دراسة فى تأريخ رفعت السعيد
فى عام 1965 قررت أكبر منظمتين ماركسيتين مصريتين حل نفسيهما تأييدا للنظام الناصرى على أساس أنه نظام وطنى تقدمى ، مع إبداء الرغبة فى اندماج أعضائهما فى مؤسساته المختلفة كأفراد. وفى عام 1967 جر ذلك النظام - الذى ضحت الحركة من أجله بوجودها المستقل - "الوطن" إلى هزيمة مروعة .. كان أخطر ما فيها ظهور تخلخل النظام وفساده من الداخل برغم قبضته الحديدية على السكان .. حيث لم يبد الجيش المتخم بالامتيازات أى مقاومة . ومع إعادة تشكل المنظمات الماركسية فى السبعينات أصبحت "وصمة" الحل مجالا للأخذ والرد والاتهام والدفاع بهدف إدانة "الحركة الماركسية الثانية" - التى تمتد من الأربعينات إلى قرارى الحل - والهجوم على المنظمة الماركسية التى تشكلت عام 1975 (الحزب الشيوعى المصرى) بقيادة جانب من الحرس القديم للحركة الثانية .. أو الدفاع عنها وعن تاريخها .
فى إطار هذه المعركة الأيديولوجية ، وفى مواجهة تطورات عهد السادات ، تفجرت مرة أخرى مشكلة هذه العلاقة الإشكالية بين الماركسية المصرية والناصرية ، وصدرت مذكرات الماركسيين المريرة اللهجة عن التعذيب البشع فى المعتقلات الناصرية .. وعن الحيرة التى أصابت المعتقلين وهم يتلقون التعذيب من نظام يؤيدونه .. بل ويرغبون فى التضحية بأنفسهم من أجله إذا دعت الحاجة . وبرغم مرور العقود على ذلك الموقف الملتبس والمؤلم والغريب لم يتوصل الحرس القديم إلى تقديم أى تفسير مقنع لما حدث له .. ويمكن القول عموما أن الماركسية المصرية فى مجملها لم تتجاوز حتى الآن أفق الناصرية .. ولم تزدها الحقائق التى تكشفت فى خضم السقوط المروع للاتحاد السوفيتى وحلف وارسو إلا تخبطا .
فى هذا الإطار قرر رفعت السعيد ، بخلاف بقية رجال "الحركة الثانية" ، ألا يكتفى بكتابة مذكراته ، ولكن أن يقدم تاريخ الماركسية المصرية كملحمة طويلة ممتدة منذ بداية القرن عبر مجموعة من الكتب التى أصبحت مصدرا لا غنى عنه لأى باحث فى تاريخ الحركة الماركسية المصرية - خصوصا فى "مرحلتها" الثانية - لكثافة ما أورده من وثائق ونصوص وشهادات غير متاحة عمليا بوسيلة أخرى.
وبرغم أن رفعت السعيد كتب تاريخا وليس شهادة ، فإن هذا المقال - مقتفيا العديد من الدراسات التاريخية - يتعامل مع كتاباته كشهادة فى المحل الأول .. أو كتقرير أو ملف ضخم موثق. ذلك أن كتابات رفعت السعيد عن "الحركة الثانية" تفتقر إلى مقومات أساسية إذا حاولنا تقييمها كعمل علمى . وليس المقصود هنا مجرد الانحياز الواضح الصريح .. بل الاعتماد المطلق على وثائق الحركة ذاتها وشهادات رجالها فى كتابة هذا التاريخ ، الأمر الذى يضخم كثيرا من دور الحركة لتملأ مجمل الشاشة - إن جاز التعبير . والأهم أنه بذلك يعجز عن تحديد وضع الحركة الماركسية بين التيارات السياسية المختلفة فى مصر والتفاعل معها .. فلم يرد بهذا الشأن إلا ما جاء فى وثائق الحركة ذاتها بشأن هذه التيارات لتبرير التحالف أو عدم التحالف معها .. فأصبحت الحركة وكأنها تهيم فى فضاء سياسى وأيديولوجى مبهم مجهول .
ومن جهة أخرى افتقر العمل لأساس منهجى .. وبالتالى للقدرة على تناول موضوعه تحليليا . واكتفاء بالخطوط العريضة نلاحظ أن أيديولوجية الحركة ومختلف منظماتها لم يتناولها السعيد بالتحليل ، اكتفاء بما تورده الوثائق .. التى جاء التعليق عليها بنفس لهجتها ومفاهيمها تقريبا . فلم يقم السعيد بأى محاولة لاستكشاف جذور هذه الأيديولوجيا أو تأثرها بغيرها أو التوصل لأى منعطفات مرت بها . أما العلاقة بين المنظمات الماركسية المختلفة وصراعاتها فلم تنل إلا أقل اهتمام .. عدا الوثائق الرسمية لعمليات التوحيد التى تمت والأسباب المعلنة لبعض الانشقاقات .. وبالتالى لم تحظ طبيعة الخلافات بين المنظمات وأسبابها وجذورها - أو ما يعرف بمشكلة تشرذم الحركة الماركسية - بأى تحليل جدى .. ومهما أمعن القارئ النظر لن يتوصل إلى فهم أسباب اتخاذ المنظمات المختلفة لسياسات مختلفة، ولماذا نجحت فى كذا أو فشلت فى كذا . وعلى سبيل المثال يقول السعيد أن : "المنظمات الأخرى جميعا [عدا حدتو] تختلف فيما بينها كثيرا أو قليلا ولكنها تتفق وبشكل كامل على شىء وحيد هو العداء لحدتو عداء تشوبه الحدة واللا منطق فى كثير من الأحيان" () . فبصرف النظر عن "مركزية الذات الحدتوية" البارزة هنا فإن رفعت السعيد لا يهتم قليلا أو كثيرا بتعليل هذا العداء ، واختار بالمقابل أن يبرزه كنوع غريب من العداء يشبه عداء "الأغيار" لشعب اللـه المختار فى العقيدة اليهودية !! ناهيك عن أنه تجاهل أصلا عداء هؤلاء "الأغيار" لبعضهم البعض .. ولم يسع لتقديم رؤاهم المختلفة عن بعضهم البعض وعن حدتو والتى برروا بها وجود كل منهم المستقل .
وبصرف النظر عن مسألة انحياز السعيد لحدتو فى تأريخه ، وهو ما سنعود له لاحقا ، فإن المشكلة الأساسية فى تأريخ السعيد للحركة تتلخص فى أنه عجز عن الاحتفاظ بمسافة عقلية من الحركة تسمح له بقدر من الرؤية المنهجية .. فهو يكتب تاريخ الحركة مشبعا بروحها ورؤيتها ومصطلحاتها .. فلا يكاد المرء يجد فارقا بين ما يقوله المؤرخ وما تقوله الوثائق أسلوبا واتجاها ورؤية. لقد أراد رفعت السعيد أن "يحفر فى صخر الحقيقة" - على حد تعبيره .. غير أن المرء لكى يحقق ذلك لابد أن يستعين بأدوات الحفر والنقد .. ولا بد له من لغة شارحة ومفاهيم يعيد بها تفسير النصوص والشهادات ويمنح سياقها معنى . أما رفعت السعيد فقد اختار أن يقدم كتاباته عن تاريخ الحركة كـ "مجرد فرض وضريبة تقدم فى خشوع وتواضع لمن يستحقها" () - يقصد مناضلى الحركة - ولم يستخدم فى الأغلب الأعم من الأدوات سوى أدوات التخطئة والتصويب .. وهى آليات أصلح للصراع السياسى منها للبحث أو "الحفر فى صخر الحقيقة" . وما أبعد الفارق بين تقاليد البحث العلمى التى تقوم على الشك المنهجى وبين طقوس تقديم القرابين فى الهياكل المقدسة . غير أن الذى يهمنا هنا هو أن هذا الموقف الطقسى الذى يعتمده رفعت السعيد هو الذى يفسر إلى حد كبير ما أشرنا إليه من اعتماده على مصادر معينة دون غيرها ، وغياب المنهج فى كتابيه محل النقد .
وتفترض هذه الورقة أن مشكلات رفعت السعيد فى التأريخ للحركة الماركسية الثانية التى عاصرها وشارك فيها هى ذاتها مشكلات هذه الحركة مع الناصرية . فكما عجز السعيد عن الاحتفاظ بمسافة من موضوعه تسمح له برؤية نقدية وموضوعية ، عجزت الحركة - حتى الآن - عن الاحتفاظ بمسافة من الناصرية تسمح لها بوجود مستقل حقيقى . وتحاول الورقة أن تُرجع كلتا الظاهرتين إلى جذر مشترك ، هو طبيعة الحركة الماركسية المصرية الثانية وأيديولوجيتها .. وتقدم بشأنها تصورا أوليا . ومبدئيا تفترض الورقة أن تجاوز الناصرية أصبح شرطا لأى تقدم حقيقى يتجاوز مشكلات الحركة الثانية ويسمح بتقييمها فى ذات الوقت ، ويتجاوز تجاوزا حقيقيا واقعة "الحل" الشهيرة ، تجاوزا نقديا يتعدى مسألة إدانتها أو تبريرها . ومن هنا تجمع الورقة بين هدفيها : تقديم تحليل أولى لمسار اليسار الماركسى فى ظل الناصرية ، باعتبار أن هذه الفترة تمثل ذروة هذه الحركة ونهايتها معا .. ونقد كتابى رفعت السعيد عنهما .
غير أن الورقة تدين بالفضل فى المقام الأول لكتابى رفعت السعيد هذين .. فبغير ما ورد بهما من نصوص وشهادات ، وتعليقات المؤلف نفسه ، والخريطة التى رسمها للحركة ومنظماتها - برغم كل عيوبها - ما كانت مثل هذه المحاولة ممكنة .
ثمة إيضاحات ضرورية لا بد من تناولها قبل الدخول فى الموضوع ذاته :
أولا : تتبنى هذه الورقة مصطلح اليسار الماركسى أو الحركة الماركسية بدلا من مصطلحى المنظمات اليسارية والحركة الشيوعية اللذان يستخدمهما رفعت السعيد . فاليسار مصطلح أوسع من هذه الحركة بجميع فصائلها .. فضلا عن غموضه . أما الشيوعية ، فبرغم أنها كانت الهدف النهائى فى عقيدة الحركة وكوادرها ، فإن نضالاتها وبرامجها ومجمل سلوكها السياسى كان يدور - على نحو ما سيتضح - حول أهداف وطنية أولا وأخيرا . لا شك أن الحلم الشيوعى كان كامنا فى قلوب الكثير من مناضلى الحركة .. والمثقفين منهم بالذات .. غير أن هذا الحلم قد تُرجم عمليا إلى خطة تدور حول القضية الوطنية فى ارتباطها بمواجهة الاستعمار والتحالف مع المعسكر الشرقى .. وقد اختارت الورقة أن تتناول الحركة من واقع مواقفها العملية وليس وفقا لقناعاتها عن طبيعتها ودورها، وهو ما يسمح بدراسة موضوعية إلى هذا الحد أو ذاك .. فى حين أن تناولها بالدراسة انطلاقا من قناعاتها لا يمكن أن يؤدى إلا إلى أحكام قيمية من قبيل الإدانة والتمجيد . وترى الورقة أن مصطلح الحركة الماركسية يعبر بدقة عن تميز هذه المنظمات عن مجمل اليسار .. فقد تبنت هذه النظرية واستخدمتها فى تبرير مختلف منعطفاتها السياسية وفى تجنيد الكوادر وإدارة صراعاتها مع بعضها البعض. ولا محل هنا للقول - من جانب البعض - بأن هذه الماركسية التى تبنتها الحركة كانت تحريفية أو يمينية أو لا تتفق مع النصوص الأصلية ... الخ . فالواقع التاريخى يثبت تعدد الطبعات النظرية والسياسية للماركسية فى جميع أنحاء العالم . فإذا لم يكن المرء دوجمائيا تماما ، يدافع عن شىء أصولى يسمى "الماركسية الصحيحة" أو تفسير معين "لكتب مقدسة" يكفِّر الآخرين على أساسه .. سيكون عليه أن يسلم بماركسية الحركة بمعنى ما من المعانى . وكفى الفصائل الماركسية ما عانته من نزاع لا ينتهى حول احتكار حيازة هذا الصنم الوهمى المسمى "الماركسية الصحيحة" .
ثانيا : تنطلق هذه الورقة من افتراض أساسى يقول بأن الحركة الماركسية الثانية حركة وطنية تتميز عن بقية الحركات الوطنية المصرية بطابعها الشعبوى والعلمانى . ونعنى بالطابع الشعبوى الاعتماد على الحشد الجماهيرى الاحتجاجى والتكتيكات الكفاحية الجماهيرية . كما نعنى بطابعها العلمانى تصديها لقضية العلمانية واعتمادها على مرجعية علمانية بحتة فى حركتهاالسياسية حتى وهى تتكلم أحيانا عن "اشتراكية الإسلام" .. وهى مرجعية مخالفة للمرجعية الدينية التى استندت إليها فصائل الحركة الوطنية الأخرى بدرجة أو بأخرى . كما تفترض أن هذه الأيديولوجيا الوطنية هى التى منحت ماركسية الحركة طابعها الخاص . والأهم من ذلك أنها تفترض أن كلا من أيديولوجيتها ونظريتها ومواقفها يجعل تصنيفها المنطقى يدرجها فى إطار حركة الإنتليجنسيا المصرية ، لا الطبقة العاملة العالمية أو المصرية .
