أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل عودة - الحاجز















المزيد.....


الحاجز


نبيل عودة
كاتب وباحث

(Nabeel Oudeh)


الحوار المتمدن-العدد: 4659 - 2014 / 12 / 11 - 11:03
المحور: الادب والفن
    



(مهداة لأروح شهداء شعبنا والذي انضم اليهم القائد الفلسطيني
زياد ابو عين في ذكرى انتفاضة الحجارة - 8/12/87)

نبيــل عــودة


تعكر الجو منذ بداية هذا اليوم ، عندما كان احمد في طريقه الى عيادته ، اعتراه شعور من القنوط والتهيب الذي لم يعرف له سببا . حاول ان يعود بذاكرته الى اللحظة التي فتح فيها عينيه هذا الصباح ... عله يجد جوابا لما يعتريه الآن وهو يقود سيارتة..
ساعة استيقاظة هي نفس ساعة الاستيقاظ المعتادة منذ فتح عيادته ... حتى ايام الراحة يستيقظ تقريبا في نفس الوقت، مع فارق بسيط انه يتأخر في قلع البيجاما .. الا اذا طلب لعيادة مريض ما .. ولكن منظر الشوارع المألوفة والمعروفة له منذ نعومة اظفاره يجعله قانطا ومتهيبا من شيء مجهول .
اغتسل وارتدى ملابسه .. زوجته واصلت النوم كعادتها .. سخن الماء ، اعد كوب شاي بالنعنع ، ارتشفه ببطء وهو يسمع نشرة الأخبار ، رطب وجنتيه وعنقه ببعض الكولونيا ..شد ربطة عنقه ، تناول حقيبته وخرج وزوجته لا تزال تغط بالنوم ، تفاصيل روتينية يكررها كل يوم .. اذ ن ما الباعث لشعور القنوط والتهيب ؟!
شغل محرك السيارة لعدة دقائق .. ثم انطلق في الاتجاه المعتاد الذي الفته عيناه.

