أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد ابداح - 27 يوماً في بغداد - ج7















المزيد.....



27 يوماً في بغداد - ج7


محمد ابداح

الحوار المتمدن-العدد: 4657 - 2014 / 12 / 9 - 15:50
المحور: الادب والفن
    


شارع السعدون

قبل مغادرتي الفندق ، شاهدت حميد الطاهي في الممر ، وهو ينوي الخروج من الفندق أيضا، فسلمت عليه قائلا : السلام عليكم ، كيفك يا شيف حميد !
فقال : هلا ابو جاسم وعليكم السلام .. شلونك .. ، ان شاء الله بخير ..
فقلت له : الحمد لله أنا بخير ، ثم أخبرته بما أنوي القيام به ..
فقال : إيه كّلش زين! ، خلاص نسير ويّا بعض ، لأني رايح البيت هسه ، عندي شغلة ضرورية أريد أسويها ، ثم أضاف قائلاً: أنا ساكن في منطقة القصر الأبيض، يمّ ساحة التحرير، ( كلمة يمّ تعني في اللهجة العراقية بجوار أو بقرب .. ) ، بس أريد أشتري شوية أغراض بطريجي ( يقصد طريقي ، حيث تفظ القاف جيم في اللهجة العراقية ) ..
قلت له: عادي .. ما في أي مشكلة ..
فقال : إيه زين .. يلا .. توكلنا على الله ! ، ثم خرجنا سوية ..
وأثناء الطريق حدثني حميد قليلاً عن شارع السعدون، بذات الحماسة التي كان يحدثني فيها عن أنواع الأطعمة العراقية اللذيذة ، حيث أخبرني بأن شارع السعدون ، والذي نسير فيه الان، يعد أشهر شارع في العاصمة العراقية بغداد، وهو يمتد من الباب الشرقي (أي ساحة التحرير حيث أنوي الذهاب)، ومروراً بالإتجاه المعاكس خلفي ، حتى ساحة الفتح في حيّ يدعى الكرادة الشرقية، وبطول ثلاثة كيلومترات ونصف تقريباً، وكان الشارع في بدايته عبارة عن ممر ترابي ، يربط بين مناطق متعددة تمتد من البتاوين إلى شارع أبو نواس، ويضم بساتين ومزارع صغيرة محلية، وقد بدأ تطوير هذا الشارع في ثلاثينيات القرن العشرين ومعظم البيوت والمباني فيه تعود إلى النصف الأول من القرن المنصرم ، وتقع فيه أقدم السينمات في بغداد مثل سينما السندباد وسينما النصر وسينما سميرة أميس ، بالإضافة إلى الفنادق المهمة في بغداد في حينها ولا سيما فندق بغداد، كما أنه عرف بشارع الأطباء حيث أن أشهر أطباء بغداد في القرن العشرين كانت عياداتهم الخاصة فيه.
وقد ذكر حميد : أن شارع السعدون في بدايته كان أكثر رقياً، وكذلك الأمر بالنسبة لمنطقة البتاويين والقصر الأبيض (والتي يسكن فيها حميد حالياً )، ففي العقود التي تلت وبعد تحوله إلى شارع تجاري رئيسي بدأت العوائل ذات الدخل العالي بالانتقال إلى مناطق أكثر هدوءا وتحولت البتاويين والقصر الأبيض إلى مناطق مكتظة وأقل رقياً ، وباتت مسكناً للعمال وذوي الدخل المحدود.
ثم أضاف : إن شارع السعدون هذا، كان بالأصل منطقة بساتين غنّاء ومزارع خضراء ، لكنه ومع التوسع العمراني في بغداد في ثلاثينيات القرن الماضي ، تحول شيئاً فشيئاً الى شوارع وأحياء وأزقة مختلفة ، حيث كان بستان الخس ..
وهنا قاطعت حميد قائلاً : بستان الخس ؟
فقال : إيه نعم .. بستان الخس !، وأكمل قائلاً : وهو ساحة النصر حالياً، حيث كان يزرع فيه أجود أنواع الخس ، ثم سألني : ابو جاسم ! يعني انت ماتعرف الخس ؟
فقلت فوراً : لا .. طبعاً أعرف الخس ، لكن أنا استغربت من اسم المنطقة !.
قال : إيه افتهمت ( أي فهمت ) ، ثم أكمل قائلاً : وفي العهدالعثماني كانت منطقة بستان الخس في ايام العطل (كالجمع والسبت) بمثابة متنزه لكثير من الناس، وكانت اراضي المنطقة وقفاً ذريا من اوقاف عائلة الكيلاني ، ثم جرت تصفيته بعد الإنقلاب الذي قاده عبد الكريم قاسم عام 1956م ضد نظام الحكم الملكي في العراق، وبيعت مسقفاته واراضيه بالمزايدة العلنية بالمحكمة، وذكر حميد أنه كان يوجد في المنطقة مخفر درك (جندرمة) في عهد الوالي جاويد باشا (1914-1915) ، ثم أكمل حديثه قائلاً: وبعد كان في بستان (مامو!) ، والعديد من المزارع الصغيرة التي تربط بين أزقة حي البتاويين وشارع أبي نواس الشهير والمطل على نهر دجلة ، ثم بعدها ترى القصر الأبيض حيث كان محل إقامة الملك فيصل آنذاك.
وحينها لم أشأ أن أقاطعه ، حول سبب تسمية بستان (مامو) ، خشية أن يغضب مني ، ولكني عرفت لاحقاً أن سبب تسمية بستان مامو هذا، نسبة الى أسرة (آل مامو) وهي من الأسر الموصلية التي استوطنت بغداد قديما، وكان لهم أملاك وبساتين أشهرها البستان المعروف باسمهم ، وقد تحولت الآن الى أطلال مهجورة.
سألت حميد قائلا : طيب ما هي أصل تسمية شارع السعدون بهذا الإسم ؟
فأجاب: أخذ الشارع اسمه نسبة إلى عبد المحسن السعدون، رئيس الوزراء العراقي السابق الذي توفي في ظروف غامضة عام1929 م ، ثم أضاف أنه وفي بداية إنشاء شارع السعدون وتطوره مع ثلاثينيات القرن وحتى اربعينياته كانت وسيلة النقل الوحيدة هي العربة التي يجرها الحصان والتي تدعى (الربل) ، واستمر العمل بها حتى بعد دخول مصلحة نقل الركاب الحمراء ذات الطابق الواحد او الطابقين، ( يقصد باصات النقل العمومي ) حتى ثمانينيات القرن الماضي، وكانت الأحياء التي يخترقها الشارع من أرقى مناطق بغداد ولا يسكنها إلا الأثرياء وميسوري الحال، بل ثمة مقاهي سميت بأسماء الطبقات الميسورة مثل (عمارة النصر)، حيث يوجد فيها مقهى يقصده التجار ، وكذلك (عمارة النجوم )، فيها كازينو( حجي زناد) والتي كان يتردد عليها الساسة والمتنفذين، وكذلك كازينو اليهود في (عمارة نور) وهي بالمناسبة ملتصقة بعمارة النصر.
وقد أخبرني بأن مناطق البتاويين تتكون بالاصل من ثماني مناطق، منها سبع مناطق داخل الكرادة تمتد بين الباب الشرقي وشارع هويدي الاصلي، كانت هذه المناطق عبارة عن بساتين ومزارع اشترى اغلبها، بعد الاحتلال الانكليزي ، مواطن عراقي يهودي مدعوماً مالياً من جمعيات صهيونية في بريطانيا وأمريكا، فاستطاع ان يجمع اليهود القاطنين في منطقة الاعظمية انذاك في اراضيه في مناطق البتاويين لأنشاء مجمعات سكنية عليها، وبسبب تكتلهم في هذه المناطق فقد شيدوا معبداً في موضع بناية الجنسية العراقية الحالية وما زال المعبد قائما حتى الآن.
