أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - حوار مع حسين الموزاني















المزيد.....


حوار مع حسين الموزاني


حسين الموزاني

الحوار المتمدن-العدد: 4669 - 2014 / 12 / 22 - 17:11
المحور: الادب والفن
    


حوار أجراه الكاتب والصحفي المصري عزمي عبد الوهاب مع حسين الموزاني
عن المنفى والهوية والأدب

- لماذا رحلت مبكراً عن العراق؟
يعود سبب رحيلي وأنا في الرابعة والعشرين من السنّ إلى الوضع السياسيّ المتأزم آنذاك في العراق، وتحديداً في عام 1978. فكانت هناك حكومة ائتلاف تضمّ "حزب البعث العربي الاشتراكي" بقيادة أحمد حسن البكر ونائبه صدّام حسين والحزب الشيوعي بقيادة "عزيز محمد". وفي الواقع لم تكن حكومة ما سميّ آنذاك "بالجبهة الوطنية" سوى جهاز قمع واضطهاد. وتم استغلال وجود الشيوعيين في الحكومة لشنّ حملة تصفية منظمة تستهدف المستقلين والشيوعيين أنفسهم، وكنت آنذاك عضواً في الحزب الشيوعي. فكان يطلب منّا الانتماء قسراً إلى صفوف البعث، وقد عرض عليّ الانتماء وتعرضت للتهديد، بل الطرد من العمل. وقد سجلت حادة طردي من العمل في جريدة الحزب الشيوعي العراقي "طريق الشعب" اليومية الصادرة في بغداد. لكنني استطعت العمل في مؤسسة أخرى تابعة الدولة أيضاً، لكنهم لم يعرفوا هويتي السياسية. وكنت من المشككين في "الجبهة الوطنية" ونظام البعث، بسبب التجربة المريرة التي خاضها الشيوعيون واليساريون في عام 1963 إثر سقوط حكومة عبد الكريم قاسم. فقتل واعتقل المئات منهم بما عرف بمجازر شباط. وتأكد لي بأن تلك "الجبهة الوطنية" المزعومة فرضت من قبل الحكومة السوفيتية فرضاً على الشيوعيين بعد أن وقعت الحكومة العراقية اتفاقية استراتيجية للتعاون المشترك بين العراق والاتحاد السوفيتي. وكانت عمليات القمع والتهميش والتبعيث القسري قائمة على قدم وساق. وكان كلّ من يعترض على ذلك يخضع للمراقبة البوليسية أو الاعتقال أو التصفية الجسدية. ووجدت أن الحزب الشيوعي نفسه كان متواطئاً، أو لم يكن حازماً على الأقل، بسبب خضوعه المطلق للاتحاد السوفيتي. فلم أر في نهاية المطاف سوى تقديم استقالتي للحزب والخروج إلى بيروت والالتحاق بالمقاومة الفلسطينية. وبالمناسبة، إنني لم أنتم ومنذ خروجي من الحزب الشيوعي إلى أيّ تنظيم حزبي أو سياسي أو غير سياسي حتى هذه الساعة ولن أنتمي ما دمت حيّاً.


