أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - بوبكر الفلالي - الفكر المقاصدي عند ابن رشد -قراءة تأويلية مقاصدية-















المزيد.....



الفكر المقاصدي عند ابن رشد -قراءة تأويلية مقاصدية-


بوبكر الفلالي

الحوار المتمدن-العدد: 4661 - 2014 / 12 / 13 - 19:21
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


نقد الاستبداد حفظ لمقصد العدل
الباحث بوبكر الفلالي
إذا كان ابن رشد قد انتقد المتكلمين من أجل حفظ مقصد الدين وهذا ما اوضحناه في المبحث الذي عقدناه لهذا الغرض وانتقد أيضا الفلاسفة من اجل حفظ مقصد العقل وأعني نقده لنظرية الفيض و للفلسفة المشرقية التي قال بها ابن سينا و التي تتميز بطبيعتها الغنوصية و الهرمسية ذات الأصل الحراني " القول إن الأجرام السماوية تحس وتتخيل علاوة على أنها تعقل " وأنها تتحكم في مصير العالم الأرضي وأن سبل الاتصال بهاهو تطهير النفس من الشهوات والمحسوسات ... فقد انتقد أيضا الاستبداد وكان حاسما في هذا الجانب ونقرأ في هذا النقد الغاية المرجوة منه وهي حفظ مقصد العدل وتعبير العدل يحضر بقوة في مصنفات ابن رشد وخاصة في كتابه "مختصر سياسة أفلاطون" الذي صاغ فيه تصوره السياسي الذي يقوم على نقد الاستبداد .
إذا كان قولنا الفائت في مبحث " نقد المتكلمين حفظ لمقصد الدين" و"نقد الفلاسفة حفظ لمقصد العقل "، هو بحث في الوجه النظري من المقاصد عند ابن رشد فان حديثنا هنا عن مقصد العدل من خلال نقد الاستبداد هو دخول الى الوجه او التجلي العملي من المقاصد عند فقيهنا .
إن الدعوة التي ندافع عنها في هذا الجزء الاخير من هذا البحث هي أن نقد ابن رشد للاستبداد وتنديده بوحداني التسلط " =المستبد " ،ومعارضته الشديدة للحكم الذي لا يقوم على شرعية قبول الجماعة ورضاها بل على القهر والطغيان ، هو حفظ لمقصد العدل وهذا ما نعمل على جلائه والبرهنة عليه .
• قول في التراث السياسي السابق عن ابن رشد
عرف التراث العربي الإسلامي ثلاثة أصناف من القول السياسي : قول يدور حول الخلافة والامامة، وقول موضوعه الآداب السلطانية ونصائح الملوك، وقول أقرب الى الفلسفة منه الى السياسة .
نشأ الصنف الاول من خلال النقاش حول مشكلة الخلافة التي تفاقمت بعد مقتل عثمان ثم انتصار معاوية وتحويله الخلافة الى ملك وهو النقاش الذي استمر قرونا عدة من موضوعات علم الكلام والفقه يقول الشهرستاني مبرزا هذا المعنى " وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة اذ ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الامامة في كل زمان " .
و الثاني برز كأهم عنصر نقل من التراث الفارسي عقب انتصار الثورة العباسية واحتلال عناصر من أصل فارسي مواقع هامة في الدولة يقول الجاحظ في هذا " ولنبدأ بملوك العجم (= الفرس ) اذ كانوا هم الاول في ذلك وعندهم أخدنا قوانين الملك والمملكة وترتيب العامة والخاصة وسياسة الرعية والزام كل طبقة حظها والاقتصار على جديلتها (= شاكلتها )"
أما الصنف الثالث الذي نقف عنده وقفة تقودنا الى ابن رشد فقد ظهر في صورة نصوص منحولة لبعض فلاسفة اليونان كنوع من رد الفعل على هيمنة الأدبيات السلطانية المأخوذة أو المتأثرة بالموروث الفارسي على ساحة التفكير السياسي في أوساط النخبة ثم كجزء من فلسفة توفيقية تدمج الدين مع الفلسفة مع الفارابي .
ونذكر في هذا الصدد نصا لاحمد بن يوسف المعروف بولد الداية 340 هـ ورد في مقدمة كتاب" العهود اليونانية" الذي قال عنه انه استخرجه من رموز كتاب" السياسة "لافلاطون (= الجمهورية ) يفنذ دعوى من يدعي تقصير اليونانيين في الكتابة السياسية وتفوق الفرس عليهم في هذا المجال " فأما تكريرك تقصير اليونانيين في السياسة فقد انفدت اليك ثلاثة عهود لهم : منها عهد ملك الى ولده فيما افضى به اليه من امر مملكته، و عهد وزير منهم الى ولده في ما ينبغي أن يستعمله المتقلد للوزارة ، وعهد رجل من أرفع طبقات العامة الى ولده فيما ينبغي ان يعمله في تصرفه . فقابل بها ما نمى اليك من غيرهم لترى محله من حسن السيرة وفضلهم على غيرهم في السياسة " .
لقد أراد أحمد ابن يوسف صاحب كتاب "العهود اليونانية" منافسة عهد اردشير الذي كرس للإستبداد و الطغيان يقول أعني أردشير : " واعلموا ان الملك والدين توأمان لا قوام لأحدهما الا بصاحبه لان الدين أس الملك وعماده ثم صار الملك بعد حارس الدين فلا بد للملك من أسه ولا بد للدين من حارسه، لان من لا حارس له ضائع وما لا اس له فمهدوم " .
هذا الذي تقدم عن التراث السياسي المنحول عن افلاطون، والذي أراد منه ولد الداية منافسة النموذج الفارسي، وبذلك فهو بعيد عن افلاطون وعن الفكر السياسي اليوناني عموما ، وليس فيه ما يربطه لا بكتاب السياسة (= الجمهورية ) لأفلاطون ولا بكتب ارسطو في السياسة والاخلاق .
أما بالنسبة لأرسطو فتحت نفس الدوافع دوافع منافسة الموروث الفارسي السياسي، ظهر كتاب زعم صاحبه انه لأرسطو وانه حصل عليه بعد اعمال الحيلة اي بعد جهد جهيد ، وصاحب هذا الادعاء هو المترجم يوحنا بن البطريق، الذي تقول كتب التراجم والفهارس ان المأمون العباسي بعثه الى بلاد الروم للبحث عن كتب الفلسفة وعلوم الاوائل والاتيان بها الى بيت الحكمة في بغداد . اما هذا الكتاب الذي اشتهر "بسر الاسرار " واسمه الحقيقي "السياسة في تدبير الرئاسة "و الذي عرف رواجا كبيرا في الادبيات السياسة في التراث العربي الاسلامي، فنقرأ فيه أن الاسكندر لما فتح بلاد فارس وتملك عظمائهم خاطب ارسطو يقول " ايها المعلم الفاضل والوزير العادل إني اعلمك أني وجدت قوما بأرض فارس لهم عقول راجحة وافهام ثاقبة يتوقع ممايلتهم على المملكة وقد عزمت على قتلهم جميعا " الخ... فكان جواب ارسطو المزعوم " فاملكهم بالإحسان عليهم والمبرة بهم تظفر بالمحبة منهم "
يتكرر إذن نفس النموذج: الاسكندر ارسطو في مقابل اردشير، و الواقع ان هذه الكتابات السياسية انضافت الى عهد اردشير لا كفكر منافس له ولا حتى متميز عنه، فلقد جمعت معه لتشكل العمود الفقري للأدبيات السياسية المعروفة بالآداب السلطانية أو نصائح الملوك .
ومن المعلوم ان هذه الآداب السلطانية لا تتناول السياسة الا من زاوية تقديم النصح للأمير من أجل استمرار حكمه واستقراره .
أما ما يشكل المسألة الاساس عندنا اي القول في العدل والقول في الظاهرة السياسية نفسها، أي مسألة الحكم وتحليل ونقد أنواع الحكومات و الدساتير لبيان النوع الذي يتحقق به الحكم العدل ، وطريقة اختيار واعداد الرئيس... الخ فذلك ما يند عن هذه الآداب. إن منطلق هذه الآداب السلطانية هو توجيه النصح للأمير القائم ، وهذا يعني ان قيامه ووجوده سابق عن اي تفكير سياسي، بل ان وجوده هو الذي يؤسس القول السياسي، وهذا يعني في موضوعنا غياب مقصد العدل وانتشار الاستبداد .
• الفارابي دمج الدين في السياسة
لم يكن القول السياسي التحليلي المباشر غائبا في الآداب السلطانية وحدها، بل لقد سجل غيابه أيضا في الحقل الفلسفي نفسه، فلا تذكر الادبيات قولا للكندي في هذا الموضوع، فقد كان اهتمامه منصرفا بالأساس الى العلوم الطبيعية و الالهية . ولا يمكن ان يلام في هذا الشأن لكون المؤلفات السياسية لكل من افلاطون وارسطو لم تكن قد ترجمت في ايامه او على الاقل لم تكن قد انتشرت .
اما ابن سينا فقد كان مشغولا ببسط القول بداية في الفلسفة المشائية " طبيعيات وميتافيزيقا ارسطو وغيره " ثم بعد ذلك انصرف الى تشييد فلسفته الخاصة، اعني الفلسفة المشرقية ذات الطبيعة الغنوصية الحرانية ، التي خرج فيها على ما قرره ارسطو واتى بأشياء تقربه من ادبيات الزهد و التصوف .
اما الفارابي الذي اهتم بكتب افلاطون السياسية اهتماما بالغا وواسعا جدا، فلم يتعامل معها الا من الزاوية الميتافيزيقية: فجاءت مدينته الفاضلة منسجمة وموافقة لنظام الكون الذي يتغيى الانسجام والتوافق، ولم يعبأ كثيرا لمعطيات الواقع ومتغيراته ، صحيح ان العلاقة بين السياسة والميتافيزيقا في الفكر اليوناني علاقة عضوية، ولكن ما يجب الانتباه اليه هو انه بينما بنى اليونان مدينتهم الالهية " الميتافيزيقا "على غرار مدينتهم السياسية، قلب الفارابي الوضع قلبا: اذ راح يشيد المدينة الفاضلة مدينته السياسية على غرار المدينة الالهية التي شيدتها الفلسفة الدينية الحرانية الغنوصية الهرمسية على أساس فكرة الفيض .
يلتقي الفارابي مع الادبيات السلطانية المكرسة للاستبداد لما يقول " ان رئيس هذه المدينة ينبغي ان يكون هو اولا، ثم يكون هو السبب في ان تحصل المدينة واجزائها ، والسبب في ان تحصل الملكات الارادية التي لأجزائها في ان تترتب مراتبها وان اختل منها جزء كان هو المرفد له بما يزيل عنه اختلاله.
غاب اذا الحديث في مقصد العدل عن مجمل الكتابات السياسية الاسلامية، لما غاب نقد الاستبداد وحضر فقط النصح للملوك وتحذير الرعية من الفتنة، لكن هذا القول لا ينبغي اخده على اطلاقه، بل لابد من استثناء الكتابات الكلامية والفقهية وخاصة منها المقاصدية وهما مرتع رتع منه ابن رشد طويلا، فقد كانت هذه المثون مليئة بالنقد السياسي وتحليل انماط الحكم وطلب العدل في ما تبشر به من سياسة .
• التصور السياسي الرشدي نقد الاستبداد لإقرار العدل
ينخرط ابن رشد بكتابه مختصر سياسة افلاطون بقوة في مضمار القول السياسي الإسلامي، الذي يؤم إقرار العدل من خلال نقده الصريح للاستبداد ، فهو يختلف عن الأيديولوجيا السلطانية التي كرستها كتب الآداب السلطانية و التي أبدت ما عبر عنه ابن رشد نفسه بوحدانية التسلط أي الاستبداد و الطغيان ، كما يختلف عن الكلام في الإمامة وفقه السياسة الذين انتهيا إلى النتيجة نفسها بإقرار مبدأ من اشتدت وطأته وجبت طاعته .
إن ابن رشد بكتابه هذا الذي نبادر إلى القول انه ليس وحده الذي يحمل تصور ابن رشد السياسي ،ونفكر هنا في ما ذكره الأستاذ علي امليل في كتابه "السلطة الثقافية والسلطة السياسية " ، بل ان فكره السياسي مبتوت في مواضيع أخرى إلى جانب شروحه و تلاخيصه على ارسطو خاصة تلخيص الخطابة ، ينخرط من موقع مختلف تماما عن القول السائد في الثقافة الإسلامية ،وهو القول الذي وصفناه بالمكرس للاستبداد من موقع الصوت المعارض للحكم المعارض في وقته وبلده باسم العلم والفلسفة .
إن فيسلوف قرطبة في نظر الدكتور الجابري في السياسة كما هو الشأن في الفلسفة والعلم الطبيعي وتفسير الوجود قد قطع مع نوع الكلام الذي تكلمه الفارابي وابن سينا في السياسة والمدينة الفاضلة ، لقد دشن خطابا جديدا في العلم المدني ( = الأخلاق و السياسة ) يواجه السياسة بموقف سياسي صريح وشجاع .لقد مارس ابن رشد في كتابه مختصر سياسة أفلاطون نقدا صريحا وجريئا للحكم في عصره .