ويهمنى فى هذا المقام أن أوضح أن هذه الفرضية المتشعبة التى ستحاول الورقة أن تقدم ملامحها وتبرهن عليها جزئيا لا تأتى على سبيل القدح أو الذم .. ولا فى إطار المعارك المعتادة حول الانحراف والخيانة والعمالة ... الخ . وبصفة خاصة فإن مصطلح الخيانة لا محل له فى أى عمل علمى أو أى عمل متعلق بالفهم والتفسير عموما .. فالخيانة كما قال أحد وزراء لويس الرابع عشر "مسألة تاريخ". والخديوى توفيق ذاته لم يخن أى شىء سوى مجموعة من الافتراضات عما يجب أن يكون عليه موقفه لا تنهض على أى أساس واقعى بالنظر إلى الموقع السياسى والاجتماعى للسراى ومصالحها .. ففكرة الخيانة هنا تنطلق من الأيديولوجيا الوطنية وتستخدم لإنتاج وإعادة إنتاج هذه الأيديولوجيا . وإذا كان منهج التخطئة والتصويب يفلح فى إدارة المعارك السياسية وتثبيت رايات الأيديولوجيا ولو على نحو دوجمائى فإنه فى مجال العلم يسد مرة وإلى الأبد أى محاولة للفهم أو التفسير .. فليس بعد الحكم القيمى قول .
أيضا لعله من الضرورى أن أنفى أن هذه الورقة ترمى إلى إقامة فواصل مانعة بين الحركتين الماركسيتين الثانية والثالثة - كما رأى البعض . فما من مبرر يذكر لاعتبار الحركة الثالثة حركة عمالية أو شيوعية بأى وجه .. بل لعلها - كما جاء فى مقال آخر فى هذا الكتاب () - كانت فى المحل الأول والأخير حركة طلابية، افتقرت حتى إلى الظهير العمالى الملموس الذى تمتعت به الحركة الثانية . بل ويبدو أن الحركة الثالثة لم تكن من الناحيتين السياسية والأيديولوجية أكثر من امتداد متأخر للحركة الثانية .. وقع على عاتقها دخول معارك المؤخرة . وإذا كانت هذه الورقة تقيم ضمنا أى فاصل على الإطلاق فإنما يكون ذلك بين الحركتين الأولى والثانية .. فالحركة الأولى (حزب العشرينات) لم تكن معنية فى المقام الأول بشئون التمصير والقضية الوطنية وكان اتجاهها عموما أكثر أممية وعمالية .. بشكل يتجاوز فيما أظن الواقع السياسى العريض لمصر فى مجموعه فى تلك الحقبة . وإذا كان ثمة إنجاز بارز للحركة الثانية فهو صياغتها للطبعة الوطنية المصرية من الماركسية .. الأمر الذى أتاح لها أن تلعب دورا مهما فى التاريخ السياسى والأيديولوجى المصرى لم تحققه الحركة الأولى . وإذا كانت الحركة قد ربطت مصيرها بالناصرية من جراء هذه الأيديولوجيا - على نحو ما سنرى - وانحدرت معها .. فهذا لا يعنى تخطئة توجهها الأساسى هذا فى زمنها - بالرغم من مشكلاته الكثيرة . فهنا يجب أن نأخذ فى الاعتبار أن هيمنة هذا الطابع الوطنى وعدم تحديه من جانب أى قوة ماركسية فعالة مسألة تحتاج للتفسير .. لا للإدانة .
وثالثا : فإن هذه الورقة لن تستطيع وحدها التغلب على الآثار التى خلفتها انحيازات رفعت السعيد لمنظمة "حدتو" ولتيار كورييل فى قلبها .. فهذا يحتاج إلى ما لا يقل عن إعادة كتابة تاريخ الحركة اعتمادا على الوثائق الأصلية بطريقة أقرب إلى الشمول . والواقع - لنفرغ سريعا من هذه المسألة - أن رفعت السعيد لا يكاد يبذل جهدا يذكر لإخفاء انحيازاته .. فيكفى أن يقارن المرء بين كم الصفحات التى خصصها لحدتو بالمقارنة بالمنظمات الكبرى الأخرى (الراية وطليعة العمال) .. ويكفى أى تصفح سريع ليصطدم المرء بنبرات الاحتفاء والتمجيد والإعجاب الحماسية فيما يتعلق بحدتو .. احتفاء بنشاطات المنظمة ورؤيتها وأخلاقياتها ومبادئها ومواقفها ، لا يكاد يخفف منه إلا انتقاد منقطع متباعد ، ينصب أساسا - وإن كان يشمل أشياء أخرى - على خضوع حدتو لرؤى المنظمات الأخرى فى بعض المنعطفات الصعبة ، وهو انتقاد كما ترى من شأنه أن يؤكد التمجيد . أما الاعتراف المتحفظ ببعض مزايا وإنجازات المنظمات الأخرى فيغرق فى بحر اللوم .. والأهم من ذلك أن هذه المزايا والإنجازات تقف بلا تفسير، بل ويجعل السياق العام القارئ عاجزا عن فهم كيفية تحقيقها . وعلى سبيل المثال فإن الصورة التى يقدمها السعيد لمنظمة الراية تصيب المرء باندهاش كبير إزاء ما يورده السعيد عن نمو هذه المنظمة كميا بشكل قارب نمو حدتو نفسها . كذلك فإن السعيد لم يكلف نفسه عناء الترفع عن تصفية حسابات معاصرة لوقت كتابته لتاريخ الحركة ، فأعمل قلم الازدراء فى تناول انقسام "وحدة الشيوعيين" () الصغير بقيادة إبراهيم فتحى وآخرين .
غير أن الأخطر من كل ذلك أن السعيد أعمل آليات التخطئة والتصويب فى كتابته عن المنظمات الأخرى مستخدما مفاهيم حدتو وخطها السياسى معيارا عاما .. الأمر الذى جعله يفشل فى فهم منطقها الداخلى الذى يدفعها للاختلاف مع حدتو . وعلى سبيل المثال يلوم السعيد طليعة العمال لعودتها للتحالف مع الوفد بعد انقلاب 1952 ، مع أنها سبق أن اتهمته بخيانة القضية الوطنية () . وبصرف النظر عن أن مثل هذه التذبذبات لم تخل منها أية منظمة فإن السعيد يَغفل تماما عن اتساق هذا الموقف مع التحليل الذى تبنته تلك المنظمة للنظام آنذاك .. إذ اعتبرته نظاما فاشيا . أيضا .. يدين السعيد الماركسيين غير الحدتويين للجوئهم فى التحقيقات التى أعقبت اعتقالات 1959 إلى الكذب على المحققين وتضليلهم ، مشيدا بالمقابل بمواقف كوادر حدتو الذين أعلنوا انتماءاتهم وعقيدتهم ورأيهم السياسى () ، متجاهلا الاختلاف الأساسى بين موقف هؤلاء الماركسيين من النظام وموقف حدتو التى كانت تثق فى النظام وتسعى لإقناعه بالتحالف معها .. غير أنه اختار الإدانة الأخلاقية بدلا من الفهم .
وجدير بالذكر هنا أن السعيد لم يطرح على نفسه أصلا مهمة التفسير .. ولا أدل على ذلك من الكيفية التى طرح بها انتقاداته القليلة التى أوردها بشأن حدتو .. منظمته الأثيرة . فبرغم انتقاده المتكرر للفكرة التى شاعت بين كوادرها ، والتى تعزو قمع النظام الناصرى للحركة إلى وجود جناح أو مؤسسات رجعية داخل نظام تقدمى () ، فإنه لم يتطوع بتقديم أى تفسير لشيوع هذه الفكرة .. كما لو كانت محض خطأ ناجم عن غباء أو نقص ذهنى فى القائلين به . والاستثناء الوحيد البارز من هذه القاعدة هو مناقشته لأسباب إقدام أكبر منظمتين ماركسيتين على حل نفسيهما طوعا . ولكن حتى هنا يقع السعيد فى مشكلة أخرى .. حيث ينبرى ليؤكد أن الحل كان خطأ ، دون أن يكلف نفسه بشرح الأسباب التى بنى عليها هذا التأكيد .. كما لو كنا أمام خطأ أخلاقى واضح بذاته() . كذلك فإن المبررات الكثيرة أو الدوافع التى ساقها لاتخاذ قرار الحل لم تدفعه إلى إعادة النظر فى رؤية الحركة لنفسها بوصفها طليعة عمالية .. غير أن هذا يحتاج بالطبع إلى منظور آخر ما كان ليتوفر له فى ضوء خياراته .
وكان من أثر اجتماع الانحياز الكمى والكيفى إلى حدتو أن أضرت آلية التخطئة والتصويب بالصورة التى يقدمها السعيد - كمؤرخ فيما يُفترض - للمنظمات الأخرى ، فأتت مشوشة تحمل لمحات أكثر مما تقدم صورة مفهومة لها . وكان من الآثار الجانبية لهذا الوضع أن اضطر هذا المقال إلى الاعتماد أساسا على ما ورد فى كتابىّ السعيد عن حدتو فى استكشاف أيديولوجية الحركة ونظريتها والتعامل بحذر بقدر الإمكان عند تعميم النتائج .
وفى ضوء هذه التحفظات يتعامل المقال مع كتابىّ رفعت السعيد كملف وثائقى ضخم وغنى .. ولكنه محدود الدلالة فى فهم منطق حركة منظمات عديدة بسبب احتلال حدتو للصدارة فى الكم قبل كل شىء آخر.
وسوف تحاول هذه الورقة فيما تبقى أن تطرح محاولة أولية لإعادة فهم تاريخ الحركة الماركسية الثانية انطلاقا من تحليل قصتها مع الناصرية .. وتتناولها فى ثلاث لحظات : الأيديولوجيا - النظرية - التكوين
إذا أردنا أن نلخص موقف الحركة الماركسية المصرية من الناصرية فى قضية واحدة فسوف تكون بلا شك قضية وطنية النظام من عدمها .. فقد دارت معظم الصراعات بين المنظمات فى هذه الفترة حول ما إذا كان النظام الناصرى برجوازيا كبيرا (أو فاشيا) متواطئا مع القوى الاستعمارية ، أو نظاما وطنيا معاديا للاستعمار . وقد انتهى الصراع الأساسى حول هذه المسألة باتفاق الجميع على وطنية النظام عام 1957 ، فكان ذلك مقدمة منطقية للوحدة الكبرى بينها عام 1958 ومقدمة مبكرة للحل . ويلخص السعيد هذا الموقف - وهو ذات الموقف الذى تتبناه الآن أغلبية فصائل الحركة - فى عبارة واحدة : أن نظام عبد الناصر "كان وبرغم كل أخطائه نظاما وطنيا ومعاديا للاستعمار" () . وإذا كان السعيد يبدى إعجابه الشديد بحدتو .. فإنما يعود ذلك - ضمن ما يعود - إلى أنها كانت أقل المنظمات الماركسية نقدا للنظام وأكثرها تمسكا بالقول بوطنيته.
ويتضح ذلك من النص الآتى الذى يصور فيه السعيد تطور الموقف من النظام بين عامى 1952 و 1957 : "البعض [يقصد حدتو] شارك فيها [ما يسمى ثورة يوليو] وأيدها فى مواجهة كل العالم التقدمى ، والبعض [ المنظمات الماركسية الأخرى] أدانها بعبارات أكبر من حجمه [!] ... ويتقلب الموج سريعا فيقف المؤيدون [حدتو] فى المعارضة ، وتقف الحركة [حدتو أيضا] فى مواجهة أصدقائها [الضباط] ... ثم يتقلب الموج انقلابا معاكسا ويغير يوليو مساره عائدا إلى الصراط الصحيح أو الأقرب إلى الصحة فيكون التأييد منالجميع هذه المرة "().
ولا ندرى طبعا ما هو "الحجم الأدنى" الذى يشترطه السعيد لحصول هذا البعض على حق إدانة النظام بما يراه مناسبا من عبارات ! غير أن ما يعنينا هنا هو الإشارة السريعة إلى الأحداث التى تلقى الضوء على ما يعنيه السعيد فى هذه العبارة . ذلك أن حدتو أيدت حركة الجيش منذ ما قبل 23 يوليو استنادا إلى وجود بعض أعضائها فى تنظيم الضباط ، بينما تحفظت القوى الماركسية الأخرى باعتبار أن الانقلاب العسكرى أداة الرجعية المفضلة فى العالم الثالث . وزاد هذا الموقف حدة مع إعدام خميس والبقرى وسحق اعتصام كفر الدوار .. واضطرت حدتو فى نهاية عام 1952 إلى الإقرار برجعية النظام ، ليس بسبب موقفه من الطبقة العاملة ، ولكن بسبب تقاربه الملموس مع الولايات المتحدة آنذاك .. أما عودة الجميع للتأييد فكانت مع إعلان صفقة الأسلحة التشيكية وباندونج وتوتر العلاقات مع الولايات المتحدة مرة أخرى .. وأخيرا تأميم قناة السويس . وهذا هو ما يطلق عليه السعيد "عودة يوليو إلى المسار الصحيح" . فالمسار الصحيح لا علاقة له بالموقف من النشاط المستقل للطبقة العاملة .. لأنه ينطلق من معيار وحيد هو الموقف من "القضية الوطنية" .