وتتكون مناطق البتاويين من عدة محلات وشوارع منها محلة (هويدي) وتشمل اربعة شوارع تمتد من حدود البوجمعة وباتجاه شارع العطار، واصل تسميتها تعود الى رجل يحمل هذا الاسم سكن هذه المنطقة، ويليها شارع العطار ويقال انه بالاصل من حي الدهانة ببغداد ، ثم شارع النقيب وبعده شارع اسود الذي تعود تسميته الى عائلة اسود (من الخزاعل) وقد هاجروا الى الديوانية الى بغداد ثم الكرادة، واشتروا الاملاك والبساتين فسمي الشارع باسمهم.
يمتد بعده شارع العسافي نسبة الى عائلة ( العساف) المعروفة ، وهي بالمناسبة عشيرة معروفة في الأردن أيضاً ويصل تعدادها بالآلاف، اما شارع (ابو اقلام) فاصل تسميته تعود الى تاجر اسمه عبد الغني ابو اقلام، كان يبيع القرطاسية بأنواعها ، ثم يأتي بعده شارع الشيخلي جوار مستشفى الامام، وكان لعائلة الشيخلي محل قرب بستانهم باعوه في عام 1894 بقيمة (90) ليرة عثمانية لأحد الأسر اليهودية، وقد وصلت قيمته عام 1914 حوالي (10000) ليرة، ومع ذلك رفضت العائلة اليهودية بيعه ، ويقابل المنطقة الممتدة من البوليسخانة الى شارع الشيخلي في الجهة الخارجية (جهة الجنوب) منطقة (عرصات الهندية) - العرصات تعني قطع أراضي مقسمة - وهي تقع بين المسبح والناظمية، وبين نهر دجلة وطريق الكرادة، وكانت تسمى في العهد العثماني المتأخر ارض الوقف، وهي وقف نبوي، وقيل ان هندياً مسلماً، اوقفها ثم اجرّتها الدولة العثمانية للملاك والزرّاع لاستغلال اراضيها في الزراعة، وظلت كذلك بعد الاحتلال الانكليزي، وفي فترة متأخرة شيّدت فيها المساكن واصبحت الآن من الاحياء السكنية الراقية، وعندما احتل الانكليز العراق، بجيشهم الذي يشكل الهنود اكثريته، عسكروا في هذه المنطقة وأنشأوا لهم فيها معسكرا فسميت باسم جنودهم الهنود، ثم انتقلوا بعد ذلك الى معسكر الهندي (وهو شارع الرشيد حاليا).
وبجوار تلك المنطقة تقع منطقة (المسبح) واصل تسميتها تعود الى انشاء مسبح امانة العاصمة فيها الذي انشأه ارشد العمري حينما كان امينا للعاصمة عام 1936م، وكان المسبح في بداية انشاءه على هيئة (جرداغ) من الحصر (البواري) وباسمه عمت تسمية المنطقة.
وفي الجزء المقابل لامتداد الزوية والمسبح، وسط نهر دجلة، تقع جزيرة (ابو رميل) التي يبلغ طولها حوالي اربعة كيلو مترات ومساحتها حوالي 400 دونم، واطلقت مديرية التسوية عليها اسم جزيرة العكابية، وكانت مغطاة بنبات القصّيب تجوبه الخنازير، ولم يبق منه الان سوى اشجار وشجيرات قليلة، وتستغل شواطئ الجزيرة الان في زراعة الخضر الصيفية (زرع الشواطي) ، اما اصل تسمية الجزيرة فتنسب الى المنطقة المقابلة لها في صوب الجبور (جهة الدورة) التي تحمل نفس الاسم وقد جاء اسم الرميلة من رميل بن صالح (وهو من خفاجة) الذي هاجر من الحلة مع أبيه الى الكوفة ومنها الى بغداد حيث سكن الدورة فسميت بهذا الاسم، وفق ما أخبرني به الشيف والمؤرخ حميد!.
وفي ختام جولتنا في شارع السعدون انتهينا إلى موقف باصات عمومي ، والتي تنقل الركاب من بداية الشارع في منطقة الكرادة الشرقية ، مروراً من أمام الفندق الذي أقيم فيه ، إلى حيث نحن نقف الآن ، قرب ساحة النصر ، وتستمر رحلة الباص الى القصر الأبيض أو إلى منطقة المسبح ، توقفنا قليلاً، حيث قام حميد بشراء بعض الخضروات لمنزله من أحد محال بيع الخضروات في نهاية شارع السعدون، فلاحظت وجود بار فاخر للخمر ومطعم للشواء بجانب محل الخضار، والى جانبه محلات عديدة للأزياء والأحذية الرجالية ثم رأيت بناية تشرف على شارع الجمهورية، ومنه يمتد جسر الجمهورية والذي يقطع نهر دجلة ، كما تشرف ذات البناية على ساحة التحرير وعليها علم الهلال الأحمر، فسألت حميد عنها، فأخبرني بأن تلك البناية تعود ملكيتها لجمعية الهلال الأحمر العراقي ، وتضم محلات أزياء راقية جداً، كمحلات (شاكر بيبو) الشهيرة ، وبأن فيها كذلك دائرة حكومية تابعة لوزارة العمل والشؤون الإجتماعية .
دخلنا بعدها إلى ساحة النصر، بجوار ساحة التحرير ، حيث يمكن للزائر أن يدخل من بوابة الشارع الواسعة من الجهة اليمنى من نفق التحرير ، فأخبرني حميد ، أنه في ذات الموقع كان يتواجد فيه النصب التذكاري للسيد عبد المحسن السعدون أول رئيس وزراء عراقي في العهد الملكي، بعد أن تم العمل فيه عام 1972م ، وقد تم نقل الثمثال لاحقاً إلى ساحة التحرير.
ثم تجولنا في ساحة التحرير قليلاً ، وقد راق لي منظر المكتبات العديدة الرائعة ، الموجودة في زوايا الساحة ، وكان من أضخمها مكتبة (المثنى) التي تلتف من عمارة مرجان باتجاه شارع السعدون وهي امتداد للمكتبة نفسها في شارع المتنبي ، والتي كتب إسم مؤسسها في أسفل آرمة المكتبة ، وهو السيد قاسم محمد الرجب عام 1936م .
وتجد مقابلها مكتبة التحرير ومكتبة الحضارة العربية ومكتبة الشروق، وبجوار مكتبة التحرير كانت تقف عربة متنقلة لبيع الكتب ، فتوقفت أمامها متأملاً بعض الكتب ، وقد علمت من حميد أنه كان في الموقع كشك للصحف والمجلات ، تديره سيدة عراقية تدعى ( شرقية الراوي)، وهي معروفة جدا والجميع يحترمها ويقدرها، وبقيت تمارس عملها فترة طويلة بجانب مدرسة الراهبات للبنات والتي سميت بعدئذٍ مدرسة العقيدة.
ومع استدارة الشارع جهة اليمين وبعد اجتيازنا للمكتبات وصلنا الى مطعم (كيت كات) الشهير ، حيث أخبرني حميد بأنه مجمع للشباب، يتناولون فيه الحلويات في فصل الشتاء، أما في الصيف فتقدم فيه الدوندرمة المطروقة أو ما تسمى (الثعلبية) وتزين بالفستق الحلبي، وقد خصص الطابق الأعلى للعوائل، اما الطابق الأرضي فهو للشباب والذي ينقلب الى مزار وخصوصا أيام الأعياد.
