نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1310 - 2005 / 9 / 7 - 11:24
المحور:
كتابات ساخرة
ربما تعين عليك أحيانا أن تحترم بعض اللصوص الصغار أكثر من نظرائهم الكبار ,ومهما أفرط هؤلاء الآخرون بتلبس مظاهر الأبهة والعظمة والفخامة,وغلفوا أفعالهم السوداء بالنظريات والإيديولوجيات والفلسفات التي لم تعد تنطلي على البلهاء,وبرغم موقفك الأخلاقي والمبدئي,الذي لايقبل الجدال, من فعل اللصوصية نفسه كفعل مذموم ,وناقص ,ومنبوذ في كل الأعراف ,والمعتقدات ,والأديان.ويعود السبب في هذه الورطة النفسية التي ترى نفسك محشورا بها لعد أسباب ,أولا لكثرة اللصوص وتناسلهم بشكل كبير ومقابلتك إياهم في أكثر من مكان ,ويلحقونك بأخبارهم وصورهم البريئة إلى غرفة نومك أحيانا عبر الفضائيات ,والإنترنت ,وصحف الصباح.كما أن البعض من كبار اللصوص يظهرون على الشاشات ,وفي الأماكن العامة, ببذات أنيقات, وياقات ناصعة البياض ويتحدثون عن المبادئ والأخلاق ,ويتبنون الشعارات العريضة ,ويطالبون بالخبز, الذي سرقوه للتو , للفقراء الجياع والحفاة العراة. وثانيا لأن اللص الصغير يسرق ويتوارى ,خجلا أو خوفا ,عن الأنظار ,ويحاول إخفاء ما جنت يداه,وقد لا يتعرف عليه أحد ,وهو أيضا لا يحب الظهور البتة على التلفاز والتنظير والكلام عن المستقبل والاستراتيجيات,وعلم المجتمعات ,أي السوسيولوجيا كما أذكر وحسب ما تفوه به أحد الشطار, وقد حفظت هذه الكلمة منه, ذات يوم, وهو يتقيأ المواعظ ,مبتسما بأدب جم, أمام الناس .أما بالنسبة للصوص الصغار ,فعادة ما تكون الظروف القاسية,والتربية ,وضنك الحياة هي ما رمت به في أتون هذه المعمعة العمياء.ولأن الغالبية من الناس تهاب كبار اللصوص ,وتفسح لهم في المجال ,وتقف لهم باحترام ,تجد نفسك مضطرا أن تتعاطف,أحيانا, مع صغار اللصوص,حين يسرقون رغيف الخبز, وطالما أن أحدا ما لا يعيرهم أي اهتمام.
وحين تحصل سرقة صغيرة,كأن يقوم أحد اللصوص الصغار بسرقة "سيشوار" لشعر الرأس يستخدمه الصلعان ,أو سوارا من الذهب,أو كسرة خبز من عند الفرّان,تقوم الدنيا ولا تقعد,وتطلب الدولة المساعدة ,وتجند المخبرين,وتمضي وقت ضباط الأمن الجنائي الثمين في البحث والكشف عن الحرامي وتستنفر الأجهزة حتى انكشاف أمر الجاني المسكين الذي يودع في السجن,ويقوم التلفزيون الرصين بإجراء مقابلة معه عبر مذيع ينقط أخلاقا وورعا وتقوى – وعين الله عليه - لاستخلاص العبر والنتائج والدروس الأخلاقية المستقاة من هذا الفعل الآثم الشنيع الذي هدد أمن الدولة العليا, وتقدم هذه المواعظ مجانا خدمة للأوطان في سهرات المساء حين يتسمر الفقراء أمام متعة القناة الوحيدة ,ويعبر فيها اللص التائب "الظريف"عن ندمه وأسفه بسبب نسفه وتهديده للأسس الأخلاقية التي يقوم عليها هذا المجتمع المحافظ الآمن من اللصوص والسرقات والعياذ بالله.