وفى ضوء المعيار الذى يقوم عليه مفهوم "المسار الصحيح" هنا يصبح مفهوما تماما اهتمام السعيد بتبرئة حدتو من العداء للنظام بالقول بأنها كانت واقعة تحت تأثير الآخرين .. والتذكير بأنها تأخرت ولم تلجأ إلى معاداة النظام بعد إعدام خميس والبقرى مباشرة ، على أساس - كما جاء فى وثائق حدتو آنذاك - أن "الكتلة المعادية للشعب وعلى رأسها الاستعمار الأمريكى تعمل على عزل حركة الجيش عن حركة الطبقة العاملة بصفة خاصة وعن الحركة الشعبية بصفة عامة ... [وعلينا] أن نناضل من أجل فضح المؤامرة الاستعمارية التى تهدف لتحويل رصاص الجيش إلى صدر الشعب" . وبتعبير رفعت السعيد "النضال لعزل نفوذ الرجعية وتأثيره" على الضباط باعتبارهم ينتمون لفئة غير معادية هى البرجوازية الصغيرة () . وبعبارة أخرى فإن الواجب الأساسى للحركة الماركسية هو منافسة الاستعمار على صداقة الضباط وعدم إغضابهم . ويرى السعيد أن هذا الموقف "كان صحيحا ورصينا ومتواكبا مع مفاهيم ومعلومات وعلاقات حدتو بحركة الجيش" () - مشيرا هنا إلى وجود عدد من أعضاء حدتو فى تنظيم الضباط . فالموقف الصحيح .. مثله مثل "المسار الصحيح" ينطلق أولا وأخيرا من القضية الوطنية .
ومع ذلك لم يتفق الجميع على الموقف من النظام بعد عام 1957 .. فقد تجدد الخلاف والصدام بين الحركة ككل والنظام بعد الوحدة مع سوريا بسبب اتجاهه إلى مصادرة الحريات السياسية فى سوريا أيضا وسعى ناصر الحثيث للقضاء على نفوذ الماركسيين فى العراق فى ظل حكم عبد الكريم قاسم بالإضافة إلى تضييق مجال الحركة أمام الماركسيين المصريين برغم تأييدهم العملى والنظرى له . فبينما تمسكت حدتو بالتأييد واتجهت إلى الدعوة لدخول الاتحاد القومى - حزب النظام الذى يحتكر الشرعية - ودعمه ، رأت منظمات أخرى وجوب الاستقلال عن هذا الحزب باعتباره حزب البرجوازية برغم الاتفاق العام على تأييد النظام . وبرغم أن السعيد لا يؤيد صراحة اتجاه الذوبان فى الاتحاد القومى (حيث لم يكن متاحا عمليا سوى النشاط الفردى من داخله بفرض موافقة النظام وفى الحدود التى يسمح بها) ، إلا أنه يستنكر تشدد الاتجاه الآخر الذى سعى دفاعا عن ماركسيى العراق الذين يتآمر عليهم ناصر إلى "إغضاب الحكام .. وبالدقة إغاظتهم"() ، وعدم مراعاة شعور ناصر "بالغيرة" تجاه قاسم () . وبرغم إدانته لاندفاع الاتجاه الأكثر تهادنا داخل حدتو إلى نقد ماركسيى العراق لموقفهم من ناصر ، إلا أنه - على حد تعبيره - "لا يرفض توجيه اللوم إلى البعض الذى نسى نفسه فى غمار معركة مفتعلة وخالية من الفطنة ضد نظام حكم عبد الناصر" - وهنا المقولة الجوهرية : "الذى كان وبرغم كل أخطائه نظاما وطنيا ومعاديا للاستعمار" () .
وإذا كان موقف حدتو والسعيد الأصلى من الضباط يقترح الدخول فى منافسة مع الاستعمار على قلوب رجال النظام .. فإن الموقف من الصدام الثانى أكثر دلالة .. فهنا يتجه السعيد إلى تخطئة النظام .. إذ يرى أن الماركسيين كانوا محقين فى انتقاداتهم له .. لأن "قضيتا الخلاف : الديمقراطية وأسلوب ممارسة الوحدة العربية كانتا وبالدقة "كعب أخيل" بالنسبة للنظام ، فمنهما أتت الضربات المتتالية ، وبسببهما وقعت أكثر من كارثة ، بل وصُفيت التجربة بأكملها فيما بعد" () . فحتى إذا كان النظام مخطئا عند السعيد فإن مشروعية نقده تنبع بالضبط من الموقف الجوهرى القائم على الولاء له .. أى من أنه نقد من الداخل ولمصلحة النظام ذاته .. وبهدف "حمايته من أخطائه" ... أو - بقدر من المبالغة - من "انقلابه على نفسه" ! نفسه الوطنية الافتراضية طبعا ! وسوف يلاحظ القارئ أن هذا الطرح بطبيعته ذاتها لا يترك مساحة ما لإثارة قضية السلطة .. وبالذات سلطة الطبقة العاملة .. فإذا كان الموقف "الرصين" السابق يعنى جواز التسامح إزاء قمع العمال حتى لا تنجح "مؤامرة الاستعمار لتوجيه رصاص الجيش إلى صدر الشعب" ، فإن هذا الموقف الثانى يعنى ما لا يقل عن تفويض النظام فى الحكم وقصر المطالبة على "حق الاستشارة" - والضغط بالتالى - بدعوى مساعدة النظام على تبنى ما تفترض الحركة أنه "سياسات صحيحة" بمعيار مصلحة النظام ذاته .. مقابل الحصول على نصيب من الشركة الناصرية يتناسب مع هذا الدور ويمكِّنها من أدائه . وجدير بالذكر أن هذا الموقف لا يخص السعيد وحده .. بل هو موقف شديد الانتشار ، تجسد فى عشرات الوثائق والخطابات الموجهة للنظام من داخل السجون وخارجها .. خاصة بعد ما سُمى بقرارات يوليو الاشتراكية .
إلى هنا يمكن القول بغير مبالغة أننا أمام طبعة ناصرية من الماركسية من الناحية السياسية . غير أن هذه الطبعة ، وإن كان يبدو من كتابىّ رفعت السعيد أن حدتو قد تبنت أكثر أشكالها تطرفا - وهذا مصدر فخر للسعيد على أية حال - إلا أنها كانت قاسما مشتركا للحركة فى مجموعها .. ففى نهاية المطاف لم يتخذ قرار الحل الذى يمثل الامتداد المنطقى لهذا التصور فريق دون فريق .. والأهم من ذلك أن هذه الطبعة الناصرية تستند أصلا من الناحية الأيديولوجية إلى طبعة وطنية للماركسية .. وهى طبعة يمكن القول بأنها سبقت وجود الناصرية السياسى أصلا. ولا أدل على ذلك من رؤية الصورة الأيديولوجية عند المنظمات المختلفة وقت معارضتها للنظام . فحين "أخطأت" حدتو وعارضت حركة الجيش ، كان اتهامها الأساسى لها هو أنها "تقف مع البرجوازية الكبيرة وتتخذ موقف الخيانة الصريحة"() - أى خيانة القضية الوطنية . وحين تصل إلى قمة تطرفها فى معاداة الضباط تتهمهم بأنهم عصابة عسكرية عميلة لأمريكا ، وترفع شعار الكفاح المسلح مع اتهام النظام بأن معاهدة الجلاء التى وقعها تعد شكلا من أشكال الارتباط بحلف الأطلنطى () .
وليس هذا موقف حدتو وحدها .. فتنظيم "النواة" المنشق عن حدتو يتهم حكومة الضباط بأنها "تخون [الوطن] وتساوم" () ، وتعارض طليعة العمال حكم الضباط على أساس أنهم يشكلون ديكتاتورية عسكرية فاشية تسعى لاستبدال الاستعمار الأمريكى بالإنجليزى () . أما منظمة الراية التى كانت آخر منظمة كبيرة تتحول لتأييد الضباط فقد واصلت المعارضة على أساس أن النظام يسعى لجر الشعب للحرب العالمية بالاتفاق مع المستعمرين () ، لتصل إلى القول بأن حركة الجيش قامت بتدبير أمريكى () . ولعل الموقف الأكثر دلالة على هيمنة الأيديولوجيا الوطنية هو تأكيد "مجموعة الحزب" (أعضاء الحزب الشيوعى المصرى المشكل عام 1958 بعد انفصال حدتو عنه) - برغم معارضتها للنظام على أساس أنه واقع تحت سيطرة اتحاد الصناعات وكبار الرأسماليين - على "أننا سنقف إلى جانب عبد الناصر إذا كان جادا فى مواجهة الاستعمار والصهيونية" () . فحتى إذا كان النظام معبرا عن الرأسمالية فإن الموقف النهائى منه - من جانب منظمة ماركسية - يظل مرتبطا بالمعيار الوطنى وحده .
وخلاصة القول أن المعيار الوطنى كان هو الفيصل فى تحديد مواقف الحركة من النظام . غير أنه ينبغى أن نلاحظ هنا أن هذا المعيار الوطنى كان مرتبطا عند المنظمات الشيوعية بالموقف من المعسكرين الشرقى والغربى ، باعتبار أن أولهما معسكر التحرر والآخر هو معسكر الاستعمار . ويبدو أن المسألة قد تطورت على الوجه الآتى : وجدت الحركة الماركسية المصرية فى الأربعينات أن القضية الوطنية التى انفجرت مرة ثانية آنذاك تصلح تماما للحلول محل قضية الدفاع عن السلام العالمى الذى بدأت بها البؤر الأولى لمنظمات الحركة ، على أساس أنه شعار شعبى جامع يكفل العداء للاستعمار .. أى للمعسكر الغربى . وتمثل النضال الأيديولوجى الأساسى للحركة فى التأكيد على أن الولايات المتحدة لا تمثل حلا للقضية الوطنية بل حليفا للاستعمار التقليدى ورأس حربة الاستعمار بعد الحرب .. على خلاف الموقف الوطنى التقليدى الذى يرى أنه لا بأس من الاستفادة من كل القوى الدولية للحصول على الاستقلال . وبالطبع كان هذا الموقف يمثل فى البداية ترجمة مصرية للقضية الأساسية للأحزاب الشيوعية آنذاك ، وهو مساندة الاتحاد السوفيتى باعتباره المجتمع "الشيوعى" القائد فى مواجهة الرأسمالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة . غير أن الاندراج فى الحركة الوطنية بشعاراتها والتجنيد على أساسها أسفر فى النهاية عن اختزال الماركسية المصرية إلى الموقف من القضية الوطنية والاستعمار الأمريكى الجديد ، بل والانهماك فى الدفاع عن وطنية الحركة الماركسية التى عادة ما كانت تُتهم من قبل خصومها بأنها "عميلة" للاتحاد السوفيتى ، وبالتالى غير وطنية .. واختارت الحركة دائما أن تتمسك بمكاسبها الأولى من الاندراج فى إطار الحركة الوطنية القوية .. وفقدت بالتالى استقلالها الأيديولوجى .