******

الأحداث في القطاع انفرجت من جديد. عدد مجهول من القتلى وعشرات الجرحى . هذا ما فهمه احمد من المكالمة التلفونية حيث طلبوه في المستشفى للمساعدة. هذا الطلب بحد ذاته يشير الى العدد الكبير من الاصابات الصعبة .
بعد ذلك فهم الحادث بالتفصيل ، , "بداية" الحادث ان دورية عسكرية اعترضت مجموعة من التلاميذ المتوجهين للمدرسة ، امروهم بالتفرق وعدم السير الجماعي نحو المدرسة .. ويبدو ان التلاميذ لم يبلعوا هذا الاستفزاز هذه المرة. التراكم يولد الانفجار ، هذا مفهوم ، احمد نفسه كاد ينفجر مرات أمام الحواجز . .. ولكنه يبلعها في اللحظة الاخيرة ، المؤكد ان التلاميذ لا يملكون ضوابط كالكبار . المؤكد ايضا ان الانفجار سببه ليس الاستفزاز الوقح الجديد... انما هي سلسلة متواصلة من الاهانات اليومية المتكررة .. ان تعيش تحت طقطقة الاعقاب الوحشية، ان تعيش طفولتك وشبابك امام حواجز الجند ونظراتهم الحاقدة .. ان تعيش كل يوم في انتظار الفرج الذي لا يبدو انه قريب .. ان تعيش حالما بالفرح الانساني بينما واقعك مليء بالترقب لرصاصة من فوهة بندقية يحملها جندي ما ، كل ذلك يتجمع لينفجر في لحظة ما بعنفوان لا ضابط له . ربما قاعدة الحياة صارت تختلف . ساعات الهدوء في القطاع والضفة هو الشذوذ .. بينما الانفجار يكاد يتحول الى قاعدة.
هذه الافكار راودت احمد خلال توجهة السريع الى المستشفى. كانت تتنازعه شتى المشاعر والاحاسيس ، يحاول ان يضعها في اطار منطقي . كثير من المسائل لا يستطيع قبولها اي منطق . مثلا مسألة القتل اليومي .. القتل بمفهومه المباشر.. ان يطلق جندي ما رصاصة فيسقط فلسطيني . او القتل بمفهومه الانساني ، باستمرار الوضع القائم ..الحياة تحت اعقاب البنادق وتحت احذية الجنود ومواجهة عملية الاذلال والبطش اليومي ؟! القتل بمعناه المباشر قد يبدو اكثر انسانية من مواصلة الحياة تحت حراب الجند واحذيتهم .. القتل يعني نهاية المعاناة .
هل تكون عملية تخليص شعب من معاناته بقتله ، بتصفيته جسديا ؟!
قد تبدو هذه الفكرة انسانية في هذا الزمن الرديء.. " ام الزمن العربي لوحده الرديء في هذا العصر ؟!" سأل نفسه واستطرد مفكرا :
الدول العربية لا تحرك ساكنا لفضح الواقع المأساوي لشعب صار القتل حادثا يوميا في حياته .. حتى رد فعل بسيط معدوم ، مع انهم يدعون ان فلسطين قضيتهم الاولى؟!
شيء يثور في اعماقه، يتمرد، يتضخم ويكاد ينفجر. صراخ غاضب يشعر به محبوسا في صدره يهزه من الداخل فيضغط على نفسه ويضغط وتشده افكاره مرة اخرى :
- يجب ان لانسمح بتحويل قتلنا الى عادة .. الى روتين يومي . صرنا نعيش في جحيم التفاهات ، واقع يتلاءم مع زمن تسيطر عليه قيم واخلاق التفكير الاقطاعي ، مثل ورموز عصر النفط ، اما الفلسطيني فلا ثمن له . الانسان لا ثمن له !!
هل يفقد ثقته ؟!
كان منطلقا بسيارته نحو المستشفى يعبر الشوارع شبه الفارغة الا من بقايا الحجارة المقذوفة ... وهنا وهناك لا تزال المناوشات مشتعلة ... دوريات تزعق في شتى الاتجاهات ...الرصاص يعوي كالكلب .. تارة يشتد عواؤه وتارة يخفت .. الدخان يتعالى من عدة نقاط في المدينة المتمردة...
