|
مآثر إسلامية على الحضارة الإنسانية
حسني إبراهيم عبد العظيم
الحوار المتمدن-العدد: 4660 - 2014 / 12 / 12 - 03:05
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ارتبطت نشأة الحضارة الإسلامية وتطورها بالإسلام، حيث وُجدت حيث وُجد الإسلام، وتأسست الحضارة على أسس العقيدة الإسلامية، وارتكزت على أخلاقياته ومبادئه وقيمه التي رسخها في الوجدان الإنساني. والحقيقة أن ذلك لا يعني أن المسلمين والعرب وحدهما هما من شيد تلك الحضارة، بل إن كثيرا من غير المسلمين وغير العرب قد ساهم في تأسيس الحضارة الإسلامية، ويعكس ذلك بوضوح روح الاستيعاب والتنوع التي اتسمت بها تلك الحضارة، حيث أنها لم ترى غضاضة في مشاركة غير المسلمين في البناء الحضاري، باعتبار أن الحضارة في التحليل النهائي هي جهد إنساني خلاق يقوم به الإنسان من أجل الإنسان.
وقد ساهمت الحضارة الإسلامية بنصيب وافر في إثراء الفكر الإنساني، فالقارئ المدقق والموضوعي لتاريخ الحضارة وفلسفتها يرصد بلا عناء ذلك الجهد الإسلامي الإنساني في تطور الحضارة الإنسانية، تقول المستشرقة الألمانية المعروفة (زيجريد هونكه) Sigrid Hunke في كتابها الشهير شمس العرب تشرق على الغرب: أثر الحضارة العربية على أوربا الذي صدرت طبعته الأولى عام 1964 (كتبت هذا الكتاب من أجل أن أكرم العبقرية العربية، وأن أتيح لمواطني في ألمانيا فرصة العود لتكريمها، كما أردت أن أقدم للعرب الشكر على فضلهم، الذي حرمهم من سماعه طويلاً تعصب ديني أعمى أو جهل أحمق). (هونكه9:1993)
ونتناول في هذا المقال بعض جوانب الإسهام الإسلامي في إثراء الحضارة الإنسانية، وتأثير ذلك في تطور المسار الحضاري للإنسان في العصور التالية لظهور الحضارة الإسلامية، والحق أن ذلك المقال ليس من قبيل التفاخر الأجوف بتاريخ وتراث مجيد قد ولى، نبكي عليه كالنسـاء، لأننا لم نحافظ عليه كالرجال، كما قالت عائشـة الحرة لابنها أبو عبد الله محمد الثاني آخر ملوك غرناطة عندما تنازل عنها للأسبان في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي عام 1492، ولكننا نوثق إسهاما مهما ينبغي ألا يتم إغفاله للحضارة الإسلامية، وذلك من خلال شهادات بعض علماءالغرب ومفكريهم، ويأتي المقال لتأصيل فكرة التراكمية العلمية والحضارية، حيث يسهم البشر جيلا بعد جيل في بناء تراثهم الإنساني العريق.
