حسن عجمي
الحوار المتمدن-العدد: 4675 - 2014 / 12 / 28 - 10:32
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تختلف فلسفة الحداثة عن فلسفة ما بعد الحداثة في فهم الدين و تفسيره. لكن من الممكن التوحيد بين الحداثة و ما بعد الحداثة و تجاوزهما. و ذلك من خلال فلسفة السوبر حداثة.
تقول الحداثة إن الدين عقائد و معتقدات و طقوس لا بد من الإيمان بها و التصرف على ضوئها ليتحقق وجود الدين فعلياً. أما ما بعد الحداثة فتقول إن الدين مجرد ممارسة فعلية تتجسد في كيفية معاملة الفرد لنفسه و للآخرين , و الله ليس إلهاً شخصياً فلا يرتبط بنا بعلاقة شخصية و بذلك من الخطأ التساؤل عما هو. و تصر الحداثة على أن الدين مجموعة من القصص و الروايات و النظريات الصادقة المطابقة للواقع بينما تقول ما بعد الحداثة إن روايات الدين و نظرياته ليست صادقة و لا كاذبة بل هي مجرد أدوات لإنجاح الفرد و المجتمع و ضبطهما إنسانوياً من خلال نشر الخير و الأخلاق و التوازن العقلي و النفسي. و بينما تؤكد الحداثة على أن الدين يعبِّر عن حقائق , تصر ما بعد الحداثة على أن الدين مجموعة رموز تتضمن أفكاراً و معان ٍ و قيماً سامية من أجل خدمة إنسانية الإنسان و المجتمع و ليست في الحقيقة مجموعة حقائق واقعية. ( Karen Armstrong : The Case for God. 2010. Anchor)
السوبر حداثة و حل الخلاف
لكن بالنسبة إلى السوبر حداثة لا يوجد فرق حقيقي بين الرموز و الحقائق. و لذا تتمكن السوبر حداثة من التوحيد بين الحداثة و ما بعد الحداثة و حل صراعهما و تجاوزهما فكرياً و فلسفياً. تقول السوبر حداثة إن الرموز و الحقائق ليست سوى مجموعات من المعلومات ؛ فالرموز تقدِّم معلومات تماماً كما تفعل الحقائق. و بذلك تتطابق الرموز و الحقائق لكونها مجرد معلومات أي لكونها تتكوّن من الأشياء ذاتها ألا و هي المعلومات.
مثل ذلك أنه من الممكن اعتبار رواية معراج محمد إلى السماء رواية حقيقية أو رواية رمزية مجازية. لكن في الحالتين نستخرج المعلومات نفسها ألا و هي إرتقاء محمد روحياً و عقلياً. و من الممكن اعتبار رواية أن الله قد خلق الدنيا من عدم و سوف يعيدها إلى عدم رواية حقيقية تطابق الواقع أو رواية رمزية مجازية لا تطابق الواقع. و في الحالتين نستخرج المعلومات ذاتها ألا و هي أن الدنيا مجرد وهم و أن الله وحده هو الموجود الحقيقي. هكذا يتوحد صدق الدين و تطابقه مع الواقع مع اعتباره رمزاً و مجازاً لا يتطابق مع الواقع. و من المتاح ذلك بفضل أن أية قراءة للدين أكانت قراءة مجازية أم واقعية تقدِّم المعلومات الأساسية نفسها. و إن كان الدين معتقدات كالإيمان بالله كما تقول الحداثة و إن كان مجرد تصرف بشري كفعل الخير كما تصر ما بعد الحداثة ففي الحالتين يقدِّم الدين المعلومات نفسها ألا و هي في هذا المقام أنه لا بد من فعل الخير , و هذا لأن الإيمان بالله لا يتجلى سوى بفعل الخير. هكذا أيضاً تتوحد الحداثة مع ما بعد الحداثة بفضل قراءة المعلومات المشتركة بينهما.
بالنسبة إلى السوبر حداثة , الدين غير مُحدَّد كالظواهر و الحقائق الطبيعية و الاجتماعية كافة. لكن رغم لا محددية الدين من الممكن معرفته؛ فلا محددية الدين تمكنا من فهمه من خلال مناهج مختلفة بدلا ً من أن تسجننا في منهج مُحدَّد. فمثلا ً بما أن , من منطلق السوبر حداثة , الدين غير مُحدَّد , إذن من الممكن بحق قراءته على أنه مجموعة رموز و على أنه مجموعة حقائق في آن. و كل من قراءة الدين على أنه رموز و مجاز و قراءته على أنه حقائق قراءة مقبولة و صادقة لأن كل قراءة منهما تقدِّم المعلومات نفسها. و بما أن كلا ً من قراءة الدين على أنه رموز و قراءة الدين على أنه حقائق قراءة مقبولة و صادقة , إذن الدين رموز و حقائق في الوقت نفسه. و بذلك توحِّد السوبر حداثة بين الحداثة و ما بعد الحداثة و تطرح فلسفتها الخاصة التي تتجاوز كلا ً من فلسفة الحداثة و فلسفة ما بعد الحداثة.
