عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4668 - 2014 / 12 / 21 - 19:13
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الهرمنيوطيقا...
دلالة المعنى في الواقع الإسلامي
من الإشكاليات التي يثيرها أحيانا المصطلح الغربي هو عدم قدرة الناقل أو المستخدم له بإيجاد البديل المعنوي المناسب والحقيقي له في اللغة العربية وهذا سبب واحد يكفي لجعل المصطلح يتلبسه الغموض وأحيانا التقزز من التسمية دون إدراك حقيقة ما فيه أو ما يرمي له , ومن هذه المصطلحات التي فشل اللسان العربي في إيجاد معنى له مصطلح الهرمنيوطيقا الذي كتب عنه الكثير وأقتحم عالم اللغة وبالذات اللغة الدينية وأبحاثها بالغموض الذي يكتنفه ودون معالجة حقيقية له .
الحقيقة التي يتناولها هذا المصطلح فهي تكيد او نفي العلاقة بين المبدع والإبداع بظاهرها الخارجي النص كونه كينونة متبدلة مرتبطة بالزمن والمكان ,ومدى قدرة النص على نقل أو كشف ذاتية المبدع من خلال ما في النص الإبداعي أو أن النص له كينونة منفصلة عن المبدع ومستقل بذاتيته الخاصة ,وعلى هذين المسارين تدور الدراسة بين منحاز للفهم الأول ومعارض له ومتمسك بالثاني((فتتحقق في كون التعبير أو الشكل الخارجي للإبداع هو في واقعه موضوع لتلك التجربة الحية للمبدع. فالتعبير عن تلك التجربة الداخلية «ليس تدفقاً عشوائيًّا للمشاعر والانفعالات بالمعنى الرومانسي، ولكنه تحديد موضوعي Objectification لعناصر هذه التجربة -التي قد تكون مختلفة ومتباعدة- في شكل موحّد. هذا التحديد الموضوعي للتجربة هو ما يؤسس -عنده- موضوعية العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويتباعد بها عن الذاتية التي يتهمها بها الوضعيون)).
في الجانب الأخر مثلا الذي يرى بالنص كائن مستقل بذاتيته لا ينتمي للمبدع إلا بالولادة فهو ليس بالضرورة كاشف للقصدية ولا معبر عن الذاتية للمبدع ((الفنان أو الذات المبدعة في الواقع ليس لها إبداعٌ حقيقي بمعنى أنها ليست المنتجة أو المولدة لتلك المعرفة، وإنما منفعلة بتلك الحقيقة الوجودية، كأنما الأمر أشبه بنظرية الكسب الأشعرية التي تجعل الإنسان منفعلاً دائماً، فهو كالظرف الذي يكتسب المعرفة اكتساباً من غير أن يكون فاعلاً فيها. وإذا ثبت ذلك لا يكون هناك أي نوع من أنواع الربط التي تربط العمل الفني بمبدعه، وبمعنى آخر هو تأسيس خفي لنظرية موت المؤلف التي عمل عليها رولان بارت، طالما أصبح الفنان هو الوسيط الذي يتكلم من خلاله الوجود. «إن العالم في نظر هيدغر، هو الذي يتكشف للفنان ويمكّنه من أن يعطيه وجهاً ثابتاً يستقيم في العمل الإبداعي)) .
هنا من الصعوبة على الباحث أن يفصل أو يتجاوز حقيقة أن النص الديني هو كلام الله سواء أكان فعلا أصليا مخلوقا منه ومعبرا فيه عن ذاتيته الموضوعية أو كما يقول عبد الكريم سروش هو المعنى القصدي لله والشكل الخارجي الذي هو اللغة من أبداع الرسول , أي أن هناك عالمان متداخلان نقلا النص الله , الرسول عالم , والقاري والمطبق عالم ثان , الإشكالية هنا عي كيفية الفصل بين مبدعين الله والرسول عن موضوعية النص , أو أن النص يحمل ذاتية الله بأعتبار أن الكرم والقصد له أو أنه يحمل ذاتية الرسول بأعتباره الناقل الذي جسد النص وأوصله .