يقول المؤرخ الألماني "انسليم هاير" Anselm Heyer في كتابه انهيار الشرق Untergang des Morgenlandes الذي صدر في ألمانيا في عام 1966 مقارنا وضع المجتمع الإسلامي بالمجتمع الغربي المسيحي وقت الحروب الصليبية :(كانت أوربا في ذلك الوقت لا تعرف الصابون ، وكانت رائحة المسيحيين الأتقياء تزكم أنوف المحاربين العرب مثل رائحة الخنازيــــر . . . وكانت أوربا تحرق السحرة والشياطين في الميادين العامة، وتعالج الســعال بلبن الحمير، ولا تعرف كتابا آخر غير الإنجيل) (الصادق النيهوم114:2002)
ثم يستطرد "هاير" قائلا : (في ذلك الوقت كانت غرناطة تملك عشرين مكتبة عامة، وكانت إحدى هذه المكتبات تحوي أربعمائة ألف مجلد، وقاس العلماء المسلمون قطر الأرض بفارق يقل ثمانين كيلو مترا فقط عما سجلته مركبات الفضاء الحديثة، واخترعوا الجبر الذي قاد العالم إلى فكرة المعادلة النهائية، وأعطوا اللغات الأوربية هذه الكلمات: كيمياء - جبس - بنزين - صودا – كحول، التي ظلت قاعدة العلم التجريبي من بيكون حتى هانو في عام 1938. إلى جانب الدراسات الفلكية التي ما تزال النجوم تحمل أسمائها العربية.(الصادق النيهوم115:2002)
هذا، وبينما كان طلاب العلم في بلاد الغرب يسهرون الليالي درسا وحفظا على ضوء الشموع في قاعات الأديرة، كانت التجربة العملية في بلاد المسلمين تسير مع العلم جنبا إلى جنب، وتجابه النظريات على أسرة المرضى حقائق المعاينة والكشف والتجارب. فتفند الظواهر تفنيدا علميا، وتشبع الحالات المستعصبة بحثا ونقاشا، وعلاجها تفصيلا وشرحا، بعكس ما كان يجري في بلاد الغرب حيث كانت النظريات الجافة تملأ عقول رجال الإكليروس، وتحول دونهم والاحتكاك بالمخلوقات ذات الدماء الحارة ! ! ! (هونكه234:1993)
ومن جانب أخر فقد ارتكزت الحضارة الإسلامية منذ نشأتها على قيم الطهارة والنظافة، التي كانت داعما أساسيا في تحسين الصحة العامة في المجتمع، حيث انتشرت الحمامات العامة في المجتمع الإسلامي منذ عصور قديمة، حتى أن العالم هلال الصابي الذي توفي في عام 448 هجرية يحصي الحمامات الموجودة في مدينة بغداد وحدها بحوالي ستين ألف حمام، في حين أن المسيحية أدانت منذ بدايتها الحمام واعتبرته موضعا لاقتراف الذنوب والدعارة، يقول "فرناندو هانريكس"Henriques F. في كتابه البغاء والمجتمع Prostitution and Society لقد تســـاءل سيبريان أسقف قرطاجة في القرن الحادي عشر: (ماذا عن أولئك الذين لا يخشون من الاختلاط في الحمام بحيث أنهم يعرضون أجسادا خلقت للعفة والتواضع على النظرات الشبقة؟ إن هذا الاغتسال لا يطهر، ولكنه يلطخ). وقد كان الرجال والنساء في عهد ســيبريان يرتادون الحمامات معاً بحيث تحولت هذه الحمامات شيئا فشيئا إلى مواخير منظمة). (فاطمة المرنيسي 2002: 116)
إن هذه العلاقة بين الحمام والاختلاط الجنسي غائبة تماما عن الثقافة الإسلامية ، ذلك أن الفصل بين الجنسين في الحمام قاعدة مطلقة على الدوام، الشيئ الذي يبدو طبيعيا؛ لأن الهدف هو التركيز على نظافة الجسد، الذي يمثل العنصر الأساسي في الصحة العامة. إن الحروب الصليبية هي التي جعلت المسيحيين يكتشفون الجانب الحضاري للحمام كما يمارس في الثقافة الإسلامية، ولذلك كتب هانريكس في كتابه السالف الذكر :(إن الاعتناء بنظافة الجسد لم تكن جزءا من الإرث الذي خلفته العصور القديمة، ولم تشرع أوربا التي اعتمدت الحمام الشرقي في تقدير مزايا الحمامات العمومية إلا بعد الحروب الصليبية). (فاطمة المرنيسي 2002: 116)
وقد ازدهر الطب باعتباره واحدا من أهم تجليات الحضارة ازدهارا عظيما في المجتمعات الإسلامية، وقدم الإسلام للبشرية أعلاما نابغة في هذا المجال، بالإضافة إلى أن الأطباء في الحضارة الإسلامية قدموا تصميما رائعا للمؤسسات العلاجية (المستشفيات) التي سماها المسلمون البيمارستان.
