|
أورليان الجديدة وأور القديمة – جذر في الأصوات وقطيعة في الأنغام
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1309 - 2005 / 9 / 6 - 11:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليس في التاريخ شيئا جديدا عندما نضعه بمعايير المطلق كما أن المطلق يعلمنا ببساطته المعهودة حقائق كبرى بوصفها حكمة التاريخ و"القدر". كالقول، بأن مآسي البشر في كل مكان هي أما فجيعة أو مأساة لكنها لا تصنع في نهاية المطاف غير الألم وتعيد إنتاجه في المواقف. فالناس تعاني وتتحرق وتزبد وترغي وتنتقم وتضطر للسرقة من اجل "الكفاف" عندما تواجه ما تعتقده موتا. والأحداث التي تصورها وتنقلها وسائل الأعلام المرئية والمكتوبة عما يجري في اورليان الجديدة تعيد إلى الذاكرة وقع الأحداث التي جرت في العراق بعد الغزو الأمريكي له واحتلال بغداد. بمعنى إننا نقف أمام لوحة الموت والخراب والدمار والسرقة المنظمة والعشوائية لكل ما يمكن سرقته، الماء والخشب والحجر وأسلاك الكهرباء والعملات النقدية وأجهزة الدولة ومؤسساتها المتعبة ومباني المدارس الخربة والمعاهد والجامعات المنهكة، باختصار كل ما تطوله اليد وما يخطر على قلب سارق وعادي عانى كل منها بطريقته الخاصة من وطأة سلطة وحشية واستيحاش من مستقبل مجهول الهوية. وهي الحالة التي تجعل من بروز الغريزة العاصم الوحيد للأنفس الخاوية والأجساد الرخوية. فالواقع يبرهن دوما على أن استنفار الغريزة يجبر المرء على الفعل بمعاييرها. فمن الصعب مطالبة المرء بالصبر حالما يكون في لجة البحر المغرقة أو النار المحرقة، ومن الصعب إرجاعه للرشد في حالة هي اقرب إلى الجنون واشد، كما أن من المستحيل مطالبته بالأدب حالما يكون "الأسياد" نموذجا للخسة والرذيلة. وحالما نضع هذه الفكرة العامة على ما جرى في أور القديمة (العراق) وأور – ليان الجديدة، فإننا نقف فعلا أمام صوت متشابه في جذر الأسماء، لكنها تفترق فعلا في نغمة الإيقاع المترتبة عليها من حيث الأسباب المباشرة والمقدمات الخفية والنتائج الآنية والبعيدة المدى. فما جرى في لورليان الجديدة لا جديد فيه، من حيث نكبة الناس فيها. فالمدن تغرق وتحترق وتعاني وتبكي وتموت. والباقي فيها هو ذكرى التاريخ وأمل المستقبل. واورليان جديدة بمقاييس الزمن قديمة بمقاييس العبودية وتاريخ النخاسة. وهو الأمر الذي يجعل من معاناتها معانة إنسانية فعلية، شأن كل فجيعة ليس للناس العاديين غير وزر تحملها على مضض أو الانفجار غضبا ثم الهدوء أما بيت منعزل أو جماعة صغيرة أو مظاهرة صاخبة أو سجن عام أو انفرادي أو هدوء مطلق تحمله طلقة من طلقات الموت التي رفعت سلطة بوش مهمة تطبيقها باعتبارها مهمة "وطنية"! ولا خلاف على أن السرقة فعلا منافيا للأخلاق والحق. غير أن انتشار "السرقة" الواسعة في بلد "الرخاء الأول" و"القانون النموذجي" من جهة، ومواجهة هذه الأعمال بقرار "إطلاق الرصاص دون إنذار" من جهة أخرى، يثير من جديدة الإشكالية السياسية والحقوقية لتبعات الغزو الأمريكي للعراق التي جعلت من سرقة كل ما فيه فعلا مباحا. ومن الممكن النظر إلى هذه القضية على أنها أمرا عاديا بالنسبة "لازدواجية المقاييس" وما شابه ذلك، غير أن جوهرها ابعد من هذا بما لا يقاس. وذلك