ولا أدل على ذلك من أن الشعار الوطنى كان ارتباطه بقضايا الطبقة العاملة التى حرصت كل منظمة على التأكيد على أنها المعبر الوحيد - أو الأمثل على الأقل - عنها ، ضعيفا للغاية . وبالطبع فإن حدتو هنا أيضا فى المقدمة : فهى تتنازل ببساطة عن حلمها الكبير بإقامة اتحاد عام للعمال عند صدور إشعار ناصرى فى سبتمبر 1952 بتأجيل انعقاد مؤتمره التأسيسى إلى أجل غير مسمى وتواصل تأييد النظام () ، ثم تتنصل من الاعتصام العمالى فى كفر الدوار وتتغاضى عن سحق الجيش له ، بل ويندفع كوادرها إلى مساعدة الجيش على تهدئة سكان كفر الدوار () .. كما تستسلم ببساطة عندما تستولى هيئة التحرير على نقابة الأحذية الواقعة تحت نفوذها بالقوة (). وبالطبع يختلف الموقف من نضالات الطبقة العاملةعندما اتجهت حدتو إلى معاداة النظام باعتباره غير وطنى فى رأيها آنذاك .. إلا أنه مع عودة سياسة الوفاق مع ظهور "وطنية النظام" - شاملة الموقف من الولايات المتحدة - تعود سياسة تهدئة العمال ، باسم الحزب الموحد الذى شمل حدتو وآخرين هذه المرة ، بحجة أن الشركات الاحتكارية تستفزهم وتجرهم لمعارك وإضرابات ومظاهرات للإيقاع بينهم وبين الحكومة - الوطنية طبعا - الأمر الذى كان يتطلب من وجهة نظرها أن يبرهن العمال على تأييدهم لحكومة ناصر بتقديم طلباتهم النقابية إليها () .. وبالتالى يحل التحكيم الحكومى محل النضال الطبقى العمالى وتكرَّس فكرة أن الدولة وسيط وحكم بين الطبقات . وحين أممت السلطة الناصرية النشاط النقابى بإقامة اتحاد عام للعمال تحت هيمنتها انبرت حدتو تقوم بواجب التحية لهذا الاتحاد () السلطوى ، بل ودعمته وحذرت العمال من الذين يريدون دفع المطالب العمالية للصدارة والقضايا العامة - أى مساندة النظام الوطنى - إلى الخلف () . وليست المسألة هنا مسألة إدانة .. بل توضيح لحقيقة أن التوجه الأساسى عند حدتو - أو القضايا العامة بتعبيرها - هو التوجه الوطنى وليس إكساب البروليتاريا وعيا مستقلا بذاتها ومصالحها . وبعبارة أخرى فإن الموقف من الطبقة العاملة تابع للحكم على مدى وطنية السلطة . وحين يكون النظام وطنيا ولكنه يرفض أى نشاط ديمقراطى، نقابيا كان أو سياسيا ، فمن الطبيعى أن يصبح النشاط النقابى للعمال "مُحرِجا" للتنظيم .. يهدد بتكرار مأزق كفر الدوار ، الذى كانت الحاجة ماسة إلى تجنبه ، بقدر ما أنه يضع الأيديولوجيا الوطنية فى مواجهة تصور الحركة عن نفسها بوصفها حركة عمالية وشيوعية .. وينبع هذا الإحراج أساسا من الطابع القمعى للنظام ، حيث أنه لم يترك للحركة فرصة كافية للمناورة ، وإن كان قد منحنا الفرصة لفهم أيديولوجيتها بشكل غاية فى الوضوح !
وكان من أثر حسم الانتماء الأيديولوجى بهذا القدر من الوضوح - أى لصالح الوطنية لا العمالية - أن اتجه الموحد إلى التعاون مع أجهزة النظام بشأن القضايا الوطنية .. فعاونت كوادره المباحث فى تنظيم المقاومة "الشعبية" - إن جاز هذا التعبير هنا - للعدوان الثلاثى . ويفخر السعيد بدور الرفاق فى الضغط على المباحث من أجل مزيد من المقاومة . أما الشعار الذى رفعته الكوادر أمام جماهير بورسعيد فكان "الوقوف صفا واحدا خلف قائدنا وزعيمنا البطل جمال عبد الناصر"() .. ففى مقابل السماح لهم بالمشاركة فى المقاومة كان عليهم أن يرددوا أمام الجماهير اسم الزعيم الأوحد مع بقية الأبواق . لقد كانت الحركة على استعداد ، إزاء التهاب القضية الوطنية لحظة العدوان الثلاثى ، لا لتهدئة العمال فحسب ، بل ولبيع نفسها للنظام بأى ثمن ، ولو كان هو المشاركة السياسية - وليس النقابية هذه المرة - فى تكريس مصادرة استقلال الحركة الجماهيرية وتبعيتها للنظام حتى وهى تمارس "المقاومة الشعبية" .
وإذا كان موقف حدتو والموحد هو الأكثر وضوحا بفعل المعلومات الغزيرة التى قدمها السعيد فإن ثمة دلائل على سيادة المنطق العام الوطنى لدى المنظمات المختلفة حتى وإن لم يكن بذات الدرجة من الذيلية . فالتنظيم الذى نشأ من اتحاد الموحد مع الراية - التى كانت كما قلنا آخر من أيد النظام - وصل ولاؤه إلى حد تقديم نصائح للسلطة بشأن السياسات التى يجب على وزارة الداخلية اتباعها تجاه الإخوان المسجونين () . أما طليعة العمال فبرغم أنها كانت فيما يبدو المنظمة الأكثر اهتماما بالحركة المستقلة للطبقة العاملة والتزاما بفكرة تمثيلها لها فإن باندونج كان بالنسبة لها علامة تحول كامل فى الموقف من النظام ، فأصبحت تتكلم عن "حكومتنا الوطنية" (). صحيح أنها احتفظت برنامجيا بقدر من الاستقلال تمثل فى الدعوة لتكوين جبهة وطنية متحدة تساند عبد الناصر بدلا من أن تفنى فيه ، وأن نغمة التأييد أقل كثيرا من نغمات الموحد ، باعتراف رفعت السعيد ذاته ، وخلت تماما من تمجيد "الزعيم" () ، إلا أن أسر الأيديولوجيا الوطنية حرمها فى النهاية من الحفاظ حتى على هذا التمايز المبدئى - وإن كان غير فاعل سياسيا - ودفع بها فى نهاية المطاف إلى المشاركة فى قرار الحل .
وإذا كانت طليعة العمال قد شاركت المنظمات الأخرى مصيرها الأخير المترتب على الأيديولوجيا الوطنية فإنها بصفة عامة تقدم جانبا آخر من الصورة ، هو مأساة محاولة الاحتفاظ بأكبر قدر من الاستقلال عن النظام باعتبارها فى نظر نفسها منظمة بروليتارية . ولا يتمثل ذلك فى الموقف المذكور فى الفقرة السابقة فقط ، بل وفى مواقف مختلفة أرادت المنظمة أن تتخذ فيها موقفا مبدئيا بصرف النظر عن العواقب . فيخبرنا السعيد أن الحزب المتحد (حدتو والراية) قد أخذ على طليعة العمال اتهامها للحكومة بتزوير الانتخابات البرلمانية عام 1958 ، ليس لأن الاتهام غير صحيح ، ولكن لأنه اتهام يتفق مع ما تقوله إذاعة صوت أمريكا .. وأن النقد يجب أن يكون "بنائيا" - على حد تعبير المتحد - قائما على أساس سياسى ويتفق مع "الخط الرئيسى لمعركتنا الوطنية" () . وبصرف النظر عن روح التحسب من إغضاب النظام التى أملت هذا النص فإنه ينطوى على تسليم صريح بعدم أهمية ارتكاب جريمة سياسية بحجم تزوير الانتخابات وبحق النظام فى تفصيل برلمان يناسبه - ناهيك عن أن البرلمان هنا لم يكن أكثر من منبر للرأى - ولو بثمن إفقار الحياة السياسية والاعتداء على ما تبقى من حقوق سياسية ضحلة للسكان . غير أن ما يعنينا هنا هو أن هذا الموقف من جانب طليعة العمال يشير إلى محاولة الإبقاء على تأييد مشروط للنظام ونوع من الشعور بأهمية الدفاع عن الحقوق السياسية الأولية .. كما أن الموقف المتمثل فى اعتبار النظام ممثلا للمصالح البرجوازية (مجموعة الحزب : طليعة العمال والراية) قبل التأميمات كما رأينا كان تعبيرا عن شعور بضرورة الحفاظ على تمايز الرايات بين البرجوازية وحزب الطبقة العاملة على نحو ما كانت المنظمات الماركسية ترى نفسها .
وجدير بالذكر أن واحدا من قادة هذا الاتجاه - أحمد صادق سعد - كان قد وصل إلى تحليل مشابه لقرارى الحل .. إذ يرجعهما إلى عاملين ، أولهما "الخط الفكرى القومى الأساسى فى الفكر الماركسى المصرى مذ الأربعينات ، والذى كان بارزا بصورة قوية فى الخط اليونسى [حدتو]، وكان أضعف كثيرا فى تيارنا ولكنه ازداد قوة شيئا فشيئا تحت ضغط الأحداث ... وجعل التمايز بين الشيوعية المصرية وبين الناصرية (منذ الستينات) يتلاشى" () ..
والحال أنه إذا كانت الحركة فى مجملها قد عانت بدرجة أو بأخرى من التناقض بين "الخط القومى" والمعتقدات البروليتارية ، فإن الخط القومى كان مهيمنا بحيث أننا سنفشل فى العثور على برنامج سياسى للتحرر العمالى أسوة بالبرنامج الوطنى الواضح . فالعمال فى أقصى اللحظات تطرفا كان دورهم عند المنظمات يتمثل فى أنهم أكثر الطبقات كفاحية ووطنية . وعلى حد الملاحظة الموحية للغاية لأحمد صادق سعد فإن أحدا لم يتحدث عن سلطة الطبقة العاملة .. فالتطرف الأقصى كان القول بقيادة هذه الطبقة للحركة الوطنية ذاتها () . ومعنى ذلك أن البرنامج الوطنى كان البرنامج السياسى الوحيد للحركة ، بينما تراجعت المطالب العمالية إلى محض مطالب نقابية خاضعة للسياسات الوطنية . ومن هنا نفهم كيف كانت حدتو ، الأكثر اتساقا مع هذه الروح ، مستعدة للمشاركة فى تهدئة العمال خوفا من انفجار التناقض بين المعتقدات السائدة عن تمثيل البروليتاريا والأيديولوجيا الحقيقية الوطنية . ولعل أوضح تعبير يجده المرء عن عمق هذه الأيديولوجيا عبارة وردت على لسان رفعت السعيد وهو يقدم أحد كتابيه : "لأجيال متعاقبة ... وهبت حبها وحياتها لهذا الوطن ولطبقته العاملة ولكل كادحيه" () . فولاء رفاقه المناضلين هو : أولا : للوطن ، وثانيا : ليس للطبقة العاملة والكادحين ، بل لطبقة الوطن العاملة وكادحيه . وبعبارة أخرى فإن الطبقة العاملة (المحلية لا العالمية) تستحق ولاء المناضلين بالضبط بسبب وطنيتها أو دورها المفترض فى تحرير الوطن . وفى الستينات حقق النظام جانبا مهما من المطالب النقابية ، بل وتجاوز فى بعض الأمور - مثل المشاركة فى الأرباح ومجالس إدارات الشركات والـ 50% الشهيرة للعمال والفلاحين - أقصى طموحات الحركة . فأصبح الشق العمالى بأكمله من برامج المنظمات الماركسية غير ذى موضوع .
وإذا كانت هذه "المكاسب الاشتراكية" قد اقترنت - بل غُلفت تماما - بتأميم الطبقة العاملة سياسيا ونقابيا .. فإن مسألة التأميم السياسى لم تكن من الأمور الجوهرية عند الكثير من منظمات الحركة الماركسية المصرية . غير أن هذه المسألة كانت على قدر من التعقيد يستحق التناول . فالبرنامج السائد عند الحركة كان يسمى البرنامج الوطنى الديمقراطى .. الأمر الذى يعنى أن الديمقراطية كانت مكونا سياسيا جوهريا .. كذلك سبق ورأينا كيف أن السعيد يأخذ على النظام عدم ديمقراطيته وينسب إليها الكوارث التى حلت بالنظام . ومع ذلك سوف نجد أن الحزب المتحد (حدتو والراية) يرحب من حيث الجوهر بالإجراءات الإدارية التى اتخذها النظام لتصفية المرشحين غير المرغوب فيهم فى انتخابات مجلس الأمة ، وينظر بعين الرضا إلى استبعاد الحكومة "للمرشحين الرجعيين وعملاء الاستعمار المعادين لثورتنا الوطنية الديمقراطية [!] وبذلك سدت السبيل عليهم منذ البداية وصانت المعركة الانتخابية ومجلس الأمة من تخريبهم" () . بل وبرر المتحد سريان الاستبعاد على المرشحين الماركسيين أنفسهم بأن الماركسيين قد "عجزوا من قبل عن جعل قضية تكوين الاتحاد القومى بوصفه شكلا تنظيميا قضية جماهيرية تستجيب لها الحكومة" () .. فألقى اللوم على الماركسيين المتشددين .