وهنا أيضا تصبح دلالة الهرمنيوطيقا في الواقع الإسلامي التي نعتني بها، ذات دلالة خاصة لا نبحث عنها في الموروث الثقافي والفكري لدى المسلمين، وإنما نبحث عن القواسم المشتركة بين دلالة الهرمنيوطيقا في نسختها الأصلية أي في العلاقة بين النص وما قبله وليس ما بين النص وبعده ، في محاولة إيجاد صور ونمطيات منسقة ومقوننه جديدة لفهم النص القرآني دون الألتفات لتفريق بين الذاتي والموضوعي، وحينها نكتشف التلاقي بينهما.
مثلا عندما نبحث عن دلالة الهرمنيوطيقا في الواقع الإسلامي نبحث عنها في بعض الكتابات التي اهتمت بهذا الشأن مثل نصر حامد أبو زيد عندما يتحدّث عن طبيعة فهم النص القرآني يقول: «إن القرآن نص ديني ثابت من حيث منطوقه، لكنه من حيث يتعرض له العقل الإنساني ويصبح مفهوماً يفقد صفة الثبات، إنه يتحرّك وتتعدّد دلالته. إن الثبات من صفات المطلق المقدس، أما الإنساني فهو نسبي متغيّر، والقرآن نص مقدس من ناحية منطوقه، لكنه يصبح مفهوماً بالنسبي والمتغيّر، أي من جهة الإنسان ويتحوّل إلى نص إنساني (يتأنسن) هنا يقر ابو زيد بالأعتباطية التي شخصها النيلي بل ويؤكد على الجانب الذاتي المتحول والمناقض لثبوتية القصد مع بقاء النص هو من غير تغيير .
النسبية إذا وليدة التغير الفهمي المرتبط بعوامل ذات القارئ , الزمن , المكان , التطور العقلي والمعرفي , هذه العوامل يجب أن تكون عامل مساعد في تثبيت نصية الكون وتسخيرها لصالح النص وليس لتجاوزه ,الزمن لم يناقض النص ولم يغير في بنائيته, المتغير هي الوقائع الأرضية التي يشير لها النص بحكم عام ,مثلا السرقة تطورت كمفهوم وممارسة وكظاهرة على مر العصور حتى تجاوزت في أحيان كثيرة مفهوم إخراج المال المعصوم بالملكية من الأخر بدون رضاه لكنها بقيت بإطارها في العلاقة الثلاثية مالك وسارق وعلاقة غير مبررة .
التأكيد على نقطة مهمة وجديرة بالنظر العقلي والتنظير الفلسفي هي التفريق بين حالية النص كونه تنزيل له خصوصية ذاتية مرتبطة بالقداسة والغيب وهذا أمر متعلق قبلا بالإيمان به وبين النص مؤولا يملك القدرة على التحرك في ساحة الواقع , بين هذا الحال وبين الأخر مسافة لا بد من مراعاة هذا التحول وفهمه أولا قبل المباشرة بكشف مناهج التأويل .
أن حالة النص الخام المقدس حالة ميتافيزيقية بالطبع وهذا ليس أفتراء على النص ولا قدحا بمعصوميته طالما أننا على أحد طرفي نقيض مؤمن بها أو غير مؤمن, لا ندري عنها شيئاً إلَّا ما ذكره النص عنها ونفهمه بالضرورة من زاوية الإنسان بمعيار المتغير والثابت والنسبي ، النص منذ لحظة نزوله الأولى أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي تحوّل من كونه نصَّا إلهيًّا غيبيا وصار فهماً (نصًّا إنسانيًّا) حضوري له أمتداد واقعي في شخصية الرسول وهذا لا يعني أن الرسول لم ولن يترك أثر على النص حسي أو معنوي ولا يعني أن الرسول مجرد ساعي بريد , لقد رافق نزول النص الكثير من المؤثرات الحسية على الرسول صدرت منه وبانت على ملامحه كما يروي التاريخ , هذه المتغيرات الحسية تكشف تأثر الرسول بالنص وتأثيره عليه .
