كمال العيادي
الحوار المتمدن-العدد: 1308 - 2005 / 9 / 5 - 10:03
المحور:
الادب والفن
تقابلها في الأفراح والأتـراح.
اعتاد الجميع عليها. تحضر بدون دعوة. ترافق الأعراس بالزّغاريد و تصاحب الجنائز بوابل من الدّموع الحارّة الصّادقة ومناديل من الكتّان.
نصف أبناء المهاجرين التّونسيين, الذين ولدوا بميونيخ خلال الثّلاثين سنة الماضيّة يعرفون أنّها حضرت ختانهم ورمت بين أفخاذهم بثلاث أو أربعة قطع من الأوراق النقديّة الزرقاء من العملة السّابقة. حين كانت- الفلوس فلوس – كما كانت تردّد بحسرة .
أمّا الصبايا, فهي تحفظ أسماءهنّ جميعا. وتعرف من أسرارهنّ ما لم يقلنه لأوليائهن. تحدّثك بفخر تفضح نشوته غمّازة تغور بين تجاعيد خدّها الأيمن, بأنّها كانت واسطة الخير في زواج كثيرات منهنّ.
تبدأ حديثها عادة, وهي تطرق برفق كتفك الأيسر سائلة:
- هل تعرف فلانة بنت فلان, العامل بشركة سيمانس؟
وقبل أن تجد الوقت لإجابتها, تندفع في الحديث, مطبطبة على صدر الأمّ المتدلّق نصف ذراع:
- أنا التي توسّطت في زواجها من فلان بن فلان, العامل بمصنع – اسكادا – للملابس الجاهزة.
- وهل تعرف ساميّة بنت فلانة البنزرتيّة؟
- أنا التي تدخّلت لها لدى السيّد هانس شتاوب, المسؤول عن عمّال التنظيف بشركة – آودي – لتعمل هناك كعاملة تنظيف بمرتّب يحلم به مهندس. شركة – آودي – ويا ما أدراك- تعقّب. إنّها تتحصّل هناك على ثلاثة عشر مرتّب شهريّ في السّنة, إضافة لمنحة عطلة الصّيف .
يعرفها كثيرون باسم أمّك مبروكة. وعند الكثيرين فهي معروفة باسم الجوّاديّة . أمّا الشبّان والصبايا فينادونها باسمها المحبّب : الحاجّة.
- زرت بيت الرّسول يا وليدي, وقبّلت يديه أربع مرّات! إيه واللّه يا وليدي.
هي تعتبر مسجد الرسول بالمدينة, بيته. أمّا عن مسألة تقبيل يديه, فقد شرحت لي الأمر بطريقة ما لا أذكر بالتحديد تفاصيلها الآن. أعتقد بأنّها فسّرت لي بأنّ تقبيل الذّراع الأوّل من لوح المحراب بالمسجد يعتبر مثل تقبيل كفي الرّسول. أو شيئا من هذا القبيل. والحقيقة أنّني لم أشك لحظة في صدقها. أو لنقل في صدق اقتناعها بما تقول. ثمّ أنّ الحاجّة مبروكة لا تكذب أبدا.
- حين أودعوني السّجن يا وليدي, بقت صائمة عن الأكل كامل مدّة إيقافي. إطلاقا لم آكل أكلهم. من يعرف ربّما يدسّون لي قطعة من لحم الخنزير. يا لطيف. باعد البلاء. اللّطف يا ربيّ.
هذا ما مازال. نأكل اللّحم الحرام. اللّطف يا ربيّ. سبعة ألطاف. اللّهمّ عافينا ونجّينا وبعّد الحرام علينا وعلى أمّة محمّد أجمعين, كما أبعدت الشيطان على فاطمة وسيدنا علي والمحسنين.