ويروى المؤرخون أنه عندما أراد السلطان عضد الدولة أن يبني مستشفى جديدا في مدينة بغداد، أوكل إلى الطبيب ذائع الصيت أبي بكر الرازي بالبحث عن أفضل مكان له، فكان أن أوصى الرازي خدمه بتعليق قطع كبيرة من اللحم في أماكن مختلفة في بغداد، ثم انتظر أربعا وعشرين ساعة، ثم انتقى المكان الذي ظل فيه اللحم أحسن حالة، أو أقل سوءا، واما السلطان صلاح الدين الأيوبي فلقد اختار في القاهرة أحد قصوره الفخمة، البعيدة عن الضوضاء، وحوًَله إلى مستشفى ضخم، عُرف بالمستشفى الناصري (نسبة إلى السلطان الناصر صلاح الدين). (هونكه229:1993)
وتوافرت في المستشفيات التي أقامها الخلفاء والسلاطين كل أسباب الرفاهية التي كانت تتوافر في قصورهم من أسّرّة وثيرة ناعمة، إلى حمامات كانت تتمتع بها الطبقة الحاكمة في بيوتها، وكانت هذه المستشفيات على غناها ورفاهيتها تفتح أبوابها للفقراء، ولكل أبناء الشعب دون تمييز. وعندما انتهى المستشفى المنصوري في القاهرة، طلب السلطان المنصور قلاوون قدحا من الغصير من المستشفى، فشربه ثم قال: (إني قد وهبت هذا المستشفى إلى أندادي وأتباعي، وخصصته للحكام والخدم، للجنود والأمراء، للكبار والصغار، للأحرار والعبيد، للرجال والنساء على السواء) وقد انتشرت المستشفيات في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية، حتى أن مدينة قرطبة كان بها خمسون مستشفى في أواسط القرن العاشر الميلادي. كما امتلآت بغداد عاصمة الرشيد بالمستشفيات التي كانت تتمتع بمواقع تتوافر فيها كل شروط الصحة والجمال، ويتم تزويدها بماء جار للحمامات من نهر دجلة. (هونكه229:1993)
وقام العرب بإنشاء المستوصفات المتنقلة المحمولة بين القرى، وإلى جانبها مستوصفات خاصة بالسجون، وفي عام 923 أقام الوزير ابن الفرات في بغداد عيادة جامعة على نفقته الخاصة، وخصصها للموظفين العاملين تحت إمرته، وكان يحق لهم التداوي فيها، ونيل كل أسباب الرعاية والعلاج كلما ألم بهم مرض أو وهن بلا مقابل. (هونكه231:1993)
كان ذلك حال المستشفى في المجتمع الإسلامي في الوقت الذي كان الطب في اوربا يعاني من التخلف والانحطاط، فقد كانت المستشفى مكانا للأمراض والجراثيم، ويمثل مكانا كريها للمريض، واتسمت معاملة الأطباء لمرضاهم بالقسوة، وانعدام البعد الإنساني، وكان بعض ملوك أوربا يحرقون المرضى النفسيين، ويأمرون بتعذيب المجانين، ويهملون صحة السجناء، ولا يأبهون بالحفاظ على حياتهم. (قدري حافظ طوقان د.ت:204)
وقدمت الحضارة الإسلامية طائفة من العلماء والأطباء النوابغ الذين إسهموا إسهاما كبيرا في تطور الطب وتقدمه، ولعبوا دورا مهما في تأسيس الحضارة الغربية الحديثة، من هؤلاء أبي بكر محمد بن زكريا الرازي (865 – 925 م) الذي يعد أول من ميز بين الجدري والحصبة، وتعمق في دراسة الكلى والمثانة، ومن أهم اكتشافاته العلمية التعرف على أثر الضوء على حدقة العين واتساعها ليلا وانقباضها نهارا، وكان من أوائل من استخدم خيوط الجراحة وصنعها من أمعاء الحيوانات، ومن أهم كتبه (الحاوي) الذي بقي مرجعا هاما في أوربا حتى القرن السادس عشرالميلادي. (رمضان العلمي42:1988)