-عدت إلى العراق في العام 2004 بعد أن أمضيت 26 عاماً من الإقامة في ألمانيا ... فكيف وجدت بغداد؟
كنت أتابع بلا شك أخبار العراق بشكل يومي، ولا يكاد يفوتني خبر عن العراق أو كتاب أو تقرير صحفي. وتحوّل تعلّقي بالبلد إلى هوس أو "حالة مرضية" – يقال إنّ هناك مرضاً اسمه الوطن، وقد مات الشاعر البيروفي سيزر باليشو بمرض حبّ إسبانيا التي سقطت في يد الفاشيين الفرانكويين خلال الحرب الأهلية. وكنت أعلم بأنّ صدام حسين سيحقق وعده بأنه لن يتخلى عن العراق إلا ويجعله صحراء قاحلة. - أنظر مثلاً نظام البعث القائم حالياً في سوريا-! واتبع النظام آنذاك سياسة قمع وتنكيل وإبادة في ظلّ الحروب التي خاضها والحصارات التي تعرض لها العراقيون. وقد كتبنا، نحن وغيرنا، الكثيرَ عن هذه المرحلة. فذهبت إلى العراق بعد ستة وعشرين عاماُ من المنفى وأنا مدرك تماماً بأنني سوف لا أرى إلا الدمار والخراب. وبما أنني أعتبر نفسي من المتفائلين نسبيّاً فقلت دعني انتظر قليلاً لعلّ الوضع يتحسن بعد سقوط النظام، لكنّ الوضع، ومثلما نرى حالياً، ازداد مأساوية وتعقيداً بعد الاحتلال وإذكاء نار الفتنة الطائفية ومواصلة سياسة القتل والتهميش والإقصاء نفسها من قبل الحكومات التي ورثت نظام صدّام حسين. ودوّنت ذلك كلّه في يومياتي عن زيارتي الأولى للعراق والثانية في عام ألفين وثمانية. وإذا كان نظام البعث قد أنهى استقلال العراق وفرّط في حدود الوطن ثمّ سلمه إلى المحتلين الأمريكيين البريطانيين مجدداً، فإن الحكام الحاليين أجهزوا حتى على هوية العراق العربية وثقافته الوطنية.

- منذ العام 1978 وأنت تقيم بعيداً عن العراق، وتكتب باللغتين العربية والألمانية، وفكرة العودة باتت
مشروعاً مستقبلياً قد لا يتحقق، فهل تعاني من أزمة الهوية؟
لم تعد حتى فكرة الموت في العراق مغرية بالنسبة لي، وانتفت تلك الرغبة، فضلاً عن العيش، بفعل الموت المجاني اليومي، ولم تعد للإنسان كرامة في العراق حتّى للموتى. وأتذكر أنني سألت سعدي يوسف في حانة ببيروت قبل خمسة وثلاثين عاماً عن سبب قوله "في سيدي بلعباس مقبرة بيضاء/ كثيراً ما فكّر أنه سيدفن فيها" فضحك سعدي يوسف آنذاك ثمّ أطرق صامتاً. وقد توفي محمد مهدي الجواهري في المنفى وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ونازك الملائكة والمخرج المسرحي عوني كرومي وسركون بولص والفنّان محمد غني حكمت والفنّان رافع الناصري والمفكّر هادي العلوي والروائي غائب طعمة فرمان والمترجم نجيب المانع والموسيقار جميل بشير وعازف العود الشهير، أو فيلسوف العود العربي سلمان شكر، وهناك العشرات من الكتّاب والشعراء والفنانين الذين رحلوا منفيين ولم يلتفت إليهم أحد. وكلّما أدفن صديقاً هنا في ألمانيا، وآخرهم كان الكاتب المسرحي الدكتور صالح كاظم الذي رحل نهاية العام الماضي، أرى الزهور والأشجار والتماثيل تزين المقابر الألمانية وأتذكّر مدافننا وقرّافاتنا المقرفة ومنها مقبرة النجف التي هي أكبر قرّافة في العالم، وحيث يفقد الميّت كرامته، حتى لو كان يبحث عن القرب مما يسمى "بالعترة النبوية". وأسّر لي صديق منفي في الدنمارك بأنه حالما ودّع والديه في جنوب العراق شعر بأنها قد توفيا منذ تلك اللحظة. لكن المتوفي آنذاك كان هو نفسه. وعندما عدت إلى العراق التقيت بجدتي وكانت في الخامسة أو السادسة والتسعين من السنّ فذكّرتني بكلام قلته لهم أثناء الوداع وهو أنكم ستفقدون شخصاً واحداً، أمّا أنا فسأفقدكم كلّكم. ومازال الشعور بالفقدان يجتاحني أينما حللت. ولم أفلح في معالجته بالكتابة أو حتى بالنبيذ. فهو شعور طاغ يزداد ضراوة كلما تقدمت في السنّ عاماً آخر. وأصبحت كالفراشة التي وصفها الكاتب النمساوي المنفي روبرت موزيل والتي تزداد وهناً كلّما اقتربت من الربيع. وفيما يتعلّق بالهوية، فأين هي هويتي أصلاً لكي أفقدها؟ فهناك هويات فرضت علي فرضاً وأحاول قدر المستطاع التخلّص منها، أو تجاوزها، لا سيما تلك الهوية الدينية أو الطائفية المقيتة. وأسعى جاهداً لإيجاد هوية خاصة بي أنا؛ هوية ابتكرها وابتدعها عن طريق الكتابة، ولإقامة بيتي النثريّ الذي أتحصن فيه. فما قيمة الكتابة أصلاً إن لم تمنحني هويتي الفردية الخاصة؟ وكان موزيل الذي أشرت إليه يقول إنه وجوده عبارة عن بيت من المقوّى. وكان توماس الكاتب الألماني يقول في منفاه الأمريكي إنه هو نفسه ألمانيا، وأينما يضع قدمه يرى ألمانيا ماثلة أمامه، ورغم أنه رفض العيش والموت فيها حتّى بعد انهيار النظام النازي. وفي هذه اللحظة بالذات طرأ على ذهني صراخ بدر شاكر السيّاب: "أنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه..."وباختصار أنّ "هويتي" الوطنية والقومية هي التي تعاني من أزمة، وليس أنا.