ربما هذا التمرد هو ما يعطي لهذا الشعب هذه القدرة على الاستمرار وتحدي المعاناة ..المعاناة قد تكون سببا للقنوط، الواقع المأساوي قد يكون سببا للقنوط ،انتظار ما هو اسوأ هو سبب اكيد للقنوط .. ومن المؤكد ان الانفجار يحمل في طياته الرفض للتفاهات التي نمارسها دون اقتناع ...
يثلج الصدر ويخفف الواقع الاجتماعي ان الأجيال الجديدة تواصل التحدي ، رغم الليل الذي يحيكه من حولهم بعض ذوي القربى والأعداء، رغم تباين المواقع ، يواصلون التحدي في الشوارع ، رغم الجند المدججين بالسلاح .. يواصلون التحدي في الشوارع .. يرفضون الصمت على مضاضة .يؤلمهم الصمت الرسمي للأشقاء العرب ..لا ينتظرون حسنة من احد . يدفعون دمهم ثمنا لصمودهم . استمرار الهيجان يخفف من عبئ القنوط .. يتخيل الجثث الشابة المقتولة .. الاجساد المشوهة .. فيزداد احمد قنوطا والما داخليا .
امام الحاجز لم تنفع اشارة الطبيب الملصقة على السيارة ... انزلوه واجروا عليه تفتيشا وفحصا لاوراقه وسيارته ، بحثوا عن اسلحة يحملها ، ربما حجارة .. فتحوا حقيبته الطبية وافرغوا محتوياتها على مقعد سيارته ..جسوها بتأني خوفا من اخفاء حجر او ربما تعويذة مضادة للاحتلال . اصوات طلقات غزيرة .. بعض الحجارة تكاد تصل للحاجز من الشوارع المحاذية ..مع زخات الحجارة يرعد اسم فلسطين بآلاف الحناجر .. مئات البالونات لونت بأعلام فلسطين طُيرت في الفضاء .. اثارت عصبية الجنود فامطروها بعشرات الطلقات .. لكن السماء تمتلئ باعداد متزايدة من البالونات الملونة بلون العلم الفلسطيني ..لاول مرة منذ هذا الصباح يتحرر من قنوطه . كم يود ان يقذف حجرا ، ان يركض مع الاف الشباب .. ان يجهده العرق .. ان يُطير بالونا ملونا بالعلم الفلسطيني ، ان يصرخ باعلى صوته باسم فلسطين . يتلذذ وهو يسمع الصدى الرهيب لتساقط الحجارة واصوات الطلقات وصرخات الجنود المتفاجئين من هذا المطر المؤذي ... ينظر نحو الضابط ذو الاصابع المنتفخة .. الذي يلوك سيجارته بحقد ، نظراته تحمل الكراهية خلقة ... يتهادى في مشيته كابطال الكاوبوي الامريكيين... يكز على اسنانه مع كل زخة فلسطين يطلقها الشباب مع رشقات الحجارة .أجل لماذا القنوط ؟!حبس ضحكة كادت تفلت منه عندما اعترته رغبة مجنونة ان يمد ذراعه اليمنى مبرزا اصبعه الاوسط نحو وجه الضابط ... وليكن ما يكون، ولكنه زجر رغبته الطبيعية واكتفى ان يتزود من وجه الضابط المضحك المثار كلما دوى اسم فلسطين ...
استغرق تفتيشه على الحاجز لدقائق قليلة لكنها متوترة قاسية. ربما لاول مرة يعتريه شعور الفرح الممزوج بالرهبة قليلا. احساس من القوة يتسرب اليه، تأخذه افكاره بعيدا ... قال لنفسه :
- نحن اقوى منهم ,,, هذا لا شك فيه ...ان تواجه قاهري كل العرب ببعض التلاميذ ، وبعناد لا يعرف نهاية ولا رادع وباصرار على الحق لا يهتز ...
- سع ( سر بالعبرية(
