|
القَابِليَّةُ للقَمْعْْ!
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1305 - 2005 / 9 / 2 - 13:00
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
"نحن فى السودان نهوى أوطاننا" ، حسب الأغنية الرائجة ، ما فى ذلك شك. لكنَّ أخشى ما أخشاه أننا لا نحسن هذا (الهوى) بحقه كما ينبغى! فعندما تذرَّع والى الخرطوم بالأحداث التى انفجرت فى عقابيل الاعلان عن مصرع الفقيد جون قرنق ليحظر التجوُّل المسائى زهاء أسبوع بأكمله (2/8 ـ 15/8/05) ، كان أكثر ما أثار قلقى انصراف الناس إلى ترتيب أمورهم ليلحقوا بمنازلهم قبل الموعد المحدَّد ، ذاهلين عن مدى ما فى ذلك الأمر من اهدار بغير وجه حق لواحدة من أهمِّ (حريَّاتهم) العامَّة و(حقوقهم) الأساسيَّة ، ومن خرق فظ ، بالتالى ، لدستور انتقالى يضمن هذه (الحريَّات والحقوق) ، وما كاد يجفُّ ، بعدُ ، مداد التوقيع عليه! ولئن كان ذلك هو رد الفعل لدى غمار الناس عموماً ، فقد أقلقنى ، بوجه مخصوص ، ما بدا لى ضرباً من (التيه) الفكرى والسياسى ، أو قل (التسليم) الصريح ، على نحو ما ، (بالأمر الواقع) ، من ذات النخب الوطنيَّة الديموقراطيَّة التى لولا كفاحها الطويل ، للعجب ، لما شقت (وثيقة الحقوق Bill of Rights) نفسها طريقها إلى هذا الدستور! ومثلما تفسد السمكة من رأسها ، فإن هذا (التسليم) يمثل ، يقيناً ، بداية الوهن. قال أحد الأصدقاء ، أثناء مناقشة كان بعضنا يحاول إقناعه خلالها بجدوى ، بل بضرورة الطعن فى ذلك الأمر أمام المحكمة الدستوريَّة: "لا داعى .. طالما أن بالامكان الحصول على إذن خاص بالمرور"! فتأمَّل كيف يكون (الرضا) من (غنيمة) القاعدة (بإياب) الاستثناء! ثم قال آخر بعد انقضاء الأسبوع: "ما أهميَّة ذلك وقد رفع الوالى الحظر"! فلم أستطع أن أمنع نفسى ، رغم ثقتى فى (بسالة) هذا الصديق ، من رؤية (الاستكانة) الضَّاجَّة فى نبرة كلامه! أما عندما فاجأنى ثالث قائلاً بمنطق مرعب: "يا أخى .. دعهم يوقفون هذه الفتنة بأيَّة وسيلة" ، فقد أحسست ، لحظتها ، بالرعدة تسرى فى أوصالى ، حيث خطر لى أن قرابة الأربعين عاماً من الحياة فى كنف الأنظمة الشموليَّة المتطاولة شكلت لدينا (قابليَّة للقمع) ، قياساً على مفهوم مالك بن نبى الشهير حول (القابليَّة للاستعمار)! نعم ، "نحن فى السودان نهوى أوطاننا". سوى أن (الوطن) ، كما ظللت أعتقد دائماً ، ولا أملُّ التكرار ، ليس محض سهول وجبال وغابات وأنهار ومسطحات مائيَّة ، وإنما هو ، فوق ذلك كله ، شبكة (علاقات) ، إن صحَّت صحَّ ، وإن فسدت فسد. ومع ذلك فمن فساد التدبير تصوُّر هذا التعريف (للوطن) مجمعاً عليه بين (الحكام) و(المحكومين). إنه كذلك فقط بالنسبة للأخيرين ، أما بالنسبة للأوائل فهو محض (سلطة) لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، محض إطار يشدُّه (الحكام) وحدهم لتلعب فيه (الدولة والقانون) دور الضابط للعلاقات الاجتماعيَّة ، لا من حيث (الصِحَّة) أو (الفسـاد) كما قد يتصوَّرهما (المحكومون) ، إنما ، فقط ، وفق أعمِّ القيم التى تعكس مصالح الطبقة السائدة اقتصادياً وسياسياً ، والتى تقرِّرها ، بالانابة عنها ، النخبة الحاكمة ، وتستخدم ، لضمان إنفاذها ، ترسانة من أجهزة (القمع) وتدابير (الإكراه). ظاهرة (الدولة) كشكل تاريخى ، حالة كونها هى (الوطن) فى (الشِرعة السلطانيَّة) ، شغلت الفلاسفة والمفكرين من شتى المدارس والاتجاهات ، فراكموا إرثاً ضخماً من التفاسير المتصادمة حول نشأتها وخصائصها والعمليات الباطنية لسيرورتها. لكن ، وعلى كثرة ما وقع من تنظير مثالىٍّ فى هذا الشأن المعرفى ، فقد انسلخت دهور منذ أخذ يترجَّح النظر إلى (الدولة) كجهاز وظيفىٍّ يشكل ركن السلطة السياسية ، أى (ضرورة المُلك) ، بالمصطلح الخلدونى ، أو (جهاز القمع) ، حسب ماركس ، أو (احتكار العنف الجسدى المشروع) ، وفق ماكس فيبر Weber ، وذلك بقدر ما أخذت تتراجع ، تأسيساً على ما راكمته علوم التاريخ والاقتصاد والاجتماع والسياسة وغيرها ، بما فى ذلك خبرات الشعوب وملاحظاتها