لكن الأستاذ الجابري يغامر كثيرا لما يقول : " انه لأول مرة سيجد القارئ العربي في تراثه المتراكم عبر خمسة عشر قرنا خطابا سياسيا يواجه السياسة مواجهة صريحة مسلحة بالعلم والفلسفة ، ان ابن رشد يبدو في هذا الكتاب في صورة حديثة جدا يندد بجميع أشكال التسلط والاستبداد ويؤمن بالتقدم وينشد الإصلاح في الحكم والسياسة كما ينشده في مجال العقيدة والعلم والفلسفة " .
أما أن ابن رشد قد انتقد الاستبداد وندد به في هذا الكتاب وحتى في غيره، وهذا ما سنعرض له بتفصيل وهو ما نستفيد منه حفظ مقصد العدل، فهذا ما لا ينكره احد وفقرات الكتاب دالة عليه دلالة تامة، وأما انه أول خطاب في الفكر الإسلامي يواجه السياسة مواجهة صريحة، فهذا ما لا يمكن القول به إطلاقا، اذ التراث الفقهي والكلامي و خاصة الفقه المقاصدي مليء بالإشارات والنصوص الدالة على رفض الظلم والقهر والمنتقدة كثيرا للاستبداد، وربما كان كثير من أقوال الفقهاء أكثر وضوحا وحسما وإصرارا من قول ابن رشد ونذكر هنا كتاب "الغياتي" للجويني، ولعلي هنا اكرر ما قاله الاستاذ الريسوني في رفض القول بريادة ابن رشد لعلم المقاصد " ولو ساغ في ميزان العلم أن نؤسس ريادة ابن رشد وتأثيره في الشاطبي في مجال المقاصد على مجرد استعمال لفظ مصلحي لكان اولى أن نؤسس ذلك على استعماله لفظ مقصد الشرع ومقصود الشرع مما لم يبق فقيه ولا أصولي إلا استعمله ."
يكشف كتاب مختصر السياسة لأفلاطون عن وجه أخر من وجوه الإصلاح الرشدي هو الإصلاح السياسي ،وقد ألف ابن رشد كتابه استجابة لطلب الأمير أبي يحيى الذي عينه الخليفة المنصور الموحدي واليا على قرطبة بتدخل من ابن رشد، وأن هذا الطلب جاء في وقت كان فيه الأمير يهئ نفسه لتسلم الحكم والخلافة أثناء مرض المنصور الذي يئس منه الأطباء، و الذي دام مابين 587هـ و 589 هـ، ومن خلال مقدمة الكتاب وخاتمته يفهم أن ابن رشد لم يكن ينوي اختصار كتاب السياسة لأفلاطون، وانما لجأ اليه لكونه لم يحصل على كتاب السياسة لأرسطو " و القسم الأول من هذه الصناعة يتضمنه الكتاب المعروف ب نيقو ماخيا " لأرسطو و الثاني يفحص عنه في كتابه المعروف بالسياسة وأيضا في كتاب أفلاطون الذي نروم تلخيصه ها هنا نظرا لأنَّا لم نحصل على كتاب أرسطو .
ومعروف أن المشروع الفلسفي لابن رشد إنما يتحرك في النطاق الأرسطي وحده معتبرا ما قبل أرسطو هي مرحلة ما قبل العلم لكون الفلسفة والعلم فيها لم يكونا يعتمدان البرهان و اليقين بل مجرد الرأي الذي يعتمد الجدل .
إضطر إذن ابن رشد تحت طلب الأمير ابي يحيى كما يذهب الى ذلك الأستاذ الجابري إلى تعويض كتاب أرسطو الذي يفتقده بكتاب أفلاطون ،وبما أن فيلسوفنا كان يتوفر على كتاب أرسطو في الجزء الأول من العلم المدني اعني كتاب الأخلاق إلى نيكوماخوس، فقد سهل عليه بناء الجزء الثاني في السياسة الذي لخصه عن أفلاطون ، وسيظل طبعا المضمون افلاطونيا في مجمله .
لقد خاض افلاطون تجربة سياسية لم يتح له فيها ما كان يطمح فيه من الإصلاح، فانعكس ذلك "على كتابه الذي موضوعه تشييد مدينة فاضلة مدينة العدل فقد غلب عليه طابع التشاؤم إلى درجة لم يتردد معها في التصريح بأن تحقيق هذه المدينة على ارض الواقع أمر عسير وان مجال تحقيقها هو السماء لا الأرض وتبعه في هذا الفارابي.
أما ابن رشد فقد رام القيام بعملية إصلاح على مستوى الفكر السياسي إصلاح يبرز من خلاله أن المدينة الفاضلة ممكنة على هذه الأرض، وان تشاؤم أفلاطون ليس وحده الطريق الممكن، لان الشؤون الإنسانية هي مجال الإرادة فلا تحكمها الحتمية التي تحكم الظواهر الطبيعية " وذلك لان موضوع هذا العلم هو الأفعال الإرادية التي تصدر عنا ومبادؤها الإرادة والاختيار كما ان موضوع العلم الطبيعي هو الأشياء الطبيعية ومبادئها الطبع والطبيعة ".
لقد حرص ابن رشد وهو يكتب للأمير الذي يقدم نفسه كبديل للحكم القائم الذي تميز في أخر عهده بالاستبداد اي الحكم القائم ، اذ كان الخليفة المنصور قد قتل عمه وأخاه لمعارضتهما له ، حرص قلت على أن يهتبل الفرصة للتعبير عن أرائه السياسية من خلال نقد مباشر لنظم الحكم في التجربة الحضارية الإسلامية بكيفية عامة وفي بلده الأندلس بكيفية خاصة وفي زمنه بالتحديد .
ينطلق ابن رشد في عملية التأسيس العلمي لمضمون كتابه مختصر السياسة لأفلاطون من ما بعد أفلاطون أي من التصنيف الذي قام به ارسطو للعلوم من علوم نظرية : وتشتمل على علوم التعاليم ( الهندسة ، الحساب ، الفلك ، الموسيقى ) وعلوم الطبيعة المختصة في الظواهر الطبيعية بما في ذلك علم النفس والطب. و العلم المدني : الذي يضم المعارف التي من شأنها ان يعملها الإنسان ويعلمها، والمقصود بها هو العمل ، وهي جزءان :الأخلاق وموضوعه تدبير النفس بهدف الحصول على كمالاتها، و الثاني تدبير المدينة بهدف الحصول على كمالاتها وهو علم السياسة.
السياسة إذا هي جزء من العلم المدني وهي جزئه الثاني، أما ما يؤسسه علميا فهو نفس ما يؤسس الأول أي الأخلاق ، فالأخلاق هو الذي يؤسس علم السياسة، وعلم النفس هو الذي يؤسس الأخلاق ذلك ان موضوع الأخلاق هو ( الملكات والعادات جملة ) ،وهذه يبحث فيها بحثا علميا في علم النفس وعلم النفس فرع أو جزء من العلم الطبيعي، لان النفس كمال أول لجسم طبيعي أي ذي حياة بالقوة، وبعبارة أخرى النفس في أكثر أحوالها لا تنفعل إلا بالجسم فالفرح والحزن والشجاعة والغضب وغيرها من الأحوال مرتبطة بالجسم عضويا وهي لا تنفصل عن المادة الطبيعية للحيوان أما ما هو مفارق للمادة من الأمور المتصلة بالنفس فتدرسه الفلسفة الأولى أي ما بعد الطبيعة .
علم الأخلاق إذا يؤسس علم السياسة ولكن لا يقدم له النموذج العلمي لأنهما ليسا في واقع الأمر إلا علما واحدا هو العلم المدني، و بالتالي فالنموذج العلمي يجب ان يكون خارجهما ويكون أكثر علمية أي أكثر استجابة للمبادئ العامة التي تحكم التفكير العلمي كما حددها أرسطو في الفلسفة الأولى مثل الجوهر والعرض والقوة و الفعل و الواحد و الكثير و العلية الخ ... وهذا ما يتوفر في علم النفس ،وإذا فالنموذج الذي ينبغي أن نقرأ موضوع السياسة على ضوئه وبواسطته هو علم النفس يقول ابن رشد : فبالجملة فنسبة هذه الفضائل في أجزاء المدينة هي كنسبة القوى النفسانية في أجزاء النفس فتكون المدينة حكيمة في جزئها النظري الذي به تسود جميع أجزائها (...) و بالجملة يكون الإنسان فاضلا بجميع الفضائل العقلية والخلقية وتكون الرياسة فيه كرياسة هذه الفضائل بعضها على بعض .
إذا كان ابن رشد حريصا على بناء السياسة على العلم علم عصره ونقصد العلم الأرسطي ، فقد رفض استقالة العقل في هذا المجال أيضا ،وقد سبق لنا قول في رفضه استقالة العقل لما كنا بصدد الحديث عن نقده للفلاسفة الذي استفدنا منه حفظ مقصد العقل ، انه يرفض الأقاويل التي تكرس اليأس وتعلن انتحار السياسة ،وهذا الأمر أي اليأس يناقض طموح الأمير أبي يحيى كما يتناقض مع رغبة ابن رشد في الإصلاح السياسي ،واذا كان ابن رشد يرفض اليأس فانه يتحرك خارج الأفق الأفلاطوني ،ويخطئ هنا الدكتور مـحسن مهدي الذي يقرا سياسة ابن رشد في ضوء تصور الفارابي فلا علاقة بين القول السياسي الرشدي بماكان الفارابي يذهب إليه اذ الفارابي كان يتحرك في ضوء الأفق الأفلاطوني وبالتالي يعلن يأسه من تحقيق المدينة الفاضلة على الأرض يقول ابن رشد " فهذه أدام الله عزكم وأطال بقائكم جملة الأقاويل العلمية الضرورية في هذا الجزء من العلم المدني الذي تشتمل عليه الأقاويل المنسوبة إلى افلاطن قد بيناها باوجز قول واخصره مع اضطراب الوقت (...) وأما ما تشتمل عليه المقالة العاشرة فانه ليس ضروريا في هذا العلم.
ليس ضروريا إذا لأنه إما قول في الشعر او قول يكرس اليأس ويعلن انتحار السياسة وهذا ما لا ينسجم مع الخط الفكري لابن رشد ومع وظيفته كفقيه وقاض يهمه إصلاح وضع المدينة .
ينفصل ابن رشد عن أفلاطون ليس فحسب لكونه يقصد البرهان في حين كان قول أفلاطون قولا جدليا، بل في النتيجة التي يستخلصها وهي الشك في إمكانية قيام المدينة الفاضلة على ارض الواقع، يرفض ابن رشد هذا الشك ويرى ان قيام هذه المدينة شئ ممكن امكانا فعليا محددا بزمان ومكان وهما زمن ابن رشد " يمكن ان نربي أناسا بهذه الصفات التي وصفناهم بها ومع ذلك ينشأون وقد اختاروا الناموس العام المشترك الذي لا مناص لأمة من الأمم من اختياره ( يقصد امة الإسلام ) ويكون الى جانب ذلك شريعتهم الخاصة بهم غير مخالفة للشرائع الإنسانية وتكون الفلسفة بلغت على عهدهم غايتها وذلك كما هو عليه الحال في زماننا هذا وفي ملتنا هذه ( الإسلام ) فإذا اتفق لهؤلاء ان يكونوا أصحاب حكومة (= حكم ) وذلك في زمن لا ينقطع صار ممكنا ان توجد هذه المدينة .
ويرى انه يمكن الخروج بالمدينة الفاضلة إلى ارض الواقع مصوبا النظر جهة معطيات عصره ومجتمعه "وينبغي ان تعلم ان هذا الذي ذكره أفلاطون هو الوجه الأفضل في شأنها ولكن قد ينشأ على غير هذا الوجه غير أن ذلك يكون في زمن طويل بان تتعاقب على هذه المدن وفي أزمان طويلة ملوك فضلاء فلا يزالون يرعون هذه المدن ( ويؤثرون فيها ) قليلا قليلا إلى أن تبلغ في نهاية الأمر إلى أن تصير على أفضل تدبير، وتحول المدن نحو أن تصير فاضلة يكون بشيئين اعني بالفعال و الآراء ويزيد هذا ( المدة التي يستغرقها التحول ) قليلا او كثيرا تباعا لما تجري به النواميس القائمة في وقت وقت وتبعا لقربها من هذه المدينة الفاضلة او بعدها عنها ، وبالجملة فتحولها الى مدينة فاضلة اقرب إلى أن يكون في هذا الزمان بالأعمال الصالحة منه بالآراء الحسنة و أن يلمس ذلك في مدننا، وبالجملة فلن يصعب على من كملت لديه أجزاء الفلسفة واطلع على طرق تحول المدن ان يرى انها تؤول نحو الأفضل بالآراء وحدها و المدن التي هي فاضلة بأعمالها فقط دون آرائها هي التي يطلقون عليها المدن الإمامية وقد قيل ان هذه المدن الإمامية كانت منها مدن الفرس القدامى .
ويتجاوز ابن رشد أفلاطون إلى أرسطو حيث يؤكد ان الغاية من المدينة الفاضلة هي تمكين أهلها من بلوغ كمالاتهم, والبحث في الكمالات الإنسانية من اختصاص الجزء الأول من العلم المدني الذي درسه أرسطو في الأخلاق الى نيكوماخوس ، ويفاضل بين العلم والعمل وينتهي إلى أن الأولوية للعلم فهو الذي ينير العمل أما الأخلاق فلا بد ان تكون مصاحبة للعلم و العمل معا.
• ذكر أنواع السياسات
يظهر اهتمام ابن رشد بالواقع العربي و الأندلسي منه خاصة عندما ينتقل مع أفلاطون إلى تحليل أنواع السياسات، وهي ما نعبر عنه اليوم بأنظمة الحكم و المقارنة بينهما وبيان كيف تتحول الواحدة منها إلى الأخرى وتحليل شخصيته الرئيس في كل منها و مقارنة سلوك وطباع هؤلاء الرؤساء وكيف يتحول الواحد منهم من صنف إلى اخر .