كما أن هذا التحول ليس تلقائيا بمجرد النزول بل لا بد من مرحلة بينية بين التنزيل والتأويل , حتى يتم التدخل البشري من خلال الرسول يتحول الفهم وليس النص ,الأثر الخارجي للنص من مقصد موضوعي مستقل إلى فهم إنساني وهذا هو الواجب التفريق بينه وبين من يدع تحوّل النص من التنزيل إلى التأويل ليجعل من القرآن نصًّا إنسانيًّا يمثل الخطوة الأولى لجعله نصًّا قابلاً لتطبيق الهرمنيوطيقا الفلسفية التي تعطي المؤوِّل وما يحمله من أفق الحق في فهم النص.
ومن هنا يقول أبو زيد((ما دام التأويل فاعلية ذهنية استنباطية فمن البديهي أن يكون للذات العارفة دور لا يصح إنكاره أو تجاهله ))وبهذا تصبح معالم تأويلية غادامير واضحة، وخاصة عندما يتحدّث عن أفق المؤوِّل وما يضيفه لفهم النص بشكل مباشر عندما يقول((إذ يتدخّل أفق القارئ الفكري والثقافي في فهم لغة النص، ومن ثم في إنتاج دلالته)) وهذا عين ما يقصده النص مثلا في مسألة الإعداد "البعث" وقبلها الأصطفاء والأجتباء من تكوين هذا الأفق القادر على فهم النص وتأويلة ومن هنا يمكننا أن نفهم تفريق القرآن بين الفهم والتأويل الوارد في آية الراسخون.
ولا يبقى شيء من فلسفة غادامير التأويلية إلَّا القول بأن الفهم ليس حقيقة موجودة في الماضي نبحث عنها هذا القول يخرج النص من تأريخيته إلى عالم الزمن عالم اللحظة المحكومة بذات الكونية التي فيه ليكون معبرا عن موضوعيته الذاتية خارج حد الزمان والمكان ، وإنما كذلك يعني جعل النص في مدلوله حاضراً ومعاصراً كونيا قادرا على الاستجابة بذات القدر حين كان نصا تنزيليا فقط، وهذا ما يريده أبو زيد أيضاً بقوله: «فمن الطبيعي، بل من الضروري، أن يعاد فهم النصوص وتأويلها بنفي المفاهيم التاريخية الاجتماعية الأصلية وإحلال المفاهيم المعاصرة، والأكثر إنسانية وتقدماً» ,لقد أتاح هذا الفهم جزء من نظرية القصد الموضوعي في تناول حقيقة النص القرآني ليس لكونه نصا لاهوتيا غيبيا ميتافيزيقيا ولكن من كونه نصا حيويا متفاعل مع كونيته ومنسجم مع روحها الأبدية .
نعود للمصطلح الذي فشل الفكر الديني واللغوي العربي في استيعاب محدد وواضح عله على قاعدة أن الواضح البين يكون عامل مساعد للكشف عن الغموض الذي نبحث في دلالاته بأستخدام هذا المحدد , أي أن فهمنا التام والواضح لمصطلح الهرمنيوطيقا بالشكل الذي لا لبس فيه يمكن أن يصل بنا للهدف المرجة بطريق أسرع وأوضح وطالما أننا للآن لم نصل إلى مشترك فهمي محدد له وندور حول المفاهيم المتعارضة والمتعددة له تبعا للمدارس البحثية لا يمكننا أن نصل إلى نتيجة واضحة هي الأخرى نستفيد منها في درسنا ودراستنا للنص الديني .