المستندة إلى العين المجرَّدة ، النظريات الأسطوريَّة القديمة ، والبالية ، عن حيدة (الدولة) ، ونزاهتها ، وتجرُّدها من الغرض! وبالفعل ، وعلى حين كان يجرى ، بنشاط ، تصوير هذين التوأم السياميَّين (الدولة والقانون) كآليَّتين خارجيَّتين محايدتين ، تعبران عن الجميع ، وتنتصبان فوق الجميع ، وتحوزان على قبول الجميع ، لتحقيق (الاستقرار) و(السلام) ، فإن (السلطة) المحدَّدة التى ما انفكا يمثلانها ظلت تخذل ، دائماً ، هذا التصوُّر بتمظهرها المستمر كحقل صراع اجتماعىٍّ سياسىٍّ وفكرىٍّ لا يهمد ، رغم الجهد الذى بُذل ، وما زال يُبذل ، فى لفلفة ذلك ، وإخفائه ، وتعميته! وللمفكر بوردو قول طريف مفاده ، أنه ، ولهذا السبب بالذات ، ليس ثمة من يستطيع أن يزعم أنه رأى هذه (السلطة) بأم عينه ، ومع ذلك ليس ثمة ، أيضاً ، من يستطيع أن يزعم أنها غير موجودة! ولعل فى ذلك فضحاً ، على نحو ما ، لهذا (الجهد) بأنه ليس سوى محاولة لعقلنة التفسير السحرى (للسلطة) ، ولعقلنة الاعتقاد الذى لا يمكن الاعتراف به فى وسط متطوِّر فكرياً. فبما أننا لم نعد نثق بالخرافات والعجائب ، نطلب من بناء فكرىٍّ عقلانىٍّ ما كان ينتظره الناس من الميثيولوجيا فى العصور القديمة! الشاهد أن (الدولة) المسيطر عليها من قبل الذين من المفترض أن يكونوا خدامها لن تبرح حقيقتها كستار (لمشروع تسلطى) ، يتذرعون ، من خلاله ، بحظوتها لتغليب مصالح (الأقليَّة) على حساب (الأغلبيَّة) ، هذا إذا لم تكن هى ما رآه ماركس فيها حين أدانها باعتبارها أداة (للقمع) الصريح. ومع ذلك فلا مناص (للمجتمع المدنى) من (التكيُّف) معها ، فى بعض وجوه التعقيد الذى يسم ظاهرتها ، (لترويضها) باتجاه أقصى ما يمكن بلوغه من (الموائمة) بينها وبين (المجتمع) ، وفق مفهوم غرامشى عن (الدولة الموسَّعة) فى تصويبه للمفهوم الماركسى المعروف حول (نهاية الدولة). لكنَّ ينبغى ألا يُفهم من هذا (التكيُّف) أنه قد ينطوى على أىَّ مستوى من الغفلة التى لن تفضى إلا إلى توسيع حقوق (الدولة) على حساب حقوق (المجتمع). فالقاعدة أن كلَّ رقعة يتخلى فيها الأخير عن حقوقه تتقدم الدولة لاحتلالها! ولأن (الدستور) الديموقراطى constitutional text الذى يضمن (الحريَّات والحقوق) هو أهمُّ آليَّات هذا (التكيُّف) ، فمن الغفلة توهُّم أن مجرَّد إصداره يعنى أنه أصبح ناجزاً بنفسه. ذلك أنه لا بُدَّ من حراسته بحدب ودأب. ولتحقيق ذلك لا بُدَّ من تعزيز الروح الدستوريَّة constitutionalism كقيمة لا تقل عن النص الدستورى نفسه ، إن لم تعتبر أهمَّ منه ، وذلك فى ما يتصل بتأكيد حقوق الانسان والمواطنة والمشاركة وغيرها ، بحيث يُعتبر انتهاك أىٍّ منها ، كما أقدم على ذلك والى الخرطوم مؤخراً ، عملاً مداناً ، ليس من الناحية القانونية فحسب ، وإنما السياسيَّة والأخلاقية أيضاً.
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكِتَابَةُ: شِفَاءٌ أَمْ .. تَشَفِّى؟!
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 66
-
كَوَابيسُ السَّلام!
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 4ـ6
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 5ـ6
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 3
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ - 2
-
التَّجَمُّعْ: هَلْ يَنسَدلُ السِّتارُ؟
-
وَسِيلَةٌ خَسِيسَةْ 1
-
مَحْجُوبٌ .. الذَّهَبِىْ!
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ3ـ3
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ 2ـ3
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ 1ـ2
-
جَنَازَةُ البَحْرْ!
-
وعَلَى الأقْبَاطِ .. السَّلامْ 2ـ2
-
وعَلَى الأقْبَاطِ .. السَّلامْ 1ـ2
-
الحَرَكَةْ: مِن الثَّوْرَةِ إلى .. الدَّوْلَةْ!
-
لَيْسُوا -رِجَالاً-؟!
-
اللُّغَةُ .. فِى صِرَاعِ الدَّيَكَةْ
-
للذِّكرَى .. نُعِيدُ السُّؤالْ: الحَرَكَةُ: حُكومَةٌ أَمْ ..
...
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|