عند الكلام عن شروط رئيس المدينة الفاضلة يستحضر ابن رشد التجربة الحضارية الإسلامية فيقرر خارج أفق أفلاطون انه " قد يتفق أيضا أن يكون رئيس هذه المدينة ممن لم يصل إلى هذه المرتبة اعني رفعة الملك غير انه يكون عارفا بالشرائع التي سنها المشرع الأول " النبي " ويكون له قدرة على استنباط ما لم يصرح به المشرع الأول فتوى فتوى وحكما حكما وهذا النوع من العلوم هو المسمى عندنا صناعة الفقه كما تكون له القدرة على الجهاد فهذا يسمى ملك السنة وقد لا يتفق ان تجتمع له هاتان الصفتان في رجل واحد (...) فهما بالضرورة يشتركان في الرئاسة كما كان عليه الأمر عند كثير من ملوك الإسلام.
وبصدد تحول السياسة الفاضلة إلى سياسة الكرامة (=طلب الشرف و المجد) يستحضر التحول الذي حصل في الإسلام مع دولة معاوية فيقول :" و أنت تقف على الذي قاله أفلاطون في تحول السياسة الفاضلة إلى السياسة الكرامية من سياسة العرب في الزمن القديم لأنهم حاكوا السياسة الفاضلة ثم تحولوا عنها أيام معاوية إلى الكرامية و يشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزر (أي جزيرة الاندلس).
وفي نهاية حديثه عن المدينة الكرامية يعقب قائلا فهذا النوع من الاجتماعات هو اجتماع الكرامة ينذر ان يوجد في امة بسيطة ولذلك يصعب أن توجد مثل هذه المدن ولتعلم أن هذا النوع من السياسات ساد عندنا كثيرا.
وعندما يتحدث عن المدينة الديمقراطية (= المدينة الجماعية عنده) التي يشتغل أهلها بأنفسهم ويدبرون شؤونهم حسب ما يقرره كبراؤهم و رؤساء بيوتهم يستحضر نماذج من الواقع الإسلامي فيقول " بين أن البيت في هذه المدينة هو المقصد الأول و المدينة إنما هي من أجله ، ولذلك كانت المدينة اسروية (تقوم على الحسب و النسب) في معناها الكامل على عكس ما عليه الحال في المدينة الفاضلة ولكل من أهل هذه المدينة إذا أراد أن يستمتع بجميع الطيبات، ولعل اغلب هذه المدن الموجودة اليوم هي جماعية و الرجل الذي هو فيها سيد حقا هو من كانت له قدرة على تدبير لها يمكن كل واحد من بلوغ شهوته ويحفظها له وهذه المدينة هي التي يرى العامة فيها أنها أحق بالحرية لان كل واحد منهم فيها يعتقد مبادئ الرأي انه أحق بأن يكون حرا.
ويستحضر ابن رشد تجربة الحكم الجماعي في قرطبة وقد كان جده قاضي قضاتها من ابرز الشخصيات , وفيه يقول اي في الحكم الجماعي :" يتبين لك هذا من المدينة الجماعية في زماننا فإنها كثيرا ما تؤول إلى تسلط، مثل ذلك الرئاسة التي قامت في أرضنا هذه اعني قرطبة بعد الخمسمائة فإنها كانت قريبة من الجماعية كلية ثم آل أمرها بعد الأربعين وخمسمائة إلى تسلط أما كيف يكون ارتضاؤه المتسلط بهذه الأعمال وما تؤول إليه سياسته أخيرا وما مقدارها ما يلحق المدينة منه من الضرر و الشر وكذا سوء الطالع الذي يلحقه بنفسه فهذا يتبين بالفحص عنه.
ونجده في "تلخيص الخطابة" يذهب الى ان السياسة في زمانه إنما هي سياسة مركبة وقل ما توجد سياسة بسيطة " و الذي قاله ظاهر عندنا من أمر السياسات التي وصلتنا أخبارها... ، وينبغي ان تعلم ان هذه السياسات التي ذكرها أرسطو ليست تلفى بسيطة وإنما تلفى أكثر ذلك مركبة كالحال في السياسة الموجودة الأن فإنها إذا تؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب.
• ضد التسلط مع العدل
يرى ابن رشد أن " الاجتماعات في كبير من الممالك الإسلامية اليوم اي في زمنه إنما هي اجتماعات بيوتات لا غير وإنما بقي لهم من النواميس الناموس الذي تحفظ عليهم حقوقهم الأولى (= كسب الضروري من العيش) وبين أن هذه المدينة كل أموالها أموال بيوتات ولذلك يضطرون في بعض الأحيان ان يخرجوا ما غلى من ممتلكاتهم و يدفعونه إلى من يقاتل عنهم ، فيعرض من ذلك مكوس وغرامات و القوم من هؤلاء صنفان صنف يعرف بالعامة وأخر يعرف بالسادة كما كان عليه الحال عند أهل فارس وكما عليه الحال في كتير من مدننا، وفي هذه الحال يسلب سادتهم عامتهم و يمضي السادة في الاستيلاء على أموال العامة إلى أن يؤدي بهم الأمر أحيانا إلى التسلط كما يعرض هذا في زماننا هذا وفي مدننا هذه.
وعند تحليل تصرفات رؤساء المدن الجماعية الذين هم رؤساء البيوتات فيها يلاحظ انه " إذا اتفق مع هذا أن كان هؤلاء الرؤساء لا يقسمون فيهم العدل هذه الأموال المأخوذة منهم وكانوا يتسلطون عليهم كان ذلك اشد الأمور قسوة على العامة وعندها يعملون للإطاحة بهؤلاء الرؤساء ويجتهد السيد فيهم في التغلب عليهم ولذلك تظهر هذه المدينة في غاية المناقضة لمدينة جودة التسلط ( الحكم الدستوري ) و الأموال المكتنزة أصلا في هذه المدينة هي اليوم في حقيقة أمرها أموال بيوتات أ عني أنها من اجل بيوت السادة ولذلك فالجزء الإمامي فيها (= الخليفة و أهله ) هو اليوم جزء التسلط بإطلاق فهذه هي المدينة الجماعية وما اتصل بها من أمور.
ويتحدث عن مدينة الغلبة فيقول " وليس الأمر كذلك في مدينة الغلبة إذ لا يطلب السادة فيها للعامة غرضا وإنما يطلبون اغراض أنفسهم وحسب ولهذا فالتشابه الذي بين المدن الإمامية ومدن الغلبة إنما كثيرا ما يكون في تحول أجزاء (طبقات ) الإمامية ( الارستقراطية) الموجودة في هذه المدن إلى طبقة غالبة تزيف من مقصدها الإمامي كما هو الحال في الأجزاء الإمامية الموجودة في المدن الحاضرة في أيامنا هذه.
وإذا كان هناك نص خالد يقرأ فيه الناس من مختلف العصور والأجيال صورة الحاكم المستبد في زمانهم ومكانهم فهو ما ورد في الكتاب التاسع من جمهورية أفلاطون ومع أن مهمة ابن رشد هي الاختصار فانه أرخى العنان لقلمه ليطنب في نقل جميع ما خطه قلم أفلاطون في هذا الموضوع الذي تكلم عن تجربة ومعاناة اذ كان قد خبر بنفسه الاستبداد " يقول عن الطاغية بالاصطلاح اليوناني ووحداني التسلط باصطلاحه هو " ولهذا يعظم هذا الفعل منه على الجماعة فيرون أن فعله هو عكس ما قصدوه من تسليمه الرئاسة لأنهم إنما قصدوا بذلك ان يحميهم من ذوي اليسار ويقربهم من ذوي الفضائل والخير و أمثالهم من أهل المدينة لما كان هو من أصحاب الحكم و السلطان ليستتب أمرهم بسياسته وسياسة خدامه ولذلك تسعى الجماعة الغاضبة عندها إلى إخراجه من مدينتهم فيضطر هو إلى استعبادهم و الاستيلاء على عتادهم وآلة أسلحتهم ، فالجماعة إنما فرت من الاستعباد بتسليمها الرئاسة إليه فإذا هي تقع في استعباد أكثر قسوة وهذه الاعمال هي جميعا من أعمال رئاسة وحدانية التسلط وهي شيء بين في أهل زماننا هذا ليس بالقول فحسب ولكن أيضا بالحس والمشاهدة.
ويصف وحداني التسلط فيقول " فوحداني التسلط أشد الناس عبودية وليس له حيلة في إتباع شهواته بل هو أبدا في حزن واسى دائمين ومن هذه صفته فهو ضعيف النفس وهو حسود ظالم لا يحب أحدا من الناس وذلك أن هذه الصفات لما كانت موجودة فيه قبل الرئاسة فهي الزم به بعدها و بالضرورة لا ريب ان يكون اليوم يواجه مآله و مصيره يوما عسيرا لان من يركب البخت و الاتفاق (المصادفة ) كثيرا ما يستخف به وهذا كله بين وجلي من هؤلاء كما قلنا مرارا لا بالقول وحسب ولكن بالمشاهدة أيضا.
ويجد ابن رشد ان شريعتنا داعية إلى العدل بل أنها شريعة إنسانية لا تضع العقاب الا في محله ومن مقاصدها نشر العدل بل لقد تكرر العدل في نصوص الشريعة كثيرا حتى انه يمكن القول انها شريعة العدل " ويشبه ان يكون ذلك كذلك في الشرائع التي وجهتها الشريعة الإنسانية كشريعتنا هذه الإلهية فالدعوة إلى الله تكون بإحدى سبيلين سبيل الموعظة وسبل الجهاد.
أما شروط الرئاسة فيرى وهو يتابع أفلاطون في هذا أن من شروطه الثبات على الرأي، وقد جاء في إحدى الشذرات المتبقية من الترجمة العربية للكتاب الذي يلخصه ابن رشد في هذا الشأن " قال أفلاطن ويجب أن يكونوا محبين لمدينتهم ثابتين على أراءهم لا يزيلهم عن ذلك السراء ولا الضراء وهكذا يجب ان يكون ولاتها. "
اما الحفظة (=الجيش او العسكر ) فيرى أفلاطون ولا شك ان ابن رشد يسايره في هذا يمنع عليهم الملكية "و الأقرب إلى الصواب انه لا ينبغي أن يكون لأحد منهم شيء يملكه" وعلى أهل المدينة ان يوفروا لهم ما يكفيهم " ينبغي ان يحظر عليهم اتخاذ المساكن الفاخرة واقتناء الضياع و المستغلات وينبغي ان نحظر عليهم اتخاذ آلات الزينة وادخار الذهب و الفضة وتنبغي ان يحظر عليهم شرب الماء في انية الذهب و الفضة.
و يسوق ابن رشد أمثلة تدل على معايشته لأوضاع الأندلس ومعرفته بتاريخ المغرب معرفة دقيقة وربما قلنا مسايرين للأستاذ الجابري أنه بهذا الكتاب يكون ابن رشد قد اثر في ابن خلدون وفي كتابه المقدمة وسيكون مختصر السياسة لابن رشد هذا بمثابة الجسر الذي انفصل بواسطته ابن خلدون عن جميع أنماط التفكير السياسي في التراث العربي الإسلامي ليدشن خطابا آخر في طبائع العمران ينقل به التفكير السياسي في الحضارة العربية وربما في تاريخ الفكر الإنساني كله من مجال الفلسفة السياسية إلى مجال فلسفة التاريخ نذكر لابن رشد قوله " و أنت تتبين ذلك واضحا جليا في القبائل من أهل الوبر ومن تغلب عليهم شظف العيش الذين يكونون أشداء يغلبون في اقصر وقت الأمم المسالمة من اهل الكفاية واليسار كما عرض ذلك بين ملك العرب وإمبراطورية الفرس.
أما الشرائع فيرى إن افضلها أن توضع كلية لأنها اذا ما وضعت كلية على أحسن وجه حركت أهل المدينة الى النواميس الجزئية بأيسر الطرق (...) أما من يضع الشرائع الجزئية دون وضع الكلية فهو بمثابة من يعالج مرضى لا يحصلون بسبب إفراطهم في المأكل و المشرب و المنكوح على أية فائدة مما يعالجون به ( ...) ويضيف ما يدل دلالة عميقة بوعيه بضرورة الإصلاح السياسي " وأما من يروم إصلاح شأن هذه المدن فهو كما قال افلاطن كمن يقطع رأس واحدة من رؤوس الثعبان المتعدد الرؤوس. ولما كان ذلك كذلك فبالضرورة يجب أن تسن بدءا مثل هذه النواميس الكلية التى سبق ذكرها والتي ستأتي فيما بعد في هذا الكتاب.
أما كون المدينة حكيمة فهو راجع في نظر أفلاطون إلى كون أهلها حصل عندهم العلم بالغاية الإنسانية وان الغاية الإنسانية إنما يوقف عليها بالعلوم النظرية وهذه المدينة يقال عنها انها حكيمة بالعلمين النظري و العملي ،أما العلم النظري فقد شرحه ابن رشد في شرح البرهان و الميتافيزيقا وغيرها ،أما العلم العملي فهو عنده قسمين القسم أول ( = أخلاق ) يذكر فيه الملكات و الأفعال الإرادية و العادات جملة في مقالة جامعة يعرف منها نسبة بعضها إلى بعض و اي الملكات تؤثر في غيرها و القسم الثاني (= السياسة ) يفحص فيه عن الكيفية التي ترسخ بها هذه الملكات في النفوس .