والحقيقة أنّ واقعة دخولها السّجن هذه, لا تخلو من الصدق . وقد سمعتها مرّات من أكثر من شخص من الثّقاة. وكلّ ما في الأمر, أنّها شاركت قبل عشر سنوات بمظاهرة مساندة لأطفال الحجارة بفلسطين. وكانت ترفع لافتة من الورق المقوى, مدوّن عليها باللّغة الألمانيّة و بالخطّ العريض: الموت لأعداء فلسطين والمسلمين. وقد كانت أحد الجماعات الإسلاميّة المعروفة هي التي نظّمت المظاهرة المقرّرة لحدود السّاعة السّادسة, كما هوّ الشأن مع كلّ المظاهرات المرخص لها بهذا البلد. عند السّاعة السّادسة بالضبط, طلب أحد أعوان الأمن من الذين كانوا يرافقون المتظاهرين كامل الوقت من الحاجة مبروكة الكفّ عن الصراخ ومغادرة مكان التّجمع
ولكنّ الحاجّة رفضت ذلك. وراحت تجادله بشدّة عن الحريّة والعدالة وما إلى ذلك, رافضة في الوقت نفسه مغادرة المكان كما فعل أغلب المتظاهرين, مما أجبر الأعوان بعد نصف ساعة من المحاولات الفاشلة في إقناعها إلى اصطحابها إلى مركز الأمن الذي لا يبعد عن المكان سوى بعض الأمتار, وتمّ إيقافها ثلاث ساعات أو أربع, اتّصلوا في الأثناء بزوجها طالبين منه القدوم ومساعدتهم على تهدئها. كما أنّهم جلبوا لها أكلا من المطعم القريب وقارورة مياه معدنيّة.
الحاجّة مبروكة هيّ أوّل امرأة تونسيّة قدمت للعمل بمدينة ميونخ. كان ذلك سنة 1969. وهي تحب الحديث عن تلك الأيّام كثيرا. حين كان رطل الفستق بملاليم و كان صندوق التّفّاح بثلاث ماركات. وغرام الذهب ذوق أربعة وعشرين بخمسة ماركات وخمسين سنت.
- ركبت الطائرة يا وليدي وأنا أرتعش مثل قشّة في العجاج . كنت أقرأ سورة قل هوّ اللّه أحد والفاتحة وألهاكم التّكاثر. وحين دار المحرّك, أحسست بركبتيّ ماء. وقلبي يدق مثل المروحة.
ولمّا طلعت مصوّبة – زمزومتها- صوب السّماء, انخسفت طبلتي أذني و أصبح ريقي صابون. تصوّر يا وليدي وأنا في تلك الحالة والبنات العاملات بالطّائرة يفرّقون علينا أطباق الأكل. قهوة وشاي ودجاج. يلعن أبو الدّجاج. من يومها وأنا لا أحتمل أكل الدجاج. نهارها نزعت الحزام وبقيت ساعة ونصف في - التواليت – قلبي خرج. كلّ عشرة دقائق أخرج من تواليت الطائرة, وقبل أن أصل إلى مقعدي , أعود أجري من جديد. هوّ نهار ! اللّه لا يعيده بجاه ربّ العالمين. أما الآن فقد أعتدت يا وليدي. أكثر من ثلاثين سنة. أرجع لتونس مرّتين كلّ سنة. في الصيف وفي الشّتاء. مثل سورة قريش. تعوّدت الآن علي ركوب الطّائرة. بل أشعر وكأنّني في غرفة نشر الغسيل فوق السطوح. أركب مجرجرة معي حقيبة بها أكثر من خمسين كيلوغرام. شقاشق أخاف عليها من الكسر. عملة الشحن يرمون الحقائب وكأنّها هي السبب في كلّ مصائبهم وبلواهم. يعطيهم بلاء كسروا لي نصف ما اشتريته لتأثيث بيت رادس. بنيت بيت في رادس وفي مكثر. والحمد له يا ربيّ. إن شاء اللّه يرزق كلّ مؤمن من أمّة محمّد. أمّا دار رادس كلّفتني شحم يهود. بنيتها على الصح. والحيطان حجر مفروز. الأسّاس يا وليدي متر ونصف.
- الإسمنت من المتلوي – وانواع الحديد ثلاثة أنواع من الصنف الممتاز. متاع عمارات .
عمّك عثمان التبرسقي اللّه يرحمه, هوّ المقاول الذي وقف عليها. – تسمع بيه ؟ تبرسقي.
الحاجّة مريضة منذ سنوات بالدّاء الخبيث.
قالوا سرطان الرّئة. ووصفوا مرضها بأنّه مرض غريب أصاب صدرها. مرض يشبه السرطان ولكنّه ليس بالسّرطان. مرض يأكل الإنسان وينهشه من الدّاخل دون أن تحسّ به. قالوا.
الحاج محمّد المسؤول عن مسجد الرّحمة بجنوب ميونيخ, أكّد أنها حكت للمرحومة زوجته قبل وفاتها منذ عامين بأنّها مصابة بمرض لم يفهمه الأطبّاء. وبأنّها وعدتها بزيارة ضريح سيدي أبو وزرة حين تعود إلى تونس ولكنّها لم تفعل. كانت تفكّر في كلّ النّاس ولكنّها كانت لا تفكّر في نفسها. نفسها عفيفة وقلبها كبير وكلّ ما في يدها للنّاس. تعاون القريب والبعيد.