والديمقراطية بصرف النظر عن المصطلحات الدستورية شىء يتعلق بحق الممارسة السياسية . ومن خلال هذه المواقف .. يتضح أن أغلب منظمات الحركة قد تبنت مفهوما معينا للديمقراطية .. يتعلق حصرا بحق بعض القوى السياسية فى التمتع بحق النشاط الجماهيرى خصوصا والحقوق السياسية عموما .. فهى مسألة تتعلق بما يمكن أن نسميه المجتمع السياسى .. أى ممارسى السياسة الفعليين.. وبالتحديد تلك القوى التى تُعتبر وطنية .. أى تتفق مع الأيديولوجيا الرئيسية للحركة .. وعلى رأسها بالطبع المنظمات الماركسية ذاتها .. ولا يتعلق بالمعنى المفهوم الذى يقول بحق "الشعب" فى اختيار حكامه وحق كل مواطن فى التمتع غير المشروط بالحقوق السياسية . وهذا يعنى أننا أمام مفهوم نخبوى للديمقراطية - إن جاز التعبير . وبهذا المنطق يكون من حق نظام يعتبر وطنيا أن يفرض وصايته على الجماهير ويحدد لها المرشحين الذين تختار من بينهم .. فإذا لجأ أيضا إلى التزوير - كما سبق ورأينا - فإن وطنية النظام تحول دون "التطرف فى نقده" - إن جاز التعبير . ولكن أن يستخدم النظام ذات الأساليب فى مواجهة الحركة الماركسية التى تعتبر فى نظر نفسها وطنية ، وكذلك الطبقة العاملة .. فهذا ما لا يتفق مع الديمقراطية الوطنية ، أى الديمقراطية المشروطة بالوطنية (وهذا هو فيما يبدو التعبير الأدق ، وليس الوطنية الديمقراطية) . ولا أدل على ذلك من أن حدتو ذاتها ، بعد انشقاقها من حزب 1958 ، لم ترحب على الإطلاق بقرار الحكومة بقصر الترشيح فى الانتخابات النقابية على أعضاء الاتحاد القومى ، وبالتالى استبعاد الماركسيين ، وإن كانت قد رأت أن معارضة القرار يجب أن تكون فى حدود لا تصل إلى "ما يهدم تحالفنا مع الحكم الوطنى" () . ويصبح السبيل الوحيد أمام الحركة أن يتفاهم الأوصياء على الجماهير : أن تُقنع الحركة الماركسية النظام بإقامة "جبهة وطنية" معها .. والحال أن المجال السياسى لم يكن يسمح بتعدد الأوصياء . ولم يكن أمام الحركة الكثير لتفعله .. ليس فقط بسبب القمع الناصرى، وإنما أساسا بسبب القيود التى فرضتها عليها أيديولوجيتها ذاتها . فحتى هذه الديمقراطية "الوصائية" التى تقنع بمطلب المشاركة فى السلطة من موقع الحليف التابع كان النضال من أجلها محدودا بحدود الحفاظ على خط تأييد النظام طالما ظل فى أعينها وطنيا
لا نستخدم هنا كلمة "النظرية" بمعناها العلمى .. بل نقصد بها معنى قريب من "الفقه" .. أى إسناد الأحكام والمواقف السياسية إلى أصول شرعية ما . وتمثل الماركسية مصدر الشرعية النظرية/ الفقهية بالنسبة للحركة الماركسية ككل .. فخلافات المنظمات السياسية تتحول من الناحية النظرية إلى خلافات حول الماركسية الصحيحة وتبادل الاتهامات بالانحراف عنها وفقا لقواعد "علم أصول الفقه" التى تأسست أثناء النزاع بين المناشفة والبلاشفة فى روسيا القيصرية .. وبموجبه توجد مجموعة معروفة من الاتهامات ، أذكر منها : النزعة النقابية ، الانحراف اليمينى ، النزعة اليسارية المغامرة ، النزعة البرجوازية الصغيرة .
غير أن هذه الظاهرة العالمية لم تتخذ ذات الشكل فى كل مكان .. وسوف يحاول هذا الجزء من الورقة أن يلقى الضوء على خصائص "الفقه" الماركسى فى مصر .. والذى اكتسب خصائص مختلفة عند المنظمات المختلفة . وبالطبع - بفضل انحيازات رفعت السعيد - سوف تحظى حدتو بنصيب الأسد .
يقدم تحليل هنرى كورييل للجيش نموذجا بارزا لتحليلات حدتو : "الجنود: فلاحون فى الأساس ، عمال الجيش : عمال ، صف الضباط : برجوازية صغيرة ، الضباط : برجوازية متوسطة ، الضباط الكبار : برجوازيين مرتبطين بالمصالح العقارية والملكية" . وقد استنتجت حدتو فى ضوء هذا التحليل - وأيضا علاقتها المباشرة برجال الانقلاب - أن الضباط "الأحرار" ينتمون إلى البرجوازية المتوسطة .. التى تتميز بـ "التردد ، ازدواجية المواقف ، خشيتها من الجماهير وعداءها للاستعمار معا ... الخ" () . ويمكن أن نسمى هذا التحليل "التحليل البراجماتى المبسط" .. فما يريد كورييل أن يقوله ببساطة هو أن الرتب الأصغر أنسب فى التوجه إليها من الرتب الأعلى .. وفى سبيل ذلك كان على استعداد كامل لأن يغفل خصائص الجيش من حيث هو كذلك .. أى كمؤسسة هرمية إدارية تقوم على نظام للأوامر والانضباط .. وتفرز نوعيات بعينها من المصالح . فالجيش ليس تجمعا من الطبقات ، ولا يسلك أفراده انطلاقا من انتمائهم الطبقى إلا وكان ذلك إيذانا بتحطم الجيش وتفككه . أما فى الظروف "المعتادة" فيخضع الجيش لنظام خاص يفرز مصالح ونزاعات نوعية تتصل بطبيعته كجسم إدارى هرمى .. مما لا مجال للتوسع فيه هنا . غير أن الأخطر من ذلك هو مد هذا التصور على استقامته فى تحديد طبيعة الانقلاب العسكرى فى 1952 .. الأمر الذى يفتقر عند أبسط تفكير إلى أى أساس معقول أو غير معقول . ذلك أن هذا التحليل ينسى أن الضباط من حيث هم ضباط ليست لهم أكثر من مطالب نقابية .. من قبيل إصلاح إدارة الجيش أو المساواة فى فرص الترقى أو حتى زيادة الأجور .. كما فعل كونستبلات البوليس فى تمردهم قبل الانقلاب بسنوات قليلة .. أما الانقلاب العسكرى فلا يُفهم مضمونه السياسى عموما - سواء بالتحليل الطبقى أو بغيره - إلا فى إطار تحليل واسع للظروف وتوازنات القوى السياسية التى جعلت الانقلاب ممكنا وناجحا ، بل ومنحته اتجاهه .. وليس بهذه الطريقة الغريبة التى تشبه طريقة الحكم على مرشح فى الانتخابات وفقا لأصوله الطبقية وأخلاقه ! وإذا طبقنا طريقة الانتماء الطبقى المباشر على تحديد نظام حكم هتلر مثلا فسوف نجده أكثر تقدما من الضباط أنفسهم .. فهتلر ذاته وحزبه وقوات عاصفته تنتمى إلى البرجوازية الصغيرة لا المتوسطة .. وقس على ذلك الكثير !! ولما كان التحليل قد أغفل كل هذا يمكن القول أن العامل الحاسم فى تطبيق هذه المفاهيم الكورييلية عن الجيش فى تحليل الانقلاب لا ترجع إلى أى نظرية فى التحليل الطبقى بقدر ما أنها ترجع إلى ضرورة تسويغ ثقة حدتو المسبقة برجال الانقلاب - أى منحها أساسا شرعيا - بحكم الصلات الشخصية الوثيقة .. وبالذات الثقة فى وطنية الضباط وفى تعاطف بعضهم مع حدتو .
وتطور حدتو تحليلاتها فى ذات الاتجاه بعد عودة الرضا عن الضباط عام 1955 : "حركة الضباط الأحرار هى إحدى الهيئات السياسية لقسم من البرجوازية الوطنية فى مصر ، هى بالتحديد تعبر عن مصالح الضباط المتوسطين والصغار وتعارض سيطرة الاستعمار والإقطاع المطلقة على الجيش وعلى مصائر الضباط بالتالى" - منطلقة هذه المرة من الأوضاع المهنية للضباط لتحديد "طبيعتهم السياسية" إن جاز التعبير ، وبشأن القضية الوطنية بالطبع - وتواصل : "فهل يعنى ذلك أنها خالية من الأفكار والشخصيات الرجعية ؟ كلا على العكس فطبيعة البرجوازية الوطنية تلك الطبيعة المزدوجة واضحة أيضا" () . ويكمن التطوير هنا فى أنه يتيح استيعاب جميع الأحكام المتناقضة التى صدرت بشأن وطنية النظام .. فالطبيعة المزدوجة تسمح بتفسير التقارب مع الولايات المتحدة أو مع الاتحاد السوفيتى .. تأميم قناة السويس أو إعدام خميس والبقرى ... وبإمكان الضباط أن يكونوا تقدميين أو رجعيين .. من رجال الاستعمار أو من "رجال الوطن" .. فهذا كله كما ترى لا يخرج عن الطبيعة المزدوجة التى وُصفت بأنها "واضحة" . فهذا أشبه بقولك أن فلانا يتمتع بطبيعة مزدوجة تجمع بين الخير والشر وبالتالى تصبح جميع تصرفاته "مفهومة" ، إما وفقا لطبيعته الأولى وإما وفقا للثانية ! وواضح أن صيغة بهذا الشكل وإن كانت تأخذ طابع التحليل الطبقى ومصطلحاته فإنها فى الواقع ليست سوى طريقة للتخلص من أى تحليل لصالح التعامل المباشر مع الظروف والأحوال المتغيرة .. وهذا ما سميته - تجاوزا - بالتحليل البراجماتى . وفوق ذلك يمكن أن نلاحظ أن هذه الطبيعة المزدوجة تُفهم هنا - إمعانا فى البراجماتية - على أنها وجود "أفكار وشخصيات رجعية" - مقابل الأفكار والشخصيات التقدمية طبعا . وهذا يعنى أن هذه الطبيعة المزدوجة ذاتها ليست لها أى منطق خاص .. أى ليس لها مصالح جوهرية محددة تجعلها تتجه يسارا أو يمينا فى ظروف متغيرة يمكن تحديد معالمها .. وإنما تعنى ببساطة انقسام الضباط أنفسهم (وأفكارهم) إلى رجعيين وتقدميين .. أو بعبارة أخرى خيرين وأشرار بالمعايير الوطنية . وفى التطبيق العملى سوف يعنى ذلك أن من يوافقنا على أيديولوجيتنا الوطنية وما يوافقها من أفكار يعتبر تقدميا ، والعكس بالعكس ، وبالتالى تبرير منطق منافسة الإمبريالية على قلوب الضباط والمناورة داخل صراعات الضباط أنفسهم . فـ "النظرية" هنا تُمعن فى إلغاء أى نظرية لصالح الحس العملى المباشر .
وإذا كان السعيد يستنكر فيما يبدو قول البعض فى حدتو بوجود "مجموعة اشتراكية فى السلطة" بعد التأميمات () ، فإن هذا القول ليس فى الحقيقة سوى امتداد لمنطق حدتو الخاص فى التحليل ، لا يعيبه سوى أنه يفتقر إلى المصطلحات الطبقية التى استُخدمت فى التحليل الذى ناقشناه حالا .. والتى تعد بالطبع ضرورية من وجهة نظر بروتوكولية بحتة . كما يتسق مع هذا المنطق أن يعزو الحدتويون قمع النظام لهم برغم تأييدهم له إلى "طبيعة مزدوجة لجهاز الدولة" .. أو بتعبيراتهم ذاتها : وجود "جناح رجعى" ، سواء تم اكتشافه فى "المباحث العامة" عام 1956()، أو فى "الأهرام" - أى هيكل - عام 1958 () ، أو حتى بشكل غير محدد تماما : "دوائر معادية لتوجهات الحكم" الذى كانت وطنيته قد أصبحت محل تسليم نهائى () .
أما منظمة الراية فيبدو أنها كانت أقرب إلى خصائص الستالينية منها للبراجماتية ، وأكثر اهتماما بالتمسك بتحليلات طبقية تقليدية .. بصرف النظر عن الصحة والخطأ . فقد انطلقت أصلا من فكرة "خيانة" البرجوازية الكبيرة للقضية الوطنية .. وبالتالى طرحت بعد الانقلاب شعار جبهة شعبية ضد حكم الضباط ، باعتباره حكما للبرجوازية الكبيرة "الخائنة" . ولا أدل على اهتمامها بالتمسك بتحليلاتها الطبقية القاطعة - أو الأصول الفقهية - من استمرارها فى موقفها هذا حتى عام 1957 .. ضد واقع أن النظام ليس أمريكيا . لذلك كان انكسار الخط السياسى للمنظمة حادا ولحظيا من النقيض إلى النقيض . ولا شك أن الدافع الأصلى لهذا التشدد كان بالضبط تاريخ هذه المنظمة . ذلك أنها طرحت نفسها بقوة عام 1950 واقتنصت العديد من كوادر حدتو وغيرها ونمت نموا سريعا بفعل نقدها لغيرها من المنظمات باعتبارها مهادنة للبرجوازية .. بل و"قيادات بوليسية متعفنة فى خدمة البرجوازية" وغير ذلك من الأوصاف التى لم تتورع عن استخدامها لإظهار تشددها () . غير أن ثمة دافع آخر لهذا التشدد - غير المبرر فى ضوء الأيديولوجيا الوطنية التى تبنتها - وهو قيام رابطة الولاء فى هذه المنظمة جزئيا على عبادة الشخصية .. حيث كان يشار إلى فؤاد مرسى قائدها بعبارات من قبيل "عاش خالق نظرية حزبنا وموجه رايتنا خالد .. العظيم"() . والذى يعنينا هنا هو أن "خالد العظيم" يكتسب مشروعيته من أنه "خالق النظرية" .. ولذلك كان تغيير النظرية القائلة بخيانة البرجوازية مسألة خطرة أيديولوجيا وتنظيميا .