روايتك "اعترافات تاجر اللحوم" ومجموعتك القصصية "حارس المهدي المنتظر" تدوران في أجواء مصرية، وهما نتاج إقامة في - - القاهرة لعام ونصف العام، كيف كان الأثر المصري عليك كاتباً؟
جئت إلى مصر بعد أزمة أو صدمة نفسية تعّرضت لها إثر قصف العراق أثناء حرب الكويت عام 1991 وتدمير بناه التحتية التي شيّدها الشعب العراقي طيلة عقود وقرون. وبما أنني لم أستطع العودة إلى العراق لأسباب سياسية فقد اخترت مصر بديلاً مؤقتاً، وقد كان اختاري صائباً. فنحن العراقيون، شأننا شأن العرب الآخرين، تتلمذنا ومنذ نعومة أظفارنا على يد المثقفين والكتاب والفنانين المصريين، واطلعنا على الأدب العربي والعالمي الحديث عبر كتابات المصريين وترجماتهم. وساهم الغناء المصري في تكوين شخصيتي ولا سيما غناء محمّد عبد الوهاب وأمّ كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش واسمهان وشادية وكذلك السينما المصرية الرائدة. ثمّ إنني كتبت رسالة الماجستير عن "البطل المهزوم في روايات نجيب محفوظ المبكرة". وكان من المنطقي أن أزور مصر بحثاً عن "تعويض" للخسائر الجسيمة، وبغية العثور على معادل موضوعي أو علاج لأزمتي. فشعرت ومنذ الأيّام الأولى من إقامتي بأنني انتمي إلى مصر أيضاً. وأحببت الثقافة المصرية الحديثة والمصريين بصورة خاصة، وقد أغرتني أجواء القاهرة لدرجة أنني تخليت عن غرضي الأساسي وهو كتابة الدكتوراه عن "أشكال الرواية" الحديثة. فقلت دعني أنا نفسي أكتب رواية عن مصر والمصريين وعن ذلك العراقي "الغريب" الذي جاء يبحث عن الخلاص في أرض مصر. وفكرت أيضاً في أنني، إذا كنت أدعي معرفتي بأسرار العمل الروائي وتقنياته، فعليّ أن أكتب رواية بنفسي، إن كنت صادقاً. فكتبت ذلك العمل، مدفوعاً بدعم أصدقائي المصريين وإلحاحهم وتشجيعهم لعملية الكتابة ومرافقتهم لها. فكان مصر بمثابة حاضنة لي ولكلّ من فقد وطنه، مثلما كانت حاضنة للسوريين واللبنانيين قبل قرن ونصف القرن. وإذا كان صديقي الراحل محمّد عفيفي مطر يقول إنّ الله غرس في قلبه حبّ العراقيين فأنا أقول هنا، وبلا مجاملة، إنّ الله غرس في قلبي حبّ المصريين.