لا محددية الدين
تعتبر السوبر حداثة أن الدين في حد ذاته غير مُحدَّد. هذا يعني أن مضامين و معتقدات و مبادىء الدين غير مُحدَّدة. و بما أنها غير مُحدَّدة لذا توجد تفاسير و تأويلات عدة و مختلفة لأي دين. من هنا نظرية السوبر حداثة تنجح في تفسير لماذا أي دين لديه تفاسير و تأويلات مختلفة و متنافسة. و بذلك تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية ما يعزز صدقها. و لو كان الدين مُحدَّداً ما هو لتضمن ذلك وجود تفسير واحد له. لكن كل دين لديه تفسيرات و تأويلات متنوعة. لذلك كل دين هو في الحقيقة غير مُحدَّد ما هو. و بما أن كل دين غير مُحدَّد في مضامينه و مبادئه , لذا أي دين من الممكن أن يكون عالمياً بحيث يُقبَل من قبل أية جماعة أو أي مجتمع. فبما أن الدين غير مُحدَّد , إذن تحديده يعتمد على البشر ما يجعلهم قادرين على تفسيره و فهمه بما يناسب عاداتهم و ثقافتهم فيصبح الدين عالمياً. هكذا تفسِّر السوبر حداثة لماذا الأديان عالمية. و بذلك تكتسب السوبر حداثة فضيلة معرفية أخرى.
بالإضافة إلى ذلك , بما أن السوبر حداثة تؤكد على لامحددية الدين , إذن تجعل الدين معتمداً علينا في تحديده و بذلك تحررنا من سجون تفسير مُحدَّد للدين فتضمن حريتنا. و في هذا فضيلة قصوى للسوبر حداثة ما يدعم مقبوليتها. فالسوبر حداثة لا تسجننا في فهم مُسبَق لأي دين لأنها تعتبر أن أي دين غير مُحدَّد فيما يقول فتحوّل الدين إلى مجموعة معتقدات و مبادىء مستقبلية تعتمد في تكوينها علينا نحن بالذات. و بهذا تضمن حريتنا من أية معتقدات و مبادىء مُحدَّدة مُسبَقاً فتدفعنا إلى التفكير المستمر في الدين و ما يحتوي من فكر و معتقد. و بذلك تحوّل الدين إلى عملية بحث فكري مستمرة فتضمن استمرارية إحياء الأديان من خلال التفكير الدائم في مضامينها. و في هذا فضيلة معرفية أخرى للسوبر حداثة بالإضافة إلى فضيلة تحريرنا عقائدياً. على ضوء هذه الاعتبارات , جوهر الدين كامن في حرية الإنسان و استمرارية التفكير البشري. لذا , من منظور السوبر حداثة , الدين إنسانوي بامتياز. لا دين من دون حرية و فكر جديد و تفكير متواصل تماماً كما لا ماض ٍ من دون مستقبل. الدين المنبثق من الماضي لا يوجد سوى من خلال قراءته في الحاضر و المستقبل. دين من دون قراءة مستقبلية دين من دون مضمون لأن أي دين غير مُحدَّد ما يطالبنا بتحديده المستمر.
تتعدد الأمثلة على أن الدين غير مُحدَّد. فمثلا ً , حين قال المسيح " أعطي ما لقيصر لقيصر و ما لله لله " , هل المقصود الخنوع لقيصر أم المقصود الفصل بين الدولة و الدين أم المقصود الزهد في الدنيا؟ من هنا , من غير المُحدَّد ما هو المقصود و ما هو المعنى. كما يحتوي القرآن على آيات تدل على أن الإنسان حر فيما يفعل و آيات أخرى تشير إلى أن الإنسان غيرحر بل الله يخلق كل الموجودات و منها أفعال البشر. و في القرآن آيات تقول إننا نرى الله في الآخرة , و أخرى تنفي ذلك. و في القرآن أيضاً مبدأ العين بالعين و مبدأ مسامحة الآخرين. هكذا الإسلام غير مُحدَّد ما هو ؛ فمن غير المُحدَّد ما هي مبادىء الإسلام و مضامينه. و بفضل لامحددية الدين يتحوّل الإنسان إلى سيد على دينه بدلا ً من عبد له من خلال اعتماد تحديد الدين علينا نحن ما يجعل الدين بدوره متغيراً على ضوء الظروف المختلفة للبشر و على أساس ما ينفع الناس ضمن هذه الظروف أو تلك فيغدو مقبولا ً رغم تغير التاريخ و الإنسان. من هنا , يكتسب الدين قدرته على الاستمرار.
لو كان الدين مُحدَّداً فيما يقول , حينها تزداد أرجحية التخلي عنه متى يكون ما يقول غير مناسب لهذه الظروف التاريخية أو تلك. على هذا الأساس , لامحددية الدين ضمانة استمراريته و قبوله. و بذلك لامحددية الدين فضيلة له. و بما أن الدين يعتمد علينا في تشكيله , إذن إذا قرأنا الدين قراءة متطورة يغدو الدين متطوراً. أما إذا قرأنا الدين قراءة متخلفة فيغدو حينها متخلفاً. نحن مَن نصنع الدين من خلال قراءته. لا نص بلا قراءة. و لا قراءة بلا فكر جديد.
#حسن_عجمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