وعندما يتكلم في العدل بعدما حدد معاني الحكمة و الشجاعة و العفة يقول إنه الإنصاف في هذه المدينة وضبط النفس وهما فعل من أفعال العدل وهو أنه ينبغي على كل واحد من أهل المدينة ممن يسكنونها أن لا يقوم الا بعمل واحد من الأعمال التي تحتاجها وهو العمل الذي اعد له بالطبع .
و الحقيقة ان هذا المعنى يوناني وليس هو مما نقصده في هذا المقام بل العدل الذي نعتبر نحن و الذي نرى أن ابن رشد طرقه هو رفض الظلم والتنديد بالاستبداد وقد ذكرنا أشياء كثيرة عنه.
وفي الوعي بأهمية توجيه المدينة وحمايتها من الانقسام المؤذن بخرابها يقول مسايرا أفلاطون "و لا شر أعظم من السياسة التي تجعل من المدينة الواحدة مدنا متعددة كما انه لا خير أعظم في ( سياسة ) المدن من الجمع بينهما وتوحيدها
اما شروط رئيس المدينة الفاضلة وهو ما يعرضه في المقالة الثانية من الكتاب فهي وقد ذكرت في سياق غير منظم : الفضيلة النظرية أو القدرة العقلية على تعلم الفلسفة ( و الفيلسوف عنده هو من يطلب معرفة الوجود الناظر في حقيقته مجردا عن "الهيولى" وينبني هذا عنده على رأيه في الصور ) ، ويعبر عنها أحيانا بالفطرة الفائقة . وتحصيل العلم العملي أي العلم بالأخلاق و السياسة . و الفضيلة العلمية أو الفكرية ويقصد بها توخي المعرفة العلمية والتزامها دافعا للسلوك وغاية له . و الفضيلة الخلقية وهي التحلي بالخصال الفاضلة.
وعن إمكانية وجود المدينة الفاضلة فان ابن رشد يرى ان هذا ممكن في زمنه و في بلده، وهو بهذا يخرج عن الأفق الافلاطوني الذي قضى بعدم إمكانية وجود المدينة الفاضلة على ارض الواقع " وذلك كما عليه الحال في زماننا وفي ملتنا هذه (= الإسلام ) فإذا ما اتفق لمثل هؤلاء ان يكونوا أصحاب حكومة ( حكم) وذلك في زمن لا ينقطع صار ممكنا أن توجد هذه المدينة.
ويكرر نقده للفقهاء و المتكلمين وربما هم المعنيون بقوله الذي ننقله الآن ، مما يعزز فرضية الأستاذ اومليل أن الموقف السياسي الرشدي يفترض أن نلتمسه في نقده للمتكلمين يقول ابن رشد " ومن هذا النوع من الناس تظهر فئة السفسطائيين القائمين على أمر المدن ممن يعرضون عن كل جميل كالفلسفة وغيرها ويستحسنون كل ما هو قبيح وبالجملة كل الشرور المدنية الواقعة في هذه المدن أما أراءهم وتسلطهم على المدن فهي اكبر اسباب ضياع الفلسفة وانطفاء نورها و إذا ما فحصت الأمر فستجد ان هؤلاء هم الأكثر عددا في هذه المدن ( الأندلس و العالم الإسلامي ) حتى اذا نجا احد من الخلق فيها فانك لن تعدو الحق إذا قلت بان الله اصطفاه بعنايته السرمدية.
إن نقد الاستبداد يبلغ مع ابن رشد أوجه لما يجمع سلطة الفقهاء وسلطة السلطان في أفق واحد، ويحكم عليها حكما مبرما بأنها سياسة قهرية " و إذا اتفق ونشأ في هذه المدن فيلسوف حقيقي كان بمنزلة إنسان وقع بين وحوش ضارية فلا هو قادر على ان يشاركها فسادها ولا هو يأمن على نفسه منها لذلك فانه يفضل التوحد يعيش عيشة المنعزل فيذهب عنه الكمال الاسمى الذي إنما يحصل له في هذه المدينة على ما وصفنا في هذا القول " .
و بعد مقارنات بين الفضائل التي تشكل قوام الكمال الإنساني وهي الفضائل النظرية و العملية و الفضائل العلمية و الفضائل الخلقية ينتهي ابن رشد إلى أن الفضائل النظرية هي الرئيسة وهي اسمى ويعتمد في هذا على علم عصره علم النفس الأرسطي الذي كان فرعا من فروع العلم الطبيعي .
ويرى ان هذه الفضائل التي ذكرها أفلاطون إنما هي على الجهة الأفضل " وينبغي ان تعلم ان هذا الذي ذكره أفلاطون هو الوجه الأفضل في شأنها وقد تنشأ على غير هذا الوجه غير أن ذلك يكون في زمن طويل، وذلك بان يتعاقب على هذه المدن وفي أزمان طويلة (...) وبالجملة فتحولها إلى مدينة فاضلة اقرب إلى أن يكون في هذا الزمان بالأعمال الصالحة منه بالآراء الحسنة، وان يلمس ذلك في مدننا و بالجملة فلن يصعب على من كملت لديه أجزاء الفلسفة واطلع على طرق تحول المدن ان يرى انها لن تؤول نحو الأفضل بالآراء وحدها و المدن التي هي فاضلة بأعمالها فقط (= دون أراءها) هي تلك التي يطلقون عليها المدن الإمامية وقد قيل ان هذه المدينة اعنى الإمامية كانت منها مدن الفرس القدامى.
وبعد ان يذكر صفات أهل المدينة الفاضلة وما يتوجب في رئيسها من الفضائل يقول: " فهذه هي الامور التي يعتقدها افلاطون في نشأة المدينة الفاضلة ونظامها ونواميسها الموضوعة بأوجز قول وأخصره وما يبقى عليه الان من هذا الجزء هو القول في المدن الضالة البسيطة".
ولا بد من أن نقول ان نقد ابن رشد للاستبداد انما يحظر بقوة في هذه المقالة الثالثة والاخيرة من كتاب مختصر السياسة لأفلاطون اما المقالتين الاوليين فقد كانتا مجالا لعرض تعريف العلم (= العلم المدني ) وصفات المدينة الفاضلة وشروط رئيسها .
ويرى ابن رشد ان أفلاطون انما تكلم في السياسة غير الفاضلة وفي البسيطة منها فقط " ولما انتهى الكلام في هذا الجزء من هذا الفن هو الكلام في سياسة المدينة الفاضلة، رجع به القول إلى ما بقى من هذا العلم وهو الكلام في السياسات غير الفاضلة ،وهو إنما عرف بالبسيطة منها فقط، وكيف يؤول بعضها إلى بعض وقارن بين السياسة الفاضلة و بين بعضها بعضا ،و عرف اي سياسة هي في غاية المناقضة للسياسة الفاضلة .
أما السياسات البسيطة التي تكلم عنها أفلاطون فهي خمسة أنواع : " أن أفلاطون يرى أن هذه السياسات البسيطة التي تنشأ عليها هذه المدن هي في الجملة خمسة أنواع ، النوع الأول السياسة الفاضلة التي تقدم الكلام فيها و الثاني رياسة الكرامة و الثالث رياسة الرجال القلة وهي خدمة المال وتعرف برئاسة الخسة و الرابع الرياسة الجماعية والخامس رياسة وحدانية التسلط.
وفي موضع آخر يصف ابن رشد هذه الأصناف من نظم الحكم بانها بسيطة لأنه يرى أنها لا توجد على أرض الواقع الا مركبة في الغالب يقول " وينبغي ان تعلم أن هذه السياسات التي ذكرها ارسطو ليس تلفى بسيطة وإنما تلفي أكثر ذلك مركبة كالحال في السياسة الموجودة الان لأنها إذا تؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب.
ويفرق ابن رشد بين المدن الكرامية و المدن الفاضلة في ان المدن الفاضلة و ان الكرامات فيها (طلب المجد و الشرف ) انما هي أمر تابع للفضائل لا انها كرامة مقصودة لذاتها بل بصفتها ظلا يلازم الفضيلة و أما في المدن الكرامية فالكرامة فيها هي المقصودة بذاتها.
وعنده أن سياسة الكرامة ينذر ان توجد في امة بسيطة وانه ساد عندنا في العالم الإسلامي اي هذا النوع من الحكم " فهذا النوع من الاجتماعات هو اجتماع الكرامة ينذر ان يوجد في امة بسيطة و لذلك يصعب أن توجد مثل هذه المدن و لتعلم أن هذا النوع من السياسات ساد عندنا كثيرا."
أما سياسة الخسة يسميها الفارابي سياسة الخسة و الشقوة وهي "التي قصد أهلها التمتع باللذة من المأكول والمشروب و المنكوح وبالجملة اللذة من المحسوس و المتخيل وإيثار الهزل و اللعب بكل وجه ومن كل نحو " ويقول عنها ابن رشد هي التي يحرص أصحابها على جمع الخراج و الثروة والأخذ من ذلك.
اما المدن الجماعية فهي تجمع أصناف أو جماع الأشياء المختلفة مما هو في المدن الأخرى فيكون فيها قوم ممن يحب الكرامة وقوم يحبون الأموال و آخرون يحبون التغلب.
و النقد يظهر جليا في نقد ابن رشد للتجربة الإسلامية و تنديده بالتسلط يقول :" و الاجتماعات في كثير من الممالك الإسلامية إنما هي اجتماعات بيوتات لا غير ،وإنما بقي لهم من النواميس الناموس الذي يحفظ عليهم حقوقهم الأولى ، وبين أن جميع أموال المدينة أموال بيوتات وهم يضطرون في بعض الأحيان إلى أن يخرجوا من البيت مالا من ممتلكاته ويدفعونه إلى من يقاتل عنهم فيعرض من ذلك مكوس وغرامات و القوم من هؤلاء صنفان: صنف يعرف بالعامة وأخر يعرف بالسادة كما عليه الحال عند أهل فارس، وكما عليه الحال في كثير من مدننا، وفي هذه الحال يسلب سادتهم عامتهم ويمعن السادة في الاستيلاء على أموال العامة إلى أن يؤدي بهم الأمر أحيانا الى التسلط كما يعرض هذا في زماننا بهذا وفي مدننا هذه."
ويقرر هذا المعنى اي نقد التسلط ويزيده وضوحا فيقول : " وإذا اتفق مع هذا أن كان هؤلاء الرؤساء لا يقسمون فيهم بالعدل هذه الأموال المأخوذة منهم وكانوا يتسلطون عليهم كان ذلك اشد الأمور قسوة على العامة، وعندها يعملون للإطاحة بهؤلاء الرؤساء ويجتهد السيد فيهم في التغلب عليهم ،ولذلك تصير هذه المدينة في غاية المناقضة لمدينة جودة التسلط ، والأموال المكتنزة اصلا في هذه المدينة هي اليوم في حقيقة أمرها أموال بيوتات اعني انها من اجل بيوت السادة ،ولذلك فالجزء الإمامي منها (=الخليفة وأهله ) هو اليوم جزء التسلط بإطلاق فهذه هي المدينة الجماعية وما اتصل بها من أمور.
أما مدن التغلب وهي المدن التي ينقدها نقدا كبيرا ،مما دفعنا الى القول ان نقد ابن رشد هو في حقيقته من اجل حفظ مقصد العدل " أما مدن التغلب على الحقيقة فهي المدن التي يقصد من اجتماع أهلها قصد واحد وهو شهوة التسلط وحدها او شهوة الكرامة ، وبين ان أمثال هؤلاء لا يطلبون غاية يقصدونها سوى خدمة المتسلط و الاستجابة إلى إرادته ولذلك فهم اشبه بالعبيد اذا لم يكونوا عبيدا فعلا أو هذا الاجتماع في غاية المناقضة مع الاجتماع الفاضل ،لان الاجتماع الفاضل انما يقصد به أن يجعل لكل واحد من أهل المدينة نصيبا من السعادة على قدر ما في طبعه من ذلك .
ويصف المتسلط فيقول " وعلى عكس ما عليه أمر المتسلط ( صناعة الطب غرضها شفاء المرضى وغرض الملاح انما هو نجاة ركاب السفينة ) فهو لا يضع نصب عينيه الا ما تهفو إليه نفسه ولا يمكن أهل المدينة من الفاضل ( الفائض) من الأمور مما يستحقون بل إنما يجعل لهم الضروري منها بقدر ما يخدمونه غاية الخدمة كما يفعل العبيد .
وهذه المدينة انما ترمي الى كمال فرد واحد " لكن لما كانت سياسة بيوتات أهل هذه المدينة وسائر الصنائع الموجودة فيها انما ترمي الى بلوغ كمال واحد فقط وعيش بيت واحد فقط وكانت المدينة الفاضلة ايضا بيوتها وسائر انواع الناس فيها انما يقصدون من بين ما يقصدون ان يبلغ صنف واحد من الناس وهم السادة افضل ما يكون عليه فهم من عده الجهة اشبه بأهل مدينة الغلبة .
و المقارنة بين المدينة الفاضلة ومدينة الغلبة يفضي الى القول " ليس الامر كذلك في مدينة الغلبة اذ لا يطلب السادة فيها للعامة غرضا وانما يطلبون اغراض انفسهم وحسب ولهذا فالتشابه الذي بين المدن الامامية ومدن الغلبة انما كثيرا ما يكون في تحول اجزاء طبقات الامامية ( الارستوقراطية ) الموجودة في هذه المدن الى طبقة غالبة تزيف من مقصدها الإمامي كما هو الحال في الاجزاء الإمامية الموجودة في المدن الحاضرة في أيامنا هذه.