وليس ببعيد عنه مطعم (أكسبريس فلسطين) الذي أغلق محله بعد فترة فاسحا المجال فقط لحلويات ومرطبات مطعم (كيت كات) لتنفرد بالساحة ، ثم تلي المكتبات والمطاعم باب يؤدي بنا الى داخل مدرسة الراهبات للبنات.
مَضينا في طريقنا الى مطعم نزار للأكلات البغدادية الذ ي كان يديره أل رزوقي ، وفق ما أخبرني به حميد ، وليس ببعيد عنه حلويات الحاج جواد الشكرجي وبجواره مكتب كلارنس ونجيب كساب للأعمال الأدارية والمحاسبية، وكان محل حلويات جواد باقر الشكرجي يأخذ مكانه بين المكتبات وكأنه يقول لك في اللهجة العراقية الدارجة (تحلى واقرأ !)، وبعدها دخلنا الزقاق الأول من جهة اليمين باتجاه شارع أبي نواس الشهير ، فرأيت مقهى شعبياً يدعى ( مقهى إبراهيم) ، فأخبرني حميد بأنه يشتهر بلقب غريب إسمه مقهى المعقـّدين ! ..
فقاطعته قائلاً : المعقدين ؟ ، طيب لماذا يطلق عليهم هكذا ؟
فأجاب: المعقـّدين كلمة تطلق على المثقفين الذين يملأون المقهى وفيه يطرحون قصائدهم وحواراتهم الثقافية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، ثم أكمل : ولكن للأسف لم يبق فيه اليوم اثرا لكاتب او شعراء ، أو قصائد تقرأ بين وقت وآخر لشعراء مثل الراحل عبد الأمير الحصيري، بل تجد بدلاً من ذلك أوراق بوكر وأدوات الدومينو ودخان الشيشة الذي يملأ المكان وصاحب المقهى يدعى (محمد جعفر مهيلة) وهو يمارس عمله في المقهى علماً بأن صاحب المقهى الأصلي (إبراهيم) كان قد ترك المقهى لصاحبه الجديد الذي حول اسمه إلى مقهى عبد الكريم قاسم.
وحقاً لقد كنت سعيداً جداً بتجولي مع السيد حميد ، وأنا أنظر إلى عينيه وأرى تواضعه وبساطته ، وسعادته وهو يشرح لي ملوحاً بيديه بحماس شديد ،عن مطاعم بغداد الشهيرة ، وأصدقاءه الذين يعملون في تلك المطاعم، وأكلاتها الشعبية وحلوياتها اللذيذة ، فلم أشعر بالملل معه لحظة واحدة.
تركنا مقهى إبراهيم ، وتوجهنا إلى أحد المطاعم الشهيرة وهو مطعم (ابن السمينة!) ، فأخبرني حميد المطعم قد اكتسب شهرته لما يقدمه من أطعمة عراقية معروفة أشهرها القوزي على التمن، وشهرته تأتي من نكهة الدهن ( أي السمن البلدي) ، والذي يواظب أولاد الحاج المرحوم حسن ابن سمينه على استخدامه في الطبخ ، كما أفتتح في نفس المكان مطعم آخر سُمّي مطعم (أبن الضعيفة !) أي بعكس إسم المطعم الأول ، وذلك لتحقيق أكبر قدر من الدعاية والمنافسة، وطعامه كان لا يقل جودة ولذة عن مطعم أبن السمينة هذا !..
وفي الجانب الأخر من الشارع يقع جامع الأورفلي الشهير وقد شُيّد من قبل الحاجة نجية الأورفلي وهي زوجة السياسي المعروف أحمد عزة الاعظمي عام 1952م ، وقد تم بناء الجامع من طابوق (الجفقيم) وهي صناعة بغدادية خالصة وفق مواصفات يفرضها المقاولون، وقد تعرض باب الجامع الذي يعد تحفة فنية رائعة لأضرار بالغة بسبب التقادم والإهمال ، وعوامل التعرية الطبيعية ، وعلى نفس الاتجاه تجد مطعم (تاجران) الذي يديره صاحبه أبو علي تاجران.
خرجنا من المطعم باتجاه شارع الخيام، والذي يشتهر بمسارحه وباراته وملاهيه ودور السينما ، والتي لا تخلو من الرواد طيلة أيام الأسبوع ، ومن أشهرها مقهى الأورفلي التي تحول بعدها الى سينما ألأورفلي ثم تغير الى سينما السندباد.
وحينها قال حميد : اذا اردت التغيير في نوع الفطور ، فما عليك الا التوجه الى احد مطاعم (الباقلاء بالدهن!) ، ومنها مطعم (قدوري ابو الباجلا) في شارع (ابو نواس) قرب جسر الجمهورية ، حيث يعج المطعم يومياً بالناس ومن جميع شرائح المجتمع ليتناولوا (ثريد) الباقلاء المقشرة المغطاة بالبيض المقلي بالدهن الحر وشرائح الطماطم وبجانبها صحن يتكون من النارنج الذي يعصر فوق صحن الباقلاء المغطى بـ (البطنج !) والبصل والطرشي ، وبعد الانتهاء من الطعام تستقبلك استكانة الشاي بالهيل على الفحم، ليريح معدتك ويعدل مزاجك!.
اما في جانب الكرخ ، فلا يزال ( الشيخ حمادة ) ابو الباجلا ومخلمته التي تحسده على مذاقها أمهر ربات البيوت ( وفق تعبير حميد) الى جانب (علو ابو الباجلا) يستقبلان زبائنهما في مطعميهما المتواضعين قرب ساحة الشهداء ، لتقديم تلك الاكلة الشعبية والتي تعد من منطقة الحلة بالأصل.
وبين ازقة سوق الصفافير يعلو في الطابق الاول من احدى البنايات القديمة مطعم (ابو حقي) حيث ملتقى أهل الذوق من البغداديين أو (البغادة) وهي التسمية الشائعة لاهل بغداد .
واذا كنت حديث العهد بمطاعم بغداد العريقة ، فلا تقلق لان رائحة الدهن الحر والتمّن العنبر، ( يقصد أرز العنبر الشهير) لابد ان ترشدك الى (الحاج ابو حقي) بملابسه البغدادية المكونة من بدلة الدميري وقد أحاط خصره بمريول الباشتمال، ويعتمر طاقية اشتهر بها ، ومطعمه الذي يقدم (تبسي الباذنجان) و(الباميا المطبوخة بلحم الدوش الدهين) و(تشريب الطماطم) و(القوزي على التمن) وهي الاكلة التي اشتهر بها وغيرها من الاكلات البغدادية المحفورة في ذاكرة عشاق بغداد القديمة.
ثم أخبرني حميد بأن ثمة شارع قديم آخر يدعى شارع الرشيد ، يتميز بكثرة المطاعم ، واشهرها مطعم (عمو الياس) في منطقة المربعة والذي كان يتميز بتقديم وجبات الدجاج المشوي مع أنواع الطبيخ البغدادي ، وكانت الخدمة في هذا المطعم مشهوداً لها بالتميز وكان ملتقى الطبقة الراقية في المجتمع البغدادي والسواح الاجانب وغيرهم ، حتى فقد بريقه اثر سقوط النظام الملكي في العام 1958م ، ومن المطاعم المشهورة التي احتضنها هذا الشارع العريق ، مطعم الجمهورية الذي يقع عند مدخل شارع الرشيد من جهة ساحة الميدان قرب سوق الهرج وكان هو الآخر من المطاعم المشهورة بتقديم الطبيخ العراقي المنوع ، وفي العام 1968م، افتتح (ابو يونان) ، وفي ركن صغير من بناية دائرة الجمارك التي كانت واقعة في شارع الرشيد قبل هدمها لبناء جسر السنك الحالي، مطعماً صغيراً قدم فيه وجبات سريعة من الهمبرغر التي صارت عنواناً لأفضل وجبات الطعام التي بدأت العوائل والشباب وكبار السن وحتى الأطفال يقبلون عليها.