- كيف ترى مصر إبداعياً الآن وأنت تطل عليها من بعيد؟
كنت أتابع قبل زيارتي إلى مصر وخلالها إنتاج الكتاب والشعراء المصريين، وأعتقد اعتقاداً يصل إلى حدّ اليقين بأنّ من يصنع ثورتين شعبيتين وبهذه الدقّة التنظيمية وروح التضحية العالية ونكران الذات والتضامن والوحدة الداخلية بين أطياف الشعب المصري، فلابد أن يكون سنده الثقافي والفكري قوياً وعميقاً ومنيعاً. فمصر هي ليست ابنة اليوم، بل هي مهد البشرية وثقافتها وإبداعها، ولم تنقطع يوماً عن العطاء كما هو نهر النيل تماماً. وبهذا الشعور كنت أنظر إلى الثقافة المصرية، فكنت أقرأ كلّ يوم وبلهفة شديدة كلّ ما تقع عليه يدي من دراسات وروايات ودواوين شعر. وكنت كثير التردد على الجامعات المصرية وخاصة جامعة عين شمس، حيث عمل أستاذي وأحد المشرفين على أطروحة الدكتوراه وهو الأستاذ مصطفى ماهر، وكنت أتردد كذلك على الجامعة الأمريكية. واكتشفت بأن مصر لم تنجب فقط نقّاداً أدبيين على غرار محمد مندور ومصطفى سويف وشوقي ضيف وشاكر عبد الحميد وعبد المحسن طه بدر ، بل ناقدات يتمتعن بحسّ فنّي مرهف وثقافة عالية من أمثال سيزا أحمد قاسم وسامية محرز وفاطمة موسى واعتدال عثمان وفريدة النقاش وفريال غزّول وصافيناز كاظم على سبيل المثال؛ وتلك ظاهرة تكاد تكون معدومة في عالمنا العربي. ولاحظت في تلك الفترة الواقعة ما بين 1991 و1993 بأن ظاهرة التحجّب أخذت تنتشر في مصر ذات الماضي العلماني والمنفتح والرائد في ميدان تحرر المرأة العربية، وأدركت بأنّ حالة من النكوص والارتداد بدأت للأسف الشديد تجتاح مصر من الداخل. ولاحظت بروز هناك نزعة قوية للاستيلاء على النقابات المصرية واحدة تلو الأخرى مثل نقابة المهندسين والمحامين والأطباء ثم الصحفيين واتحاد الكتاب. وذكرني هذا الوضع بالخطّة التي وضعها اليسار الألمانيّ عشية الثورة الطلابية العالمية في عام 68 والتي رفعت شعار "السير عبر المؤسسات"، أي دخول مؤسسات الدولة المحظورة على اليسار عبر التنظيم والتظاهر والأشكال الأخرى للنضال السلمي. لكن الوضع في مصر كان يسير في اتجاه مختلف تماماً، فليس القوى التقدمية واليسارية التي أردات السير في اتجاه مؤسسات دولة عبر العمل الاجتماعي والنقابي، إنما القوى الرجعية "والدينية" الموجهة من الخارج أو التي وجدت صدى لدى الأجيال المحبطة بفعل الأزمات الاقتصادية والسياسية والفكرية. ومصر في حقيقة الأمر هي ليس "دولة" بالمعنى التقليدي المتعارف عليه بشكل عام، بل هي رمز ومشروع ثقافي وفكري وإبداعي وخزين للوعي العربي الشامل وصمام أمان للعرب وبلدانهم. وكم كنت أسمع – ومازلت أسمع كلاماً من قبيل أنّ مصر لا علاقة لها بالعرب وهي دولة متوسطية أو شمال أفريقية وما إلى ذلك من تخريجات وإسقاطات! كلا، بل إنّ مصر هي روح الأمة العربية وعمادها وسّر متانتها ومعينا الذي لا ينضب. وبالنتيجة فهي الأملّ الأخير لنا كلّنا، فنجاح مصر يعني نجاحنا وسقوطها يعني سقوطنا كلّنا، وفي جميع المجالات.

