محمد المشماش
الحوار المتمدن-العدد: 4678 - 2014 / 12 / 31 - 16:48
المحور:
الادب والفن
لا يجادل قوم في كون الحب من القيم السرمدية الكونية التي تداولها الإرث الإنساني عبر التاريخ,لما له من أهمية,في هذه المقالة سنركز على حقبتين هامتين رغم المسافة الزمنية التي تفصل بينهما,إلا أنهما شكلتا نقطة التقاء بين الحب الميثولوجي و الحب الفلسفي و الحب الإلهي,وتركيزنا على هاتين الحقبتين ليس معناه القول أن الحقب أو الحضارات الأخرى لم تعرف أشكالا متميزة من الحب,فقط لأن هذا البحث المصغر يكشف على أن المسار التاريخي للحب عرف نوعا من الاتصال و التراكم و ليس القطيعة,و يتجلى هذا الاتصال في الأشكال الفنية التي تثبت أن الذات البشرية ليست فقط ذات واقعية و مادية,و إنما ذات روحية تسكنها الميثولوجيا بدرجات متفاوتة سيما و أن العديد من المفكرين يعتبرون الأسطورة تعبرا عن مرحلة طفولة العقل البشري التي ساهمت عبر رحلة طويلة مضنية في تحقيق الاكتمال و النضج,كما أن البعدها الرمزي للأسطورة شكل و مازال دهشة بالنسبة للفيلسوف و الفنان و العالم و هذا ما يبرر انجذاب فناني عصر الرومانتيكية للأساطير القديمة و خصوصا الإغريقية لما تحبل به من رمزية و مكانة لدى الإنسان الكوني,باعتبار الأسطورة إرثا كونيا ساهمت كل الحضارات في بلورته سواء كانت غربية أو شرقية لهذا فهي تنأى عن المركزية و تأبى الحدود الجغرافية,فكيف تكون الحب في الميثولوجيا الإغريقية؟
ينسب الحب(الإيروس)في الأسطورة الإغريقية إلى الإلهة "أفروديت"إلهة الحب و الشهوة و الجمال و الجنس و الخصوبة,على الرغم من أنه يشار إليها في الثقافة الحديثة بآلهة الحب,فهي في حقيقتها الأولى لا تفيد الحب بالمعنى الرومانسي/المثالي بل الإيروس(الحب الجسدي أو الحسي الشهواني),وإسمها لدى الرومان "فينوس".
أما طقوس عبادة أفروديت عرفت في أثينا و في كرونثيوس كان يوجد معبدها,حيث كان الرجال و النساء يمارسون الجنس كجزء من عبادتهم لها,و تقول الأسطورة أن الإلهة أفروديت ظهرت في قبرص بعد أن قام كورنس بقطع الجهاز التناسلي "ليورنس"فسقط مع الدم و المني في البحر,فتكونت رغوة(.aphro.)و تكونت أفروديت من هذه الرغوة(زبد البحر)و ظهرت داخل صدفة كاللؤلؤ,وكانت غاية في الجمال و عارية الجسد لتظهر مفاتنها الطبيعية.إذن فالحب في الأسطورة الإغريقية يرتبط بالإيروس الجسدي و الإثارة الجنسية,و تمة حكمة يونانية قديمة تقول "أن الجمال هو انسجام(هرمونيا)النسب الصحيحة"فهل هذه الهرمونية تتجسد في جمال أفروديت؟
تمة لفظة أخرى تفيد الحب في الثقافة اليونانية(فيلو.philo)أو( فيلين.philin.)"و الفعل اليوناني فيلين "يحب",يعني أن يكون(الإنسان الفيلسوف)مطابقا للوغوس,و هذه المطابقة تكون في اتفاق مع السوفون(الحكمة)و الاتفاق هو الهرمونيا أي أن يكون المرء رابطا نفسه بآخر ربطا متبادلا,و أن يرتبط كل منهما بالآخر أصلا,لأن كل منهما تحت تصرف الآخر و هذه الهرمونيا هي الخاصية المميزة للحب بالنسبة لهرقليطس"(1)
و هذا الانتقال من الحب الطبيعي إلى حب الحكمة هو ما سيحول مسار البحث في الجمال و الفن و الخير,و سينقل الحب الجسدي إلى الحب المثالي,الحب الذي سيختلط فيما بعد بالحب الإلهي(الديني) و الحب الرومنسي الذي تجلى في عصر النهضة و شكل مقوما من مقومات الحضارة الغربية,و هذا الأخير هو تجلي للأفلاطونية بامتياز,فماذا يقصد بالحب الفلسفي الأفلاطوني؟
دور الفلسفة بالنسبة لأفلاطون هو الارتفاع بالروح إلى المستوى الذي يمكنها من الانسجام مع عالم المعقولات الخالدة و هو العالم الذي سبق لها العيش فيه قبل سقوطها على الأرض,وبقدر اتصالها مع هذا العالم يكون نصيبها من السعادة و الخلود و الحب,و هذا الأخير بالنسبة لأفلاطون هو هوس مثالي لا تدركه إلا روح الفيلسوف التي امتلأت بالجمال المطلق فصارت تنفعل مع ما تصادفه من أمثلة محسوسة لهذا الجمال على الأرض,فحينما تجده تتبادل معه الحب المثالي ليصلا إلى غاية واحدة هي الفضيلة و الرغبة في العالم المعقول,فتستعيد النفس طبيعتها الأولى,و هذا يوضح بجلاء أن الغاية من الحب ليس الإيروس(الشهوة) التي تحدثت عنها الأسطورة,و الجمال بالنسبة لأفلاطون ليس الجمال الحسي,و إنما الجمال المثالي المطلق الذي يمثل الخير الأسمى,"و أهم ما يتصف به الحب عند أفلاطون هو أنه مريد للحكمة راغب فيها,كما أنه يرتبط بشخصية المحب و مقامه في درجات المعرفة,فهو يبدأ بالتعلق بالأجسام الجميلة,ثم يرقى إلى محبة النفوس,ثم يصعد جمال المعرفة الذي ينتهي بالفيلسوف إلى تلك الرؤية السعيدة التي تحدث له فجأة بعد أن يعود نفسه على الارتقاء من عالم المحسوسات إلى عالم الكليات المعقولة,لذلك يصف أفلاطون الحب في المأدبة على أنه ليس جميلا,بل أكثر الكائنات رغبة في الجمال لأنه يهدف إلى خلق الجمال"(2)
هكذا فالحب الفلسفي الأفلاطوني ارتبط بنظرية أفلاطون في المعرفة و الجمال و خلود النفس,و هذه المعرفة الإيروسية,تجسدت في العديد من الفلسفات العقلانية في العصر الحديث,حتى أصبح العصر الحديث في أوربا يطلق عليه عصر "حمى الإبداعات الفكرية و الأدبية و الفنية في (الفلسفة,الرسائل,النثر,الرسم,الشعر,الرواية,القصة الرسم,النحث ...إلخ)و هذه الإبداعات غالبا ما أعادت الروح للإيروس الإغريقي الذي قاومته الحقبة السكولائية التي سيطر عليها الدين المسيحي و أنتج تراثا دينيا للحب.
