر وفقا لمبدأ الحرية الخارجية, يكونان شركة بين أعضاء تؤلف كلا من الأشخاص المتعايشين معا تسمى الأسرة، ويضيف كانط أن المعاشرة الجنسية هي الاستعمال المتبادل الذي يمكن أن يقوم به الإنسان للأعضاء والقدرات الجنسية للشخص الآخر،غير أن ما يحسب لكانط كونه يعود له الفضل في وضع الحدود الفاصلة للاستعمال الجنسي في المعاشرة الجنسية, فهذا الاستعمال إما طبيعي به يمكن إنجاب المثل, أو مضاد للطبيعة والذي يمكن أن يتم مع شخص من نفس الجنس وهو الأمر الذي يعتبره صاحب ميتافيزيقا الحق انتهاكات وجرائم جسدية ضد الطبيعة, و إهانات نحو الإنسانية في شخصنا, ولا يمكن لأي ظرف أو استثناء أن ينجينا من التقبيح الشامل, فكانط يذهب أبعد من ذلك حين يرى بأن القاعدة القانونية ليست مجرد شرط نظري معرفي, بل هي قانون طبيعي, هذا القانون يمكن أن يعرف إلزامه بشكل مسبق و بدون تشرع ظاهري عن طريق العقل , و هكذا تصير القاعدة القانونية مع كانط قاعدية عقلية ,إن نظرية كانط حول تأصيل مفهوم القاعدة القانونية هنا تجد مرجعيتها في فلسفته القانونية و التي بدورها ترتبط بصورة وثيقة بفلسفته الأخلاقية , إذ من الواجب الأدبي على القانون أن يراعي إلى حد كبير و بشكل كلي, قواعد الأدب و الأخلاق ,و الأمر هنا يتعلق بالعدالة, و الاستقامة, و مراعاة المعايير الأخلاقية, حيث أن الثقة بالقانون تختل عندما تفقد القاعدة القانونية طابعها الأخلاقي. إلا أن كبير فلاسفة القانون في ألمانيا روبرت ألكسي يرى أن كل النظريات الوضعية تتبنى فرضية الانفصال بين القانون الوضعي و الأخلاق, و ترى بأن مفهوم القانون يجب أن يعرف بطريقة لا يجب أن يتضمن في محتواه عناصر أخلاقية, الأمر الذي يسمح بوجود قواعد قانونية معيبة في النظام القانوني كتشريع زواج المثليين أو القتل الرحم .. , و يذهب ألكسي أبعد من ذلك عندما يعتقد أن الطابع القانوني المعيب لمحتوى قاعدة أساسية في النظام القانوني, يؤثر على كل القواعد القانونية للنظام القانوني برمته, و يشع طابع النقص على هذه القواعد , وهذا ما يسميه ألكسي بنظرية الإشعاع, التي تسبق مرحلة الهدم, والتي تنطلق من فرضية تقول بأن النظام القانوني يفقد طابعة القانوني, إذا كان جائرا جورا كبيرا,و مخالفا لمبادئ القانون الطبيعي و الأخلاق, بالتالي سيتداعى في النهاية.