وعندما ينكشف أمر أحد اللصوص الكبار ,وتطلع رائحته التي تزكم الأنوف ,فعادة مايحال إلى التقاعد مع رسالة تقدير واعتذار واحترام للدور الوطني الجليل والهام الذي قام به خدمة للأجيال,ولا تطاله يد القانون الذي يجربه القضاة فقط على الصغار ,وينعم طول عمره المديد ,والحمد لله,بما جادت عليه الأقدار والثورات. وحين تنهب الثروات الوطنية,وتفتح البنوك على مصراعيها,بكافة العملات الصعبة والسهلة, أمام الأذرع الطويلة,والبطون والكروش والعيون التي لا يشبع جشعها سوى التراب, وتستباح شركات النهب العامة أمام المحظيين وأبناء الذوات الطاهرين الشرفاء,لا يسمع أحد بهذا الكلام على الإطلاق ,ولا يذاع ,طبعا,في أقوال الصحف وموجز الأنباء ,ولكن عندما يقوم كاتب أو صحفي بالإشارة,والتلميح لهذا الفعل الفاضح ,فعادة ما يساق هذا الكاتب الثرثار إلى الاعتقال ليقضي بقية عمره هناك ولا يجري معه نفس التلفزيون أية مقابلة في منتجعه الأسطوري فيما وراء الأسوار,فيما ينعم الجاني الذي تنحني له القامات والهامات, بما كسبت شطارته ويداه, ,ويصيّف في ماربيا ,وكان , ولوزان .وهذه,والله, واحدة أخرى من عجائب الدهر ....والعربان.
وقد روى لي صديق يعيش في بلاد الواق الواق, منذ أن منّ الله عليه بالخروج من البلاد التي لا حياة فيها إلا للتقدم والاشتراكية ,أن أحد المسؤولين هناك ,وبعد أن عجز عن تقديم أدلة مقنعة عن مصادر أمواله حين حاول شراء منزل ,وجد نفسه مضطرا لتقديم استقالته,وخسر وظيفته ,ومصدر رزقه.فقلت في نفسي لو طبق هذا المبدأ في الواحات الثورية لشلت الحياة العامة ولما ذهب موظف واحد إلى الدوام في يوم من الأيام.ولو كان هناك في قانون"هات إيدك والحقني" مادة تفرض على كل من هب ودب, ونهب مال الشعب أن يعلن عن مصدر أمواله لرأيت معظم "أرستقراطيي" هذه الأيام تعيش في الأكواخ, وبيوت الطين والشَعر .
وفي حقب "الإستفشار" المافيوزي,والإستشراس اللصوصي التي لا مثيل لها على الإطلاق,وفي عصر الثروات الفلكية التي لا تأكلها حتى صواريخ الكروز والتوماهوك ولا تصيدها حاملات الطائرات, كنت,وبالصدفة, ماراً بجانب إحدى المنشآت الصناعية الفخمة التي بنيت حديثا لواحد من المافيوزيين المعروفين في المكان, وقد شيد هذا البناء الأسطوري على تخوم مدن الصفيح والفقراء المنهوبين,ليزيد في قهرهم وعذابهم المهين ,لفت نظري شيء واحد ,عن سائر الفخامة ,والبذخ, والتناسق الذي كان يحيق بالبنيان,وهو آيتين كريمتين منقوشتين بخط الثلث لزوم المهابة على مدخل المنشأة الفخمة تقولان (هذا من فضل ربي)و(ولئن شكرتم لأزيدنكم).ولم أدر حتى اللحظة الراهنة الحاسمة والمصيرية التي تمر بها أمتنا العربية الخالدة لمن سيوجه هذا الجهبذ الشكر في هذه الحالة,وماذا سيزداد بعد هذا العز والجاه والصولجان,وتعجبت ,في آن,لماذا لم يكتب ذلك الفهلوي "هذا من فضل الحزب الثوري ,والأجهزة,عليّ"؟وحياكم الله أجمعين ,وعشتم وعاشت الثورة ,ودمتم ,يا خوي,سالمين.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