و في مؤلف"الإيروس و الثقافة للكاتب الروسي"فياتشيسلاف شستاكوف"و في الفصل الثالث من المؤلف المعنون "بعصر النهضة فلسفة الحب و الجمال"يضع الكاتب مقارنة بين الحب الفلسفي الأفلاطوني و الحب الميثولوجي و الحب الإلهي,و يرى كذلك أن التراث الذي أنتجته النهضة في مختلف مراحلها هو إحياء للحب الفلسفي من خلال إعادة قراءة التراث الأفلاطوني(خصوصا المحاورات التي تطرقت لموضوع الجمال و الحب:كمحاورتي المأدبة و فيدرس)و تجلى هذا الإحياء في العديد من المؤلفات و الرسائل و الأشعار( دانتي ليون إبريو,بيكو ديلامراندوج,فرانشسكو كاتاني,باركي ... و غيرهم)"كي تتفلسف عليك أن تحب- هكذا قال دانتي,و لكن كان بإمكانه أن يقول بصورة مغايرة"كي تحب يجب أن تتفلسف ...إن حب دانتي لبياتريشيا هو من أرفع صفحات الأدب العالمي,فدانتي يجعل من حبيبته مثلا أعلى,و لا يحدثنا إلا القليل عن الوقائع الملموسة لتاريخ حبه لدرجة أن معاصريه أعربوا عن شكوكهم في وجود بياتريشيا في الواقع"(3)
وواضح من خلال هذا التأثر بفلسفة أفلاطون المثالية التي تنأي عن الجانب الحسي للحب,كانت واضحة حتى في أشعار شكسبير لا تخلو من نفحاتها,ففي قصيدة"فينوس و أدونيس"وصف تشبت الهة الحب المتعطشة إلى اللذة الحسية,و أدونيس الساعي إلى الحب المثالي,و هذا الصراع بين الحب المثالي و الإيروس "المندفع ينتهي حسب شكسبير بانتصار الشر و موت أدونيس
"الحب منذ القديم وراء السحب
تتملكه عرقة للأرض
و خلف قناع الحب و أمامنا
تذبل الروعة و تفتر كما في الشتاء
الحب يشفي كالشمس بعد العواصف
أما الشهوة فكالزوبعة بعد النور الساطع
و الحب يسود ربيعا بلا حدود
أما الشهوات فتموت صيفا و شتاء
الحب متواضع,أما الشهوة فتحرق كل شيء
الحب صادق أما الشهوة فتخدع بوقاحة."(4)"
أما فيما يخص الإيروس بمعناه الميثولوجي الغزلي المفعم بالإنسانية و الممجد للشهوة و الإثارة الجنسي فرغم رمزيته فقد شكل ثورة على الحب الإلهي أو الحب الذي كرسته الكنيسة المسيحية,و تجلى هذا الحب في العديد من اللوحات الشهيرة التي لازالت محط دراسة إلى الآن,ففي لوحة الفنان "تيتيان" الشهيرة"الإيروس الأرضي و السماوي" صور نموذجين من الحب في صورة امرأتين,مرأة ترتدي ثياب فاخرة و مرأة عارية,"فالأولى تمثل الحب الأرضي و الثانية تمثل الحب السماوي,في حين تقاليد العصور الوسطى ترمز عادة إلى الحب السماوي بالمرأة الأنيقة,بينما ترمز المرأة العارية إلى الحب الأرضي و المبتذل و الآتم"(5) بالإضافة إلى العديد من الفنانين الذين أبدعوا في إحياء المرحلة الإغريقية في شقيها الأسطوري و الفلسفي كمايكل أنجلو و ليوناردو دافينشي و رافاييل و غيرهم.
الهوامش
-(1) مارتن هايدغر,ما الفلسفة,ما الميتافيزيقا هولدرلين و ماهية الشعر,ترجمة فؤاد كامل و محمود رجب الطبعة الثانية ص 59
-(2) محاورة فايدرس ترجمة أميرة حلمي مطر,مقدمة المترجمة ص 09
-(3) فياتشيسلاف شستاكوف "الإيروس و الثقافة,ترجمة نزار عيون السود ص 109 و 110
-(4)نفس المرجع ص 158
-(5)نفس المرجع ص 147
#محمد_المشماش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