ويعرض حقيقة هذه المدينة فيقول " وهذه المدينة في جملتها مدينة غلبة وقد يتفق ان يكون لهم رفعة بسيادة الغلبة ويكون تحالفهم في هذه السيادة بمقدار غايتهم من الغلبة و القهر وهذا النوع من الغلبة هو الاكثر و بالأخص في بدء الغلبة وهذه المدينة مدينة غلبة على نوعها اعني ان الجبارين فيها مع الملك يغلبون العامة على أمرها .
و العدل أكثر وضوحا في المدن اكثر مما يظهر في الفرد " وكما يكون أمر العدل أكثر وضوحا في المدينة مما يكون عليه الحال في نفس الفرد يكون ذلك في أمر الجود .
ويرى مع افلاطون ان سياسة الكرامة أول ما تؤول اليه المدينة الفاضلة " وانما كانت هذه الرئاسة هي اول رئاسة يرى افلاطون ان المدينة الفاضلة تؤول اليها لان تفضيل الكرامة والقهر وحب السيادة أكثر الحاحا في نفوس ذوي الفضائل منهم من غيرها من الشهوات.
ويضيف ان الرئيس اذا تغلب عليه حب الكرامة ( طلب المجد و الشرف) كل التغلب ابتعد عن مثل هذه المدن التي تخلو من هذا النوع من الرئاسة ( ليصير امره الى الطغيان) ان الاشرار يخضعون لرئاسة الغلبة.
ويعرض ما يؤكد هذا في التاريخ الاسلامي فيقول " وانت تقف على الذي قاله افلاطون في تحول السياسة الفاضلة الى السياسة الكرامية من سياسة العرب في الزمن القديم لانهم حاكوا السياسة الفاضلة ثم تحولوا عنها أيام معاوية الى الكرامية و يشبه ان يكون الامر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزر ( جزيرة الاندلس )
اما سياسة الكرامة فتتحول في نظر افلاطون الى سياسة القلة أي يكون فيها الولاة من ذوي اليسار "ان هذه السياسة اعني الكرامية تتحول الى رئاسة القلة وهذه الرئاسة هي التي يكون فيها الولاة من ذوي اليسار ولا يشاركهم فيها من قل ماله اصلا.
ويقارن بين سياسة الكرامة وسياسة القلة فيرى ان سياسة الكرامة اقرب الى المدينة الفاضلة من سياسة القلة فهذه فيها جباية للأموال وكثير من الشرور.
اما سياسة الشهوة فيرى انها اقرب الى سياسة الكرامة ذلك أن المدينة الكرامية ومدينة الشهوة نوع واحد ويقدم مثالا من تاريخ المغرب، وهذا يبرز مدى فهمه للتاريخ السياسي المغربي " وكثيرا ما نرى الملوك فيها يؤول امرهم الى فساد هؤلاء مثال ذلك في هذا الزمان دولة القوم المعروفين بالمرابطين اذ كانوا في ابتداء امرهم يتبعون السياسة الشرعية وذلك مع أول القائمين فيهم ( يوسف ابن تاشفين ) ثم تحولوا مع ابنه الى السياسة الكرامية لما اصابه هو ايضا حب المال ، ثم تحول حفيده الى السياسة الشهوانية في جميع أنواع الاشياء الشهوانية ففسدت المدينة في أيامه وذلك ان السياسة التي ناهضته في هذا الوقت كانت شبيهة بالسياسة الشرعية دولة الموحدين . و يظهر من هذا النص خاصة مدى التأثير الذي مارسه ابن رشد على ابن خلدون و الأصح القول أن ابن خلدون عرف اقوال اليونانيين في السياسة من تلاخيص ابن رشد و شروحه، و الأكثر من هذا أن ابن رشد فعلا فهم القول السياسي اليوناني و أدرك مغزاه و عندي أنه أخذ من اليونانيين ما يمكنه من نقذ الاستبداد و فهم تحولاته كما اخذ من الفقه المقاصدي الاسلامي الروح السارية فيه و التي تقف ضد الظلم و القهر و الطغيان.
• في نقد وحدانية التسلط
يجد ابن رشد أن السبب وراء ظهور وحداني التسلط المستبد او الطاغية هو الافراط في طلب الحرية و التزيد منها الى ما لا نهاية.
يحلل ابن رشد كيف يظهر المستبد وكيف تسلط على قومه وغيرهم " اذا ما وجد في اول امره جماعة تطيعه بالحاق الضرر بمن يرغب هو في ايذائه وزجره بالإكراه و الفتك بمن يريد الفتك به ولايزال هكذا يسلط صنفا من الناس على آخر" ويضيف " ولا يزال الى ان يصبح عدوا لغالبية أهل المدينة وعندها اما ان يجمعوا امرهم على قتله واما أن يبسط سلطانه عليهم ويتغلب على الجميع ويصير وحداني التسلط.
ويعرض نماذج من زمانه من أجل ادانتها و بالتالي الدفاع عن فكرة العدل يتبين لك هذا من المدينة الجماعية في زماننا فإنها كثيرا ما تؤول الى تسلط مثال الرئاسة التي قامت في ارضنا هذه اعني قرطبة بعد الخمسمائة لأنها كانت قريبة من الجماعية كلية ثم آل امرها بعد الاربعين وخمسمائة الى تسلط .
ويصف وحداني التسلط بأبشع الصفات و النعوت فحاله كمن خرج عن عقله " فإذا كان حال وحداني التسلط وهي حال من لم ينظر الى أشرف الاجزاء فيه وهو العقل لا قليلا ولا كثيرا فحاله هذه يشبه حال المخبول و السكران وعقله مثل عقله ولذلك فحكمه وحاله من جميع الوجوه كحال المجانين و السكارى ولذلك أمثال هؤلاء المختلين لا يريدون الرئاسة على الناس فقط بل على الملائكة لو استطاعوا الى ذلك سبيلا.
اما نهج المتسلط فهو نهج في غاية الجور ويكرر موقفه السلبي من سياسة عصره فيقول " كما هو الحال في هذه المدن وهذا هو الذي في غاية السوء و الفساد.
ويندد بالاستبداد ويدينه إدانة مطلقة فيقول " وليس هناك أعظم شرا من وحداني التسلط و المقارنة بين الاستبداد وعكسه تكون أجلي في مقارنة المدينة الى المدينة منها في الفرد الى الفرد."
ويتغلغل في نفسانية المتسلط فيصفه وصفا دقيقا يصل الى حد الحكم عليه بالعبودية " وجلي ان هذه المدينة في غاية العبودية وابعد ما تكون عن الحرية وإذا كان هذا كذلك فكذا الامر في المتسلط اعني أن نفسه مملوءة بالعبودية وخالية من الحرية وذلك لان الجزء الارذل فيما هو الحاكم بأمرها و الاجزاء التي في غاية الصلاح مستعبدة.
وينكر ابن رشد على مثقفي وفقهاء عصره لثقتهم في وحداني التسلط وركونهم الى سياسته " وقد رأيت كثيرا من الشعراء الناشئين في هذه المدن ( في الاندلس ) يفضلون هذه السياسة ويرون انها المقصد الاسمى وان في نفس وحداني التسلط الهمة ولذلك تراهم يشدون من أمر رئاسته.
ينتهي ابن رشد الى رفض الاستبداد بشدة وادانته بل تقبيحه لدى الناس بطريقة تفيد أن ابن رشد وكأنه يعد للمشاركة في رفض شامل لسياسة وحداني التسلط " ولمكان هذا فوحداني التسلط اشد الناس عبودية ومن هذه صفته فهو ضعيف النفس وحسود وظالم ولا يحب أحدا من الناس وبالضرورة لا ريب ان يكون اليوم الذي يواجه فيه مآله ومصيره يوما عسيرا لان من يركب البخت والاتفاق (= المصادقة) كثيرا ما يستخف به وهذا كله بين وجلي من هؤلاء كما قلنا مرارا لا بالقول وحسب ولكن بالمشاهدة أيضا.
ويعرض من أوصاف عصره ما يدل على خبرته الاجتماعية الكبيرة وأيضا خبرته بنفسانية أهل مدينته " ويتبين لك مما طرأ عندنا من الملكات والاخلاق بعد العام الاربعين لدى اصحاب السيادة و المراتب وذلك انه لما انقطعت اسباب السياسة الكرامية التي نشأوا عليها صار أمرهم الى الدنيويات التي هم عليها الان وانما يثبت منهم الخلق الفاضل من كانت به فضيلة الشريعة القرآنية وهم فيهم قلة .
وينهي ابن رشد تحليله السياسي ببيان ان الاوضاع في زمنه مضطربة ما يدل على معاناته في المدن المستبدة التي أجاد في وصفها ووصف طريقة الحكم فيها وقال مخاطبا من كلفه بهذا الكتاب مختصر سياسة افلاطون " فهذا أدام الله عزكم واطال بقائكم جملة الاقاويل العلمية الضرورية في هذا الجزء من العلم المدني التي تشتمل عليه الاقاويل المنسوبة إلى افلاطن قد بيناها بأوجز ما أمكن مع اضطراب الوقت. "
• نقد سياسي لعلم الكلام
يقول ابن رشد عن صناعة الجدل التي احترفها المتكلمون من المسلمين " أما منفعتها في مناظرة الجمهور فالضرورة الداعية في اجتماعهم على العدل و الفضيلة الى اعتقاد كثير من الامور النظرية النافعة لهم في الاجتماع المدني.
يلخص ابن رشد هنا قول ارسطو اي شرح ما يقوله فيلسوف اخر عن قيم اخلاقية وسياسية تتعلق بنظام مدينته اليونانية ولذلك يمكن القول أن احدى غايات ابن رشد من التعريف بالعلم الحق وتقريبه الى قارئه المسلم ووضعه في مقابل –او فوق – المعارف المتداولة لدى المسلمين من فقهاء ومتكلمين مما يدعو لطرح السؤال لماذا انشغل ابن رشد وهو في عز انخراطه في بناء قوله في الفلسفة في نقد المتكلمين ومناهج الاسلاميين ؟ اننا لا نطرح هذا السؤال رغبة في اكتناه القول الرشدي معرفيا بقدر ما نطرحه من أجل معرفة الدوافع السياسية التي كانت وراء نقد ابن رشد لعلم الكلام ، و ذلك اننا طرحنا هذا الامر في مبحث نقد المتكلمين حفظ لمقصد الدين.
اما اذا تساءلنا عن العلاقة بين ابن رشد الشارح وابن رشد ناقد فكر الاسلاميين فإننا لا نعدم اجابة وهي ان ابن رشد رغب في امتحان قول المتكلمين على محك العلم الارسطي وتوصل الى ان " اغنى مراتب الكلام ان يكون حكمة جدلية لا برهانية ."
لكن السؤال يبقي ملحا ما تفسير هذا النقد العنيف الذي وجهه ابن رشد الى المتكلمين والى الاشاعرة بالذات والى الغزالي منهم خاصة ؟ لقد سبق ان اجبنا وقلنا إنه بهدف حفظ مقصد الدين لكنا هنا نبغي امرا آخر فالقضية كما يقول علي اومليل ابعد من أن تكون مجرد قضية فكرية بل يرى انها كانت قضية سياسية بالدرجة الاولى.
يذهب الاستاذ علي أومليل في دعوى مثيرة للغاية ولكن لا تعدم ما يبررها الى ان نقد ابن رشد للمتكلمين و للأشاعرة خاصة كانت له غاية سياسية محضة " ان دعوانا الاساسية هنا هي ان نقد ابن رشد للأشاعرة و الغزالي كان نقدا بكيفية غير مباشرة لمؤسس السلطة الموحدية في المغرب " الذي اذاع المذهب الاشعري ورسمته الدولة التي إنبنت على دعوته.
ويطرح اومليل السؤال هل ان نقد ابن رشد للأشاعرة هنا هو ارتداد الى موقف السلطة المرابطية التي ابطلت كتب الاصول بإيعاز من فقهائها وتعقبت كتب الغزالي وامرت بإحراق "الاحياء" يقول عبد الواحد المراكشي "فقرروا عند امير المسلمين تقبيح علم الكلام وكراهة السلف له (...) وانه بدعة في الدين.
لقد عملت الدولة الموحدية النقيض مما فعله المرابطون فاهتمت بكتب علم الكلام وعملت على رواجها وبناء على شعارها "نبذ التقليد و العودة الى الاصول" اظهرت علم الكلام يقول ابن طملوس " وندب ( ابن تومرت ) الناس الى قراءة كتب الغزالي رحمه الله وعرف من مذهبه انه يوافقه فاخذ الناس في قراءتها (...) ولم يبق في هذه الجهات من لم يغلب عليه حب كتب الغزالي الا من غلب عليه افراط الجمود من غلاة المقلدين.
تحدث المؤرخون عن دور ابن تومرت في نشر العقيدة الاشعرية في المغرب ، يقول ابن خلدون في هذا " وحملهم على القول بالتأويل والاخذ بمذهب الاشعرية في كافة العقائد واعلن إمامتهم ووجوب تقليدهم"
اما لماذا هذا النقد الذي وجهه ابن رشد الى المتكلمين فلا بد من العودة مرة اخرى الى ما قدمه الدكتور علي اومليل عن نقد ابن رشد للمتكلمين؟
يرى اومليل ان السبب هو ان علم الكلام هو مجال يلتقى فيه الدين بالسياسة او تختلطان وابن رشد لا يريد لهما ان يختلطا إن هذا الخلط هو الذي جر العامة في نظره الى الاشتغال بالسياسة عن طريق الدين الذي يتسيس بواسطة قضايا علم الكلام التي تصبح قضايا خلاف دينية –سياسية يتصارع حولها العامة .