كتبت الدكتورة (هونكه) عن كتاب الحاوي للرازي: (قبل 600عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة في العالم، لا تحتوي إلا على مؤلف واحد، وهذا المؤلف كان لعربي كبير، وكان هذا الأثر العظيم ذا قيمة كبيرة بدليل أن ملك المسيحية الشهير لويس الحادي عشر اضطر إلى دفع اثني عشر ماركا من الفضة ، ومائة تالر Taler من الذهب الخالص لقاء (استعارته) هذا الكنز الغالي، رغبة منه في أن ينسخ له أطباؤه نسخة يرجعون إليها إذا ما هدد صحته أو صحة عائلته مرض. وكان الكتاب يضم كل المعارف الطبية منذ أيام اليونان حنى عام 925، وظل المرجع الأساسي في أوربا لمدة تزيد عن 400 عام بعد ذلك التاريخ دون أن يزاحمه مزاحم، أو تؤثر في مكانته مخطوطة من المخطوطات الهزيلة التي دأب في صياغتها كهنة الأديرة قاطبة، ولقد اعترف الباريسيون بقيمة هذا الكنز العظيم، وبفضل صاحبه عليهم وعلى الطب إجمالا، فأقاموا له نُصُبا في باحة القاعة الكبيرة في مدرسة الطب لديهم، وعلقوا صورته في قاعة أخرى كبيرة تقع في شارع سان جيرمان، حتى إذا ما تجمع فيه اليوم طلاب الطب وقعت أبصارهم عليه ورجعوا بذاكرتهم للوراء يسترجعون تارخه. (هونكه243:1993)
واهتم الرازي بالجوانب الاجتماعية والإنسانية في حياة المريض وأثرها في العلاج، فقد ألف الرازي كتابا أسماه (طب الفقراء والمساكين) وصفه المستشرق موللر بأنه واحد من أخصب العبقريات الطبية في العصور الوسطى على الإطلاق. وقد استخرج المستشرق مايرهوف من هذا الكتاب ثلاثا وثلاثين ملاحظة عيادية ما تزال تستخدم حتى اليوم. (فيليب عطية25:1995)
وكان الرازي يزرع في نفوس تلاميذه الفضيلة وحب الأخلاق مؤكدا لهم قدسية مهنة الطبيب، وكان محاربا قولا وعملا كل أنواع الشعوذة في أي مكان كانت، وفي أي صورة ظهرت، وأصبح هذا الفتى اليافع الذي طالما شنف الآذان بصوته البديع وعزفه الموسيقي الجميل، طبيبا عظيم الشأن وصديق الملوك والأمراء، وحبيب الشعب، وأبا للفقراء الذين كان يهبهن بعد العلاج مالا، في الوقت الذي كان يعيش فيه شخصيا في تواضع وبساطة لا مثيل لهما. (هونكه246:1993)
وأسهم العالم الأندلسي الفذ أبوالقاسم الزهراوي (936 – 1013م) في تطوير علم الجراحة، حيث وضع كتابا في علم الجراحة أطلق عليه ( التصريف لمن عجز عن التأليف) وبقي هذا الكتاب المرجع الأساسي المعتمد عند جراحي أوربا حتى القرن السابع عشر الميلادي، وأشار الزهراوي إلى أهمية الكي في فتح الخراريج واستئصال الورم السرطاني، وأكد على أهمية تعلم وفهم علم التشريح لمن يريد اتقان الجراحة، وابتكر العديد من الأدوات الجراحية واستخدمها ببراعة في عمله. (قدري حافظ طوقان د.ت: 146 - 147)
فقد ابتكر الزهراوي ما لا يقل عن مائتي آلة جراحية دقيقة،كما تمكن من استئصال الزوائد الأنفية، وابتكر آلة لتفتيت حصى المثانة واستخراجها، وأجرى عمليات جراحية صعبة كالشق والبتر والفصد والولادات المتعسرة. (رمضان العلمي32:1988)