- الكسكسي يا وليدي يلزمه القرع واللّفت والخرشف والحمص. ولا يطبخ إلاّ بلحم الخروف.
أمّا كسكسي الدجاج فهو بدعة ليست تونسيّة. والطماطم تتقلى لوحدها مع الثوم والملح. أختلط الحابل بالنّابل. هوّ كل كسكسي, كسكسي يا وليدي؟
السّاعة التّاسعة وأربعون دقيقة موعد دفن الحاجّة مبروكة بنت صالح الجوّادي. العاملة السّابقة بشركة – فولف كنوف – للنّسيج. وزوجة المرحوم عبد القادر بن رمضان الطويهري, العامل السّابق بشركة – مانهايم بروك - . بالجزء الشرقيّ بمقبرة – اوست فريتهوف- الخاص بالجاليّة المسلمة بميونخ. يصلى عليها ببهو كنيسة المقبرة الخارجي عند السّاعة التّاسعة والرّبع. وللمزيد من الإرشادات, الرّجاء الإتّصال بالرّقم التّالي…………
وتحت الإعلان الصغير بالجريدة المحلّيّة المحدودة التّوزيع, إعلان بالأحرف الغليظة يحتلّ ربع صفحة الوفيّات عن إعلان مناقصة لتزويد مقبرة – فاست فريتهوف- بآلات لتّتخلّص من الأعشاب الطفيليّة وتقليم أغصان نبتة – الشعباطة أو الرّوح- تلك التي تتسلّق أسوار المقابر.
- الملوخيّة يا وليدي, يلزمها أصابع. فن وصبر ووسع بال. هوّ كلّ أبيض حليب وكلّ أسود فحم.
أخاف من الجيران حين أطبخ الملوخيّة. رائحة الملوخيّة الغالية يا وليدي لا يتحمّلونها. أكثر من خمسة وثلاثين سنة وأنا أسكن هنا ولا أعرف من يسكن معي بهذه العمارة. واحدة فقط . مدام كليبر. تعاشرنا. وكانت كامل الوقت معي في المطبخ. اللّه يرحمها. ويغفر لها. حتّى الصليب كانت تنزعه كلّما نزلت عندي. كانت تسكن بالطّابق السادس. ماتت بسكتة قلبيّة في بيت الحمّام. أنا كنت في تونس. مسكينة شمّوا رائحتها بعد خمسة أيّام. اللّه يرحمها.
ساعات أفكّر يا وليدي نلم ما عندي ويكفي. الراجل اللّه يرحمه, والأولاد تفرّقوا وكأنني لم أنجبهم. واحد في الشّمال والثّاني في حدود روسيا والبنت في برلين. ممرضة. الخبزة صعبة يا وليدي. واللّه يسهّل القسم. كسرة يابسة في بلادي ولا مايوناز في الغربة. اللّه يلطف.
ربّي هذه نفس تعود إليك. تطلب رحمتك. وهي في ملكك. فارحمها يا رحمان. يردد الجميع : يا رحمان.
يا رحمان.
يا رحمان.
ربيّ اغفر وأنت الغفور. ربيّ ارحم وأنت الرّحيم. وخفّف عنها عذاب القبر وإلهمها الجواب حين يسألها منكر و نكير بأن تقول: ربيّ اللّه الذي لا إله إلاّ هوّ. ونبييّ محمّد صلى اللّه عليه وسلّم. وكتابي القرآن. وديني الإسلام. دين محمّد وابراهيم. آمين. الفاتحة يا جماعة.
آمـــــــــــــــــين
الجسد مسجى باتجاه القبلة. والتّابوت من خشب فاقع اللّون من المؤكّد بأنّه لم يكلّف كثيرا.
أبنها الذي أصرّ مثل شقيقته على دفنها بميونخ يمخط في منديل ورقيّ.
- من لها بتونس؟ لا أحد. على الأقل تدفن هنا لنزورها. اللّه يرحمها, هل أغلقت السيّارة يا سلوى؟ صندوق الورد أعطيته لمونيس لتسبق به إلى مكان القبر.
كنت أغالب الضحك, وأنا أتذكّر وجهها المشرق وهي تمسك بالمصدح خلال أحد الحفلات بميونخ قبل خمس سنوات. تذكّرتها وهي تصيح بقولتها المشهورة قبل أن تزغرد :
يا أمّة محمّد يا مسلمين, تجمّعوا كالدّجاج ليهزّكم العجاج." “
#كمال_العيادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