يدعو ابن رشد الى ابقاء الدين في المستوى الذي لا يصبح فيه سياسيا اي مستوى العبادات و المعاملات الضرورية اي الدين البسيط المفهوم لعامة الناس لعموم التعليم الذي في الكتاب العزيز .
ويرى الاستاذ اومليل أن النقد الذي كاله ابن رشد للكلام والذي افضنا فيه في المبحث الاول " نقد المتكلمين حفظ لمقصد الدين " ينطبق على ابن تومرت – الذي لم يستطع ابن رشد التصريح باسمه – اكثر مما ينطبق على الغزالي فالداعية المغربي هو الذي عمم قضايا علم الكلام على الجمهور الواسع وليس الفقيه المتكلم المشرقي ، فالغزالي لم يقل بتعميم علم الكلام بل العكس هو الصحيح وكتبه واضحة في هذا المجال ولا غرو فهو صاحب المضنون به على غير اهله و الجام العوام عن علم الكلام بل هو الموجود وراء كتاب الشهرستاني "نهاية الأقدام في علم الكلام".
اما ثناء ابن رشد على مؤسس الدولة فهو لا يعني تسليمه بما فعله هذا في امر الدين انما هي عادة الفقهاء مع السلاطين " وقد رفع الله كثيرا من الشرور و الجهالات و المسالك المضلات بهذا الامر الغالب وطرق به الى كثير من الخيرات وبخاصة على الصنف الذين سلكوا مسلك النظر ورغبوا في معرفة الحق . وذلك انه دعا الجمهور الى معرفة الله عن طريق وسط ارتفع عن حضيض المقلدين وانحط عن تشغيب المتكلمين ثم ان هذا النص المذكور آنفا كتب سنة 572 هـ وهو زمن الخليفة المتنور ابو يعقوب يوسف الذي قدم ابن طفيل اليه ابن رشد. وفي نفس الاتجاه كان الجويني استاذ الغزالي و الذي يعتبر مرجعية كبيرة عند ابن رشد خاصة في كتابه الكشف قال " اجمع المحققون على أن العوام ليس لهم ان يتعلقوا بمذاهب اعيان الصحابة (ض) بل عليهم ان يتبعوا مذاهب الائمة الذين سبروا ونظروا .
الخلاف اذا ليس بين ابن رشد والغزالي فيما يخص علاقة العامة بالعلم بل ان الاختلاف في هذه المسألة هو بين ابن رشد وابن تومرت الذي بعد عودته من المشرق " نزل على قومه وذلك سنة خمس عشر وخمسمائة وبنى رابطة للعلماء فاجتمعت اليه الطلبة و القبائل يعلمهم المرشدة باللسان البربري و يذهب باحثون اعتمادا على أصحاب الطبقات ان ابن رشد له شرح على العقيدة الحمرانية لابن تومرت مثل محمد بن شريفة و ابراهيم بورشاشن وقبلهم رينان+
يهدف نقد ابن رشد للمتكلمين الى انتزاع السلطة العلمية منهم، لقد كانت هذه السلطة في يد الفقهاء في العصر المرابطي وحين اعادت الدولة الموحدية الاعتبار الى علم الكلام كان من شأن ذلك ان يعزز سلطتهم وكانت غاية ابن رشد ان يبقي سلطة علمية واحدة هي سلطة الفلسفة .
ان المشروع التومرتي الموحدي القائم على ربط العوام في نظام محكم حول عقيدة صارمة و الذي تأسست عليه الدولة الموحدية هو مشروع فاسد من الاساس بحسب ابن رشد لأنه تسبب في انخراط العامة في المناقشات الفكرية و الفقهية التي لا يملكون أسبابها العلمية و لأنه أيضا نشر الجدل و الجدل مرفوض و مذموم عند ابن رشد.
ينكر الاستاذ علي أومليل اذن ان يكون الموقف السياسي الرشدي هو ما جاء في شروح ابن رشد على ارسطو و الذي ذهب اليه كثيرون مثل "تلخيص الخطابة" و "مختصر سياسة أفلاطون" و أيضا "تلخيص الجدل"، و "تلخيص الاخلاق" ان الذي نراه هو أن افكار ابن رشد السياسية لا توجد _على عكس ما قيل _ضمن شروحه على كتابات ارسطو في السياسة بل ينبغى البحث عنها في صنف آخر من كتبه غير الشروح أي كتبه التي وضعها لنقد المتكلمين (مثل فصل المقال و الكشف عن مناهج الادلة و التهافت ) وهنا يجب أن نقوم بنوع من اعادة التركيب النظري لكي نستخرج الآراء السياسية الحقيقية لابن رشد وهي تختلف تماما عن اراء ارسطو.
ويعرض الاستاذ امثلة تدل على اختلاف مواقف الشارح و استاذه ارسطو منها :
- ان الجدل عند ارسطو هو منطق السياسة انه وسيلة للتربية المدنية للجمهور لان الجمهور عند ارسطو جمهور مواطني المدينة هو جمهور فاعل في سياستها.
- أما عند ابن رشد فالجمهور هم العامة وهؤلاء ينبغي ان يبعدوا عن السياسة و عن كل علم يتصل بها بل العلم الضروري لهؤلاء هو العلم الديني البسيط " و الغريب أن ابن رشد حتى في تلخيصه لسياسة افلاطن يذهب الى هذا الرأي وهذا القول من ابن رشد في العامة تعبير عن نقد صريح لابن تومرت .
ان المدينة السياسية لم تكن حقيقتها واضحة عند ابن رشد فالجدل منهج للتربية السياسية لجمهور المواطنين في المدينة اما الفقيه فيستعمل الجدل لا كوسيلة للتربية السياسية للجمهور بل للدعوة الى ابعاده عن مجال السياسة .
ان اراء ابن رشد السياسية ليست تلك التي تضمنتها شروحه على السياسة الفلسفية الارسطية انها تمثل مفهومه المجرد للسياسة اما مفهومه الواقعي لها اي موقفه السياسي فهو امر مختلف فالجدل الذي جعل منه ارسطو منطق للسياسة ووسيلة لتربية الجمهور على المواطنة قد استبعده ابن رشد تماما من مجال السياسة الفعلية لأنه هو المنهج الذي يلجأ اليه المتكلمون للزج بالعامة في قضاياهم الكلامية التي سرعان ما تنقلب الى قضايا سياسية .
ملخص القول عند اومليل ان افكار ابن رشد ومواقفه السياسية الحقيقية ينبغي البحث عنها خارج شروحه على النصوص السياسية الارسطية ان وجهة النظر التي عبر عنها علي اومليل جديرة بالتأمل ذلك ان المؤاخذات التي اخذها على ابن رشد من انه لم يفهم القول السياسي الارسطي لأنه لم يكن على اطلاع بواقع وتاريخ المدينة اليونانية اذ لو كان كذلك لما حمل على الجدل حملته المعروفة ولعرف وظيفته. ان هذا النقد يشبه نقدا كان وجهه طه حسين لابن رشد من انه لم يفهم كتابي الخطابة والشعر لأرسطو (ورد هذا النقد في تقديم طه حسين لكتاب نقد النثر لابن قتيبة) وتابعه في هذا عبد الرحمان بدوي ، لكن ما يهمنا نحن هو ان ابن رشد سواء فهم السياق الفكري والسياسي والفلسفي اليوناني او لم يفهمه فانه قد توصل الى خطورة الاستبداد وضرره، ونشير هنا الى ان هذا النقد الذي وجهه للاستبداد والذي نستفيد منه حفظ مقصد العدل وهذا المقصد بحفظه يحفظ مقصد المال والنفس ، انما استفاده من مطالعته لكتب الفقه وللتجربة السياسية الاسلامية ولمقاصد هذا الدين الحنيف ولم يفده كما قال ابن خلدون عن نفسه لا من حكمة ارسطو ولا من سياسة مؤبدان.
• الفقه والسياسة او العملي في فلسفة ابن رشد منزلة العقل
يصنف ابن رشد العلوم و الصنائع الفلسفية من حيث عموميتها وعلى اساس الغاية منها الى ثلاثة اقسام علوم نظرية وعلوم عملية وعلوم مسددة. العلوم النظرية غايتها العلم فقط اما العلوم العملية فغايتها العمل و العلوم المستددة وهي التي تسدد النظر في العلوم السابقة ويدرج تحتها الصنائع المنطقية.
اما العلوم العملية وهي قصدنا في هذا الحيز والتي غايتها العمل فمختلفة عن العلوم النظرية من حيث موضوعها ومبادئها و تنحصر عند ابن رشد في العلم المدني وموضوعه الافعال الارادية التي تصدر عن الانسان اما مبدأه فهما الارادة و الاختيار وينقسم هذا العلم الى جزئين : جزء اخلاقي يبحث في الافعال الارادية و العلاقات بينها و الجزء الثاني جزء سياسي يفحص عن السبل المتوخاة لغرس الفضائل في النفوس.
و السؤال الان هو موقع صناعة الفقه من هذه العلوم الفلسفية ؟
في مختصر "المستصفى" يقسم ابن رشد المعارف و العلوم الى اصناف ثلاثة: معرفة غايتها الاعتقاد الحاصل عنها في النفس ويمثل لذلك بحدوث العالم ومعرفة غايتها العمل وهي اما معرفة جزئية كالعلم بأحكام الصلاة و الزكاة واما كلية بعيدة عن افادة كالعلم بالأصول التي تبنى عليها الفروع الجزئية ومعرفة تعطي القوانين و الاحوال التي يتسدد بها الذهن في المعرفتين الجزئية و الكلية ويسمى هذه قانونا.
ومهما يكن من امر تحديد وضعية الفقه بالنسبة الى العلوم الفلسفية فان القول السياسي و الاخلاقي من جهة و القول الفقهي من جهة اخرى فإنها تشترك في النظر الى الفضائل. القول الاخلاقي يعدد الفضائل بإطلاق ويحصيها اما القول السياسي فيرشد الى شروط عمل الفضائل وينبه الى طرق تعليمها و تثبيتها والى إزالة الرذائل و قلعها من النفوس الشريرة اما الفقه فيقتضي بذاته الفضيلة العملية لان افعاله تولد التقوى وتقصدها ان العلم المدني عند ابن رشد يكاد يكون قولا في الاخلاق ليس غير، قسمه الاول بحث نظري في الفضائل الاخلاقية وقسمه الثاني نظر في كيفية اشتغال و ترسيخ هذه الفضائل ومن هنا تكون الفضيلة الاخلاقية الغاية للعلم المدني ويسهل بالتالي ربطها بالفقه.
لقد كان ابن رشد اقرب الى الفارابي في ربطه بين الفقه و السياسة او قل كان أقرب إلى فقهاء الإسلام الكبار في هذا المعنى لان موجهاته كانت موجهات الفلسفة السياسية او العلم المدني بجزئيه الاخلاق و السياسة فكانت نظرته نظرة فقيه فيلسوف و سياسي يبحث عن الاسس المعرفية و الاجتماعية لبناء المدينة انطلاقا من البحث في مفهوم الفضيلة ذي النسب العميق للفقه.
ان النظر الفقهي يندرج تحت العلم السياسي باعتباره علما عمليا يتضمن الاشياء الارادية التي مبدأ وجودها منا وكما ان العلم المدني قسمان قسم نظري يحتويه كتاب الاخلاق ينظر في الفضائل بإطلاق وقسم عملي يتضمنه كتاب السياسة "جوامع سياسة افلاطون" ينظر في كيفية ترسيخ الفضائل، كذلك الفقه يتضمن القواعد العامة التي يقوم عليها الفقه (= علم اصول الفقه) وجزء خاص ألسق بالعمل ويتضمن المسائل الجزئية القريبة الى الفعل وهو الفقه بأحكامه التفصيلية و لقد وجد ابن رشد حال مدينته ووضعها الفقهي مزر (= نظر في الجزئيات و الفروع ) فضج لها ورفضها كما وجد وضع مدينته سياسيا مهين (= وحدانية التسلط) فطلب اصلاحها.
ان الفقه عند ابن رشد لا يوجد في المدينة الاسلامية من جهة الافضل وانما يوجد من جهة الضرورة اذ الانسان باعتبار النقص العارض له في وجوده تحتم عليه ان ينشئ دساتير وسننا يضبط بها علاقاته بالأخرين وينشئ سلطة تقوم على فرض السنن وتعليمها فلا يمكن للإنسان ان يوجد بدون هذه الصناعة العملية الا اذا كان يعيش في المدينة الفاضلة من هنا حرص ابن رشد على الفقه في الوقت الذي لا يترك لعلم الكلام اي وظيفة في المدينة الاسلامية فالفقيه و القاضي كانا النموذج الاعلى لرجل العلم في الاسلام .
ووضع السنن التي تحكم المدينة الاسلامية وتحميها من شرور الافراد و آثامهم كما تقيها الفرقة و الشقاق ووضع السنن وما يحتاج اليه واضعها هو من مهام علم السياسة.
ان السنن ضرورية لتلتئم المدن جميعها وليس ضرورية فقط لطائفة الحكام و الفلاسفة كما يذهب افلاطون و السنن انتاجها من وظائف المجتهد و المجتهد عنده هو الفقيه الذي ينظر في الاحكام الشرعية التي ليس فيها دليل قطعي ولهذا المعنى يفزع الى الفقه في انواع القضايا التي تعرض عليه سواء داخلة في جنس الخصومات او المشاورات او المنافرات .
