|
أوضة ضلمة
فاتن واصل
الحوار المتمدن-العدد: 4669 - 2014 / 12 / 22 - 17:11
المحور:
الادب والفن
دخلنا من باب قاعة العرض، مجموعة من الأصدقاء جاء البعض منا مضطرّاً والبعض الآخر متحمِّسا، همس أحدهم معلقا على كآبة المكان والتراب الذي يعلو كل شيّء وضعف الصيانة وسوء الاضاءة لاحتراق بعض اللمبات .. هالة هي الوحيدة التي كان يكسو وجهها مشاعر الانبهار.. تتأمل اللوحات وكأنها تغوص بداخلها. نظرت نحوهم معاتبة ومحذرة ألا يزيدون، خشية أن يسمعهم الفنان صاحب المعرض، وهو واحد من أعز أصدقائي وقد تعبت جدا في إقناعه أن يحرر لوّحاته التي كان يرسمها ويحتفظ بها، وحين أساله: - أين هي ؟ يطلق تعبيرا كما لو كان شعارا : - حابسها في أوضة ضلمة . لذا لم أكن أريده أن يزداد يأسا فوق يأسهِ. وقفوا يتأملون اللوّحات بألوانها الداكنة، يغلب الغموض والحزن على الوجوه المزدحمة داخلها.. خطوطه المحددة باللوّن الأسود المستقيمة والمنحنيّة ، تختبئ تحت غلالة من الألوّان الضبابية المعتمة وجوه بائسة أو مشدوهة.. ممتعضة مفزوعة أو صارخة .. ليس لديه وجه سعيد، أيادي ممتدة في ظلام عميق وأحداث متزاحمة متراكبة ..ألوان تتفجر كينابيع النيران.. عوالم كابوسية ، فنرى سلما حلزونيا وقد نبت في رأس أحد شخوصه المخيفين، أو دلواً وقد انبثق من مركز قرص شمس. تركت أصدقائي يعبِّرون عما لديّهم من إنطباعات ولم أتحدث، فقد كنت أقارن بين رؤيتهم ورؤيتي، إذ سبق لي أن رأيّتَ هذه اللوّحات من قبل، وربما عاصرت بعض الظروف التي دفعت عمّار - وهذا هو اسمه – لكي يرسمهم. تلفتت حولي باحثة عنه فلمحته يقف في إحدى الزوايا يتجنب أن يسمع التعليقات الساذجة المُحبِطة أو أن يلمحْهُ أحد الضيوف فيكون ذلك مدعاة للمجاملة. أعرفه جيّدا وعلاقتي به ممتدة منذ سنوات طويلة.. خجول إلى درجة أظن معها أنه يرغب في الاختباء، شديد الذكاء رقيق مرهف الحس يعبر عن آراءه ساخراً وهيّ طريقته في التعالى على المواقف وتعليقات الناس، فتظهر ابتسامة في زاوية فمه تتوارى سريعا لتعود عيناه المستديرتان المكحّلتان لدرجة القسوة إلى صلابتهما وتجمد النظرة فيهما من خلف نظارة ذات إطارات سوداء تزيد من التجهم اللا إرادي لملامح وجهه النحيف. ابتسمت له من بعيد بنظرة متساءلة يفهمها هو : - هل أقترب لتتعرف على أصدقائي ؟ أوّمأ لي بالنفي بحركة خفيفة من رأسه بالكاد لمحتها فتركت له الحرية.. زوجته تتحرك كثيرا تحاول إثبات وجودها وجذب الاهتمام طوال الوقت، وإذا لم تنجح، تدير رسائل تليفونها الصوّتيّة الناطقة بلغة غير معروفة قد تكون الروسية أو الأسبانية، لتستمع اليها بصوت مرتفع يسمعه الجميع، ألقيت عليها التحية من بعيد فقد كنت أعرف أنها لا ترتاح لوجودي. انفصلت هالة عن باقي المجموعة وظلت تتحرك داخل القاعة وحدها وتتأمل كل لوّحة على حدى، أخرجت قلما ودفتر أوراق صغير من حقيبة يدها، وأخذت تدوِّن ملاحظات من حين لآخر، تتراجع للخلف لترى اللوّحة من بعيد ثم تقترب لتتبين التفاصيل. مر الوقت وأنصرف معظم الحضور المحدود أصلا، فالاقبال على الفنون وخاصة الرسم والتصوير الزيتي تضاءل بشدة في الآونة الأخيرة ولا سيّما أن صديقي ليس له جوقة من الأبواق التي تقوم بعمل الدعاية له مثل فنّاني هذه الأيام.
