|
سوق (حانون)
عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)
الحوار المتمدن-العدد: 4660 - 2014 / 12 / 12 - 16:20
المحور:
الادب والفن
سوق حانون
سوق (حانون) أو سوق حنون ... منطقة بغدادية عريقة، وهي أحد أحياء متلاصقة ببعض كالمهدية وأبو سيفين وقمبر علي والفضل والدهانة والصدرية والشيخ عمر ... والمنطقة تقع بالتحديد، بين قمبر علي والمدرسة المحمدية، يحدها شارعي الخلفاء والملك غازي (الكفاح)، كان يقطنها أغلبية يهودية منذ الحكم العثماني حتى الهجرة القسرية لليهود بعد العام 48.
لا تزال لمسات التجار اليهود ـ وجهاء المنطقة لعدة عقود ـ شاخصة من خلال الفنون المعمارية على مبانيها وشناشيلها البغدادية والتي بقيتْ ظاهرة للعيان برغم التجريف والإهمال الذي أصابها حين عوملت كـ (أموال مجمّدة)*. ما يميز بناء الدور فيها، أنها بنيت من الطابوق الأصفر (الشفقيم) البغدادي، وتربطها ممرات غير ظاهرة للعيان، تكون مداخلها على شكل أقواس تسمى (مزاغل)، كان سكنتها يستخدمونها للاتصال ببعض والتجمع في جلساتهم في الأماسي دون الحاجة لمغادرة باب الدار، وقد رُدمت أو أغلقت بعد أن تم (هَجرها) وإسكان عوائل دخيلة فيها. نسيجها الاجتماعي قبل سبعة عقود من الزمان أو أكثر، يشكل فسيفساء عراقية مُصغّرة، خليط من التجار اليهود مع ساكنون من (الكسَبة) المسلمين وخليط من المندائيون والمسيحيون، وقد عَرفتْ المنطقة علاقات اجتماعية متوازنة، ففي أزقتها عُزفت وأنشدت أجمل الألحان، و وُلدَ بعض من الرجال البغادلة المعروفين بفنهم الأصيل. ولاتزال تحتفظ المنطقة ببعض تقاليدها الشعبية وأداء المقامات الشعبية والجالغي البغدادي والمناقب النبوية.
(حانون) ـ يُعرّفه تاريخ المنطقة ـ بأنه أحد اليهود العراقيين، كان يجلب البيض من الريف ليبيعه في المدينة، سرعان ما توسع بعمله وأستقطب تجار اللحوم المرموقين، فتحولت بعض الدور (ولا تزال) لمكاتب بيع الدجاج الحي واللحوم والأسماك. تجار اللحوم هؤلاء هم قاطنو هذه الجادّة العريقة، وأول من شيّد أبنية نظامية فيها من الطابوق، وكان (حانون) أحدهم، فذهبت التسمية بنشوء سوق وسط البيوت تـُـنسب إليه، وبمرور الوقت ولتسهيل اللفظ أو (لأسباب) أخرى تَغيرت التسمية لـ ... (سوق حنون).
في هذه المناطق يـَكتبُ الزمن تاريخ عريق لبغداد، ولنا فيها وبالقرب منها أكثر من ذكرى، كلها تُشير لطيبة أهلها وكرمهم، وكلما يسوقني الحظ بالمرور من هناك، أتذكر أناس طيبون لي معهم ذكريات جميلة ... × × × في ساحة سينما الفردوس الواقعة على تقاطع الطريق النازل من جسر الأحرار بشارع الملك غازي، تقع في الركن الأيمن منها مقهى من الصفيح صاخبة بروادها، كان غالبيتهم (شيّاب)، وأما تواجد بعض الشباب في وقتها في السبعينات فكان لأغراض بيع وشراء السيكائر والعملات، وأحياناً الدور والأراضي.