واهتم ابن النفيس بالتهاب المفاصل وبالسل في حرزات (فقرات) الظهر قبل الطبيب الانجليزي برسيفال بوت Percival Pott بنحو 700 عام، وطور فرع أمراض النساء بأن أدخل عليه طرقا جديدة في البحث والمداولة، وقدم أدوات حديثة ، وطور هذا التخصص بعد أن كان في مستوى غير لائق لدى الإغريق. (هونكه277:1993)
ويحتل ابن سينا (980 – 1037م) المعروف بالشيخ الرئيس مكانة بارزة في تاريخ الفكر والطب والفلسفة، وكان كتابه القانون أشهر مؤلفاته على الإطلاق، فقد كان يمثل ذلك التراث العلمي النفيس الذي كان قانونا للشرق والغرب، ودستورا للطب والصيدلة، ويحتوي هذا الكتاب على مليون كلمة، وظل معتمدا في جامعة مونبلييه حتى عام 1560، وتضمن معلومات علمية دقيقةعن الحميات والحصبة والجدري والمواد السامة وعلم الجراحة، وكان ابن سينا أول من تنبأ بوجود الجراثيم متناهية الصغر التي تنقل الأمراض. وينسب له ابتكار ( المرقد) وهو الدواء الذي يخدر المريض قبل إجراء العملية الجراحية، كما استوعب ابن سينا كل ما يتعلق بالعين والبؤبؤ، وحركته ووظيفته وكيفية اتساعه وضيقه ذاتيا،كما قدم وصفا دقيقا لأمراض السحايا والشلل والقرحة والسل،واكتشف دودة الانكلستوما قبل الطبيب الإيطالي روبيني بأكثر من ثمانمائة عام. (رمضان العلمي42:1988)
وكتب بعض الباحثين الأوربيين المعاصرين عن ابن سينا ما يلي: (Whitworth2005:8-9& Loeser2001:51) مع دخول أوربا غياهب العصور الوسطى المظلمة منذ سقوط روما عام 476 ميلادية، سيطرت الطبقات الإقطاعية ورجال الكنيسة على مقدرات الشعوب، فانتشر الفقر، وانخفض مستوى التعليم، الذي انحصر في تعاليم الإنجيل، ومع ذلك الظلام الدامس بزغ ضوء لامـع في الطب في نهاية تلك الفترة، عندما كتب ابن سينا الذي عُرف بأمير الأطباء Prince of Physicians سلسلة من الأطروحات الطبية النابهة. كان محور عمله هو كتاب القانون في الطب Canon of medicine الذي دمج فيه رؤاه الطبية الخاصة مع أفكار جالينوس، وبعض معاصريه من العلماء المسلمين، ليصيغ طائفة من النظريات الطبية الحديثة. وقد اعتبر كتاب القانون في الطب الذي يحتوي على مليون كلمة أول دستور متكامل للأدوية pharmacopoeia ، وقدم ابن سينا في الكتاب طرقا كمية وتجريبية لدراسة علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) Physiology، واكتشف الطبيعة المعدية للأمراض السارية، وأدخل نظام الحجر الصحي للحد من انتشار الأمراض السارية، وابتكر المعرفة الطبية المستندة على الأدلة، والطب التجريبي، والتجارب المنضبطة والعشوائية، والصيدلة السريرية، وعلم النفس الفسيولوجي، Physiological Psychology وتحليل عوامل الخطر، وفكرة المتلازمة الطبية Idea of a syndrome في تشخيص أمراض معينة. إن أهمية ابن سينا لا تكمن فقط في إبداعاته العلمية الكبيرة، وإنما في استمراره كمرجع للطب الأوربي ومدارسه على مدار القرون الستة التالية.