قرر الأصدقاء الذهاب لأحد المقاهي القريبة الكائنة بوسط القاهرة وانتظارنا هناك، وفضلت هالة البقاء معي
اقترب عمّار من مكان وقوفنا، وسأل بصوته الرخيم الهادئ وبابتسامته الساخرة موّجِهاً الكلام لهالة مشيرا لدفترها الصغير: - إسمي مكتوب ؟ لم أفهم أنا سؤاله ولكن هالة ضحكت وقالت : - إسمك بس اللي مكتوب. قدمت كلاهما للآخر، فانطلقا فورا في الحديث كما لو كانا صديقين قديمين.
قالت له : عوالمك مخيفة قال لها : أنصحك ما تدخليش قالت له : مش قادرة أقاوم قال لها : خلاص سيبك من الخوف، وعموما هي مش بتعضْ. قالت له : لكن حزينة أوي. قال لها : طبيعي .. انتي شايفة حاجة تانية في واقعنا؟
استمر حوارهما بلا انقطاع لقرابة الساعة، من الجائز أنه للمرة الأولى يلتقي عمّار بمن نجحت في فهم أعماله ووضعت يدها على مكامن الجمال فيها.. وقفت معنا زوجته لدقائق مرت عليها ضجرة ثقيلة ، طلب منها بأدب أن تتصرف بحريّة وأن تعود للبيت لو أرادت، قائلا أن لديه " شوية مشاوير " بعد وقت العرض سيقوم بها، فوافقت على الفور وحيّتنا موّدِعَة ببرود ثم ذهبت. سألني : مروّحة ؟ رددت: لا رايحة القهوة أصحابي هناك. فقال: طب أمشي معاكم لحد القهوة وبعدين أروّح. سألته مندهشة : مش قلت لناتاشا ( زوجته) عندك مشاوير؟ فغمز بعينه وارتسمت ابتسامة خفيفة في زاوية فمه، وللمرة الأولى أرى وجهَه يضجُ بالسعادة ويظهر عليه تعبيراً طفولياً مشاغباً . فضحكت. مشينا ثلاثتنا أنا وهالة وعمّار طوال الطريق للقهوة إندمج الاثنان في حديث طويل للدرجة التي نسيا معها أني أرافقهما. تركتهما يسبقاني بعدة خطوات فلم يشعرا، مرّا أمام القهوة ولم يدخلا، فوقفت بمكاني أنتظر أن تنتبه هالة أنها قد عبرت المكان الذي نقصده بعد لحظات التفتت وأومأت لي برأسها إيماءة فهمتها.
#فاتن_واصل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عمِّي الشيخ عماد
-
فيل أبيض
-
طريق إلى العالم الجديد
-
المفرش
-
زغاريد فى طابور الصباح
-
صناديق فارغة بجوار الحائط
-
فنجان قهوة
-
تأملات في بناء عش
-
إختفاء إبنة النور
-
الخروج إلى النهار
-
عزيزتى العزيزة
-
للخلف تقدم.
-
الطين ليس كالرمال
-
سقوط النجمة الذهبية
-
جليسة الوهم
-
الرقص على الاحزان
-
كائن فيسبوكى... LOL
-
منافسة بدون منافس
-
تعليمنا جهل وأمية
-
لماذا يكره الله المرأة ..!!
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|