|
ما فوق مستوى البحر للحبّ
خيري حمدان
الحوار المتمدن-العدد: 4659 - 2014 / 12 / 11 - 16:20
المحور:
الادب والفن
ما فوق مستوى البحر للحبّ يوردانكا بيليفا ترجمة وتقديم: خيري حمدان ولدت الأديبة يوردانكا بيليفا عام 1977 في مدينة تيرفيل البلغارية، أنهت دراسة الآداب وإدارة المكتبات. تعمل على تقديم شهادة الدكتوراة في علوم الاتصالات والتواصل الاجتماعي. نالت العديد من الجوائز الأدبية الوطنية، صدرت لها المجموعة الشعرية "أثواب النوم وقوارب" عام 2002 وحازت على جائزة مسابقة القصة القصيرة عام 2005. هذه أول ترجماتها للغة العربية.
ما فوق مستوى البحر للحبّ يعتبر هذا المقياس مختلف للغاية، حين ترتفع معدّلات مستوى البحر للحبّ فوق مستوى البشر. هذا مقياس مختلف للتوقيت، الساعة لا تعادل ستون دقيقة والدقيقة لا تعادل ستون ثانية. الساعة ودقيقة تعادل ستون عامًا. لا أحد يقصّ بهذه الطريقة، لكنّي لا أرغب باحتكار هذه الحكاية لي وحدي. يا لحجم الحبّ المتبادل خلال ليلة واحدة لم تعرف النوم لحظة واحدة، تعادل ستّون عامًا أخرى، ما شهدته الساعات العشر حكاية غير موجّهة لشخصٍ واحد فقط.
الشخص الذي وهبني هذه الحكاية شريكٌ فيها. وفي أثناء قصّي لها سأتواجد هناك أيضًا، لكنّ في الساعات الستّ الأولى منها، لأنّ الظلام حلّ في الساعة السابعة وفي الساعة الثامنة منها اقترب الشخص الذي أهدانيها إلى نقطة قريبة للغاية من الحقيقة، وأنا تعجبني الحكاية قبل اكتشاف الحقيقة، لذا تواجدت هناك في الساعات الستّ الأولى، وبالرغم من ذلك سألتزم الدقّة والأمانة لوصف تفاصيل الحكاية.
الموضوع يتعلّق ببضعة عائلات من الأصدقاء، الذين قاموا برحلة جماعية قصيرة خارج المدينة، ما هي المدينة المعنية؟ لا أعرف! ولا أعرف الأشخاص المعنيين ولا الأماكن الشهيرة في خارج المدينة التي شهدت الحدث الهامّ، وبالرغم من ذلك تمّت الحكاية. في أثناء جلوسهم فوق الأبسطة يأكلون ويشربون. نظر أحدهم إلى الأمام وإلى الأعلى، ثمّ وقف وقرأ على صخرة في الجهة المقابلة نقشًا كتب بيدّ مجهولة ستّون 60 عامًا من الحبّ
صمتت النساء أولا،ثمّ الرجال وتضاربت الأفكار في مخيّلاتهم. في هذه الليلة وكالعادة أدار كلّ ظهره للآخر، ليتدفّأوا وليس بسبب خلاف قد اندلع ما بينهم. مارسوا الحبّ باسم كلّ سنوات الوصال والحياة المشتركة. كان الحديث رومنسيًا ودودًا، أفكارهنّ تركّزت في مشاعر الحبّ الفائقة تجاه أزواجهنّ الراقدين إلى جوارهنّ، ولم يتوقّف الرجال أيضًا عن التعبير عن مشاعرهم الحميمة. أفكارهم تمحورت طوال الليلة حول ذاك النقش المحفور في الأعلى على سطح تلك الصخرة.
ستّون 60 عامًا من الحبّ. حفّرت بالأحرف وأرقامًا – كلّ هذا الحبّ. سنوات طويلة من الحبّ. حياة كاملة ملأى بالحبّ. لا بدّ أنّهما قد التقيا للمرّة الأولى في هذا المكان تحديدًا، لا بّد أنّهما قد تبادلا القبلة الأولى هنا. صعدوا إلى أعلى هذا المكان كي ينالوا طعم القبلة الأولى، قبلة متسامية تلك هي قبلتهما الأولى، ثمّ انطلقا عائدين وهكذا لستين عامًا متتالية من الحبّ. تخيّلوهما وقد بلغا سنّ التقاعد، عاشقان يدعم أحدهما الآخر وهما يمضيان في هذه الطريق بعد ستين عامًا، يسيران متيّمان نحو تلك الصخرة، هل فضّلا الصمت أم جالت الدموع في أعينهما من فرط الذكريات المعمّرة، وكيف سارا إلى الأعلى وضغط الدم المرتفع يرهقهما؟ هل اضطرا لاقتطاع بعض المال من دخلهما كي يتمكّنا مجدّدًا من الحضور إلى هنا، أم أنّهما ببساطة يعيشان في هذه المدينة؟ هل تخاصما لسوء فهم طوال هذه السنوات، أم أنّهما لم يفعلا ذلك أبدًا؟ هكذا تخيّلوا حياتهما، دون فراق أو خصام، لم يشاركا في أيّ مسلسل عشق غريب.