لقد كان كتاب القانون زاخرا بالمعرفة حول موضوعات تبدو وكأنها خارج سياق الكتب الطبية الدراسية، فتحدث عن نمط الإقامة ومصادر المياه، والمناخ والفصول، والاستحمام والاضطراب العاطفي، والنوم، والأهمية العلاجية للموسيقى. وقدم ابن سينا عدة مأثورات aphorisms أشبه بالقوانين العلمية، من قبيل أن الإنسان لكي يكون بصحة جيدة ينبغي أن يمتلك قلبا دافئا، وأعصابا باردة، وعظاما جافة، وقال أيضا إن الألم المفرط في البطن، مع ارتفاع الحرارة يعد أمرا خطيرا، وخصص الجزء الخامس من كتاب القانون لتخفيف الألم والشفاء من الأمراض، فتحدث عن الأدوية، وطرق تحضيرها، ومفعولها. (Douglas 1945:92)
وميز ابن سينا بين خمس حواس خارجية، وخمس أخر داخلية، وحدد موقع الحواس الداخلية في فصي الدماغ، ووصف خمسة عشرة نمطا مختلفا للألم، ترجع للأشكال المختلفة من التغيرات الجسمية، واقترح طرقا معينة للتخفيف من الألم مثل التدريبات الرياضية، والتدفئة والتدليك Massage بالإضافة لاستخدام الأفيون وغيره من العقاقير الطبية للتخفيف من الألم. وكان ابن سينا أول من أدرك أن الألم يعد إحساسا مستقلا ومنفصلا مركزه المخ، وليس القلب كما ادعى أرسطو.Whitworth2005:9))
وأنجبت الحضارة الإسلامية عالما وطبيبا أخر هو ابن النفيس (1210 – 1288) مكتشف الدورة الدموية الصغرى، حيث أكد أن الدم ينساب من البطين الأيمن إلى الرئة ثم يمتزج بالهواء، ثم يتجه إلى البطين الأيسر، وبذلك يكون ابن النفيس استاذا للطبيب البريطاني وليم هارفي مكتشف الدورة الدموية الكبرى عام 1628، أي بعد ابن النفيس بحوالي أربعة قرون،حيث أكمل ما بدأه ابن النفيس، فقد كشف هارفي أن الدم ينتقل من البطين الأيسر إلى الشرايين ثم إلى الأوردة، وأخيرا إلى البطين الأيمن مرة أخرى. . (رمضان العلمي22:1988)
وكان ابن النفيس واسع المعرفة، قوي الذاكرة، ويذكر الرواة أنه كان يكتب كتبه دون الرجوع إلى أي مرجع، وكأنه سيل عرم متدفق، ومن الطريف أنه كان مرة في أحد حمامات القاهرة التي بلغت عددا جاوز 1200 حماما، وهو منهمك في في تدليك جسمه بصابون زيت الزيتون النقي، إذ به يخرج فجأة من حوض الحمام إلى القاعة الخارجية، ويطلب ورقا وريشة وحبرا، ويبدأ في كتابة رسالته عن النبض، حتى إذا ما انتهى منه خلع ملابسه، ورجع ثانية إلى الحمام وكأن شيئا لم يكن. (هونكه264:1993)
ومن أجل كل ذلك فقد استقبلت كتب ابن سينا والرازي وابن رشد وغيرهم في أوربا بالثقة نفسها التي استقبلت بها كتب أبقراط وجالينوس، ونالت حظوة قصوى لدى الناس إلى درجة أنه إذا ما حاول إمرؤ ما ممارسة الطب دون الاستناد إليها اتُّهم على أهون سبب بالعمل على الإضرار بالمصلحة العامة. (هونكه213:1993)
وظلت أوربا على هذه الحالة من التخلف حتى القرن العاشر الميلادي، فبدأت معالم التغيير تظهر، حيث تجدد اهتمام أوربا بالمعرفة نتيجة لوصول المعارف والعلوم العربيةالإسلامية وتغلغلها في أوربا عن طريق أسبانيا وجزيرة صقلية، ومع نهاية القرن الثاني عشر الميلادي ساعدت التراجم اللاتينية علماء الغرب على الحصول على مؤلفات اليونان العلمية التي ترجمت للغة العربية، كمؤلفات أرسطو وأبو قراط وجالينوس وغيرهم، كما اطلع الأوربيون على علم الجبر للخوارزمي وكتاب القانون لابن سينا وكتاب الحاوي للرازي، والأعمال الفلكية والأرقام العربية، وكتب الكيمياء والرياضيات وغير ذلك من العلوم.