وقد طارت سمعة مطعم (أبو يونان) الصغير الى الافاق وفق ما حدثني به حميد ، لتصبح حديث كل الأوساط وحتى المسؤولين الذين كانوا يحرصون على تناول همبرغر (أبو يونان) الذي افتتح محلاً أكبر في منطقة العلوية مضيفاً إلى الهمبرغر الكص (الشاورمة) الذي عرف أيضاً (كص أبو يونان) وكان يقدم معهما أيضاً اللبن وقناني الكولا ، ألا أن ألأفضل بينهم كان مطعم (كناري) وجلساته المميزة في الطابق العلوي وخاصة في المساء.
أما في منطقة الكرخ وتحديداً في مدخل شارع حيفا في مكان وزارة الثقافة الحالية ، حيث كان مطعم شباب الكرخ الذي لا يقل شهرة عن باقي مطاعم بغداد القديمة ، الا ان ما كان يميزه بعض الشيء هو احتضانه لاغلب دعوات العشاء التي ترافق حفلات الزفاف لعرسان الكرخ وغيرهم، وبنظرة ملؤها الحسرة على ايام الخير ـ كما يصفها الشيف حميد ـ ذكر لي انه مع اصوات الفرق الموسيقية الشعبية كان المدعوون يتناولون طعامهم الشهي مع (العريس) في هذا المطعم وسط مظاهر البهجة والفرح التي تعم تلك المنطقة الشعبية ذات التقاليد البغدادية العريقة.
ثم قال حميد متفاخراً : إن الحديث عن مطاعم الأكلات البغدادية الشعبية ، سيكون بلا طعم اذا لم يقصد الزائرمطاعم السمك المسكوف، والمنتشرة على شاطيء دجلة في شارع (ابو نؤاس) الشهير وتزدحم بالعوائل البغدادية واصحاب الذوق في الاكل البغدادي.
وأكد لي حميد بأن (ايوب العبيدي) صاحب أشهر مطعم للمسكوف في (ابو نؤاس) ان الطعم الاصيل لهذا السمك لامثيل له في أي مكان آخر في العالم، وأخبرني بأن هذا الرجل (الكردي) الذي تخطى عامه الخامس والسبعين ، تمّيز باختيار السمك العراقي الطازج بانواعه الثلاثة الشبوط والكطان والبني الذي يتم صيده مباشرة من قبل صيادي منطقة الكرادة .
ثم أخذ حميد يشرح لي طريقة الشواء قائلا: بعد ان تشق السمكة من الظهر وتخرج احشاؤها ، ينظف داخلها بالماء ويرش عليه شيء من الملح، وتشق في جلد السمكة فتحتان أو ثلاثة لمكان تعليق الأوتاد الخشبية ، ثم توقد النار من خشب الصفصاف على شكل دائري وتوضع أوتاد من الخشب الرفيع بارتفاع يعادل عرض السمكة على المحيط الخارجي للنار ويعلق السمك على الأوتار ليشوى على النار ، ويقوم المسؤول عن الشي بالسيطرة على النار وقوتها ويقوم بتقريبها أو أبعادها عن حلقة السمك، وبعد نضوج بطن السمك يرفع من الأوتاد ويوضع ظهر السمكة على قليل من جمر الخشب وذلك لشواء جلد السمكة الخارجي، ثم يقدم السمك المشوي مع أنواع السلطة والعنبة الهندية الحارة والطرشي والبصل الأخضر الطازج وخبز التنور الحار، ويؤكل باليد بدون شوكة وسكين، ثم يتبع ذلك باستكانة شاي مهيل.
ثم أخبرني بأن من بين المطاعم المشهورة في بغداد، تبرز مطاعم اخرى لاتقل شأناً ولها مكان في ذاكرة البغداديين من بينها (باجة الحاتي) في محلة الشيخ عمر ومطعم (عنجر) في محلة الفضل ومطعم كوخ دجاج في ساحة الفردوس الحالية ومطعم (قاسم ابو الكص) في الاعظمية ومطعم كص وكباب الاخلاص في شارع المتنبي ومطاعم الكباب المشوي الشهيرة عند سوق الاستربادي في الكاظمية بالاضافة الى مطاعم الكاهي والقيمر في الكسرة والكرخ والحيدرخانة وغيرها كثير.
اما مطاعم الازقة والطرقات فان لها طعمها المميز وزبائنها المعروفين وابرزها سلسلة المطاعم المنتشرة امام جامع الامام الاعظم التي تقدم وجبات شهية من الكبة والمشويات والشوربة وغيرها من المأكولات الشعبية اضافة الى المطاعم المماثلة في محلة باب الشيخ .
وبعد هذه الجولة الرائعة في أزقو وشوارع بغداد، عدنا أدراجنا ، وتوقفنا أمام مطعم تاجران ، فأخبرني حميد ، بأن ذلك المطعم من أرقى المطاعم بالمنطقة ، ويعمل فيه صديقاً له يدعى جعفر ، وهو طباخ ماهر ، وبأن المطعم الوحيد الذي ينافسه بأكلاته الشهية هو مطعم (الشمس) والذي يقع بجوار سينما السندباد ، حيث يقوم بتوصيل طلبات الزبائن بواسطة الدراجات الهوائية، وهو بذلك ينافس مطعم (تاجران) الذي يقابله من الجهة الثانية من الشارع ، كما يوجد أيضاً مطعم السعدون الذي يشتهر بأكلة (كريم جاب!) ..
قلت لحميد مستغرباً : أكلة كريم جاب ؟ ، ثم أكملت : شنو هاي الأكلة ؟
ابتسم حميد ، فاركاً لحيته ، وقد لمعت عيناه ، وكأنه يستعد لتقديم وصفة غذائية في مقابلة تلفزيونية هامة ، على غرار وصفات (منال العالم) الشهيرة ، فقال : إيه.. أبو جاسم ! ، هذي أكلة كريم جاب ، مو مثل أي أكلة ، ثم إستدرك قائلاً : يعني صحيح هي أصلاً باللحم ، وإنت أبو جاسم أعرفك ما تحب سيرة اللحم والدهن على الصبح ، بس والله هذه أكلة خفيفة الدسم ، حتى لو كانت باللحم !
فقلت له متعجباً : طيب هاي كيف صارت يا حميد ! أكلة لحم وخفيفة الدسم بنفس الوقت !
قال : إيه .. ، أولاً هاي مكونة من شرائح لحم البقر مغمّسة بالبقسماط ومقليه بالدهن..
ثم أكمل قائلاً : لكن السر فيها أبو جاسم ، إن شرائح اللحم البقري هذي، خالية أصلاً من الدهن ..
قلت له : كيف يعني خالية من الدهن وهي مكونة من اللحوم ؟
فأجاب : إيه .. طول بالك شوية أبو جاسم .. واللّي يرحم والديك ..
ثم أكمل قائلاً : إنت تطلب من اللحام ان يعمل سماكتها وسط ، ثم يطرق شرائح اللحم بالمطرقة جيداً حتى تصير رقيقة ، وبعدين تجيب بيض مخفوق قليلا، وملح وبهارات عربية (ام السبع أنواع !) او تقدر أبو جاسم تستعمل بهارات البرياني مع بقسماط مطحون ، او صمون محمّص مطحون ، إنت تعرف الصمون المحمّص المطحون؟
قلت له : آه طبعاً أعرفه ، هو خبر مطحون ومقلي بالزيت !