وبين هذين التطرفين يمكن أن نقول أن حدتو كانت الأكثر تعبيرا عن الروح العامة للفقه الماركسى المصرى ككل .. على أساس أن البراجماتية كما وصفناها قريبة الصلة بالعفوية . ذلك أن كلا التحليلين البراجماتى والستالينى يجتمعان فى التحليل الأخير فى سمة العفوية النابعة من الأيديولوجية الوطنية كما تبنتها الحركة. يقول السعيد أن الحركة بمجملها قد تقاسمها تكتيكان .. أولهما يقول بالثورة الوطنية الديمقراطية ومحورها تحرير الوطن من الاستعمار والثانى "يتجاهل طبيعة المكونات لحركة الفعل السياسى والاجتماعى فى بلد شبه مستعمر كمصر ويدعو مباشرة إلى ثورة تحريرية مسلحة بقيادة الطبقة العاملة على رأس كتلة الطبقات الشعبية"(). وبصرف النظر عن كلمة "المسلحة" هذه التى سيعتبرها الكثيرون عن حق افتئاتا من السعيد .. فإننا نلاحظ أن المراوحة بين الخيارين إنما كان يتعلق فى المقام الأول بمدى إمكانية العثور على حليف "برجوازى" قوى يتميز بالوطنية يمكن أن تساند الحركة سلطته .. برغم الكلام الكثير عن "قيادة الطبقة العاملة" . فالبرنامج يكون ديمقراطيا وطنيا - حسب المصطلح الذى اخترته - إذا وُجد هذا الحليف - ممثلا فى الوفد أو الضباط - الذى يمارس سياسات تعتبر وطنية .. أى معادية للاستعمار . ويصبح البرنامج ديمقراطيا شعبيا .. أى قائلا بخيانة البرجوازية إذا تعذر إيجاده . ويترتب على هذه المقولة اتجاه البرنامج إلى اليسار والتشدد فى نبرة قيادة الطبقة العاملة للحركة الوطنية فى مواجهة البرجوازية الخائنة .. أى تنشيط ودعم الكفاح العمالى . وبهذا المعنى يصبح موقف المنظمات الماركسية بالضرورة عفويا ، لاعتماده سياسات رد الفعل تجاه مواقف النظام . وبصرف النظر عن اعتذار رفعت السعيد عن اتجاه حدتو فى عامى 1953 و 1954 إلى معاداة النظام فإنها بدورها تقاسمت فى تلك اللحظات شعار الديمقراطية الشعبية مع المنظمات الأخرى .. لتصل إلى القول بوضع المشروعات المتوسطة والصغيرة تحت الرقابة الشعبية مع ضمان أرباح معقولة لها () ، وواصل الموحد هذا الخط المتشدد فى فترة العداء للنظام () . ولا شك أن إصرار الراية على انتهاج سياسة العداء تجاه الوفد - حين كان فى السلطة - ثم الضباط لفترة طويلة كان أبعد عن البراجماتية .. ولكنه كان فى الواقع عفويا أيضا ولكنه أميل إلى "العناد" بشأن سياسات هذا وهؤلاء ، حيث أنه افتقر إلى موقف مختلف من معايير الحكم على النظام ذاتها ، وهى معايير من شأنها بالضرورة أن تضع الحركة فى موقف رد الفعل أو العفوية .
وفى إطار سيادة الأيديولوجيا الوطنية لاشك أن حدتو قد اكتسبت ميزة من كونها الطرف البراجماتى بامتياز . فكانت بفضل براجماتيتها بالذات الطرف الأقدر على الحركة فى ظل هذا النظام الذى اضطرت جميع الأطراف فى النهاية إلى الإقرار بوطنيته . ففى ظل غياب أى تصور للعمل السياسى خارج إطار الأيديولوجيا الوطنية ، وخاصة بعد التأميمات ، كانت الذيلية تجاه النظام ميزة نسبية ، وكان الفقر النظرى ميزة .. بقدر ما أنه أعفى الحركة من انكسارات خطيرة ومفاجئة فى الخط السياسى .
ربما كان ثمة طريق آخر مفتوح لإعادة فهم ما تفعله الناصرية .. يتمثل فى اتجاه طليعة العمال إلى محاولة التوصل إلى تطبيق مصرى للماركسية لا يعتمد فقط على دراسة الأمهات النظرية وإنما "تنظير الدروس المستخلصة من التجارب النضالية" () .. أى دراسة المسار السياسى الواقعى لا الافتراضات الموروثة . وأيا كان مدى التزام المنظمة على مدى تاريخها بهذا الاتجاه عمليا فإن الطابع القومى - بتعبير صادق سعد - للأيديولوجيا السائدة منع هذه المنظمة من التوصل إلى نتيجة مختلفة عن بقية المنظمات .. فغيرت خطها السياسى كلية عام 1955 كرد فعل لسياسات النظام .. وعلى أية حال فيبدو أن هذا المسار بالذات يحتاج إلى دراسة أدق لفهم أسباب تعثره .
ويتمثل الهاجس الآخر للفقه النظرى فى مسألة "التمثيل" . ففى إطار الأيديولوجيا الوطنية وفقه وطنية وخيانة البرجوازية .. انشغل الفقه النظرى بقضية تعريف مَن مِن المؤسسات يمثل مَن مِن الطبقات .. وبصفة خاصة مسألة تمثيل البرجوازية الوطنية وتمثيل البرجوازية المتحالفة مع الاستعمار. وعادة يتم ذلك بقياس السلوك السياسى للمؤسسات السياسية وفقا للمعيار الأيديولوجى المعتمد على قراراتها ومواقفها الرسمية .
ولا شك أن نظرية التمثيل لا ترجع إلى الحركة الماركسية المصرية وحدها - ولا حتى إلى الحركة الماركسية عموما .. فهى كامنة فى قلب الآليات السياسية التى ظهرت مع الدولة البرجوازية الحديثة . غير أن هذه النظرية اكتسبت طابعا خاصا عند الماركسية المصرية فى ضوء مقولة أخرى .. هى مقولة "المهمة التاريخية" .. ومؤداها أن ثمة مهمة تاريخية موضوعة على عاتق البلد أو الوطن ، فرضها منطق التطور التاريخى العالمى ذاته .. كانت هنا - فى إطار الأيديولوجيا الوطنية - مهمة التحرر من الاستعمار واللحاق بركب التقدم والقضاء على بقايا الإقطاع ... الخ . وينحصر الخلاف بين المنظمات فى ما إذا كانت البرجوازية - المرشح الطبيعى نظريا لأداء هذه المهمة - قادرة على وراغبة فى تحقيق المهمة التاريخية أم لا. ففى هذه الحالة الأخيرة تؤول المهمة إلى الطبقة العاملة . وبناء على ذلك يصبح من الأهمية بمكان تحديد ما إذا كان النظام ، باعتباره ممثل البرجوازية السياسى ، يتجه لتحقيق المهام التاريخية أم "يخونها" .. وبالتالى الحكم على ما إذا كانت البرجوازية المصرية ، من خلال ممثلها السياسى ، وطنية أم عميلة .. وبالتالى - أيضا - ما إذا كانت الخطة التى ستتبعها الحركة خطة الثورة الديمقراطية الوطنية (حدتو) ، أم الديمقراطية الشعبية (الراية) .
والحال أن مقولة المهمة التاريخية على النحو الذى أوضحتُه أكسب أيديولوجية الحركة عموما طابعا اقتصادويا/ اجتماعويا - إن جاز التعبير - ولا سياسيا فى ذات الوقت ، يقوم على فكرة "الموضوعية". فالمهمة التاريخية مسألة "موضوعية" فوق الصراع الطبقى .. بل يمكن القول بأنها مقياسه الحاسم . وبالتالى فإن المعيار هنا هو السياسات التى تتخذها المؤسسات التى ستُعتبر معبرة عن سلطة البرجوازية ، مأخوذة بنتائجها أكثر منها مأخوذة من حيث هى تقييم للتأثير على التوازنات السياسية ومواقع القوة .. أى من حيث تلبيتها للمهام التاريخية ، لا من حيث تأثيرها على توازنات القوى فى الصراع الطبقى . وينطبق نفس الأمر على تحليل أوضاع الطبقة العاملة .. فعلى سبيل المثال اعتبرت حدتو مسألة إقامة اتحاد عام للعمال ومشاركة العمال فى الأرباح ... الخ .. بمثابة مكاسب عمالية ، وغفلت تماما عن جانبها الأهم ، وهو إخضاع الطبقة لنظام بوليسى صارم ومصادرة نشاطها النقابى .. دعك من النشاط السياسى الذى صودر على مستوى المجتمع بأكمله . وكان المنطق الواضح هنا هو منطق "المكاسب" "الموضوعية" بالمعنى الاقتصادوى .. الذى لا يعطى أولوية لرؤية مَن يفعل ماذا .. ولكن لما اعتُبر منذ البداية مكسبا وهدفا . والحال أن هذه المقولة تعنى فى التحليل الأخير تغليب السياسات اليومية والتكتيكات فى تقييم الموقف على الأهداف الاستراتيجية البعيدة المدى ، كالقدرة على الحركة والمناورة من خلال التمتع بحرية الحركة والاستقلال الفكرى والتنظيمى .
أما الملمح الثالث للفقه السياسى الماركسى آنذاك فهو تغليب قياس السياسات الخارجية على الداخلية .. وهو ما يتفق مع معيار الوطنية الحاكم للأيديولوجيا ومنطق المهمة التاريخية الذى رأيناه حالا . إذ تعد هذه السياسات الموضع الذى يتجلى فيه هذا المعيار بأوضح صورة .. سواء تكلمنا عن معاداة الاستعمار أو التحالف مع المعسكر الشرقى . ويتمثل هذا الملمح فى التغاضى عن مسألة لا ديمقراطية النظام أمام مواقف باندونج وصفقة الأسلحة التشيكية وليس حتى أمام قوانين "يوليو الاشتراكية" . ولم يحد عن هذا الموقف أحد حتى طليعة العمال التى كانت الأقرب إلى الاهتمام بالتوازنات السياسية والأبعد عن التحليل "الموضوعى" المذكور سابقا والأكثر تمسكا بمطلب الديمقراطية . وكانت الحركة الماركسية ككل قادرة على القبول بأى حد من الإصلاحات الاجتماعية مهما كان طالما ظل النظام وطنيا فى عيونها .. بل ويمكن القول بأن التأميمات التى أجرتها الناصرية كانت مذهلة للحركة ، بل وتتجاوز أقصى طموحاتها .. بحيث أنه لو كان أحدا قد نادى بها قبلها لتم وصمه بـ"الانحراف اليسارى" الذى يصل إلى حد البلاهة .. وليس فقط "تجاهل طبيعة المكونات لحركة الفعل السياسى والاجتماعى" بتعبير رفعت السعيد وهو ينقد الواقفين على يسار حدتو .
غير أن النتيجة الأهم التى ترتبت على مجموع هذه الخصائص النظرية ، فى إطار الأيديولوجيا الوطنية ، أن الناصرية وقفت أمام الحركة الماركسية كأبى الهول .. ففشلت كل الحيل فى سؤالها عن كنهها .. وكانت مجمل سياسات النظام تنقض على رأس المناضلين كقدر غير مفهوم .. سواء كان قدرا تعيسا كاعتقالهم وتعذيبهم أو قدرا سعيدا كالتأميمات والميثاق . ففقدت الحركة عنصر المبادرة والقدرة على التوقع . فقد ساهمت جميع هذه الخصائص فى إخفاءالسؤال السياسى الرئيسى .. وهو آليات عمل هذا النظام - الذى لم يكُف عن إدهاش المنظمات الماركسية بقراراته - والقوى التى تحرك سياساته .. كمقدمة لتحديد استراتيجية سياسية مستقلة للمنظمات الماركسية. وفى البداية كانت التحليلات التقليدية - وحتى البراجماتية الفاقدة للمعنى مثل "الطبيعة المزدوجة" - قادرة بشكل أو بآخر على إعادة تفسير الحدث بعد وقوعه . غير أن توالى المفاجآت أفقد الحركة بالضرورة الثقة بالنفس مع ظهور العجز المتكرر عن الفهم والتوقع . ويمكن القول بأن هذا الموقف من الناصرية ما زال ساريا حتى الآن لدى الأغلبية على الأقل .
وبالطبع ليس من الممكن إغفال صعوبة تقييم الانقلابات العسكرية "التقدمية" التى اجتاحت العالم الثالث آنذاك .. إذ كانت ظاهرة جديدة من نوعها .. ولم تكن الحركة الماركسية المصرية هى التى قدمت أغرب التفسيرات لها .. بل لعل المساهمة "النظرية" الأقوى التى رسخت المواقف السياسية التابعة للحركة الماركسية من النظام قد أتت من "علماء" - وقل "فقهاء" - الاتحاد السوفيتى الذين أنشأوا نظرية "التطور اللارأسمالى" لتبرير التحالف الضرورى من جانب الاتحاد السوفيتى مع هذا النظام وما يشبهه . غير أن هذا لا يمنع من ملاحظة أن هذه النظرية كانت أفضل بكثير من فكرة "المجموعة الاشتراكية فى السلطة" لأسباب بروتوكولية .. فقد كانت أكثر امتلاء بالمصطلحات الماركسية المعروفة .. وبالتالى تحوز قسطا أكبر من المشروعية الفقهية .