لان القطيعة الفعلية بين ما جرى في أور (العراق) واورليان (الولايات المتحدة) لم يكن فقط من حيث المقدمات والنتائج المباشرة، بل من حيث الأبعاد العلنية والمستترة وأثرها التخريبي بالنسبة للوعي الوطني العراقي والعربي والعالمي. فما جرى في اورليان الجديدة من سرقة لا جديد فيها، لأنه لا قديم فيها. فاورليان الجديدة لم تسرق الحداثة من نفسها ولا التاريخ. في حين أن ما جرى في العراق هو عين السرقة الرهيبة للتاريخ والمعاصرة. فعندما نستعيد صورة أحداث السرقة والنهب في العراق التي صورتها وسائل الإعلام كما لو أنها تعبيرا "طبيعيا" لردود الفعل المناسبة لشعب همجي، تبدو أفعالا اقل من عادية مقارنة بما يجري من أفعال قبيحة في اورليان الجديدة في مجتمع الرخاء والرفاهية، وفي مجتمع لم يتعرض إلى حكم دكتاتوري إرهابي منظم وحرب دامت ربع قرن من الزمن وحصار مزدوج فظيع لأكثر من عشر أعوام. بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالتين متنافرتين من حيث الأسباب والنتائج، لكنها تشير إلى أن روح العراق والعراقيين بقت نبيلة بمعايير القيم الأخلاقية، رغم كل محاولات التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية جعلها أسيرة الغريزة والغرائز. لقد أرادت قوى الغزو إطلاق غريزة الانتقام والتشفي العراقيين ضد أنفسهم من اجل "إخراج" الغضب المتراكم ضد الدكتاتورية صوب كل شيء آخر، لهذا لم يطلق الرئيس الأمريكي بوش أمرا بقتل كل من يسرق كما يفعل الآن في اورليان الجديدة. على العكس لقد جرى السماح آنذاك للعراقيين بسرقة كل شيء. وهو فعل حالما نقارنه بما يجري الآن في اورليان فان السؤال السياسي المترتب عليه يقوم فيما إذا كان السماح "للعراقيين" بسرقة كل شيء هو الوجه الظاهري للسماح بقوى الاحتلال بسرقة كل شيء؟ أم أنها كانت مجرد تغطية لسرقة تاريخية اكبر؟ بمعنى لماذا ينبغي أن يقتل الاورلياني "لسرقة رغيف" ويسمح للعراقي بسرقة كل شيء بما في ذلك إحدى أعظم واعرق الآثار التاريخية في العالم. ليس ذلك فحسب بل ويجري تدمير كل ما تطوله اليد منها؟ هل أرادوا من العراقي أن يسرق القليل منها لكي تتم سرقة الكثير منها، أم أنهم أرادوا بذلك إشراكه في مساهمة سرقة تاريخه الذاتي وتخربه؟ ولماذا تكون بضاعتهم محروسة بالحق والأخلاق وتراثنا نهب للجميع؟ إن المقارنة السريعة والبسيطة والظاهرية تجعل من مهمة إعادة ما سرق من آثار لا تقدر بثمن مهمة أخلاقية وحقوقية ووطنية وقومية وإنسانية كبرى. وهي مهمة فردية واجتماعية وسياسية. وهي مسئولية حكومية. فحكومة لا تعمل من اجل إعادة ما سرق من شعبها وما جرى نهبه أو تحطيمه من مكونات تاريخها الذاتي هي حكومة بلا مستقبل. طبعا، أن سرقة "آثار" العراق هي عين سرقة العراق كما هو، أو أنها الصيغة المصغرة لسرقته الكبرى. فالآثار ليست مخطوطة يمكن إعادة كتابتها بل هي ذات المكونات التي "تتحجر" فيها جهود الأجيال وعرقها وتعبها وإرهاقها وأفراحها وأحزانها ورغباتها وحنينها. وهي "أحجار" تعادل رغبة الأحياء في تذكر الموتى وأشواق المتيمين للغائب والمعشوق. وإنني لأتذكر كل حجارة وزاوية في "المتحف العراقي" عندما أخذونا نحن أطفال المدارس للمرة الأولى في زيارة له. لقد نقلنا إلى عالم