فقال : إيه ..عفية عليك!، ثم أكمل : نضع الملح والبهارات مع البيض ونخلطها، وطبعاً الكمية حسب الرغبة مالح حار، على كيفك، وبعدين نحط شرائح اللحم بالبيض ، يعني تغطس كل شريحة بالبيض باستخدام الشوكة وتطلعها وتحطها بصحن ، ثم تتركيها خمي دقائق ، وبعدين تغمّس شريحة اللحم بالبقسماط ، وتقلبها ،وبعدين تنفضها حتى يطيح ( يسقط) الزايد منها، وتحطها بصينية ، وبعدين تقليها بالدهن، وطبعاً مو لازم تغرّق شرائح اللحم بالزيت ، يمكن تحط فنجان زيت وتقلي فيه خمس قطع لحم ، على نار وسط ، بس لازم تسخّن الزيت هواية قبل ما تحط اللحم فيه ، بعدين طلع القطعة وحطها على ورق تنشيف، وحسب الرغبة تحط شراح طماط وخيار أوفلفل اخضر وخس وزيتون على حافة الصحن ، وبعدين تجيب كل قطعة من شرائح (الكريم جاب!) وتقطعها طولياً وتحطها بالوسط ، وصحتين وعافية على قلبك ابو جاسم!
ضحكت حينها قائلاً : والله يا شيف حميد! إن كلامك يفتح الشهية دايماً على الأكل ، وإنت طباخ ممتاز ، لازم يكون لك برنامج تلفزيوني خاص بيك ومشهور بعد ..
بدت علامات السرور واضحة على وجه حميد ، فأجابني : أبو جاسم .. برنامج شنو ، أنا أكثر شي أحلم بيه يكون عندي مطعم صغير على قد الحال ، وهاي هية .. والحمد لله رب العالمين ..
فقلت له : إن شاء الله ، ربنا يحقق لك أحلامك ، ويصير عندك مطعم مشهور جدا وناجح يارب ..
فقال : إيه يارب .. الله كريم ..
توجهنا بعدها إلى مطعم آخر يدعى (كباب حلب) ، وهو يشتهر بتقديم الكباب الشامي ، وبعدها دعاني السيد حميد للجلوس معه بمطعم (الكيت كات)، وكان ثمة كراسي أمام المطعم على رصيف الشارع ، فجلسنا هناك ، ثم طلب حميد لنا حلوى البقلاوة ، وقد كانت لذيذة فعلاً، ولكنه أخبرني بأنه يوجد العديد من الحلويات الشعبية العراقية المشهورة واللذيذة كالكليجة ، وهي نوع من المعجنات الشعبية التي تملأ بالجوز أو التمر أو جوز الهند، تحضر (الكليجة) عادة للأعياد والمناسبات الخاصة وتأكل مع الشاي، وكذلك حلويات زنود الست، والتي تصنع من عجينة خاصة ويضاف إليها السكر والحليب والنشا وحب الهال، وقال بأنه يكثر الطلب عليها في العراق، كبقية الحلويات والمعجنات وخصوصاً في شهر رمضان المبارك.
بعد أن انتهينا من تناول الحلوى نهض حميد قائلاً : أنا بروح البيت الحين ، وانت أبو جاسم لاتخاف ، الله وياك ان شاء الله تروح أهلك سالم غانم ، وتشوفهم على خير سالمين ..
فقلت : يارب ان شاء الله ..
افترقنا بعدها، فتوجه حميد ناحية اليسار باتجاه منطقة القصر الأبيض ، حيث يقيم هناك ، وأما أنا فتوجهت نحو حديقة الأمة العامة، ولكني قبل ذلك توقفت أمام محل يدعى (الذرّة) لبيع المواد الكهربائية المختلفة ، حيث كان يعرض بعض أجهزة راديو ترانزستور على واجهته الزجاجية ، فدخلت للمعرض وسألت عن أسعار تلك الأجهزة ، حيث كنت أنوي شراء جهاز راديو صغير ، كي أستمع إلى الأخبار في غرفتي ليلاً ، ولكن الأسعار كانت تتراوح بين عشرة دنانير عراقية فما فوق ، فسألت البائع إن كان ثمة راديو صغير بسعر أقل ، فأخبرني بأنه يوجد راديوات صغيرة ورخيصة جداً بدينارين ونصف ، ولكنها ليست متوفرة عنده ، وقال لي بأني سأجدها لدى بائعي البسطات على أرصفة الشوارع ، فشكرته وتوجهت خارج المعرض ، وفي الحقيقة لقد وجدت طلبي كما أخبرني الرجل تماماً ، لدى باعة البسطات والذين تمتلأ بهم شوارع بغداد ، فابتعت لنفسي جهاز راديو صغير ، ولكم كنت سعيداً جداً حين قرأت عليه كلمة ( صنع في العراق) ، وقد كان الراديو يحمل علامة تجارية باسم (الثريا) ، وفي الشارع المقابل للمعرض والمؤدي الى شارع أبي نواس كانت ثمة موقف سيارات للأجرة ، ينقل الركاب الى القصر الأبيض ومنطقة العلوية.
توجهت لذلك الموقف، وأخذت أقرأ العلامات والكلمات الموجودة على أبواب سيارات وباصات النقل ، والتي تشمل العديد من مناطق وأحياء بغداد ، كالكرادة الشرقية والكاظمية والأعظمية وغيرها ، ولكن ما لفت انتباهي هو باص مكتوب على جنبه حديقة الزوراء ، فقلت في نفسي لابد أن أزورها فقد سمعت بأنها حديقة قديمة جداً وعريقة ، منذ ايام الخلافة العباسية .
عدت بعدها إلى ساحة (النصر) الشهيرة ، وهي قريبة من ساحة التحرير ، وقد علمت بأن تسميتها قد جاءت من قبل البريطانيين الذين احتلوا العراق بعد انتصارهم في الحرب العالمية الاولى على الألمان عام 1918م، وظلت منذ ذلك الوقت لم يتبدل اسمها، وقد يلفت انتباه الزائر بأن منطقة ساحة التحرير تكثر فيها كما أسلفت عيادات الأطباء والصيدليات ومستودعات الأدوية ، والتي تلبي حاجة المرضى من مختلف مناطق العراق في بحثهم عن أدوية أو طبيب معروف للعلاج لديه.
كما كانت تطل على الساحة أفران السعدون للصمون ألأوتوماتيكي وهو أول من قام بخبز الصمون (اللوف) في بداية ستينيات القرن الماضي ، وكنت ترى طوابير المشترين تنتظر خروجه من الفرن لشرائه حاراً ولذيذاً مع رائحته المميزة.
يطل على ساحة النصر نصب تذكاري ، يمثل عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء الأسبق كما ذكرت، وقد قام بإنشاءه النحات الإيطالي (بياترو كانويكا) الذي يعد من أبرز الفنانين الايطاليين في عصره، ومن أعماله الاخرى التي انجزها في العاصمة التركية انقرة تمثال مصطفى كمال اتاتورك مؤسس دولة تركيا الحديثة، كان موقع التمثال قديما عند ساحة التحرير الأ أنه نقل الى ساحة النصر سنة 1972 عند البدء بأنشاء نفق التحرير، الذي قسم الساحة إلى نصفين وغطى على الناظر رؤية نصب الحرية بوضوح ففقدتا جزءا كبيرا من جماليتهما، وقد كان نصب السعدون يقع عند ساحة التحرير في الخمسينيات قبل نقله الى ساحة النصر موقعه الحالي وتطل على الساحة كازينو السعدون الصيفي، حيث تنتشر الأرائك والكراسي مكتضة بالرواد الذين يؤمونها كل يوم في جلساتهم التي تشرف على الشارع العام وعلى المارة في حركتهم الدؤوبة على طول رصيف الشارع.