لقد كان ابن رشد قاضيا ولا بد ان القضاء كان جسرا للاهتمام بالسياسة من طرف ابن رشد ولقد كان ابن رشد على خلاف افلاطون فهو يرى المدينة الفاضلة ممكنة وهو موقف يعبر عن شخصيته الفقهية التي تربط بين الشريعة و التشريع .
كتب ابن رشد "تلخيص الخطابة" وهو كتاب في السياسة بالعرض قبل الضروري في السياسة وهو كتاب في السياسة بالقصد الاول وقد خصة ابن رشد بعناية خاصة لما وفره له من فرصة لنقذ الاستبداد و التنديد بالظلم، و لأنه كان مناسبة لأن يتكلم ابن رشد عن مقصد العدل باعتباره رأس المقاصد العملية و لأنه أي مقصد العدل يضم في جوفه كافة المقاصد الاخرى و أخص منها مقصدي النفس و المال و العرض و أيضا الدين و العقل وقد كانت ممارسته للقضاء و تلخيصه لكتاب الخطابة عناصر حاسمة في انخراط ابن رشد في الفضاء السياسي .
لقد اراد ابن رشد بنقده للفقهاء و المتكلمين الفقهاء الذين اهتموا بالفروع ونسوا الاجتهاد ان يحرر العقل الاسلامي من سلطة هؤلاء ولم يكن يقصد تحرير العقل الانساني من الايمان كما زعم بعض المستشرقين الذين تصوروا العقلانية الرشدية على غرار عقلانية الانوار
يدين ابن رشد الجبارين في مدن الاندلس الذين لا يفتأون يتسلطون و يفتكون بالرعية، كما يدين في كتاب الخطابة ملوك الجور الذين اهانوا الامام مالك بالضرب وهذا الحرص على ادانة الحكم المستبد هو ما ميز ابن رشد عن الفارابي الذي اقتصر على عرض لهذا الحكم و غيره من أصناف الحكم اكثر من وصفه و نقده للحاكم.
الخلاصة ان ابن رشد انتقد الاستبداد نقدا مرا وكان هذا منه انخراطا واعيا في المشكل السياسي الذي يطرحه زمنه ومدينته لذلك قلنا ان هذا النقد هو حفظ لمقصد العدل وحفظ مقصد العدل يحفظ النفس و المال أما الاخلاق فتحفظ العرض و قد تكلم عنها ابن رشد أيضا .

السياسة و الاخلاق أو الفضيلة و العفة حفظ لمقصد العرض :
لخص ابن رشد كتاب الاخلاق الى نيقوماخوس بعد اختصاره لكتاب "السياسة" لأفلاطون وانطلاقا من هذا المعطى أخرنا القول في الاخلاق بعدما تقدم معنا القول في السياسة ونقد ابن رشد للاستبداد و الذي أراد منه حفظ مقصد العدل
اذا كانت الشرعية السياسية في الفلسفة المعاصرة ينبغي ان تتأسس انطلاقا من العقلانية باعتبارها أصل كل نظام ديمقراطي في رأي ماكس فيبير فإن الشرعية السياسية عند ارسطو و ابن رشد انما تتأسس على الاخلاق وهكذا ينبهنا في مدخل كتاب الاخلاق الى ان الغاية من الكتاب ليست هي ان نعلم ما الفضيلة ولكن لنسلك سبيلها ونصير اخيارا.
كيف قرأ ابن رشد ثنائية الاخلاق و السياسة هل احتفظ بنفس البناء الارسطي لكتاب الاخلاق ؟
اما تلخيص كتاب الاخلاق النقوماخية فإنه هو الاخر مفقود في لغته الاصل وربما توجد منه نسخة عبرية وقد ذكره البرنامج وعبد المالك المراكشي في الذيل و التكملة وأبن أبي أصيبعة في عيوا لأنباء كما ذكره الذهبي في تاريخ الحكماء و الصفدي، ولم يبقى منه الا مخطوط خزانة القرويين الفريد الذي تم نسخه سنة 619 هـ في احدى عشرة مقالة.
ان فيلسوفنا و فقيهنا ابن رشد كان يتحرك في الكتابين معا (= تلخيص الاخلاق و مختصر سياسة افلاطون) في افق تأسيس مشروع علم مدني يستند في جوهره الى العقل العلمي باعتباره يحتل منزلة خاصة في فلسفته ان هذا العقل هو الذي يقوم بترويض الشهوات والاهواء و النزوات بالأوامر و المبادئ و الفضائل الاخلاقية و اقامة الصنائع و المؤسسات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية لسد الحاجات المادية للإنسان كفرد وجماعة .
وهنا لا بد من طرح سؤال هام وهو: هل الفرق بين العقلين هو فرق في الدرجة اي في التقديم و التأخير ام انهما يختلفان بالماهية ولا يشتركان الا في الاسم ؟ هل نستطيع ان نتكلم عن عقل واحد له وظيفتان ام عن عقلين متقابلين في وظيفتهما و بالتالي في جوهرهما ؟
لا توجد فروق جوهرية بين العقلين فهما مجال واحد ليحقق الانسان وجوده اولا من خلال المحبة محبة الحكمة وثانيا من خلال الصنائع العملية " لا يوجد فرق في رأيه بين الصناعات النظرية و الصناعات العملية سوى أن هذه الاخيرة تخدم الاولى لكي تدرك غايتها .
يفتتح ابن رشد تلخيص لكتاب الاخلاق النقوماخية بديباجة خاصة يتحدث فيها عن غاية كل صناعة وكل مذهب وهي ديباجة اعتاد ابن رشد ان يفتتح بها معظم تلاخيصه ينطلق فيها الكلام عن الصناعة بصفة عامة وعن الصناعة التي تكون موضوع الفحص ومقارنة مقاصدها وغايتها بصناعة اخرى.
يقول ابن رشد محددا موضوع صناعة الاخلاق في بداية المقالة الاولى من التلخيص أي تلخيصه لكتاب الأخلاق لأرسطو قال : " ان كل صناعة وكل مذهب وكل فعل واختيار فقد يعلم انه اقوى تشوق به خير ما ولذلك أجاد من حكم على الخير انه الشيء الذي يتشوقه الكل ... ولما كانت الافعال و الصناعات كثيرة صارت الغايات كثيرة وذلك ان غاية صناعة الطب الصحة وغاية صناعة عمل السفن السفينة وغاية تدبير الحرب الغلبة وغاية المنزل الثروة وقد تكون في هذه الصناعات و أمثالها صناعة تحت صناعة واحدة بمنزلة ما .
أما الصناعة التي تأتي على رأس الصناعات الاخرى فهي صناعة الفلسفة باعتبارها اشرف العلوم لأنها لا تستلم موضوعاتها من العلوم الجزئية و تنظر فيها كما هي الحال في علوم التعاليم
ينتقل ابن رشد مع ارسطو في المقالة الثانية الى موضوع هذه الصناعة وهو بشكل عام الفضيلة ويقوم بتقسيمها الى صنفين : فكرية وخلقية "و الفضيلة صنفان منها فكرية ومنها خلقية فالفكرية كونها وتزيدها في اكثر الامر يكون بالتعليم (...) و الخلقية تكتسب من العادة (...) ومن هنا يتبين انه ليس شيئا من الفضائل الخلقية تكون فينا بالطبع على حال من الاحوال
ان موضوع صناعة الاخلاق هو الفضيلة والعفة وهذا يحفظ مقصد العرض و يحفظ أيضا النفوس، و الشاهد على ذلك ان ابن رشد تناول أغلب المفاهيم الاخلاقية في افق الفضيلة باعتبارها افقا رحبا لذلك نجده يعتبر العدالة و الشجاعة والعفة فضائل، لا يتعلق الامر هنا بمجرد كلمة تقال باشتراك الاسم (تقال باشتراك الاسم إذا كانت مسمياتها متباينة تباينا تاما مثل العين التي تقال للنيل و الوجيه و الباصرة – نايف بلوز_ابن رشد بين العقلانية و الايديولوجية في عالم الفكر ع 4 سنة 1999 و الملف بعنوان : ابن رشد رائد التنوير) بل على كل هذه المفاهيم، و تهدف الى تحقيق غاية واحدة هي الفضيلة الاخلاقية حتى يتأتى لعلم الاخلاق القيام بمهامه فالخير مثلا و فضيلة الخير اثنان بالعدد واحد بالماهية اذ الخير سواء اكان من أجل شيء او لذاته فانه سعي الى بلوغ مقام الفضيلة.
يتحدث ابن رشد عن انواع الفضائل في كتابه "جوامع سياسة" افلاطون قائلا: " فقد تبين في القسم الاول ( الاخلاق) من هذا (= العلم المدني ) أن الكمالات الانسانية هي في الجملة اربعة انواع: فضائل نظرية ( عقلية ) وفضائل علمية ( فكرية ) وفضائل خلقية وصنائع عملية وان هذه الكمالات كلها انما هي من أجل النظرية وهي مقدمة لها على نحو ما تتقدم المقدمات النتائج .
و الجدير بالذكر ان ابن رشد لا يفرق بين علم الاخلاق وعلم السياسة، اذ يتحدث عنهما باعتبارهما علما واحدا وهو العلم المدني الذي ينقسم الى جزئين رئيسين الجزء الاول هو علم الاخلاق و الجزء الثاني هو علم السياسة.
يتضح ان قيام ابن رشد بتلخيص "كتاب الاخلاق" يروم تحقيق غاية سامية هي نشر الفضيلة في المدينة الاسلامية ويذهب بعض الدارسين لمؤلفات ابن رشد انه انجز تلخيص الاخلاق في مرحلة انجاز "جوامع سياسة" افلاطون اي سنة 572 هـ وهي لحظة هامة في حياة ابن رشد هي لحظة التفكير في اصلاح واقع المدينة الاندلسية، وإن كان الاستاذ الجابري اعتمادا على ما ورد في كتاب مختصر سياسة افلاطون حيث يقول ابن رشد أنه إنشاء الله سيكتب في الأخلاق قد اعتبر أن تلخيص الأخلاق جاء بعد إختصار ابن رشد لجمهورية أفلاطون و يقول إنه بهذا الأمر تنهار كل الفرضيات التي أقيمت على أسبقية الاخلاق على السياسة عند ابن رشد و يرى الاستاذ الجابري أن كتابة إبن رشد لكتابه مختصر سياسة أفلاطون كان سنة 590هـ و بطلب من الأمير أبي يحي أخ المنصور الموحدي.
يذهب الاستاذ الجابري سواء في دراسته عن نكبة ابن رشد في كتابه "المثقفون في الحضارة الاسلامية" أنجزه سنة 1994م وفي مقدمته لمختصر سياسة افلاطون الى آنه أي ابن رشد انجز اختصاره كتاب افلاطون سنة 590هـ وانه انجزه قبل كتاب الاخلاق بناءا على قوله في مختصره على افلاطون انه يتوق لتلخيص كتاب الاخلاق ان أنسأ الله في العمر.
اما غاية صناعة التمدن فهي نفسها غاية صناعة الطب وهي محاولة استنباط الخير الكلي رغم ان ابن رشد قال في تلخيص كتاب الاخلاق واقصد الشذرات المتبقية من هذا التلخيص وفي جوامع سياسة افلاطون ان غاية صناعة الطب هي حفظ الصحة وغاية صناعة الاخلاق هي الفضيلة فهل الصحة و الفضيلة تهدفان الى استنباط الخير الكلي للإنسان و المدنية ؟
لا يتردد ابن رشد في اعتبار الصحة فضيلة ذلك ان غاية المريض هي الصحة على الرغم من ان عمل السياسي اشرف من عمل الطبيب فإسعاد أمة أفضل من اسعاد انسان واحد ولذلك يظل موضوع صناعة الاخلاق وصناعة السياسة وصناعة الطب شيئا واحدا.
من هنا نجد ان كتاب السياسة يقدم نظرية عن الدولة الفضلى اي من التأسيس الى تحقيق كمالها الاخير وقد ركز بقوة على التطابق بين نجاح سياسة الدولة واقرار الفضيلة الاخلاقية ذلك ان الحياة المثلى هي الحياة التي تشرف الفضيلة على سيرها.
هكذا تصبح غاية السياسة من تحقيق الدولة وغاية الدولة هي تحقيق الفضيلة " وما من عمل حميد يصدر عن رجل أو دولة بدون فضيلة وفطنة" ولا شك أن القراءة التي يقدمها ارسطو لعلم السياسة وربطها بالأخلاق كان له أثر كبير على ابن رشد وهذا واضح من خلال مختصر سياسة افلاطون وتلخيص الخطابة.
يتعامل ابن رشد مع السياسة الخلقية لاباعتبارها مجرد علاج للتناقضات السائدة في المدينة الاندلسية فحسب بل أيضا كونها ترمي إلى تميم غاية الفضيلة الاخلاقية انطلاقا من تربية الانسان على فضيلة الحرية وفضيلة العدل.
لقد قام ابن رشد بالتوفيق بين رأي ارسطو في الاخلاق ورأي افلاطون في السياسة انطلاقا من تفسير جمهوريته ودمجها في كتاب الاخلاق النيقو ماخية باعتبارهما يهدفان الى غاية واحدة قال :" لهذا السبب انقسمت هذه الصناعة (= العلم المدني ) الى قسمين قسم أول نذكر فيه الملكات و الافعال الارادية و العادات جملة في مقالة جامعة تعرف نسبة بعضها الى بعض وأي الملكات تؤثر في غيرها والقسم الثاني يفحص فيه عن الكيفيات التي ترسخ بها هذه الملكات في النفوس.