إن الأمن و الاستقرار في أي مجتمع يرتبطان بشكل أو بآخر بالقانون السائد فيه,كما يرتبط بمدى انقياد أفراد المجتمع لذلك القانون عن إرادة ,فكيف نفسر أن الفرد يستطيع أن يعصى القانون الوضعي غير أن لا يقدر على عصيان القانون العرفي لأنه مراقب من أفراد جماعته ؟ فكيف يتحتم علينا التوفيق بين قواعد الأخلاق و القانون الوضعي حتى يكون هناك واجبا أخلاقيا بإطاعة القانون ؟ بالرغم من أن القانون و الأخلاق يتجهان في مسارين مختلفين , و أسباب التعارض مختلفة , في حالات كثيرة لا يكون السلوك الخلقي الأسمى متجسدا بما فيه الكفاية في القاعدة القانونية , بحيث يتم إنتاج عملا شرعيا يتفق و يتلاءم مع الشعور العام بالرضا لدى المواطنين ,هكذا فإن تشريع زواج المثليين و القتل الرحم إذا ما طبق فإنه من المحتمل أن يضر أكثر ما ينفع , هنا يجب على القانون الامتناع عن التدخل في مثل هاته الحالات , و الانصياع لما نادى به ستيوارت ميل, كون القانون لا يجب أن يتدخل في الأمور المتعلقة بالسلوك الأخلاقي الخاص أكثر مما هو لازم, للحفاظ على النظام العام و حماية المواطنين ضد كل ما هو ضار و عدواني ,و بتعبير آخر توجد هناك منطقة أخلاقية من الأفضل أن تترك لضمير الأفراد لا شأن للقانون الوضعي بها , و بالرغم من أن القانون الوضعي و القانون الأخلاقي يتمتع كل منهما بمنطقة نفوذ خاصة به, غير أن القانون الأخلاقي يبقى الأسمى , فهو معيار اختبار لصلاحية القانون الوضعي ,و كل نزاع بينهما يجب أن يسوى لمصلحة القانون الأخلاقي في النهاية.
الجميع يدرك أيضا في الوقت الراهن أن القانون لم يتغير و يحيد عن هدفه الأصلي فحسب,بل إنه أخذ يسعى إلى غاية مناقضة تماما, لقد أصبح بتعبير فريدريك باستيا , سلاحا لكل أنواع الجشع , بل أصبح مذنبا , لسوء الحظ لم يقيد نفسه و يلتزم وظائفه الحقيقية , و عندما تجاوز هذه الوظائف , ذهب أبعد ما يكون و أخد يعمل على نقيض أهدافه تماما, لقد استخدم القانون إذن لمحق الأخلاق و العدالة , لكن السؤال يثور لماذا يستخدم القانون من قبل المشرع لأغراض التدمير , تدمير الحرية بالقمع, الملكية بالسلب, والأخلاق بالإفساد , هناك حقيقة يعرفها الجميع, أنه لا يستطيع أي مجتمع أن يعيش ما لم تحترم القوانين, لكن أسلم طريقة لنجعل القوانين جديرة بالاحترام ,هي الكف عن جعل ما هو و ضعي يناقض ما هو طبيعي , لكي لا نضع المواطنين أمام خيار قاسي لا يخرج عن أمرين , فإما أن يخسر حاسته الأخلاقية باحترامه للشرائع الوضعية, أو يفقد احترامه للقانون إذا تشبث بما هو أخلاقي, و لكلا الأمرين عواقب و خيمة ,تبقى الحقيقة المتجلية التي لا تخفى على أحد, أن جميع الكائنات في هذا الكون تخضع لقوانين /علاقات , و بقدر ما نرتقي في سلم الوجود تفقد هذه القوانين ثباتها و دقتها, لهذا فالإنسان الذي يتمتع بالنسبة للكائنات الأخرى بميزة العقل و المعرفة يستسلم للهوى والأخطاء,لهذا فهو يخرق القوانين التي وضعها الله , و يبدل باستمرار القوانين التي سنها هو بنفسه, ولا يتقيد حتى بتلك القوانين التي يضعها لنفسه, و الحال أن هذا الكائن التائه بتاريخه بتعبير مونتيسكيو, كائن ذو سلوك غريب غير خاضع دائما للقوانين الموعزة إليه طبيعيا ,إن هذا الكائن البشري صاحب المزاح الضال المسكون بأوهام الوعي المشترك,في حاجة إلى مشرع ناقد لهدا الوعي , يضع نفسه في إطار الوعي الأخلاقي المستنير, ليطابق بقدر الإمكان القوانين الوضعية الواعية التي يقدمها للناس بالحقوق اللاواعية التي تسكنهم , أم يقل روسو ذات مرة بأن كل ما هو طبيعي هو أخلاقي و يشكل أعذب الأصوات.
محماد المسعودي , أستاذ و باحث في فلسفة القانون- المغرب
[email protected]
#االمسعودي_محماد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