وعبد المحسن السعدون ينتمي الى اسرة آل سعدون، وهي اسرة يرجع نسبها للاشراف من سلالة امراء المدينة المنورة ، ويعتبر من الرموز الوطنية العراقية، ولد في الناصرية عام1889 م، وتقلّد أربع وزارات، وهو عضو المجلس التاسيسي وثاني رئيس وزراء في العهد الملكي في العراق بعد نقيب اشراف بغداد عبد الرحمن الكيلاني النقيب، توفي السعدون في ظروف غامضة بعد مناهضته السياسة البريطانية ورفضه التوقيع على معاهدة عام 1925م، وأقيم تمثال عبد المحسن السعدون أول مرة عام 1933م، بساحة التحرير، وتحديدا في بداية جسر الجمهورية( جسر الملك غازي سابقاً) من جانب الرصافة، ثم تحول بعد ذلك الى مدخل الشارع المعروف باسمه الآن شارع السعدون ثم انتقل الى مكان ثالث وفي عام 1972 م، حينما بوشر بمشروع نفق ساحة التحرير لعدم تناسبه مع مساحة المشروع الجديد، فتم نقله إلى ساحة النصر.
وبالقرب من ساحة النصر إن مضيت قدما في شارع السعدون، تنتشر الكثير من البارات التي لطالما كرهت منظرها المطل على الشارع حيث كان يتنافس كثيرمن روادها بتجميع أكبر عدد من زجاجات البيرة على موائدهم، ضمن مشهد يجب أن لايعكس حقيقة الثقافة العربية والإسلامية العريقة في بغداد، وقد كنت أجد ذلك المشهد ضرباً من العادات السيئة لبعض الناس من الشعب العراقي.
بعدها اتجهت الى الموقع الذي شغلته سينما النجوم والتي كانت تعرض أفلاما رائعة قبل أن ينحدر مستوى هذه ألأفلام لتصبح مكرراً لما يعرض في السينمات الهابطة كميامي وروكسي والسندباد، وليس ببعيد عنها هناك سينما أطلس، وفي تلك الفسحة من شارع السعدون، وتحديدا القريبة من (سينما أطلس)، كان المقهى المطل على الشارع انطلاقا من مدخل دار السينما ذاتها، وفيه كان يتجمع الرجال والنساء ينتظرون موعد بدء العروض السينمائية، الا انني لم أختبر الجلوس في المقهى حتى في حال انتظاري بدء العروض وكنت أفضل الدخول الى مكان قريب هو (تسجيلات صوت الفن الحديث) الذي كان يعمد الى تقليد جميل لم أره في أي مكان آخر الا في بعض مولات دبي التجارية ، وهو في تخصيصه لأجهزة تسجيل مع سماعات للأذن يمكن من خلالها للزبائن ان يستمعوا الى ما يفضلونه من أغاني قبل اقتنائها، ولذا كان يمكنني ان أستمتع بالحان ، تبدأ من (هوتيل كاليفورنيا) لفرقة (Eagles) وتنتهي بجديد المطرب الأمريكي ( مايكل جاكسون) والذي ذاع صيته في منتصف ثمانينيات القرن الماضي ، ومرورا بوديع الصافي وخياميات عذبة كثيرة.
ومن الامكنة التي كانت تروق لي كثيرا بشارع السعدون، وتنقلني لإيحاءات جميلة ، كانت تتمحور في فكرة السفر للكويت أوالأردن، كانت مكاتب شركات الطيران الأجنبية، فكان مكتب (لوفتهانزا) بلونيه الازرق الغامق والاصفر، ومكتب (ايرفرانس) بألوانه الابيض والأزرق والاحمر كما العلم الفرنسي، ومكتب (إيران اير) بعلامته المميزة لرأس حصان اسطوري أقرب الى الطيران ومكتب أيرأنديا فضلا عن (مكتب توماس كوك) المختص بإصدار (الترفل تشيك) الذي عادة ما كان يفضله المسافرون كوسيلة لتأمين المال في خارج البلاد بدلا من حمل النقود، وهو شبيهاً اليوم الى ما يسمى (بطاقات الإئتمان)، لقد كان مكتب الشركة المالية الشهيرة درسا في الاناقة والترف.
الاناقة المكتبية تلك كانت تجد صداها في مكاتب شركات عراقية مختصة باستيراد الساعات الثمينة وبيعها جواد الساعاتي ووكالة شركة (رادو) وقبلها (رولكس)، وتتناثر مكاتب السفر ألأهلية بكثرة جنبا الى جنب مع مكاتب السفر الرسمية ومنها وكالة سفريات الجزائري ومكتب سفريات ما بين النهرين ، ومكتب الضاحي وأيضا يبرز مكتب الخطوط الجوية العراقية على ركن الشارع الذي يضم سينما سمير أميس الراقية.
عام 1990م، لم يكن عاماً جديداً على صالات العرض السينمائي ببغداد وبعد انفتاح بعض موردي الأفلام على موارد جديدة في شراء الأفلام، او المشاركة في عرضها ضمن اتفاقات معينة على سعر ما، وكانت حينها سميراميس من الصالات العريقة والمفتتحة في بغداد نهاية الستينيات، وهي بحق صالة تحتوي على الكثير لتكون دار عرض حديثة، إذ يواجهك بعد أن تقطع تذكرة الدخول رواق طويل، يستقبلك من جهتي الدخول، على يمينه نوافذ زجاجية رائعة معلقة عليها بوسترات الأفلام المزمع عرضها، ابتداءاً من الفيلم المعروض وانتهاءً بالفيلم الذي سيعرض بعد عدة أسابيع، وكان الجانب المقابل يحتوي على سلم وتحته هناك بعضاً من الكراسي القليلة ذات الطراز الكلاسيكي ، مع شباك زجاجي صغير، يقدم المشروبات والسجائر، ثم يبدأ السلم لينتهي بوجود مجموعة من الكراسي المتراصة تتوسط القاعة الصغيرة والتي تشبه ( الكافتيريا) المخصصة للانتظار والتي تطوقها مجموعة من قطع الزجاج المستطيل والذي هو عبارة عن قطع من المرايا حيث يتجسد الحضور ويتعدد ليصبح الجالسون والواقفون والذين لايتجاوزعددهم الثلاثين ليصبح ومن خلال مساقط المرايا لأكثرمن مئة بفعل التعدد البصري داخل المرايا المتعاكسة، ولأن الجالسين ينتظرون نهاية العرض الأول أوالثاني أوالثالث وحسب الأوقات المعلنة، ولتكون اغلب دور العرض في بغداد ملتزمة في هذا الاجراء من (غرناطة) الى (النصر) و(الخيام) وحتى (بابل) واكثرها في هذا التزاماً وتقليداً هي صالة سينما سميرأميس.
وبعد تلك الجولة الرائعة في شوارع بغداد ، وجدت نفسي واقفاً أمام محل للعصائر في شارع أبي نواس، وكانت الساعة وقتها تشير إلى الرابعة عصراً ، فلم أستطع منع نفسي من تناول كأس عصير فاكهة طازج ، كان المحل يغص بتلال من البرتقال والرمان والمانجا المصرية والشمام وغيرها من الفواكهة الطازجة، مرتبة ومعروضة بشكل جيد ورائع، فطلبت من البائع أن يحضر لي كأس كوكتيل ، وبعد تناولي للعصير توجهت عائداً للفندق.
سلمت على أبو مهدي ، ثم أخذت منه المفتاح وصعدت لغرفتي ، وبعد أخذت حماماً منعشاً ، ثم نزلت إلى مضافة الفندق ، وحينها رأيت الصبي مهدي جالساً يقرأ ، سلمت عليه وجلست بقربه ، ثم قمت بتدريسه ساعة من الزمن ، وبعدها نهض بعد أن شكرني وغادر الفندق ، بقيت وحيداً أشرب الشاي وأشاهد التلفاز، ولم يكن ثمة شيء مهم، غير أنني لاحظت وجود الجنود الثلاثة يجلسون في المضافة بزيهم العسكري ، فلم أعرهم انتباهاً ، وكان من بينهم ذات الشخص ينظر إليّ كما في المرة السابقة ، ولكنه هذه المرة نظر إليّ مبتسماً واشار بيده قائلاً : الله يعينيك !