أمره عسكري فانتشله من افكاره. اراد ان يقول " تودا رباه" ( شكرا ) كما تعود ان يكون لطيفا ، وهو يعرف انه يقولها مجبورا مقهورا، لكن لسبب ما بدت له هذه المرة قذارة لا يستطيع التفوه بها وهو في مثل هذا الموقف. هل يشكرهم لانهم احتلوا وطنه ؟!هل يشكرهم لانهم شردوا شعبه ؟! هل يشكرهم لانهم يقتلون شعبه منذ اربعين عاما ؟! هل يشكرهم لانهم يحولون حياة من بقي في الوطن من شعبه الى جحيم ؟! هل وهل .. عشرات الأسئلة تنهال عليه ... ينظر اليهم نظرة كراهية ، شاعرا انه جزء من الشباب الذين يواجهون عساكر الاحتلال بالحجارة والاعلام الطائرة وبدوي اسم فلسطين الرهيب الوقع على اسماعهم والأقوى من كل جبروت الاحتلال المرئي والمخفي .
لا ، لن يخيفوا شعبا يتمسك بوطنه !
شغل موتور السيارة .. القى نظرة على الكاوبوي الثخين ، ذي النظرة التي تحمل الكراهية خلقة .. وبدأ يتحرك نحو الامام حين اجفلته ضربة من الحجارة واصوات طلقات نارية وقنابل غاز .. فتحول الحاجز الى حيص بيص .. الارض امتلأت بالحجارة وزجاج القناني .. وبزجاج سيارته والسيارات العسكرية ..تسمر في مكانه ظانا للوهلة الاولى ان عساكر الحاجز يهاجمونه ...التفت بشيء من الخوف نحو العساكر فشاهد الكاوبوي منبطحا في منتصف الشارع ينزف دما ويكاد يكون بلا حراك ...احتار ان ينطلق بسيارته مبتعدا ام يقدم مساعدة ما لهذا الملقى بلا حول ينزف دما .. كان زجاج سيارته الخلفي قد تطم تماما ، تركت الحجارة معالمها الواضحة على جسم السيارة .. واستمر احمد في حيرته :
- هل اسعف ذلك الكاوبوي الثخين ؟!
تردد مرة اخرى هذا السؤال، ورد على نفسه :
- انه عدو حاقد..
- انه مجرد انسان ينزف ..
- أنت ضعيف امام منظر الدم البشري ؟
- اكرهه كعدو .. لا جدال في ذلك ولكنه ينزف؟
- ليذهب الى الجحيم .
- ليس ذنبه انه وحش .. مساعدة انسانية قد تغيره .
- وهل يتحول الذئب الى شاه ؟
- لا تخلط.
- التلاميذ الجرحى بالشوارع ..الدم المسفوك في المخيمات ..احذيتهم التي تدوس كرامتنا كل يوم .. اطفالنا المقتولون بلا رحمة ..
- الوقت لا يسمح بالجدال .. اسعفه ثم نرى ..
- هل كانوا هم يسعفوني لو كنت انا المصاب ؟
- انت طبيب والطب مهنة انسانية!
- لكني فلسطيني .. والحديث هنا عن عدو ..وليس مجرد عدو ..اربعون عاما ونحن نعاني مرارة الضياع والتشرد وما زلنا !!
- كفى كفى !! سنعالج قضية فلسطين فيما بعد ، انه ينزف ولا تنسى انه بشر مثلنا ..انسان !!
- انسان.. ؟ كم يضحكني هذا الوصف .
- الوقت لا يسمح للسخرية ..انقذ الانسان الذي فيه ..
- لو كان فيه بقية انسان لرفض الاحتلال . لرفض ان يمارس العنف ضد شعب مشرد اعزل ؟
- ليس ذنبه...
- هل ذنبنا اننا نطالب بحقنا ؟
- لا تفقد انسانيتك ..تذكر ان قوتنا في انسانيتنا .
- أعرف .. لكني لا استطيع ان انسى انه عدو شرس ، لا يرحمنا وما يحدث الان يثبت ما اقول .
- انت طبيب وهو مجرد جندي مأمور..
- بأي وجه سالقى زوجتي ..بأي يدين سارفع ابني ..ماذا اقول لجيراني ..ماذا اقول لمن ثكلوا عزيزا عليهم .. ؟
- انسانيتنا هي قوتنا ، اذا فقدناها فقدنا مبرر وجودنا، فقدنا مبرر دولتنا .
- وهل يصح لهم ما لا يصح لنا ؟
- لا تأخذ القطيع بجريرة الراعي .
- الانسانية الزائدة تتحول الى هبل !
- نتجادل فيما بعد .. انت طبيب وهو ملقى ينزف دما ، لدمه نفس اللون ، لجراحه نفس الالام ..
- اعرف ذلك .. واعرف اكثر انه عدو لا يرحم . يضحكه لون دمي . جراحي تزيد شراسته . عذابي يثير هزئه..وفلسطينيتي تثير ادنى مشاعر السادية في نفسه.