ستّون عامًا مرّت بكلّ مراحل وأعمار العشق، في البداية رعوا الحكاية حتى نضجت ثمّ اهتمّت هي بهما. في البداية كانوا ثلاثتهم في مرحلة الشباب والفتوّة، ثمّ استنكف الحبّ وبقي وحده شابًا. حضروا إلى هنا وذهبوا معًا، يداها ترتجفان أكثر منه لذا كتب الرجل العجوز "ستّون 60 عامًا من الحبّ". عيناه غير قادرة على التركيز لذا ساعدته العجوز على سند يديه كي يتسنّى له إنهاء النقش، كانا يرتجفان من الكِبر والحبّ من حولهما ينبض ويعصف. كان بالإمكان تخيّل قصة حبّ أخرى، ربّما لقاء صفّ مدرسي بعد مضيّ ستّون عام؟ ليس من المعقول أن يكون لكاتب هذه الكلمات زملاء مدرسة، إذا انقضت ستون عامًا منذ إنهاء الدراسة الثانوية، إذا كانت أعمارهم آنذاك في الثامنة عشرة من العمر، فإنّ أعمار الزملاء ستبلغ الآن ثمانية وسبعون عامًا حين حضروا إلى هذا المكان وكتبوا النقش إيّاه "ستّون 60 عامًا من الحبّ". من يمتلك زملاء مدرسة أحياء بهذا العمر يا تُرى؟ دار في مخيلاتهم صراع فكري، إذا كان الاحتمال الأول هو الصحيح لقصة العشق هذه، لمَ لا يوجد أربعة أو ستّة آخرون عايشوا قصّة حبّ لستين عام. ربّما لم تشهد تلك الحقبة احتفالات تخرّج راقصة، حضروا إلى هنا وأشعلوا النيران، هم أنفسهم كانوا يشتعلون بحياة جمّة. قلوب الشبيبة الشيوعية البلغارية، غنّوا العديد من الأغاني المعروفة آنذاك، قصّات شعورهم كانت وفق تقليعة ذاك العصر، حتّى طموحهم كان ضمن حدود زمنهم. بعد ذلك خدم الشباب وطنهم لمدّة سنتين في الجيش، ليس الجميع بالطبع، والفتيات سرعان ما تزوجن، ليس جميعهنّ بالطبع. وإذا كان لقاء الصفّ المذكور دوريًا كلّ خمس سنوات، فهذا يعني حضورهم إلى هنا إثني عشر مرّة، ليس جميعهم بالطبع، ما تبقّى على قيد الحياة منهم ليكتبوا "ستّون 60 عامًا من الحبّ". كان من الممكن أن يوسّعوا آفاق تصوّراتهم لهذا اللقاء، الذي تمّ على مستوى أرفع، حيث شارك كافّة زملاء الصفّ الأخير من الثانوية العامة بعد مضي ستون عامًا، جميعهم البالغون الثامنة والسبعين من العمر شبابًا. أم أنّ اللقاء كان مخصّصًا للزملاء الأموات؟ في هذا المكان الشاهق الارتفاع لا يمكن سوى ليدٍ طولى حفر هذا النقش.