فأجبته : الله يعينك .. هلا بيك ..
بدا الأمر لي طبيعياً جداً ، ولكن بعد برهة نهض ذلك الجندي ثم جلس بقربي ، وحينها لاأخفي عليكم بأني شعرت ببعض الخوف والريبة ، فقد سلم علي قائلاً : شلونك ابو جاسم ! ، وفي الحقيقة استغربت كثيراً من معرفته اسمي ، فأبو جاسم في اللهجة العراقية يعني أبوالقاسم ، أي يقصدون ( محمد) نسبة إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، فأصابتني بعض الريبة حينما دعاني بإسمي ..
على أية حال أجبته : وعليكم السلام !
قال : عيني أبو جاسم أحب أعرفك على نفسي ! ، أنا أخوك أمير يونس عبد الرحمن ، وأنا ملازم في الجيش العراقي ، ثم أكمل : أنا أريدك تطمّن هواية ، بس إحنا نريد نسألك فد أسئلة كلش اعتيادية ، وارجو إنك تتعاون ويّانا ..
فقلت له : إيه طبعاً مافي مشكلة ، بس شنو هاي الأسئلة ؟
تبسم قائلا : لا.. عادي جداً ، يعني أقصد أنت شنو تساوي في العراق ؟ شكلك صغير في السن ، إنت طالب قاعد تدرس في الجامعة ، لو سائح ؟
أخبرته فوراً بما حصل معي ، وبأنني أقيم بالفندق مؤقتاً لحين فتح المعابر الحدودية وبأنني سأسافر لأهلي للكويت بمجرد فتح الحدود، وبأنني لست سائحاً أو طالباً في العراق.
قال : إيه .. ، أهلا بيك في العراق أبو جاسم ..، إحنا بصراحة سألنا عنك ! ، وعرفنا إنك من الأردن ، وإنك مجرد مسافر تنتظر فتح الحدود ، بس حبّينا نتأكد من هذه الأمور منك مباشرة ، ثم أكمل كلامه قائلاً: أرجو تعتبرنا مثل إخوتك وإذا تحتاج شي ترى تدلل ، إحنا جاهزين نخدمك بعيونا.
شعرت حينها بالراحة قليلاً ، وخصوصاً بعدما عرفت سبب قدومه وجلوسه بقربي .. قلت له : الله يبارك فيك ، أنا الحمد لله بخير ، مو محتاج شي ، لكن إذا احتجت شي إنشاء الله رح أحكيلك.
نهض من مجلسه ثم توجه لزملائه واشار لهم بالنهوض ، ثم غادروا الفندق ، وحينها توجهت لأبو مهدي ، وقلت له : الله يعينك أبو مهدي !
فقال : هلا أبو جاسم : شلونك .. شكو ماكو ؟
فقلت له ساخراً : آه .. شكو ماكو يا أبو مهدي ! ، والله كل الأكو والماكو عندك إنت ، ثم أكملت ، يعني هذول الجنود أجو وسألوا عني ، وإنت ما خبرتني ؟
فقال وهو يتلفت برأسه يميناً ويساراً : الله يهديك يا بوجاسم ، إنت عارف مين هذول ؟
فقلت : هلا والله ! طبعا يا أبو مهدي عرفتهم منيح! ، وبعدين صاروا أصدقائي ، وهذول أصلاً شباب من الجيش العراقي ، وهم في إجازة الآن..
قاطعني قائلاً بتعجب : أصدقائك !!، شنو أصدقاءك !، ثم أكمل : الله يرحم والديك ، أصدقاءك شنو ! هذولي من الإستخبارات العسكرية ! ، ومالهم صديق كلّش يا بوجاسم ، ترى الواحد فيهم يبيع أهله وإخوانه ويبيع أمه الليّ جابته ، إذا كان مسكو الواحد يتحشىّ ( يقصد يتحدث) بكلام مو زين عن صدام أو عن حزب البعث العراقي ، وبعدين هم ما سألوا عنك لوحدك ، عادة يأخذون كشف كل يوم بأسماء جميع نزلاء الفندق ، ويقدرون يسألون عن أي نزيل في الفندق، وانا بصراحة يعني ما أقدر أقول لهم لا، ابداً يا بو جاسم، ولازم أجاوب على كل أسئلتهم ..
فقلت حينها متعجباً : من الإستخبارات العسكرية !
قال : إيه نعم ... ترى دير بالك تتحشىّ ويّاهم في السياسة أو عن حزب البعث أو عن صدام حسين ، أو عن احتلال الكويت ، وترى الله يعافيك ابو جاسم لاتقول لهم عن الكلام اللي دار بينا عن الحرب العراقية الإيرانية ، ترى الموضوع حساس هوايا وخطير ، وأنا مثل والدك ..
فقاطعته قائلا : لاتخاف ابو مهدي ، أنا أصلاً حذر جداً من التحدث مع الغرباء مهما كانوا..
قال : إيه عفية عليك أبو جاسم .. ، ثم أكمل : وأنا بعد أريد أتشكرك أبو جاسم لأنك تدرس مهدي ، وهو كلش مستانس ( يقصد : سعيد أو مسرور ) منك ، الله يبارك فيك ابو جاسم..
قلت : لا مافي مشكلة .. ، أنا جاهز بأي وقت ..
أعدت مفتاح غرفتي لأبو مهدي، ثم غادرت الفندق متوجهاً نحو مكتب سفريات الفرات، حيث كنت على موعد مع السيد (خيري) السوداني ، كي أعرف ماذا فعل حول وظيفتي ، وبعدها بقليل وصلت لمكتبه ، فوجدت عثمان جالساً في مكتب الإستعلامات، سلمت عليه ، وسألته عن عثمان ، فأشار لي فوراً بالدخول إلى مكتبه ، ففعلت ذلك.
وعند دخولي للمكتب ، تفاجأت حقيقة بمنظر غريب ، فقد رأيت فتاتين إحداهما تجلس على الكرسي مقابل مكتب خيري ، والأخرى جالسة فوق مكتب خيري ذاته! ، وهي تقوم بإغلاق أزرار دشداشة خيري البيضاء ، أسفل عنقه تماماً ! ، وأما خيري فقد كان مسترخياً ومنشكحاً ، كسلطان من سلاطين الدولة العباسية أو الأموية أو حتى العثمانية ، وأمامه جاريته التي تعتني به وتلاطفه ..
لم تتفاجأ تلك الفتاة من دخولي إلى المكتب، بل كان الأمر بالنسبة لها طبيعياً جداً ، فقد نظرت لي مبتسمة بوقاحة ، وقد بدت شفتاها ورديتان ومتورّمتان ومنتفختان جداً، وكأن شخصاً ما ، قد لطمها عليمهما ، أو أنها كانت تعضهما بشدة ، ثم استمرت فيما كانت تفعله ، حتى أغلقت الزر الأخير حول عنق ذلك اللعين خيري! ، وقد كان ثوبه الأبيض شبيهاً بالدشاديش السعودية التقليدية، والتي يرتديها المواطن السعودي أو الخليجي عموماً، كانت بيضاء ناصعة ، ومكوية بشكل جيد ، وذات أكمام طويلة ومستقيمة تماماً كالمسطرة ، ولها أزراراً سوداء عند العنق ..