- ترى أن "جميع أنواع الديكتاتوريات لم تنتج أدبا حقيقيا" فكيف تقيم أدب أمريكا اللاتينية، خصوصا مشروع كتابة روايات عن الديكتاتور، الذي شارك فيه أكثر من مبدع ينتمون جميعا إلى أمريكا اللاتينية؟
بلا شكّ أنّ الأدب هو انعكاس لطبيعة المجتمع وتقاليده وآماله وطموحاته، وكلّما تكون وسائل التعبير عن هذه القضايا حرة ومتاحة للجميع يصبح الأدب أكثر صدقاً بكثير من الأدب الذي ينشأ في ظل ظروف القمع والترهيب وشراء الذمم. فالثقافة تعني تثقيف الذهن والعقل وتهذيبهما وصقلهما. ولذلك جاء الاشتقاق العربي من عبارة المثقّف، أي السيف المهّذب، وهو مصطلح أشد دقة من عبارةintellectual أي المشتغل بالذهن أو الفكر. فتخيّل الإنسان العربي بدون ثقافة؟! وهذا بحدّ ذاته رأي بديهي يمكن التوصل إليه بسهولة. لكن الخطر يكمن في اكتشاف أن الصين ذات النظام الشيوعي الشمولي لم تنجب شاعراً أو كاتباً واحداً ذا قيمة رغم أن عدد سكّانها تجاوز المليار والثلاثمئة مليون نسمة. وكان ماو تسي تونغ يقول "إن مهمة الأدب هي خدمة الجماهير والتعبير عن وجهة نظرهم" وقال لينين كلاماً مشابهاً وهو يخاطب مكسيم غوركي بعدما قرأ رواية "الأمّ": „إنني لا أفهم الكثير عن الأدب، لكن روايتك جلبت لحزبنا الشيوعي أعضاء جدداً". بيد أن السلطات الروسية أخفقت، هي وثورتها "الاشتراكية العظمى" في إنجاب شاعر أو كاتب واحد ذي قيمة، بينما كان القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حافلين بالمبدعين الروس من أمثال ليرمنوتوف وبوشكين وغوغول ودوستويفسكي وتولستوي ويسنين ومايكوفسكي وتشيخوف وتورغينيف. ونرى في كوريا الجنوبية على سبيل المثال عدداً من الكتاب والشعراء الجديدين مثل كو أون Ko Un، بينما لا نجد أديباً واحداً في كوريا الشمالية، رغم أنّ الشعب هو نفسه في الكوريتين. وفيما يتعلّق بكّتّاب أمريكا اللاتينية فأنهم ولدوا فعلاً في ظلّ حكومات ديكتاتورية وقمعية، لكن تاريخهم نفسه كان حافلاً بالتجارب الديمقراطية والعلمانية وقد عرفت تشيلي مثلاً النظام الديمقراطي قبل قرنين من الزمن. ثمّ إنّ معظم الأدباء الأمريكيين الجنوبيين أمضوا فترة طويلة من حياتهم في دول أوروبية وخاصة فرنسا ومنهم أوكتافيو باث وكارولس فوينتس وسيزر باليشو وخورخه أندريدا كاريرا، وكان شاعراً ووزيراً لخارجية الإكوادور، وبابلو نيرودا وغابرييل غارسيا ماركيز وغيرهم. ثمّ إنّ مرجعيتهم الأخلاقية والدينية تختلف تماماً عن المرجعية العربية الإسلامية. فهم كانوا قريبين من الثقافة الأوروبية التي هي ثقافتهم كذلك. وعبّر أوكتافيو باث عن هذه الهوية أبلغ تعبير في قصائده التي حاول فيها أن يخلق هوية موازية للهوية الأوروبية، لكنها خاصة بالمكسيك. نعم الديكتاتورية لا يمكن أن تصنع كاتباً أو فناناً واحداً. فانظر إلى مصائر شعراء مثل الجواهري والبياتي والسيّاب والحيدري. فهؤلاء اعتادوا على انتقاد الأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة في ظلّ الملكية العراقية .وكان الجواهري يهجو الملك العراقي شخصياً، فيعفو عنه. احترماً للأديب ومنزلته. ثم جاءت الحقبة الجمهورية فأجهزت على السيّاب وأقصت الجواهري والبياتي وهمشت الحيدري وبلغ الأمر في زمن صدّام حسين الذروة في محاربة الأدب والأدباء، فأسقطت الجنسية العراقية عن الجواهري والبياتي هكذا وبكلّ بساطة. بل إنّ الجنون وصل بالديكتاتوريين العرب إلى حدّ منافسة الكتّاب أنفسهم، فكتب القذافي قصصاً وألف صدّام حسين روايات مثلما كتب ماو تسي تونغ أشعاراً. ولحسن الحظّ لم يترك لنا لينين أو موسليني أو الجنرال فرانكو قصائد أو قصصاً.