ملئ بالسحر والغرابة والواقعية والحلم بالمستقبل. لقد عشنا فيه بمعايير الطفولة لحظات الماضي بدأ من الطوفان مرورا بحمورابي ونبوخذنصر وسرجون الاكدي والرشيد والمأمون. وحالما يخرج المرء من أبوابه الجميلة فإنه يجد نفسه بين ضجيج السيارات والمارة يتنفس من جديد عبق الحرارة المخلوطة باشتياق أقوى للرجوع إلى ماض عريق هو عين العراق. بمعنى تحسسك بان في كل حجر من أحجاره المرتبة في متاحفه شوق! وفي مجمع الآثار يمكن لكل امرئ الصراخ بكلمات العقل والضمير والوجدان: هذه أشواقي! وحالما يفتقد الفرد والجماعة للاشتياق إلى ماضيه، فان ذلك يعني فقدان معنى الحياة أو المستقبل. وكلاهما كل واحد. ففي آثار العراق المسروقة أشواقنا الماضية والحاضرة. فهي ليست أحجار الماضي، بل وآثار المستقبل. أنها "نحن"، ومنها تتكون هويتنا ومعنى القيمة التي نلمحها في سحنة العراق وسرابه، أي في أصواته القوية والخفية، بوصفها وقع حياتنا، أي أنغامنا نحن!!
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحداد الرسمي لفاجعة الكاظمية = مأتم ابدي + ثلاثة أيام
-
جسر الأئمة أم طريق المذبحة المقبلة للانحطاط السياسي العراقي
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية-6 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 5 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 4 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 3 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 2 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 1 من 6
-
حق تقرير المصير- في العراق – الإشكالية والمغامرة
-
هوية الدستور الحزبي ودستور الهوية العراقية؟
-
أشكالية الانفصال أو الاندماج الكردي في العراق-2 من 2
-
إشكالية الانفصال أو الاندماج الكردي في العراق+1 من 2
-
الخطاب القومي الكردي في العراق - التصنيع العرقي 2 من 2
-
الخطاب القومي الكردي في العراق - الهمّ الكردي والهمّ العراقي
...
-
مرجعية السواد أم مرجعية السيستاني? 9 من 9
-
الأهمية الفكرية للمرجعية-8 من 9
-
الاهمية السياسية للمرجعية 7 من 9
-
الأهمية الروحية للمرجعية 6 من 9
-
المرجعية الشيعية ومرجعية التقليد - الواقع والآفاق 5 من 9
-
المرجعية الشيعية - الفكرة والتاريخ الفعلي 4 من 9
المزيد.....
-
إليك ما نعرفه عن اصطدام طائرة الركاب ومروحية بلاك هوك وسقوطه
...
-
معلومات سريعة عن نهر بوتوماك لفهم مدى تعقيد البحث عن حطام ال
...
-
أول تعليق من ترامب على حادثة اصطدام طائرة ركاب ومروحية عسكري
...
-
حوافه حادة..مغامر إماراتي يوثق تجربة مساره بوادي خطير في قير
...
-
كيف نجا قائد الطائرة إف-35 -الأكثر فتكا في العالم- بعد تحطمه
...
-
إيطاليا تعيد كنوزا عراقية منهوبة.. قطع خلدت ذكرى من شيدوا ال
...
-
FBI يستبعد العمل الإرهابي في حادث اصطدام طائرة الركاب بمروحي
...
-
بعد كارثة مطار ريغان.. الإعلام الأمريكي يستحضر آخر حادث كبي
...
-
جورجيا تنسحب من الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا بعد مطالباته
...
-
الائتلاف الوطني السوري يهنئ الشرع بتنصيبه رئيسا للجمهورية
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|