- الجدال الان عقيم .. تبقى حقيقة واحدة كبيرة ، لن نسمح لاحد ان يسرق منا انسانيتنا .. واثبت ذلك الان .. اسعفه !!
فتح احمد باب سيارته ، نظر الى الكاوبوي الثخين الملقى بلا حركة منذ لحظات ، كانت الاف العوامل المتناقضة تصطرع في نفسه ، تحرك مكرها نحو الانسان الملقى .. فحصه فحصا سريعا وفوجيء ان نبضه غير محسوس .
دوي الرصاص في اذنيه والحجارة تتساقط حوله وهو يجري تنفسا اصطناعيا للضابط الملقى .. انسان . . عدو .. تشربكت المفاهيم في دماغه ، لم يعد يفكر الا بأنه يواجه صراعا ضد الموت وعليه ان ينتصر للحياة ضد الموت ، كان يضغط عدة ضغطات قوية على صدر الضابط .. ثم يعطيه نفسا من الفم للفم ..ويعاود الضغط الرتيب واعطاء النفس. الجنود حوله يطلقون النار بلا وازع ..وهو ، حين تعاوده الافكار يشعر بالحيرة ، او الضياع في حيرته ومتناقضاته. لا يعرف .. هل يعبر بذلك عن انسانيته ؟ .. ام عن هزيمته كانسان ؟.. ويكاد يتيقن انه يواجه انشطارا في شخصيته ، بين فلسطينيته ومهنته . لاول مرة يعتريه شعور القرف من مهنته . لماذا يسمونها مهنة انسانية ؟ هل ما يقوم به هو عمل انساني ؟ ام هزيمة انسانية ؟ مع ذلك يقاتل لاعادة النبض والحياة لهذا الضابط ذي النظرات الحاقدة خلقة .
يرتسم في خياله ابنه ، يحاول ان يرفعه بيديه فيهرب الطفل رافضا اليدين اللتين انقذتا عدوا .حتى زوجته الهادئة ترفض ان يضمها بذراعيه .. يشعر بدمعتين في مقلتيه .. يواصل الضغط بعناد .. محاولا التخلص من افكاره ، مبتعدا عن مشاعره المتضاربة ، متناسيا تناقضاته وعذاباته .انه يساعد عدوا بينما عشرات ابناء شعبه ملقون ينزفزن دما ..ليس الان وقت هذه الافكا ر . نبض الضابط لا يتحسن .. يواصل الضغط الرتيب على الصدر واعطاء التنفس فما لفم . يفحص حدقتي العينين ، ويواصل القتال ضد الموت. كم تمنى قبل لحظات ان يمد كفه باصبعه الاوسط في وجه الضابط الملقى الآن بلا حول .. وها هو يقاتل لاعادته للحياة ، ماذا يقول لجارته التي فقدت ابنها قبل اسبوعين ؟ماذا يقول لزملائه ومعارفه ؟ هل يفتخر انه انقذ عدوا ؟
شيء من الهدوء ساد حوله ، ركض نحوه احد الجنود مستفسرا ان كان يستطيع ان يساعده بشيء.. طلب منه شيئا مرتفعا ليضعه تحت الرقبة .. وما هي الا لحظات حتى كانت بطانية مطوية تضع وراء رقبة الضابط .. ليتدلى رأسه الى الخلف اكثر .. واصل احمد الضغط الرتيب بعناد اشد شالا كل صراعاته الفكرية مع نفسه ، طاردا التخيلات المقلقة ، مجهدا نفسه بعناد لاعادة التنفس الى الشخص المسجى على الاسفلت . لا يعرف كم استغرقه من وقت ، لكنه كان في منتهى درجات الاجهاد .. ولا يستطيع ان يحكم على نتيجة تصرفه . يعرف تماما انه سيتعذب ويتصارع مع نفسه ، وصلت سيارة اسعاف عسكرية ، شكروه ، يا للمهزلة ،يشكرونه على امر هو نفسه لا يستطيع ادراك صوابه ، شعر ان القنوط يعاوده من جديد ، يحاول ان يطمئن نفسه .. فلا يدري كيف يطمئنها .. فتعاوده الافكار المتباينة .. لم تهدأ تاقضاته الا وهو في المستشفى غارقا في عمله مكتشفا ان الاجهاد والارهاق افضل طرقة لراحة الدماغ .