- لم تشهد الثقافة العراقية مثل هذا النزوح شبه الجماعي خارج العراق ، هل يمكن أن نقول إن هذا الأمر رفد الإبداع العراقي بأشكال ومضامين جديدة؟
لم يكن الأمر بهذه البساطة، ولم يكن المنفى اختيارياً، بل قسرياً. وليس هناك جريمة أخطر من جريمة إبعاد الإنسان عن أهله ووطنه. وقد صاغ الشاعر الدبلوماسي الإكوادوريّ كاريرا هذا الرأي في مسودة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. فنحن أجبرنا على الخروج من العراق، ففقدنا كلّ شيء دفعة واحدة، بما في ذلك اللغة. وقد يكون نزوحنا الجماعي خطّة وضعت لنا دون أن نعلم بها مثلما وضعت الحركة الصهيونية، وبدعم مباشر من قبل بريطانيا، خطّةً تقضي بإخراج اليهود العراقيين من بلدهم، وإرسالهم إلى "دولة إسرائيل" ليتحولوا إلى أعداء لنا وللعرب وثقافتهم في المستقبل. وبالطبع أنّ الثمن الذي يدفعه الكاتب المنفي باهظاً، لأنّه مهيض الجناح ومعزول وسهل العطب والانكسار. فالمنفي العراقي لم يُحارب فقط من قبل النظام العراقي وحده، بل من قبل جميع الأنظمة العربية. وصار منبوذاً في نظرها فلا تلتفت إليه أحد أبداً. ولمست هذا الإنكار والتجني والتهميش شخصياً. وأضطر البعض لبيع ضميره لكي يبقى على قيد الحياة. فامتلئت الصحافة العربية بالمداحين والمجاملين باسم الأدب والثقافة واشترت الأنظمة العربية كل ما تحتاج إليه من سوق الأدب الكاسد. وشكا الكثير من الأدباء المنفيين من ظاهرة الإعراض هذه التي كانت تعمّق من منفاهم. لكنّ المنفى ورغم قسوته البالغة يقدم فرصاً هائلة للاطلاع على ثقافة الآخر وربّما الكتابة بلغة أجنبية عن هموم وتجارب كان سيكتب عنها المنفي بلغته الأصلية. فأنا لم أخرج في كتاباتي، حتّى باللغة الألمانية، عن العراق وقضاياه قيد أنملة. وعبّر أحد الكتاب المنفيين الألمان واسمه هانس زال عن حالة الغربة والاغتراب هذه بالقول: إن مواء القطط نفسه صار غريباً على سمعي"! والمنفى على أية حال يجعل القويّ أشد قوة والضعيف أشد ضعفاً، وأعني بذلك سلامة المبادئ والضمير الإنساني، وليس القوّة الجسمانية.