كيف يمكن لعلم الاخلاق وعلم السياسة ان يصبحا اثنين بالعدد واحدا بالماهية ؟
ان كتاب الاخلاق عبارة عن نظرية فلسفية في ماهية الفضيلة باعتبارها غاية الانسان في العالم و باعتبارها ايضا معبرا الى تحقيق السعادة للإنسان وللمدينة اما كتاب السياسة فيعلمنا كما يقول ابن رشد " بأي وجه يجب اتباع الخير و تجنب الشر فهذه مسائل لابد من دراستها في الابحاث السياسية هكذا تتحرك الاخلاق والسياسة في نفس الافق وهو افق البحث عن مصداقية الانسان في علاقته بالمدينة من خلال محبته للخير و السعادة وتشبثه بالفضيلة باعتبارها غاية الوجود.
وجملة القول فإنه لا يمكن ابراز العلاقة بين علم الاخلاق و السياسة الا اذا عرفنا مركزية الفضيلة عند ابن رشد اذ يمكن اعتباره الجسر الذي يربط علم السياسة وعلم الاخلاق.
ان ابن رشد في رأي إروين روزنتال مترجم كتاب "جوامع سياسة" افلاطون الى الانجليزية لم يكتف بشرح كتاب الجمهورية في ضوء الاخلاق النقوماخية لأرسطو فحسب، بل نظر الى جمهورية افلاطون ككتاب يصف افضل نظام سياسي يصلح لتسيير شؤون المدنية وينبغي ان لا ننسى كما يؤكد روزنتال ان ابن رشد مسلم يؤمن بالطابع الالهي للشريعة الاسلامية ولذلك قام بشرح افلاطون بموجب مقتضياتها وبعبارة اخرى لقد استطاع ابن رشد ان يجعل كتاب الجمهورية يساير روح العقيدة الاسلامية.
قام ابن رشد بانتقاد افلاطون في صمت، لما اعتبر ان جملة الاقاويل التي يحملها كتاب "الجمهورية" ليست كلها برهانية لذلك ازال ما لا يتناسب منها مع البرهان وهذا ديدنه في تلاخيصه يقول في السماع الطبيعي " فإن قصدنا في هذا القول ان نعمد الى كتب ارسطو فنجرد منها الاقاويل العلمية.
ولقد كان ابن رشد يستند في نقده لأفلاطون وفي حذفه للأقاويل الجدلية من نص الجمهورية على ارسطو وجالنيوس و الفارابي يحضر جالينوس باعتباره لم يستوعب مقاصد افلاطون في كتاب الجمهورية اوانه يمزج بعض الحقائق وفي أغلب الحالات يجهلها اما الفارابي فيحضر باعتباره مناصرا لرأي ارسطو وانه قد استطاع ان يبلور سياسة مدنية انطلاقا من توفيقه بين افلاطون وارسطو، و يحضر بوصفه لم يفهم مقاصد أرسطو.
يذهب محسن مهدي الى ان ابن رشد قد وجد نفسه مضطرا لمسايرة الفارابي في أرائه السياسية و الاخلاقية لأنه لم يكن على اطلاع لا على كتاب السياسة فحسب بل وكتاب الاخلاق لأرسطو ايضا وسبق أن انتقدنا هذا القول الذي يعتبر أن ابن رشد قد ساير الفارابي أو تبنى مقولاته فالحق أن ابن رشد ما انتقد أحدا أكثر من نقده للفارابي و ابن سينا، و سبب هذا النقد انطلاق الرجلين من نظرية الفيض التي لها ظلال على آرائهما السياسية و الاخلاقية و الفكرية عامة.
اما روزنتال فقد فطن الى امر مهم جدا وهو ان ابن رشد قد شرح كتاب الجمهورية في ضوء مقاصد الشريعة الاسلامية باعتباره مسلما يؤمن بالطابع الاهي للشريعة الاسلامية لذلك اعتقد بأن كتاب الجمهورية يصف افضل نظام سياسي يصلح لتسير شؤون المدينة الاندلسية. وذهب الى نفس الرأي روجيه أرنالديز الذي ساهم بدراسة في الكتاب الجماعي "ابن رشد المتعدد" يرد فيها على بعض الباحثين الغربيين الذين يشككون في إسلام ابن رشد و يعتقدون أنه كان عقلانيا صرفا بما أنه كان متأثرا بالأرسطية المفرغة من أي أثر أفلوطيني أو أفلاطونية محدثة . وممن كان يعتقد هذا راينان و ليون غوتيي فير كتابه نظرية ابن رشد عن العلاقة بين الدين و الفلسفة ط الاولى 1909 باريس مكتبة فيران L. Gauthier : la théorie d’ibn rochd sur les rapports de la religion et de la philosophie. Paris , vrin , 1983 و مداخلة روجييه أرنالديز في الكتاب الجماعي ابن رشد المتعدد ص13 و 14 R. Arnaldez : multiple a veroes, les belles lettres , 1978, pp 13-14
ولا بد من الاعتراف بان تناول ابن رشد للعقل العملي كما يقول الدكتور المصباحي باعتباره اداة التجربة السياسية و الاخلاقية لم ينل عناية كبرى من قبل الفيلسوف ويقرر هذا بقوله: " ان عزوف ابن رشد عن العناية بالعقل العملي راجع اولا واساسا الى وجود الشريعة الاسلامية وحضورها القوي في زمان ابن رشد." وهذا الرأي من الدكتور المصباحي للأسف لم يقف عند المثن الفقهي الرشدي إذ لو فعل لعلم أن ابن رشد في كتابه "البداية" خاصة أولى الاخلاق عناية كبرى بل لقد اعتبر الشريعة كلها تدور حول محاسن الاخلاق.
قرر ابن رشد أن يسند مهمة تدبير سياسة الفضائل و الصنائع المتصلة بها الى الشرائع المأخوذة من الوحي هكذا يتضح من خلال عدد التأويل ان الشريعة كانت عنصرا حاسما في البناء السياسي و الأخلاقي الرشدي يقرأ في حضورها للأسف بعض الباحثين انها عامل اخفاق المشروع الفكري و السياسي الرشدي .
و لا شك ان ابن رشد قد حافظ على ارسطيته على الرغم من قيامه بتلخيص سياسة افلاطون ونجده يقول بإمكانيه المدينة الفاضلة منفصلا عن افلاطون وتشاؤمه ويعلق على خلود المدينة الفاضلة بقوله " ان سائر المدن ماعدا المدنية الفاضلة قد تفسد من قبل السنة الموضوعة فيها وذلك اذا كانت السنة مفرطة الضعف و اللين او مفرطة الشدة وسواء كانت في رأي او خلق أو في فعل.
وما ينبغي التركيز عليه من خلال القول الرشدي ان السياسة تستمد جوهرها من علم الاخلاق وغايتها هي دائما تأسيس مدينة فاضلة و اذا كانت الغاية من المدينة الفاضلة هي تمكين اهلها من بلوغ كمالاتهم الانسانية فإن البحث في الكمالات الإنسانية من اختصاص الجزء الاول اي علم الاخلاق.
ان تبعية الاخلاق للسياسة نابع من كون السياسة لا تبحث فقط عن العلوم الضرورية لبقاء المدينة بل هي التي تبين ايضا العلوم التي يجب ان يتعلموها لكي يحافظوا على مدينتهم ولقد سبق لابن رشد ان اعلن عن بعض المسائل التي تؤدي الى فساد المدن .
تبين اذن من قول ابن رشد في السياسة ان غاية الانسان في الوجود هي الفضيلة وخاصة فضيلة النظر السياسي كما ان غاية علم السياسة في شقيه النظري و العملي هي المدينة اي تأسيس مدينة فاضلة لان المدينة بدون سياسة فاضلة تظل في مرتبة المدن الضالة الفاسدة لذلك ينبغي الاعتماد على سياسة تأخذ مقدمتها من علم الاخلاق كما انه يفرض انها أي السياسة " علم أعظم من صناعة الطب " لان مهمة صناعة الطب تقتصر على حفظ الصحة أي صحة الفرد و القضاء على المرض في حين ان علم السياسة بالإضافة الى حفاظه على الفرد يسعى الى الحفاظ على المدينة و تدبير شؤونها و ترسيخها أي الفضيلة في الفرد و المجتمع .
ان تأسيس ابن رشد لمشروع سياسي اخلاقي رغم عدم توفره على الشروط الضرورية لذلك أعني عدم توفره على النص الارسطي في السياسة ربما يعود الى انه كان يتوقع انهيارا في القيم الانسانية و الاخلاقية بوجه خاص مثل شيوع الظلم و القهر و الطغيان و القتل و قد كان و قد ذاق هو مرارة ذلك في أواخر عمره حيث نكبه المصور الموحدي يؤدي الى موت الفضيلة في معناها العام وربما يعود الى اضطراب الوضع السياسي للمدينة الاندلسية يقول " و القول في هذه الاشياء على الاستقصاء يستدعي قولا أبسط من هذا بكثير لكن قولنا حري في هذه الاشياء بحسب الامر الضروري وان فسح الله في العمر و جلى هذا الكرب فسنتكلم في هذه الاشياء بقول أبين و اوضح واشد استقصاءا من هذا كله، لكن القدر الذي كتباه في هذه الاشياء هو الضروري في الكمال الانساني وبه تحصل اول مراتب الانسان وهذا القدر لمن اتفق له الوقوف عليه بحسب زماننا هذا كثيرا.
وعلى الرغم من أن مختصر كتاب النفس الذي اخدنا منه النص السالف يعود الى مرحلة سالفة على جوامع سياسة افلاطون وتلخيص الاخلاق انهما ينتميان الى نفس الظرف ظرف الكرب ولا نستبعد ان يكون عاملا من بين عوامل حاسمة أسهمت في إخفاق المشروع الفكري السياسي الرشدي، بل لقد ذهب الاستاذ محمد أركون إلى ضرورة دراسة ما دعاه بسوسيولوجيا الاخفاق لابن رشد في السياق الاسلامي اي الكشف ع الاسباب الاجتماعية التي أدت إلى فشل فكره في البيئة الاسلامية و هذا يقتضي بظره التطرق الى نقطتين كيف و لماذا اختفت الرشدية من ساحة الفكر الاسلامي بداءا من القرن الثالث عشر الميلادي ماهي العوامل الاجتماعية و القوالب الايديولوجية التي انتصرت في المجال الاسلامي بدءا من القر الثالث عشر لقد انتصرت الى درجة أنه حتى مفكر كبير مثل ابن خلدون 140-6 اهتم بالتيار الصوفي أكثر مما اهتم بالتيار الفلسفي قول أركو هذا مأخوذ من مقاله إبن رشد رائد الفكر العقلاني و الامام المستنير عالم الفكر ع 4 سنة 1999، فالعصر عصر قلق وفتن واضطرابات ومن الطبيعي ان نجد صداه في العبارة الرشدية .
هل نقول انا عثرنا على مقصد الفضيلة كواحد من المقاصد الكبرى للقول الرشدي الحقيقة انه معنى لا يمكن ان يغيب عن كل ذي بصيرة و بعثورنا على هذا المقصد ننهي هذا القول في الفكر المقاصدي عند ابن رشد الذي كان مقاصديا بحق و ظهر هذا في سائر اقاويله .

(هذا جزء من بحثي لنيل شهادة الماستر )



#بوبكر_الفلالي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيره حمار لكن هده المرة من الجنوب
- الاسلاميون وضرورة الاختيار الثقافي
- مقال
- إشارة لفهم علاقة الإسلاميين بالتراث وبالفئات الرثة
- أبو حيان التوحيدي سيرة فيلسوف2
- أبو حيان التوحيدي سيرة (محنة) فيلسوف
- ملاحظات حول مشكلة الحرية في الإسلام
- إلي الجميلة‮ ‬الجريئة‮ ‬إيناس الدغيد ...
- العلم في مواجهة الفلسفة التقليدية (ادغار موران ضد ديكارت)
- التوحيدي والإغتراب
- الإبداع في برنامج الجريئة
- *الدغيدي* ...والاسلام السياسي
- الحكم الذاتي، الانفصال، الحركة الطلابية الصحراوية...التكوين ...


المزيد.....




- أول تعليق رسمي جزائري على سقوط الأسد والموقف من الاعتراف بال ...
- كييف تحث دمشق على طرد القوات الروسية، واشتباكات بين -قسد- وف ...
- العذابات تكمن في التفاصيل.. شهادات مرضى مستشفى كمال عدوان عم ...
- عرَاب كامب ديفيد ووصمة إيران.. إرث كارتر في الشرق الأوسط
- تونس.. تفكيك شبكة مختصة في ترويج المخدرات وإلقاء القبض على 3 ...
- العراق.. تنفيذ عملية نوعية ضد -داعش- بين صلاح الدين وكركوك و ...
- السعودية.. ضبط شبكتين لتجارة المخدرات فيهما مسؤولون من جهات ...
- ماسك يصف زيلينسكي بأنه -أكبر محترف نهب وسلب- للولايات المتحد ...
- مزاعم تفيد باتصالات أردوغان مع تل أبيب حول هجمات إسرائيل على ...
- عائلة أقدم سجين سياسي في العالم تكشف عن ضغوطات أمريكية على ف ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - بوبكر الفلالي - الفكر المقاصدي عند ابن رشد -قراءة تأويلية مقاصدية-