إلا أن قبول هذه الفكرة وغيرها من قبل الماركسيين المصريين إنما كان ينبع بالضبط من ولاءاتهم الوطنية المترتبة على أيديولوجيتهم السائدة لديهم . وبعد انتهاء الحقبة الناصرية أصبحت الماركسية المصرية أميل إلى تبنى نظرية أعقد وأشمل لتبرير خيارها الوطنى .. هى نظرية التبعية ، التى تعد النظرية الأكثر أصالة فى التعبير عن صعود هذا النوع من الأنظمة فى ظل صراع المعسكرين . وليس من الغريب أن أصبح معظم اليسار الماركسى فى مصر الآن يقول بها ، بل ويحمل لواء الوطنية بمفهوم متشدد وشامل .. وأنه كان المبادر باختراع مبدأ "الدفاع عن الثقافة القومية" ومُنظِّر الخصوصية . إلا أن تفسير هذا الموقف الوطنى الراسخ من قبل جماعة تحرص دائما على القول بتمثيلها للطبقة العاملة يحتاج إلى الانتقال إلى نقطة أخرى : التكوين
تطرح هذه الورقة تصورا مبدئيا يقول أن المنظمات الماركسية المصرية فى ظل الناصرية كانت تمثل قطاعات من الإنتليجنسيا المصرية ، لا الطبقة العاملة . ولا محل هنا - نؤكد ثانية - لفكرة الخيانة .. فالمسألة هى إيجاد تفسير أكفأ لمنطلقات وتوجهات وحركة وبنية هذه المنظمات فى إطار الظروف التاريخية التى أحاطت بنشأتها ونموها . والواقع أنه كثيرا ما أخذت المنظمات الماركسية المصرية على بعضها البعض أنها منظمات برجوازية صغيرة ، غير أن هذه الفكرة التى تأتى فى معرض الجدل السياسى/ الفقهى لم تجر أبدا دراستها بجدية ، وأقصى ما يقال فى هذا الصدد أنها مرض أصاب حركة هى فى أساسها شيوعية عمالية . وإذا كانت فكرة المرض مناسبة لإدارة صراع سياسى حول مقولات نظرية مشتركة محل للنزاع وتبادل الاتهامات فإنها مضللة تماما إذا كان هدفنا تفسير واقع الحركة السياسية الماركسية .. ذلك الواقع الذى يقول أن قطاعا كبيرا من الإنتليجنسيا المصرية قد تبنى بالفعل الماركسية وناضل داخل هذه المنظمات وشكل غالبية كوادرها.
وأول ما يستلفت الانتباه أن صعود منظمات "الحركة الثانية" قد أتى ضمن سياق تاريخى شهد فجأة صعود منظمات عديدة تنتمى إلى الإنتليجنسيا المصرية وتعادى الأحزاب البرلمانية التقليدية بشكل أو بآخر : مصر الفتاة ، الإخوان المسلمين ، الحزب الوطنى الجديد (بعد سقوط الحزب الوطنى القديم فى قبضة كبار الملاك) . وقد ظهرت إرهاصات تمرد الإنتليجنسيا المصرية على تحالفها السابق مع كبار الملاك تحت ظل الوطنية فى مظاهرات 1935 التى أجبرت الأحزاب البرلمانية على الائتلاف تحت قيادة النحاس ، مما أسفر فى النهاية عن توقيع معاهدة 1936 . ثم أتت انشقاقات الوفد وأهمها الانشقاق السعدى لتُزيد من إضعاف قبضة مجمل أحزاب النظام البرلمانية على الجماهير الطلابية والإنتليجنسوية عموما . ومع تفاقم أزمة الإنتليجنسيا الاجتماعية والاقتصادية فى الأربعينات وتزايد معدلات البطالة التى تعانى منها ازداد اقترابها من هذه المنظمات المختلفة . ولكن لما كانت الإنتليجنسيا عموما لا تتمتع بثقل طبقى قوى فإن هذه المنظمات لم تفلح فى ترجمة شعبيتها المتزايدة إلى تواجد قوى فى البرلمان .. المؤسسة السياسية الشرعية الوحيدة التى يمكن نظريا أن تقدم لهم شيئا .. بأن تترجم أفكارهم عن "العدالة الاجتماعية" ومسئولية الحكومة عمن لا يملكون - التى لعبت المنظمات الماركسية دورا تاريخيا فى التمهيد لها - إلى سياسات واقعية ملموسة .
وتكمن أهمية هذا التحول التاريخى فى أن الإنتليجنسيا أصبحت أميل إلى طرح أفقها الأيديولوجى النهائى ، أو مجتمعها المثالى ، مع تزايد سخطها وانفصالها عن البرجوازية الحاكمة . ويقوم هذا الأفق بالضرورة على تحكم الدولة المطلق - أى توليها مباشرة إدارة كافة الشئون الاقتصادية والاجتماعية .. غير أن الإنتليجنسيا لا تتبنى فعليا هذه الفكرة النموذجية إلا فى ذروة أزمتها الخاصة (*) . فبعد اليأس من النظام سوف ترى هذه الإنتليجنسيا فى تحكم الدولة ركيزة ضرورية للتغلب على أزمتها باعتبار أنها هى المختصة بحكم مؤهلاتها بشئون إدارة جهاز الدولة الحديثة ، وسترى فى هذا التحكم الأداة المثلى لتحقيق أحلامها المثالية - أيا كانت - عن المجتمع : الوسائل الإدارية .
ولا شك أن صياغة المسألة على هذا الوجه المتطرف لم تحدث صراحة أبدا .. وإذا كان ثمة تناول فكرى أقرب ما يكون منها فهو تناول سلامة موسى - تلك الشخصية الطرفية سياسيا التى وقفت خارج جميع التيارات الرئيسية - فى نظريته شبه الاشتراكية شبه الفاشية عن "السوبرمان" ، القائمة على تقديس العقل وسلطته اللامتناهية .. وبالتالى سلطة الإنتليجنسيا حاملة العقل والتى يُفترض أن تكون منزهة عن كل غرض . كان لا بد لهذا التناول الصريح أن يكون على يد شخصية طرفية سياسيا .. فالإنتليجنسيا ليست لها القدرة على إقامة نظامها الطوبوى هذا .. وليس مشروعها مأخوذا فى نقائه بقادر على اجتذاب أية طبقة اجتماعية مهمة . كما أنها بحكم فكرتها عن تجردها ، النابعة من علاقتها المباشرة بجهاز الدولة ، لا تستطيع أن تعى مطالبها إلا فى إطار أيديولوجيا مجردة تناسبها .. أى فى إطار نظرية عن التمثيل تجعل منها ممثلا لشىء أكبر منها .. كالطبقة العاملة أو الإسلام أو الوطن .
وفى إطار سيادة الأيديولوجيا الوطنية - ميراث ثورة 1919 - ركَّبت الإنتليجنسيا المصرية المتمردة طبعاتها الخاصة المختلفة - ومنها الماركسية - من الأيديولوجيا الوطنية .. فصورت هدفها ، وهو الدولة كلية الجبروت ، على أنه الأداة المثلى لنصرة القضية الوطنية .. وهو ما لا يتحقق إلا بتصفية الدولة من "الخونة" وإقامة حلف وطنى شامل يهدر بصوت واحد وتتلاشى فيه الاختلافات .
والحال أنه من المعروف جيدا أن الإنتليجنسيا المصرية لم تحتل فقط قيادة المنظمات الماركسية المختلفة ، ولكنها شكلت أغلبية كوادرها . وبينما تحقق شعار "التمصير" الذى كان يعنى أن تحتل الإنتليجنسيا المصرية موقع القيادة بدلا من الإنتليجنسيا الأجنبية والمتمصرة ، فإن شعار التعميل بمختلف أشكاله فشل فشلا ذريعا ما زال مستمرا حتى الآن . والحال أن شعار التمصير كان معبرا تماما عن اندفاع الحركة الماركسية الثانية بعيدا عن فلول الحركة الأولى المحطمة والاتجاه نحو تبنى "التحرر الوطنى" قاعدة أيديولوجية أساسية .. وموجها رئيسيا لماركسيتها .. أما التعميل فكان يتوقف على ظروف كثيرة أخرى .
وترى هذه الورقة أن مقولة "البرجوازية الصغيرة" غير دقيقة فى وصف تكوين هذه المنظمات .. فالمعنى الدقيق للمصطلح يشير إلى أصحاب الأعمال الصغيرة كصغار التجار والزراع وأصحاب الورش .. ولم يكن هؤلاء بالقطع هم جمهور المنظمات الماركسية . وقد جرت كتابات ماركسية عديدة على إدماج الموظفين وأصحاب المهن الحرة فى فئة البرجوازية الصغيرة .. عادة مع اعتبارها قسم حديث منها . غير أن هذا التصنيف يعتمد على تشابهات هامشية تتعلق بالوضع الاجتماعى الوسطى بين البرجوازية والبروليتاريا .. فى حين أن الفروق الجوهرية من حيث الوضع فى عملية الإنتاج الاجتماعى - ولا داعى للخوض فيها هنا - أكثر أهمية بكثير وتجعل من الأجدى تحليليا أن تُفرد هذه الفئة - الإنتليجنسيا - وحدها .. خارج مفهوم البرجوازية الصغيرة .
أيا كان الأمر فإن هذه الورقة ترى أن فرضيتها القائلة بأن المنظمات الماركسية المصرية تمثل فئة من الإنتليجنسيا المصرية منتج تحليليا أكثر بما لا يقاس من الفكرة القائلة بأنها منظمات فاشلة للطبقة العاملة المصرية . فهذه الفرضية تتسق مع الأيديولوجيا الوطنية المجردة التى تبنتها وأعادت تدويرها لدى الكوادر العمالية التى نجحت فى تجنيدها ، ومع موقفها العملى من الحقوق السياسية للطبقة العاملة الذى كان تابعا لموقفها من قضية وطنية النظام ، حتى إذا صرفنا النظر عن تطرفات حدتو فى هذا الصدد . كذلك تتسق هذه الفرضية مع الملمح التمثيلى للفقه الماركسى المصرى الذى ناقشناه سابقا ، والذى يُعتبر كما سبق القول جانبا جوهريا من أيديولوجيات الإنتليجنسيا . كما أن الموقف السائد الذى يطرح الديمقراطية بشكل نخبوى ضمن إطار أيديولوجيا وطنية مقدسة ، باعتبار أن الوطنية كانت الشعار المعتمد لما اصطُلح عليه بالمهام التاريخية ، يتفق تماما مع الأحلام الصوفية للإنتليجنسيا المتمردة الشابة .
وإذا كانت المنظمات الماركسية قد قبلت بمصادرة نشاطها ، فإن ذلك كان فى إطار تحقيق النظام لحلم الإنتليجنسيا الكبير بإقامة الدولة القوية الموحدة التى كانت تزداد تغلغلا فى أحشاء المجتمع ويتعاظم دور جهازها الإدارى على جميع المستويات .. بما فى ذلك المستوى الأيديولوجى العزيز على قلب الإنتليجنسيا بحكم كونه تخصص صفوتهاالدقيق . ولما كانت دعاية النظام الموجهة - ويحسن تسميتها صراحة بغسيل المخ الجماعى (مع الاعتذار الشديد لجميع أحباء الناصرية) - تقول كلاما لا غبار عليه ككل من وجهة نظر الإنتليجنسيا الماركسية المصرية .. بل لعله كان فى جزء منه كلامها هى بالذات .. يكون لا جناح عليها إذا لاذت بأحضان "الأخ الأكبر" وخضعت لشروطه فى الغناء الوطنى والثورى - كما قالت أروى صالح . صحيح أنه كان من الأفضل كثيرا للإنتليجنسيا المصرية الماركسية أن تُمنح حق الغناء كما تشاء .. وحاولت مرارا إقناع النظام بأن ذلك لن يضره فى شىء .. إلا أنه إزاء الشروط الناصرية القاسية المصحوبة بالقمع المكثف لم تكن الخيارات كثيرة .. ولم يكن من الممكن أن تقاوم الإنتليجنسيا الماركسية إغراء جهاز الدولة كلى الجبروت الذى كان جزءا من أعز أحلامها أكثر مما فعلت .