في الحقيقة كنت واقفاً كالأبله .. ، فاتحاً عيناي على وسعيهما، بل ومذهولاً بما أرى ، فلطالما أعتقدت بأن مثل تلك المشاهد المثيرة والتي أشاهدها أمامي الآن ، ليست موجودة في الحقيقة ، إلا في الأفلام المصرية القديمة لناديا الجندي أو سهير رمزي ، أو ربما في الأفلام الأجنبية فقط ..
تبسم خيري بفخر ودهاء ، وقد بدت عليه علامات البهجة والإرتياح الشديد ، فأسند ظهره لمقعده ، ثم قال : هلا أبو حميد !، كيفك يازول ؟ ، شو أخبارك .. تمام !!
قلت وأنا أنظر للفتاتين ثم لخيري وعيناي تكادا تخرجان من وجهي إنذهالاً : والله تمام التمام !!
ضحك خيري فاغراً فاه ، على عادة ضحكات الممثل المصري الراحل ( اسماعيل ياسين) حتى أني استطعت رؤية لوزتيه القذرتين ولسانه الأحمر قد تدلى من فهمه ، والذي بدى لي كلسان ثورهائج ! ، كما رقعت الفتاتان ضحكات متتالية سريعة ، أثارت الشهوة في كل مسامة في جسدي ، فقلت فوراً في نفسي : رب ارحم .. فأنت خير الراحمين .. وإلا ّ فلسوف أضيع حتماً في بغداد ..
استدرت فوراً ، وأردت الخروج من مكتبه ، فنادى عليّ خيري قائلاً : يا ابو حميد ! لحظة شوية يا زول ، فالتفت إليه قائلاً : شكلك مشغول يا خيري ، ثم أكملت : خلاص مو مشكلة برجع بعدين..
قال: يا رجل اصبر شوية، ثم أشار للفتاتين بالخروج، فنزلت الفتاة من فوق مكتبه ، وعدّلت ملابسها، ثم غادرتا المكتب ، دعاني للجلوس ففعلت ، وقال : شو تحب تشرب يا بو حميد ؟
قلت : لا .. ولا شي ، الله يبارك فيك ..
فقال : ما يصير ، يازول .. ، لازم تشرب شي عندنا ، ثم صاح قائلا : يا عثمان !! ، وانتظر برهة فلم يجب عثمان ، فصاح مرة أخرى : ياعثمان .. فلم يجب أيضاً ..
وحينها قلت له : خلاص يارجل .. والله أنا ما بدي شي ، الحمد لله شربت شاي وقهوة وعصير..
فقاطعني قائلاً: لا .. مايصير يارجل ، لازم نضيفك شي ، ثم أكمل : هذا عثمان تلاقيه داير يضيّع الوقت مع البنات ، أنا بشوف شغلي معاه ..
قلت له : يا سيد خيري ، خلاص مو مشكلة بشرب شاي عندك ، بس طمني شو صار بموضوعي ؟
فقال : أي موضوع !!
فأجبته بسرعة : موضوع الوظيفة يا خيري ، وإلليّ وعدتني فيها عند أحد أصدقاءك ؟
وضع يده على راسه قائلاً : أووووه ، والله يازول أنا نسيت الموضوع هذا تماماً.. الله يلعن الشيطان ، ثم استدرك قائلاً : بس ولا يهمك .. بكره ان شاء الله أكيد رح أشوف ليك معارفي وأصدقائي.. ولازم ألاقي ليك وظيفة محترمة ! ، علشان تصرف على نفسك لحين ما تسافر بلدك على خير ..
شكرت خيري ، وأخبرته بأني سأعود غداً في ذات الموعد ، أو ربما قبل ذلك ، فقال لي : أعتبر هذا المكتب مكتبك ، وأهلاً وسهلاً بيك في اي وقت ..
نهضت من مقعدي ، واسأذنته بالخروج ، فاستوقفني قائلاً: يا زول اصبر شوية !، الآن يجي عثمان ونشرب الشاي مع بعضنا ..، شكرته مجدداً، وأخبرته بأني سآتيه غدا، آملاً أن يبشرني حينها بأخبار جيدة عن الوظيفة.. ثم غادرت المكتب .
وأثناء خروجي من بوابة الشركة ، شاهدت عثمان واقفاً أمام مبنى شركة السفريات مع ذات الفتاتين ، كانوا يتحدثون، لكنهم صمتوا لحظة خروجي من المبنى ، فمررت بقربهم وأشرت لهم بيدي مودعاً ثم مضيت بصمت عائداً نحو الفندق ، وفي الحقيقة كان ثمة شيء من اليأس قد نجح بالتسرب لأفكاري المشوشة أصلاً ، كنت أسير بخطوط مستقيمة ، دون أن أنظر حولي ، فقد استوحذت على عقلي فكرة أن لاأجد عملاً على الإطلاق ، وحينها سيكون الوضع صعباً جداً عليّ ، ولم يكن لديّ أي إحتمالات أو حلول أخرى غير الحصول على عمل ما ..
تجاوزت الفندق دون أن أدري، ولم أفق على نفسي ، إلا وأنا واقفاً أمام إنعكاس أضواء الشوارع على سطح نهر دجلة بعد الغروب ، وتحديداً في شارع أبي نواس الشهير ، لقد سرت كل تلك المسافة من مكتب خيري في شارع السعدون ، وحتى ضفاف نهر دجلة والتي تعادل مسافة كيلومترين تقريباً ، دون حتى أن أشعر بشيء ، لقد كنت أعتقد بأني أفكر أو أبحث عن حل ما ، ولكني في الحقيقة لم أكن افكر ، بل ببساطة كنت أقلق ! وأقلق ، ولم أكن أفكر.. وهذا ما يحصل لنا حين نحتار، نعتقد بأننا نفكر ، نغضب وتؤلمنا معدتنا وأمعائنا من شدة التفكير ولكن في النهاية لانجد حلاً ، لأننا كما قلت نكون في حالة قلق مزمن، لاينفهنا بشيء، ويتفترض بالتفكير السليم أن يؤدي بنا لإيجاد حل ما لمشاكلنا.
وفي هذه الحالة ، يجب عليّ أن أبحث عن عمل بنفسي ، وأن لا أنتظر من خيري أن يبحث عن عمل لي ، وهذا هو التفكير المنطقي والسليم ، وقفت أمام نهر دجلة ، وأغلقت عينيً برهة ، ثم أخذت نفساً عميقاً ، فامتلأت رئتاي برائحة رطبة دافئة، ولكنها بطريقة ما كانت منعشة ، فشعرت بشيء من القوة المعنوية ، ربما هو عبق تاريخ نهر دجلة ، والذي يبقى متدفقاً معطاءاً لأبناءه منذ آلاف السنين ، عبقاً تاريخياً يتحدث ويهمس لك مع نسيم النهر، همساً آسراً يضم القريب ويُدني البعيد شوقاً عجيباً يُشعرك بأنك ستضم نهر دجلة بصدرك ، وتبكي وتبكي وتبكي ، حباً وشوقاً وحنيناً إلى وطنك وأهلك.



#محمد_ابداح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كم أنت إنسان رائع !
- حكمة الشر ج2
- حكمة الشر
- 27 يوماً في بغداد - ج6
- أتذكرين !
- 27 يوماً في بغداد - ج5
- أعذر
- لمن تشرق الشمس
- 27 يوماً في بغداد - ج4
- حواء امرأة شرقية
- خنادق الموت
- تعلمت معك
- الأقدار
- لذة الموت
- هل تمضي وحيدا
- 27 يوماً في بغداد - ج3
- سيرة ذاتية
- يا جور قلبك
- احن لعينيك
- ليته انتظر


المزيد.....




- -بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
- سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي ...
- لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
- مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م ...
- رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
- وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث ...
- وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه ...
- تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل ...
- تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون ...
- محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد ابداح - 27 يوماً في بغداد - ج7