- أول رواية كتبتها بالألمانية حملت عنوانا فرعيا هو "بغداد – بيروت – برلين" كيف كانت تأثيرات هذه المدن عليك إبداعياً؟
بغداد هي مدينة عربية محض، ويكاد يكون كلّ شيء فيها عربياً أصيلاً، رغم أنها متعددة الثقافات والأديان. وبغدادنا التي تركناها كانت في طور التكوين بمفهوم الحداثة، وتقتات ثقافياً على الخزين أو المتاع القليل الذي خلّفه جيل الروّاد في مجال الأدب والفنّ والموسيقى. وهي التي شهدت نشأتنا الأوّل وتعلمنا فيها الكتابة والتفكير وشرب العرق والنبيذ ومشاهدة السينما والمسرح والجلوس في المقاهي والحانات. أمّا بيروت فكانت تجربة غنية فعلاً، وهي قناة النار، إنّ صحّ التعبير، التي يجب المرور قبل الخروج من العالم العربي إلى العالم الغربي، وهي منتصف الطريق المؤدي إلى أوروبا. وكانت تشهد آنذاك، وربما مازالت! حرباً أهلية دموية ومرعبة، وأصبحت في ذلك الزمن مركزاً لليسارين العرب كلّهم؛ فكنت ترى الكاتب المصري إلى جانب الكاتب العراقي والتونسي والسوري والفلسطيني والسعودي، قبل أن تجهز عليها إسرائيل. وبرلين هي بالنسبة خاتمة المطاف. وتناولت في روايتي هذه تجربة الوحدة الألمانية ونجاحها مقابل إخفاق الوحدة العربية وسقوط بيروت في يد الإسرائيليين وعملائهم. وبرلين مدينة أوروبية واسعة وخضراء وغنية بالثقافة حدّ الإشباع وهي منفتحة وكوزموبوليتية نوعاً ما، رغم صعوبات العيش والكتابة والنشر أو مشاكل التمييز العنصري الذي يتعرَض إليه الأجانب أحياناً.
- "عالمان متوازيان" يجيب عن أسئلة خاصة بالمنفى والهوية واللغة، هل مازلت تتأرجح بين عالمين؟
يقول الفيلسوف الألماني مارتين هايدغر إنّ الإنسان يولد بدون سبب أو غاية فيكون ملقى به في فراغ الكون ويواجه خطر الحياة والموت بمفرده. وأنا أقف إلى جانب هذه الرأي في خطوطه العريضة. والتأرجح هو جزء من البحث عن الحقيقة، فليس هنا حقائق جاهزة ومفروغ منها. والفلسفة التي تدعي بأنها عثرت على الحلّ جاهزاً قبل التفكير فهي ليس سوى هرطقة. ومن الصعب العثور على شيء قبل التفكير فيه مليّاً. والبحث عن معنى الوجود وسرّ الحياة مازال قائماً. ولم يتغيّر منذ عهد جلجامش وبحثه الحثيث عن الخلود. والكتابة هي محاولة للتخلص من العدم والدمار الروحي وانعدام الآفاق. فأنا عراقي في نهاية المطاف وأقيم في دار المنفى الآمنة والمسالمة بينما شعبي يقتل كلّ يوم وبلدي يدّمر بلا رحمة، وقد بلغ عدد العمليات الانتحارية التي نفّذت في العراق خلال السنوات العشر الأخيرة حوالي عشرة آلاف عملية انتحارية، وأكرر القول: عشرة آلاف عملية انتحارية! ولو وقع عشرها في أي بلد آخر على الكرة الأرضية لتهشّم وانتهى أمره، لكن العراق مازال قائماً، ولعلّه يستعيد عافيته ذات يوم، وربما بفضل مصر أيضاً.



#حسين_الموزاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفهوم الحرب لدى فرويد


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - حوار مع حسين الموزاني