وسبب تواجدي حينها ومجالستي لهم ليس لشرب الشاي ولا للعب الطاولة، لأني ـ بصراحة ـ أكره النرد (الزّار) كونه لعبة حظ، وأنا ما عندي فيه حظ، ولكن كنتُ أنتظر مقاول (قنطرجي) من أهالي سوق حانون كان لي موعد معه في المقهى، للاتفاق على بناء مشتمل ببيت أهلي بحي القادسية في العام 1977. تحدثنا معاً بوجود الشخص الذي عرّفني عليه، أبن العم المرحوم طيب الذكر (عارف رشيد عبد المباركي) حيث كانت صيدليته قريبة، وتحدثنا عن جملة أمور تتعلق بالبناء، حتى أدق التفاصيل، حتى نوعية الشبابيك والأبواب، فقلت له ... ـ عمو أبو طه، أريد الأبواب ... إستوقفني بإبتسامة، بينما كان يصب الشاي في الصحن، قائلاً ... ـ عمو ... إحنة البغادلة أخذناها من اليهود، ما نكول أبواب ولا بيبان ... ـ لعد شتسموها ... ؟ ـ نسميها بوب. حديثه وبغداديته الأصيلة وتزكية أبن العم له، زرَع ثقتي به، وتم الاتفاق وسلمته العربون دون ورقة ولا قلم ! وكما معروف فإن (قنطرجية) البناء غالباً ما يتخلفوا بمواعيدهم، لكنه سار بنا وتعاون معنا ودخل هو وعماله ـ وهم جميعاً أبناء منطقته سوق حانون ـ بيتنا بحكم أن البناء يجري في أحد أضلاع الدار الذي نقطنه، وقاسمناهم الزاد والماء، وكانوا ـ والحمد لله ـ صادقون ملتزمون خلوقون لأبعد حدود. هي فرصة أن أتعرف على تاريخ منطقتهم، حيث كنت عند عودتي من الكلية، أجده ينتظرني ليخبرني عن تقدم العمل وعن سُبل تذليل المعوقات، ونشأتْ صداقة بيننا برغم فارق عمر يبلغ (نصف قرن) ! × × ×
تحت سقائف سوق حانون المعدنية المتهالكة، وزحمة السوق وفوضى المتبضعين، أتذكّر (سالفة) منذ ستون عام كان قد قصّها عليّ بسعادة، أخي الراحل ... طارق.
كان العتّال (معروف الكردي) يقوم وعلى مدى سنوات بتحميل ونقل كل متطلبات العوائل داخل سوق حانون، وهو رجل بسيط خجول وقنوع (مقطوع من شجرة)* مُنحدر من قرى الشمال النائية، فضّل الانعزال بنفسه، ربما بسبب صعوبة اللغة العربية التي لم يتمكن منها مطلقاً، وهو واحد من قلـّة أستقدمهم التجار اليهود ووثقوا بهم، فدخل بيوتات المنطقة بهدوئه الذي لا يفارقه، شاركهم الطعام والشراب، أفراحهم وأتراحهم، وصار الرجل محط ثقة الجميع وواحداً منهم ...
لكن التغيرات الديمغرافية بداية الخمسينات على المنطقة والهجرة القسرية لزبائنه اليهود، جعلته يعيش في الظل، ففسحَ المجال لجيل جديد يتمتع بالشباب والصحة أن ينافسه ويحل محله، ودفعته ظروفه الصحية أن يشتري عربة خشبية بعجلتين، فيقوم بدفعها لتلبية بعض الطلبات التي أمست شحيحة. × × × في شهر آب بمنتصف الخمسينات، كان المندائيون يتهيئون لأيام العيد الكبير، تقوم العوائل بذبح الذبائح وتشتري الفواكه والخضر وتهيئ مستلزمات ممارسة طقوس العيد المميزة. قبل كل شيء، تقوم العائلة بإرسال مرسال الى الكريمات، وبالتحديد الى بيت الشيخ المرحوم أبو سلوم (الشيخ فرج الشيخ سام) وأخيه المرحوم أبو العالم العراقي الكبير عبد الجبار (الشيخ عبد الله الشيخ سام) للتأكد من يوم العيد ... وكان الجواب يأتيهم متطابقاً وبشكل حاسم وجازم ... ـ بوية الكنشي وزهلي الثلاث وتلبدون الأربع والطلعة الخِميس !