مثلا ننقل نصا يكشف لنا جزء من الخلاف المحتدم حول المصطلح وحول أسسه التكوينية وحتى في أوجهه التعريفية لنلاحظ مدى تخبط العقل العربي الذي لم يعيش هذا الهاجس ولم يكن أصلا جزءا منه ((مع هيدغر (1889-1976 ) في مؤلفه "الوجود و الزمان " انتقل البحث الهرمنيوطيقي من المجال الابستمولوجي الى المجال الانطولوجي ، الانتقال من البحث عن منهج للفهم إلى البحث عن معنى الفهم و حقيقته متأثرا بمبدأ "دلتاي " فهم الحياة من خلال الحياة ذاتها ، و معتمدا على المنهج الفينومينولوجي " لهوسرل " الداعي إلى العودة للأشياء في ذاتها ( تجاوز التصورات الميتافيزيقية ) إذ اعتبر هيدغر أن الوجود كما يكشف عن نفسه في الخبرة المعاشة هو السجين المحجوب الذي يجب إطلاق سراحه ، و الفهم عنده هو قدرة المرء على إدراك ممكنات وجوده ضمن سياق العالم الحياتي الذي وجد فيه ، فالفهم ليس موهة خاصة أو قدرة معينة على الشعور بموقف شخص آخر . " إن الفهم ليس شيئا نمتلكه ، بل هو شيء نكونه ، الفهم شكل من أشكال الوجود في العالم ( الدازاين ) " و الفهم أساس اللغة و التأويل هو إظهار الفهم و التصريح به ، و من هنا فالهرمنيوطيقا تأخذ بعدا انطولوجيا)) .
في هذا العرض المحدود نكتشف ضمنا منهج مقارب لطرح النيلي في الموضوعي والذاتي وفي نظرية القصد والأعتباط في اللغة وخاصة ما يقارب به فكرة هيدغر التي تنقل العبء البحثي من محاولة فهم النص إلى البحث عن كيفية الفهم , هنا محاولة علمية جادة تنقلنا من البحث عن النتائج إلى عملية تطوير الوسائل والمناهج التي توصلنا للنتائج , المحاولة تقوم على البحث عن إعادة أنتاج طريقة الفهم من خلال ضبط القوانين والمؤديات بطرائق علمية , يعني ليس المهم أن نصل لنتيجة نفترض أنها مهمة بل المهم أن نبحث في أصول طرائق الوصول لأتم وأصح النتائج .
علينا إخراج الفكرة التي يحتويها النص وتحريرها من البناء اللفظي حتى تكون قادرة على التحرك بحرية في فضاء الفهم وهنا يكون دور العقل الناشط المتسلح بمناهج علمية وأصولية صحيحة ليلتقط الفكرة كما هي كما كانت حين التنزيل بعيدا عن المحابس المتعددة حبس النص وحبس عقل القارئ ثم عقل المفسر وعقل الناقل وووو الكثير من السجون الني تحبس الروح الحقيقية في النص, لنصل إلى النتيجة النهائية هي تكوين الفهم وفق قاعدة نكونها نحن وليس نكتشفها تبعا للميزان الذي رافق النص وترافق معه تنزيلا وليس تأويل النص من خارجهما أي خارج النص والميزان .
لو نجحنا هنا في تطبيق المراد الهرمنيوطيقي بالشكل الذي طرحه هيدغر ولو بما يتناسب مع خاصية النص الديني الإسلامي مع ملاحظة أن التطبيق لا يعني بالضرورة التقيد المطلق والتام بالتجربة الهيدغرية لكن علينا أن لا نبتعد عن روحية الفكرة وهدفها ومنطقها ومحاولة التجريب الإنسانوني وليس المادي الحسي فقط ,أي يتحول العقل الذي يقرأ ويجرب من ذاتيته المحلية بوسائل خارجية إلى قارئ إنساني بوسائل عابرة للخصيصة الفردية لكنها مرتبطة بالموضوع ببعده الكوني فقط .
أظن أن مجرد المحاولة والتفكير بها تضعنا على أعتاب طريق حقيقي يفتح الأبواب الجادة والمثمرة التي تقودها للخلاص من الأسر الذاتي الذي عرقل الكشف عن فهمنا ومنهجيته الحقيقية ليس لحصد النتائج المعنوية من النص بل تعميق عملية الفهم وتجذريها وربطها بسلسة من المقدمات والمعطيات التي تجعل العقل العربي والمسلح متسلح بحتمية الوصول للقدر الأكبر من القصدية في النص كما نزلت وكما فهمها الرسول وكما أراد الله لها أن تكون وهذا يعد فتحا حقيقيا يخرج الدين من وصاية العقل الفردي إلى رحاب العقل الكوني الذي خاطبة الله بقوله { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } ص: 133
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