تلك الحادثة عذبته.. فخبر ما فعله مع الضابط قد انتشر، صحيح ان ابنه وزوجته بقيا على نفس الحب والتعلق، حتى جارته الثاكل تبتسم له وتتمنى له كل خير. ينظر بوجوه الناس ، لا يجد الملامة ، انما الحب الذي تعود عليه ، لشد ما كان يجهل حقيقة شعبه ، لشد ما يزداد حبه لهذا الشعب .ان تكون طيبا لهذه الدرجة ، ان تكون متسامحا لهذا الحد ، ربما في ذلك بعض التهلكة . ربما سبب ضياعنا كل هذا العمر .... أو يكون سبب تحكم الارذال برقابنا ناتج عن طيبتنا وتسامحنا ؟ الحرب خدعة ولكنهم يلعبونها واضحة كضوء الشمس في الظهيرة .
ايام واحداث كثيرة مضت ، الهدوء في السنة الاخيرة بات شبه نادر. شعبه يواصل الحياة بعناد ، النساء يواصلن الانجاب ، الشواع ملآى بالصغار ، الشهداء يكرمون بشتى الوسائل ، اسماؤهم تطلق على الخلق الجديد ،الأزقة تسمى باسمائهم ، المواقع تسمى باسمائهم ، عالم كامل ولد ويولد عبر الصمود . قيم جديدة تصارع العفونة المترسبة . تصارع الضياع ، تصارع من يدفع ثمنا للقيم البشرية ... لكن احمد رغم ما مر عليه لا يستطيع ان يضع ما فعله في اطار واضح مقبول . بقي شيء غريب يستفزه كلما اختلى الى نفسه من مشاغله . يستفزه ويعيده الى صراعاته الفكرية . يحاول ان يفلسف تصرفه اعتمادا على تقبل الناس ، لكن شيئا يتمرد في داخله ويرفض .عندما يقرر بينه وبين نفسه انه اخطأ ، تثور في نفسه عوامل مضادة تثبت له انه تصرف كطبيب وانسان . ما كان من المعقول ان يتخلى عن انسانيته . يلتبس عليه الموقف ويؤرقه .. ربما دافعا مجهولا اورده هذا الموقف ؟ يعاود محاورة نفسه .. ثم يغرق بالعمل .
صار يكثر من التأمل والتفكير ، لا ينسى حادثته الا احيانا ، خاصة عندما يغرق بملاعبة ابنه الصغير .. ضحكات الطفل العذبة تنسيه صراعاته الفكرية . ترى هل عند الضابط ارتباطات عائلية مثله ؟ هل له طفل كهذا يضحك بعذوبة ، يدخل السعادة لصدر والديه ؟ هل تبقى الكراهية في نظرات الضابط وهو يلاعب طفله ؟!
في عصر احد الايام انطلق احمد ترافقه زوجته في طريق العودة الى البيت ، يحملان بالسيارة العاب وحلويات ، فاليوم عيد ميلاد الصغير .. لذا ا نهى احمد عمله باكرا ورافق زوجته للتبضع. ها هما الآن في طريق العودة الى البيت ، يستمع احمد من زوجته لنوادر الصغير ، يبتسم ناسيا ما يعذبه من افكار، سارحا في عالم الطفولة الجميل وزوجته اللبقة ، صاحبه الخيال الواسع تعرف كيف تنقل له الحديث بتفاصيله بحيث يبدو وكأنه يحدث الان امامه .
اقتربوا من احد الحواجز العسكرية المنتشرة كالسرطان في الشوارع . لمح ضابطا اثار انتباهه ..وسرعان ما اكتشف انه الضابط نفسه ، الكاوبوي المنتفخ ذو النظرات التي تحمل الكراهية خلقة .
تسمرت عيناه فوق وجهه .. اكيد هو ، نظراته لم تتغير ، السيجارة يلوكها ، واسنانه صفراء ..لا يعرف ان كان يسعده ذلك ام يخجله . الضابط يتجاهل نظراته ويعطي اشارة السماح بالمرور دون تفتيش ،يبدو انه اعتراف بالجميل .. لكنه جميل مرفوض . يريد ان يفتشوه كما يفتشوا غيره . يرفض هذا الشكر والاعتراف بالجميل . لم ينقذه لانه ضابط ، بل لانه انسان ..آه .. ما اسخف هذا التعبير احيانا . أصر العسكري عليه ان يواصل السير . اعترته للحظة فكرة مضحكة في غرابتها .. يطلقون عليه النار ويعلن الناطق العسكري ان سيارة رفضت الامتثال للأمر بالتوقف عند الحاجز .. فاطلقت عليها النار !!
هل يمكن ان يكون الاعتراف بالجميل بمثل هذا الشكل الحاقد ؟ عقله يعجز عن تصور ذلك .القى نظرة اخرى عبر المرآة على الضابط ، فشاهد كرشه الممتلئ والمدكوك داخل البنطال العسكري عنوة. واصل ابتعاده عن الحاجز وهو يوضح لزوجته ان الضابط اياه هو نفس الضابط الذي اسعفه وانقذه من موت مؤكد . حاول ان يعترف امامها بحقيقة ما يتنازعه من مشاعر وافكار حول تصرفه .. لقد صدمته رؤية الضابط وأطارت من رأسه نشوة الحديث عن الصغير ونوادره ، وجد نفسه مضطرا ان يوضح لأقرب الناس اليه حقيقة مشاعره مما حدث ... عله بذلك يتخلص مرة والى الأبد من عذابه وتناقض مشاعره وضغط افكاره . فجأة اهتز كل جسده .. ارتعد من اصوات طلقات حادة تخترق زجاج سيارته ، داس على الفرامل هاربا في الوقت نفسه لاقصى اليمين ، ملتفتا في الوقت نفسه نحو مصدر النار . كان الضابط اياه يقف امام الحاجز ، شاهرا مسدسه ومنظره يوحي بالوحشية .. اثار انتباهه عدم رد فعل زوجته لما يحدث .. ربما اطلقت في بداية الحدث صوتا ما .. لا يذكر .. التفت اليها وصعق .. توسعت حدقتي عينيه لمرأى الدم المتفجر من رأس زوجته ... تنازعته شتى صنوف الألم والحقد ، يرفع ابنه الصغير بين يديه ، فيبصق الصغير بوجهه ..يحاول ان يضم زوجته فيصده دمها التفجر ...يبحث عن صوته ليطلق صرخة ، فلا يخرج من فمه الا لهاث متقطع ، تنخرس الكلمات ، وطفله يركض وراء نعش ينادي باعلى صوته : "ماما " . لغم ينفجر بالصغير فيرتقع عمود دخان .. وحين يأخذ صوت الانفجار والدخان بالتلاشي .. يبحث عن طفله فلا يجد الا بقايا قدم بحذاء طفولي ممزق . يرتمي عاجزا فوق مقود السيارة ، متخبطا في موقفه .. يخبط رأسه بالمقود حتى يشعر بالالم والدم يتفجر من رأسه .. ينظر نحو زوجته المقتولة.. وفجأة يعود اليه صوته فيصرخ بأقوى ما يستطيع ... يشغل موتور السيارة ، يأخذ المقود الى اقصى اليسار ..ينطلق بسيارته مشتت الذهن ودمه يسح على وجهه .. نظراته مسمرة نحو الحاجز .. والألم يكاد يمزقه من الداخل .. والضابط الكاوبوي امامه .. صلعته امامه ..صدى الاصوات تتكرر في ذهنه ..ساق في حذاء ممزق .. طفله يضحك ..مع ضحكاته يتدفق الدم ..تعابيرعقيمة تتصارع في ذهنه .. زوجته لا تزال تبتسم .. كأنما تقول له هذا ما جنيته علي ..يضغط برجله على دواسة الوقود .. حتى يجعلها تلامس ارضية السيارة ..يديه تتسمران فوق المقود ..نظراته تتمغنط فوق صلعة الضابط.. الكاوبوي الذي يلوك سجائره .. النظرات التي تحمل الكراهية خلقة ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الناصرة – 1978 – 12 – 12
• هذه اولى القصص ( وعلى الأغلب اول قصة ) التي كتبت عن الانتفاضة البطولية للشعب الفلسطيني – شعبي - ضد الاحتلال ، والتي اشتهرت باسم انتفاضة الحجارة . كانت اول قصة اكتبها بعد انقطاع عن الكتابة الأدبية قاربت العشر سنين. الانتفاضة فجرت صمتي واعادتني الى الابداع الأدبي ..