كل شيء مهم ويجب أن يتم حسب الأصول، لكن المهمة الأصعب هي كيفية جلب الماء من النهر، فهو سيكون الشغل الشاغل (لأمهاتنا) في سبيل عزل مياه الشرب وغسل (طمش) الفواكه والخضر وعزل المتبقي منه للاستخدام المنزلي.
أختان مندائيتان تسكن أحداهن غرفة مؤجرة في أحد المساكن الصغيرة في سوق حانون مع أبنها بالابتدائية، والأخرى تزورها لقضاء العيد معها، مشغولتان بوضع اللمسات الأخيرة في يوم (كنشي وزهلي)، ولم يبقَ سوى جلب الماء من الشريعة القريبة، وأي قُرُب، فهي شريعة شارع النهر قرب الإطفاء ! ولمّا كان (الحيـْل) قد سلبته الأيام واستنزفته المِحن، كان من الواجب الاستعانة ... بالعم معروف. وضعَ (معروف) المستلزمات، مساخن نحاسية وأوانٍ فضية نظيفة لماعة، صعد الصبي العربة وطار الرجل بهم ليـُثبت بأنه لا يزال صاحب القدرة والمقدرة، تسيران خلفه السيدتين وقد انشغلن بحديث وكأنهن التقين لتوهن بعد فراق أشهُر !
ما لبثت أن تزاحمت بفكر الصبي جملة أسئلة، دفعته لأن يقفز جاعلاً العربة تفقد توازنها، مهرولاً لخالته مستفسراً ... ـ شنو ياخالة الكنشي والكرصة والطلعة وليش تهتمّن كلـّـش بيها ؟ ودون إنتظار، إستكمل بقية أسئلته لاُمه ... ـ يُمّة ... ليش نروح للنهر إذا مي أكو بالبيت ؟ ! وكانت الفرصة مؤاتية أن تشرحان الأم والخالة له طوال الطريق هذه الطقوس الجميلة والتقاليد المميزة التي ينفرد بها المندائيون ... ـ يُمّة يا بعد خالتك، إحنة نلـْـبِد ببيوتنا لأن الملائكة اللي تحمينا تصعد بيوم الكراص للسما، نبقى بالبيت حتى مَ يتأذى أحد حتى يرجعن بيوم الطلعة الصبح، وإحنة نسد بوبنا حتى ما يدخلنا الشر. أضافت أمه : باجر كل شيء بالبيت نظيف والكل تبرخ وترشم (تتوضأ وتصلي)، وما يجوز أن نلمس برّة البيت أي شيء لأن ما تحرسة الملائكة الأثريين.
كان حديث وافٍ جداً، أستهلك دقائق الطريق الطويلة حتى وصل الجميع النهر، وهناك حرصْنَ السيدتين أن لا أحد غيرهن يمسك بأدواتهن بعد (الطمش) على شريعة النهر. بقي (معروف) بعيداً منزوياً كعادته، يترقب الأمر ويسترق نظرات وَجدها الصبي فضولية وفيها تساؤلات، فسرها بأنه ربما في خجل أن يطرح أسئلته بشكل مباشر على أمهاته ...