وكانت مدينة ساليرنو الإيطالية من أوائل المدن التي تسرب من خلالها الفكر العربي الإسلامي إلى أوربا، حيث أنشئت فيها مدرسة للطب عام 1648 وكان للمسلمين دور كبير في الارتقاء بمستواها، فقد انتشر فيها الأطباء العرب (والمغاربة على وجه الخصوص)، وبذلك كانت المدرسة واحدة من المداخل التي دخل من خلالها الطب العربي الإسلامي إلى أوربا، بالإضافة إلى تعرف الأوربيين على التراث العلمي العربي من خلال الحروب الصليبية، واختلاط الأوربيين بالعرب والمسلمين في فلسطين والأندلس، ويعترف معظم علماء الغرب بأنه لو لم تنقل لهم العلوم اليونانية عن طريق العرب، ولولا الإضافات المتميزة التي أضافها العرب من خلال جهودهم العلمية الواسعة لتوقفت مسيرة الحضارة الأوربية عدة قرون.(رياض رمضان العلمي42:1988)
#حسني_إبراهيم_عبد_العظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التدين بين أداء الشعائر وبناء الضمائر 2/2
-
التدين بين أداء الشعائر وبناء الضمائر
-
الاتصال الإنساني: مفهومه وعناصره الأساسية 4/4
-
الاتصال الإنساني: مفهومه وعناصره الأساسية 3
-
الاتصال الإنساني: مفهومه وعناصره الأساسية 2
-
الاتصال الإنساني: مفهومه وعناصره الأساسية
-
المعرفة العلمية: مفهومها، بنائُها وسماتها 4/4(*)
-
المعرفة العلمية: مفهومها، بنائُها وسماتها3 (*)
-
المعرفة العلمية: مفهومها، بنائُها وسماتها 2 (*)
-
رحيل محمد جسوس: سقراط السوسيولوجيا العربية
-
المعرفة العلمية: مفهومها بنائُها سماتها 1 (*)
-
في نظرية رأس المال الاجتماعي 5 /5(*)
-
في نظرية رأس المال الاجتماعي 4 (*)
-
في نظرية رأس المال الاجتماعي 3 (*)
-
في نظرية رأس المال الاجتماعي 2 (*)
-
في نظرية رأس المال الاجتماعي 1 (*)
-
الأبعاد الإيكولوجية للمرض: تحليل سوسيولوجي لجدلية العلاقة بي
...
-
الأبعاد الإيكولوجية للمرض: تحليل سوسيولوجي لجدلية العلاقة بي
...
-
الأبعاد الإيكولوجية للمرض: تحليل سوسيولوجي لجدلية العلاقة بي
...
-
الأبعاد الإيكولوجية للمرض: تحليل سوسيولوجي لجدلية العلاقة بي
...
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|