#نبيل_عودة (هاشتاغ)       Nabeel_Oudeh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوميات نصراوي: أوراق قديمة لسالم جبران
- بدأ الشوط الأول من لعبة الانتخابات
- ملاحظات فكرية للحوار: لماذا نهتم بمستقبل اليسار؟
- يوميات نصراوي: personae non gratae
- يوميات نصراوي: لذكرى أمي...
- هل تفقد اللغة العربية مكانتها في اسرائيل؟
- سياسة التوحد البيبية
- دراستان علميتان رصينتان حول اليهودية والتلمود
- بروفسور سليمان جبران في حوار ثقافي شامل
- يوميات نصراوي: وطنيون بالمراسلة!!
- معضلة العالم العربي
- في ذكرى رحيل صاحب اعظم تجربة تحررية:
- اليوم آرامي .. غدا أسكيمو؟!
- الاحتلال يطبق سياسة -هنود حمر- مع بدو الأغوار
- العنصريون عابرون واللغة العربية باقية
- اطلالة على العالم القصصي للقاص المغربي عبده حقي
- لإعادة اللحمة للنخب السياسية والمثقفة في المجتمعات العربية
- اسطورة فلسطينية... وكابوسا لاسرائيل
- لقاءٌ مع الأديبِ والناقدِ - نبيل عوده -
- توقف القتال .. لم تتوقف الحرب!!


المزيد.....




- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل عودة - الحاجز