ولعله لا يخلو من دلالة هنا أن مكتب الكتاب والفنانين برئاسة كمال عبد الحليم كان رائد خط تأييد النظام على طول الخط () .. فهذه الكوادر التى تمثل صفوة الإنتليجنسيا - انطلاقا من فكرة الإنتليجنسيا عن نفسها باعتبارها مبدعة خلاقة - والتى حافظ النظام الفئوى المميز لحدتو على أيديها وأفكارها نظيفة من أى احتكاك بالطبقة التى يحبونها ويناضلون من أجلها بشكل رومانسى .. هذه الكوادر لم تجد فى داخلها أى مبرر من أى نوع للاستمرار فى مواجهة النظام . فدورها فى "تمثيل الوطن" فى وجهه "التقدمى" لن يتأثر .. بل لعل إمكانيات النظام الدعائية - الثقافية ستسمح لهم .. ليس فقط بحياة مريحة .. بل أيضا بتأثير أوسع وأكبر على الجماهير من خلال المطبوعات المدعومة والإذاعة والتليفزيون .. حيث سيكون بمستطاعهم أن "ينوروا" الجماهير على أوسع نطاق ، بل وأن يفرضوا عليها التنوير فرضا !! ويسهموا بذلك فى بناء "الاشتراكية الصامتة" التى لا يُسمع فيها صوت فوق صوت النظام والمظاهرات المؤيدة وقد تشققت فيها الحناجر من الهتاف للزعيم المفوض فى كل شىء . ولكن حتى ذلك لم يهنأوا به .. فسرعان ما وجدوا - بعد فوات الأوان - أن دورهم لا يتعدى أن يكونوا أحد الأجنحة الأيديولوجية للنظام .. جنبا إلى جنب مع الإسلاميين والليبراليين و"الرجعيين" المتحالفين مع النظام فى أجهزة أيديولوجية مختلفة .. ودخل الجميع فى تنافس مرير على منح الشرعية للنظام .. كلُّ من وجهة نظره .. وفوقهم جميعا أجهزة "الأمن الثقافى" والعناصر الموثوق بها ، التى لا تُعرف لها أيديولوجية سوى عبادة الزعيم بكل الطرق . ولم يكن ثمة مهرب سوى إعادة ترديد فكرة الصراع مع الجناح الرجعى داخل السلطة ... أما الديمقراطية فقد انتهت الحاجة إليها ما دام النظام يسهر على تطبيق "النظام الاشتراكى" .
غير أن طرح المسألة على هذا النحو طرح مبسط للغاية .. ومع أن المادة المتوفرة لا تسمح بتحليل أعقد وأشمل .. ومع أن غاية هذه الورقة طرح فرضية أكثر من التوصل إلى استنتاجات نهائية متكاملة .. فلا بد من أن نلاحظ هنا أنه وإن كانت الإنتليجنسيا المصرية عموما تمثيلية وسلطوية حين تتمرد وتطرح أيديولوجيتها الخاصة .. فلا شك أن الحركة الماركسية الثانية قد تميزت بميل ديمقراطى قوى بالمقارنة بمنظمات مثل الحزب الوطنى الجديد والإخوان المسلمين . وأهم ما تمثل فيه هذا الميل تراثها النضالى الذى أرسى تقاليد كفاحية فى حشد الجماهير وحثها على التمرد وعلاجها من عقدة الخوف من السلطة وتشجيعها على الدفاع عن حقوقها وتدريبها على أساليبه .. وهو ما يحتاج وحده إلى دراسة خاصة .
لقد قيل الكثير عن غياب الديمقراطية الداخلية عن أغلب التنظيمات الماركسية المصرية - والأجنبية - وعن الأسلوب التآمرى فى إدارة صراعاتها .. والتى حكى طرفا منها رفعت السعيد .. ولكن فى كل الأحوال لم يكن نشاط المنظمات الماركسية الجماهيرى نخبويا على نمط الإخوان المسلمين .. بل اشتهرت الكوادر الماركسية بصداميتها وتجنبها للاتفاقات الفوقية .. وضربها للأمثلة على عدم خشية السلطة والاستهانة بها .. بشكل ربما بدا أحيانا مبالغا فيه وغير مبرر كفاية أمام الجماهير ذاتها .
إن تفسير انحدار الحركة الماركسية إلى ذيل للناصرية واستغنائها عن تراثها الديمقراطى يحتاج بالإضافة إلى ما قيل من قبل عن أيديولوجية الحركة ونظريتها وبنيتها أخذ علاقتها بالناصرية بعين الاعتبار . فهذا التراث النضالى بالذات هو الذى جعل الحركة مصدر خطر محتمل بشكل دائم على النظام ، حتى وهى تؤيده. فالنظام وهو يحشد الجماهير بالوسائل الإعلامية/ الإدارية - هذا التعبير جائز تماما - كان لا بد وأن يعتبر أى نشاط مستقل من أية منظمة ماركسية مهما بلغ تأييدها له بمثابة إقامة جهاز مواز يمكن أن ينقلب عليه يوما ما . خصوصا أن تقاليد الكفاح الجماهيرى التى اشتهرت بها هذه المنظمات لم تكن مرغوبة أصلا - إذا أردنا تعبيرا مخففا - فى ظل الناصرية . لقد كان قانون الصمت التام هو الشرط الأول لاستمرار النظام برغم كل ادعاءاته التمثيلية العريضة .
كان الخلاف بين الحركة والنظام حول الموقف من حكم قاسم فى العراق نهاية بروفة التعاون مع المنظمات الماركسية المؤيدة ، متمثلا فى السماح لها بقدر محدود ومحكوم من الحركة من داخل أجهزة النظام فحسب () .. فقد أوضح ذلك الخلاف أن استئناس المناضلين صعب وغير مأمون تماما . بعدها أصبح هاجس النظام هو بالضبط كسر هذه الروح الكفاحية التى لم تتعلم ما يكفى من "الأدب" حين تتعامل مع السلطة "العليا" .. فكان التعذيب .. وكان أن أصبحت مخاطبة "الزعيم" كما يخاطب الناس بعضهم ، ولو بشكل ودى منطلق أصلا من التأييد ، مبررا كافيا للقتل .. ولسبب كهذا مات ذلك المناضل الماركسى الكبير وهو "فى عرض" "الزعيم" وتحت رحمة كلابه . وماذا يهم وقد تُرك عشرات الآلاف من الجنود بعد ذلك بسنوات قليلة يجرون فى الصحراء نحو القناة بلا معين .. غير أن كل ما أمكن فهمه من هذه الكارثة - للأسف - هو أن "الوطن" والزعيم قد هُزما .. وماذا عن هؤلاء الذين سيقوا للمذابح ؟ من حق المرء أن يصرخ غضبا .. وكفى عبادة للأصنام وانحناء لها .
على أية حال .. كان على النظام - هذا النظام بالذات - أن يحطم التقاليد الكفاحية للماركسيين بإذلالهم فى السجون .. ولا يمكن للمرء أن يتهمه بالتقصير فى ذلك . غير أن الشرط النهائى للتعاون الذى كان يكفل الاطمئنان التام للنظام كان إنهاء كل وجود لحركة مستقلة .. وهو ما عُرف بـ "الحل" .. ليضمن نهائيا عدم مواجهة مثل هذه الروح الكفاحية مرة أخرى . ونجح النظام فى دفع الحركة نحو حسم ترددها بين تراثها الكفاحى وأيديولوجيتها الوطنية التمثيلية لصالح الأخيرة . فقد وجدت الحركة نفسها محرومة عمليا من كل إمكانية للعمل الجماهيرى ، بل وملقاة فى المعتقلات بكوادرها ومتعاطفيها على حد سواء .. فماتت هذه التقاليد الكفاحية أو نامت عمليا ، وانتهت علاقة الحركة بالظهير العمالى الذى اتسع الوقت للنظام لامتصاصه داخل أجهزته العمالية البوليسية .. ليتغلب فى النهاية صوت "مكاتب الكتاب والفنانين" - إن جاز التعبير - فى المنظمات المختلفة () .. أى "صوت الوطن" الذى ما زال يدوى فى أروقة اليسار . لقد كانت هذه "المكاتب" بالتحديد هى ما يريده النظام من الحركة .. فحرص على توظيف الإنتليجنسيا الماركسية فى أجهزته لتواصل التغنى بأيديولوجيتها الوطنية المطعمة بـ"الاشتراكية العلمية" التى أقرها النظام . أما الكوادر العمالية والجماهيرية فشتتها وأبعدها عن جميع مواقع التأثير الممكنة . لقد اختار النظام الأيديولوجيا الماركسية الوطنية حليفا له .. أما التراث النضالى الجماهيرى الذى يعلِّم عدم تقديس السلطة فقد رفضه بإصرار .. وكان قرارا الحل بمثابة قرارين بالانصياع لهذا التفضيل . وكان السكوت على تشتيت العمال المناضلين .. الرفاق .. قرارا آخر اتخذته الإنتليجنسيا الماركسية يوميا وهى "تكافح ضد الرجعية" داخل أجهزة النظام .
ولعله من المهم أيضا أن نشير إلى أن عدم ظهور أى بديل للطبعة الوطنية من الماركسية له ثقل جماهيرى على كثرة المشاحنات بين المنظمات الماركسية وانشقاقاتها إنما يدل بشكل أو بآخر على غياب إمكانية فعلية آنذاك لقيام حركة مستقلة للطبقة العاملة المصرية .. وهو أمر يحتاج إلى دراسة أخرى .
بقى أن أشير إلى حقيقة تُنسى عادة .. وهو أنه لا توجد كتابة بريئة .. وليست الكتابة التى مارستها الآن أقل إغراضا من غيرها . لا تنطلق هذه الورقة من افتراض إمكانية حركة مستقلة للطبقة العاملة الآن ، ولا تنفيها .. ولكنها تفترض أن الأيديولوجيا الوطنية الماركسية قد انتهى دورها بالفعل .. منذ زمن .. ليس بالنسبة للطبقة العاملة .. ولكن بالنسبة للفئة التى حملتها بالفعل : الإنتليجنسيا المصرية المدينية .. وبالذات قطاعاتها الأكثر طموحا ومقدرة .
لقد كان من آثار استسلام المنظمات الماركسية للنظام - ولأسباب أخرى أيضا - أن انتقلت راية كفاح الإنتليجنسيا الساخطة إلى أيديولوجية الإسلام السياسى فى صورته التكفيرية .. وضد مجمل الفكرة الوطنية . وفى أقصى تعبيرات هذه الفكرة تطرفا سوف يقول شكرى مصطفى أنه لا يجد فارقا جوهريا بين أن تقتحم المباحث بيته وأن يقتحمه جنود إسرائيل .. نازعا بذلك فكرة المشروعية الوطنية ذاتها من جذورها .. وما كان بمقدور الإنتليجنسيا الماركسية أن تنجح وهى تطرح على الإنتليجنسيا المتمردة فى مواجهة هذا الموقف قصة صبرها الجميل وتأييدها المتواصل للناصرية فى ظل التعذيب .
ومع اقتراب هذه المرحلة بدورها من نهايتها يبزغ فى الأفق احتمال .. مجرد احتمال .. أن تتبنى الإنتليجنسيا خيارا آخر لحركتها .. يستفيد من التراث النضالى التحررى للحركة الماركسية المصرية - الثانية أساسا - ويخلق بديلا سياسيا متحررا من أفكار الوصاية والتمثيل والأيديولوجيا الوطنية برمتها - بما فى ذلك طبعتها الأخيرة المسماة الخصوصية والثقافة القومية والتى ترن فى أذنى رنة الخراب - لصالح أفق أوسع لحركات جماهيرية أكثر وعيا وأقل دوجمائية وأكثر شعورا بعالمية عالمنا المعاصر .. وأكثر ديمقراطية واحتراما لأرواح الناس الذين يُجَرُّون بلا حياء للموت دفاعا عن شعارات مجردة ..
ولا داعى أيضا للبكاء على لبن الناصرية المسكوب .. خصوصا أنه كان مغشوشا ... فالمصالح العمالية ليست هى الدفاع عن "المكتسبات الاشتراكية" والقطاع العام ، ولكنها حق التنظيم النقابى والسياسى المستقل للطبقة العاملة . والثقافة "القومية" لا تتهددها "القيم الأمريكية" ولا التطبيع ، ولكن يتهددها الافتقار إلى الاقتناع بحق مقاومة السلطات الاستبدادية والاحتجاج عليها بكافة الطرق . و"الشباب" لا يعانى من انهيار فى القيم العامة بمعايير الأيديولوجيا الوطنية ، ولكن من تكأكؤ حملة القيم على رأسه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار .. كلهم يريد أن يفرض وصايته .. سواء باسم الوطن أو الدين أو العدالة أو ما شاءت الإنتليجنسيا الاستبدادية أن تخترع ... وقد آن لعقلية الوصاية الاستبدادية هذه أن تُدفن غير مأسوف عليها .. آن لهذه الماكينة الثقافية الجهنمية أن تُوقف .. مرة وإلى الأبد .
كلا .. ليس العالم فقيرا إلى هذا الحد .. حد إجبارنا على الاختيار بين الأيديولوجية الوطنية وأيديولوجية الإسلام السياسى الشبيهة بها .. أو غيرها من أيديولوجيات الهوية الاستعبادية ، فهناك إمكانية .. مجرد إمكانية .. لاستعادة القيم النضالية التحررية للحركة الماركسية : القيم التى تعنى بتدريب الناس على المقاومة .. التى تنزل إلى واقعهم البسيط .. وتخلِّصهم من أيديولوجيات الهوية الاستبدادية التى - بدعوى رفعهم إلى مستوى قيم عظمى سرمدية - تستعبدهم ثم تنتهى بحامليها أنفسهم إلى أقصى درجات الاستعباد .. وكفى بالناصرية شهيدا ....