سأحدّثكم الآن عن اليد الطولى. تبدأ الآن الساعة السابعة من هذه الحكاية. شقّت الشمس ظلمة المكان، جميعهم شعروا بذلك لأنّ أعينهم لم تعرف النوم في تلك اليلة. هذا المكان بمثابة عبارة للتصريح عن بدء يقظة النهار، وهو أكثر حكمة من المساء، إذ لم يكن بينهم سكارى، بل حتّى لو سكر أحدهم، هذا ليس مهمًا! لأن الثمل هنا يبدو مختلفًا. أن تسكر من كثرة الشرب شأنٌ يختلف عن السُكر من مشاهدة النقش "ستّون 60 عامًا من الحبّ". نسيت أن أذكر بأنّهم جميعًا كانوا يراقبون النقش في أثناء الشفق، ليتيقّنوا من وجوده حقيقة، فقد يكون مجرّد سحر منتصف الليل. لا يوجد سبب أو مبرّر لاختفاء النقش، لكن وحين يكرّس بعضهم الراحة وساعات النوم لأمر ما، يأملون بأنّ المشكلة ستنتهي وتجد حلها المثاليّ في اليوم التالي. لكن عن أيّة مشكلة نتحدث – ستّون عاماً قضاها أحدهم مع حبيبه. لا يمكن اعتبار هذا الأمر مشكلة في مفهوم المشاكل المتعارف عليه. بدا الأمر على النحو التالي: إجهاد الفكر طوال الليل في تصوّر قصّة حبّ جميلة، حقيقية، مثالية ورائعة. قصّة حبّ كما في الأفلام. أن تتصوّر إثنين (معظم المتواجدون فضّلوا الاحتمال الأول لقصّة حبّ بين إثنين وبخاصّة النساء) ثمّ تبدأ برسم الكلمات، النظرات، الأعين، الحالة الفيزيائية والفسيولوجية وتشريح كونية هذا الحبّ. أن تتخيّل وترتّب سنوات العشق الستّين، أن تملأها بالحبّ حدّ الفيضان، لأنّك أنت كذلك أفضت بمشاعر حبّك الذاتية، ليس لستّون عامًا بالطبع. هنا عليّ توصيف الساعة الثامنة من هذه الحكاية، لنسمّيها بالساعة التوراتية. التوراة تأتي من منبع الجمال والصفاء، تعتقد بأنّها غير متواجدة في مكان ما لتتفاجأ بوجودها، وبدلا من الابتهاج لها يسارع الإنسان بتدميرها. التوراتية تعني أيضًا - كي تؤمن العين عليها أن ترى أولا. بمعنىً آخر، اقترح البعض الصعود إلى القمّة حيث يتواجد النقش، كي يتمكنوا من رؤيته عن قرب، كي يتمكنوا من تصديق كنهه عن قرب.
الإنسان الذي أهداني هذه الحكاية، لم يكن قد عرف العشق بعد حتى وقت حدوثها، لم يكن قد تزوّج، لكن، كان لديه مبرّر آخر ليمنع الآخرين من الذهاب إلى القمّة. ليس لأنّه لم يفكّر بقصّة الحبّ تلك طوال الليل، وليس لأنّه أقل حساسيّة ورومنسيّة. على العكس من ذلك، فقد كان غارقًا بالتفكير في كلّ هذا أكثر من الآخرين، ولأنهم كانوا قد استبقوه في الحياة العملية (جميعهم كانوا متزوجين)، سبقهم هو بأفكاره: عادة ما يكتب في دفتر ملاحظات صغير أجمل الأفكار والنصوص التي يقرأها في الكتب، بل وحتّى أفكاره الخاصّة، وفيه كتب بل رسم بصورة مطابقة تمامًا النقش الذي رآه في القمّة.
ستّون 60 عامًا من الحبّ.
خطر ذلك بباله في وقت ما، وتيقّن عند الصباح، لهذا حاول أن يحول دون ذهابهم إلى القمّة – أراد أن يذهبوا بعيدًا عن المكان كما كانوا في تلك اللحظة عشّاقًا بعد هذه الرحلة، أن يعايشوا مزيدًا من ليالي الأرق متعانقين. أن يحلموا ويفكّروا معًا. وإذا قدّر لشيءٍ ما أن يحدث فإنّه لا محالة سيحدث. ألم أقل لكم بأنّ هذه الدقائق من حكايتنا توراتية. وأنّ المقدّر سيحدث، يعود الفضل في ذلك ليدٍ عليا. حين صعدوا إلى الأعلى رأوا النقش: "الله محبّة.
منذ ذلك الحين وأنا راغبة بالتقاعد مع أحد ما في قصّة مشابهة، أو أتمكّن من المشاركة كزميلة لمن يعايش مثل هذه الحكاية، وأن يمنّ الله عليّ بكثير من الحبّ – آمين.
#خيري_حمدان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاعر - قال لي الخالق تكلّم فكتبت.
-
هي تملك بيتًا البحر كلّه
-
ما تحمله النساء
-
كلماتٌ تختقي ما فوق الكعب
-
لاعب الشطرنج
-
حديث القطط
-
أعراس في الحيّ العتيق
-
ذكريات خارجة عن القانون
-
الرياحُ وحدها تربطني بالمتاهة
-
لا خيانة بعد اليوم
-
موناليزا
-
إمبراطورية الرعب
-
حجرةٌ للحياةِ والموت
-
عشاءٌ برفقة الأنبياء
-
الحلزون الحكيم
-
مجنون حتّى إشعار آخر.
-
الزمن المفقود
-
أنا أبله - هي تملك ثديين كبيرين
-
أزمة الإنتماء لدى المثقف العربي
-
ذاكرة متلبّسة بالدهشة
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|