أقترب منه الصبي، بينما الأم والخالة لا يزلـْنَ منهمكات هناك عند جرف دجلة، وإستقام بجسمه وبكل جرءة ... ـ جدّو أكيد تريد تعرف شديسون اًمهاتي وليش نجي الشط وناخذ المي منه ... ؟
نظر (معروف) له وأبتسم وهز رأسه (مُرحباً) بالطفل الذكي، ابتسامة فتحتْ للطفل الباب لإثبات ذاته، فاستطرق ... ـ جدو ... أحنة الصُبّة نآمن بألله وحتى يقبل صلاتنا وتوبتنا لازم نغتسل بمي النهر الجاري النظيف ... لم يتوقف الطفل ولم تُزعجه أشعة الشمس المائلة عند العصر حيث أغمض جفنيه لتلافيها وأستمر بالحديث ... ـ على طول يومين تصعد الملائكة للسماء ونبقى بلا أمان حتى يرجعن، لهذا نبقى بالبيت. لم يشعر الصبي بجوع ولا عطش وهو يستغرق بالحديث، بينما وقف (معروف) أمامه متبسماً دون همس (لا يعوص ولا ينوص) ... في هذه الأثناء، إستكملتا الوالدة والخالة إجراءاتهن على أكمل وجه، أشـارت الخالة لـ (معروف) بالعودة قبل انقضاء العصر، لكن الولد لا يزل بجعبته الكثير مما يريد أن يُخبر الجد (معروف) به ... ـ إحنة نجيب المي هذا اليوم من النهر الجاري لأن المي نظيف ومحروس من الملائكة، بس باجر ... قاطعته الخالة دون جدوى، بينما (معروف) يترقب الطرفان دون أي ردة فعل، أستمر الصبي ... ـ باجر ماكو ملائكة تحرس المكان، وتكون الشياطين موجودة ... وهنا جاء نداء أخير للصبي بضرورة السكوت وعدم إشغال الجد فالوقت يمر وعليهم الوصول للدار قبل المساء وظهور النجوم في السماء، ولما لم ينجح المسعى، اقتربت الأم من ولدها ومسكت بكتفه ... ـ يلـّة يا يمّة راح يجي الليل، صار ساعة تحجي ويّة عمّك، جا أنت يا يمّة ما تدري هذا الرجّال كردي ما يعرف يحجي ولاطكة عربي !
عماد حياوي المبارك
× يقول بعض مثقفي منطقة (سوق حانون) ، بأن روح (حانون) لا تزال قابعة اليوم في هذا السوق، لكن جسده هو الذي هاجر الى ... تل أبيب ! × وقد عَرف (سوق حانون) زيارات عدّة للزعيم الراحل (عبد الكريم قاسم) كونه ينتمي لمنطقة شعبية شبيهة. × (مقطوع من شجرة) يُطلقها أهلنا على مَن لا أهل أو نسب له، وتذهب التسمية أحياناً، للتشكي من الزمان وغدره بالبشر.
#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)
Emad_Hayawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سالميات
-
رقصة الموت
-
خروف العيد وخرفان أخرى
-
السيد فايف بيرسنت
-
واحد سبعة
-
حين لا ينفع اليمين !
-
سقف العالم
-
الرقة
-
جوزتو
-
وداعاً سنت كلاس
-
تيتي ... تيتي
-
بركاتك شيخ سلام
-
أنتوشات
-
شيخصملي
-
أرنبون
المزيد.....
-
قبل إيطاليا بقرون.. الفوكاتشا تقليد خبز قديم يعود لبلاد الهل
...
-
ميركل: بوتين يجيد اللغة الألمانية أكثر مما أجيد أنا الروسية
...
-
حفل توقيع جماعي لكتاب بصريين
-
عبجي : ألبوم -كارنيه دي فوياج- رحلة موسيقية مستوحاة من أسفار
...
-
قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاح
...
-
الخبز في كشمير.. إرث طهوي يُعيد صياغة هوية منطقة متنازع عليه
...
-
تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في -مراجعات ريتا-
-
مكتبة متنقلة تجوب شوارع الموصل العراقية للتشجيع على القراءة
...
-
دونيتسك تحتضن مسابقة -جمال دونباس-2024- (صور)
-
وفاة الروائية البريطانية باربرا تايلور برادفورد عن 91 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|