أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حجي خلات المرشاوي - مرارة الألتحاق















المزيد.....

مرارة الألتحاق


حجي خلات المرشاوي

الحوار المتمدن-العدد: 4654 - 2014 / 12 / 6 - 16:22
المحور: الادب والفن
    


مرارة الالتحاق
قصة قصيرة


استيقظ من نومه لكنه بقي مستلقيا ينظر في سقف الغرفة بتثاقل. شعر بجفاف مقرف في فمه ومرارة مستديمة تندغم في سقف حلقه. تنهّد وهو يبحث بعينيه عن قدح الماء الذي لا بد وان تكون زوجته قد وضعته في مكان قريب منه. مدّ يده بمشقّة والتقط القدح ، ثم أفرغ السائل البارد في حلقه. تلاشى الجفاف من تجاويف فمه لكن تلك المرارة الأزلية ظلت تقاوم تدفق الماء وكأنها حصى منغرزة في مدخل بلعومه. تناهى إلى سمعه صوت زوجته وهي تحثّ البقرة الحرون على الخروج من زريبتها. شم رائحة الشاي الصباحي تأتي حميمية وتدغدغ أنفه الكسول. انتبه لضجة أطفاله وهم يتزاحمون على الدخول إلى المرافق الصحية، ويتسابقون على الوصول إلى الحمام. التقط سيكارة من علبة تقبع بجانب مخدته وأشعلها بهدوء. هل سيتسنى له مرة أخرى أن يعيش ألفة هذا الجو الأسري؟ زفر الدخان نحو اللاشيء وتقلص جسمه النحيف تحت اللحاف الصوفي. سمع من الغرفة الثانية تمتمات والدته وأدرك أنها تلقي ادعيتها المباركة كي ينال ابنها الستر والصحة ويعود سالما معافى. دفع الدخان المرّ اللاذع نحو اللاشيء ثانية. أحس بقشعريرة برد تسري في أوصاله فاحكم لف جسمه باللحاف المتهرئ. ضغط على احد أزرار الراديو فسمع موسيقى عسكرية مقرفة قطعها صوت المذيع المتشنج.( بيان صادر عن القيادة العامة للقوا......) أغلق الراديو بنقرة متوترة من أصابعه. هل يعقل أن يترك هذا الدفء وتلك الراحة؟ نشق رشحه وسحب دخانا يبابا من العقب المندعك لسيكارة (سومر) ذات التبغ العفن. كل شيء يمر عبر حلقه مر الطعم في هذه الساعات العصيبة. تفل تفلة خائبة ودارى دمعة باهتة كادت تنبجس من نقرة خيبته. لن يسمح لهشاشة نفسه أن تفسد عليه لحظات الفراق مثلما يحدث في كل مرة. رمى السيكارة العطنة ودفع اللحاف عنه ونهض بتململ رتيب. دخل الحمام وفتح صنبور الماء وظل يراقب نزوله الشلالي للحظات. هل سيحظى بماء صاف ورقراق هناك؟ ملأ حفنتيه وبلل وجهه المكفهر والتقط صابونة وأنهمك بغسل بشرته المثقلة بالشعر والكلف والحبات البارزة. لن يقدر ماء البسيطة اجمعه أن يزيح تلك المرارة التي بدأت تقتات على أعصابه. عاد إلى غرفته الكلسية العتيقة وصار ينشف وجهه بحركات آلية تنطوي على سأم قتّال. جلس على الأريكة الوحيدة وصار ينظر عبر النافذة نحو باحة البيت الصغيرة. رأى آثار روث البقرة يتوزع بقعا مبعثرة على طول الممر المؤدي إلى الباب الخارجي. لمح إحدى ذرفتي الباب تنفتح وتدخل منها زوجته. تابع ببصره الشبق ترجرج أردافها المكتنزة واهتزاز ثدييها الممتلئين. أحسّ بنار تسري في داخله وكاد صوته يخترق زجاج النافذة ليدعو تلك الكائنة المثيرة إلى الفراش ليمارس معها ما عجز عنه بعد أربع محاولات فاشلة ومخيّبة ليلة الأمس رغم التعاون الكبير والصبر الذي أبدته الزوجة المتفانية . أشاح بوجهه عن منظر الزوجة الأخّاذ والتفت نحو زعيق أطفاله. نهرهم بصوته الحاد الرنان فأنقطع الزعيق تحت النظرة الغاضبة المهددة. دخلت الزوجة أخيرا إلى الغرفة فامتلأ المكان برائحة الحب ولون الحبور وكادت المرارة الممسكة بتلافيف حلقه تختفي تماما. أي سبيل يسلك حتى يستطيع توديع زوجة بهذه الروعة؟ بقي جالسا على الأريكة يحاول تهدئة كيمياء جسده ويمنح عضوه المتحفز فترة أطول لكي يسترخي ويهدأ. عاهد نفسه على أن لا يكرر ما يفعله دائما وسيحاول قدر الإمكان أن يكون أبا مثاليا وزوجا صالحا فيما تبقى له من زمن. ندم على تصرفه القاسي مع أطفاله، فنهض وجلس بينهم يداعب هذا ويلاعب ذاك وأشاع فضاءً شفافا من الضحك والمرح حولهم. قرص زوجته من مؤخرتها مستغلا انشغال الأولاد باللعب والضحك وبعث لها قبلة هوائية. كادت جلبتهم تقلب الغرفة رأسا على عقب لولا الدخول الموقر لوالدته الطاعنة في السن. كان الجميع يعرف ما عليه أن يفعل كلما دخلت تك المرأة السبعينية بظهرها المحدودب وخطواتها المتعثرة وأنفاسها المتقطعة بسبب الربو المزمن الذي أطاح بآخر الآمال بشفائها من أمراض كثيرة أخرى. ساد صمت مهيب في أجواء الغرفة وأفسح الأولاد للجدة التعبة مكانا قريبا من المدفأة النفطية ذات اللهب الأصفر. قرر أن يستمتع بآخر فطور مضمون راميا خلف ظهره عذابات ما ستؤول إليه الأمور. انفتحت شهيته على غير عادته وصار يلتهم الصحون التهاما مدركا بغريزة الرجل أن الأكل لكي يكون لذيذا إنما يحتاج إلى لمسة امرأة تفكر بزوجها طوال فترة غيابه وبراءة أطفال لا يفقهون ما يحدث في عالم الكبار وبركة أم ما زالت تؤمن أن زمن المعجزات باق. إذا لم يكن من وسيلة لإيقاف آلة الوقت الجبارة، فلينقضي إذن حانيا دافئا وطيبا. انسحب جانبا وأشعل سيكارة ثانية وصار يراقب من خلال دخانها الرمادي منظر كل موجودات عالمه. أم وزوجة وأطفال يأكلون الآن مثلما فعلوا في السابق ومثلما سيفعلون في المستقبل سواء بحضوره أو بغير حضوره. أي وجع ممض أن يصبح فجأة خارج هذا العالم الذي كان أهم المساهمين في بنائه. في آخر ليلة من آخر ساعات إجازته الدورية المتناقصة أبدا منحته زوجته كل ما كان يحلم به متحمّلة تداعي رجولته وتخلخل أوتاد فحولته، لكنها الآن تجلس بين أولادها مستعيدة وضعها الطبيعي كأنها تذكّره دون أن تدري بأنها قادرة على الاستمرار بدونه. حتى أمه التي ما زالت تحمل الرحم الذي ألقمه أولى نفحات الحياة تكاد تقاسيم وجهها المجعدة تعلن استسلامها التام أمام طغيان مارد الحرب التي تبدو وكأنها مستمرة حتى قيام الساعة. لقد آمن دائما أن السيكارة فقط هي الشيء الوحيد المطواع لكل أمزجته وتناقضاته، غير أن الدخان ذي الرائحة الكريهة فقد انسيابه المنتظم بسبب طرقات قوية على الباب الخارجي. شحب وجهه وهو يتجه نحو الباب ثم رجع بعد هنيهة مكتئب الملامح. لم تكن العائلة بحاجة إلى سؤاله عن شيء لأنهم كانوا يعرفون انه ولا بد احد رفاقه الذين سيمضي معهم إلى حيث لا يكون للوقت ذاكرة ولا للمكان تاريخ. لقد انهارت في رمشة عين كل استحكاماته الواهمة وفقد بفعل طرقة كارثية على الباب زمام سيطرته على حصان نفسيته الواهن. توجّس جميع أفراد عائلته خيفة من تعابير وجهه المتدلغمة والتي طالما اقترنت بكلّ سيئاته كأب خائب ومشاكله كزوج مستبد ومتاعبه كأبن عاق. انحشروا كلهم في ركن الغرفة وهم يشاهدونه يعصر وجهه بين يديه ثم يتجه صوب دولاب خشبي ويخرج منه قنينة شبه ممتلئة. حاولت زوجته منعه لكنها تلقت ضربة موجعة على فمها. توسلت إليه أمه أن يدع (العرق) جانبا دون جدوى فصمتت تستغفر ربها بهمهمات مرتعشة. صرخ في وجه أطفاله المرتعبين: انتم لا تعرفون علام أنا مقبل.
هرب الأولاد إلى الغرفة الأخرى تضامنا مع الجدة والأم. عاد وحيدا كما كان دائما يذرع الغرفة جيئا وذهابا، تائها في صحراء مكابداته كجرذ أعمى. لم يستطع أن يواصل تمثيل دور الرجل المثالي وصفير الموت القادم من الشرق يحاصر كل أشيائه طوال الوقت المتبقي . بعد ساعة, سيكون عليه أن يحمل حقيبته ويرتدي الخاكي والجزمة العسكرية القبيحة، ويضع كل الأوراق التي تثبت براءته في جيوبه. غاص أكثر في مستنقع تفكيره وعرف انه بعد ساعة بالضبط سيكون عليه أن يتخلى عن عالمه الحميمي وبيئته الطبيعية القادر على التأقلم معها، وان يذهب مرغما إلى الجبهة التي لا جبهة لها سوى حدود الموت وخطوط الدم ومديات الجثث المتعفنة. صعدت المرارة في حلقه إلى أعلى مستوياتها، فجرع من (البطل) ما ساعده على الوقوف أمام سيلها المتدفق كإعصار استوائي . بعد ساعة تماما، عليه أن يهيئ نفسه لإهانات الضباط وأوامر القادة وخبث نواب الضباط وضحالة الجنود وما يأتي بعدها من معارك عبثية لا يعرف فيها من الشهيد ومن القتيل، من الجاني ومن المجني عليه، من البطل ومن الجبان. في غمرة تصوراته لاح له خاطر جنوني بان يقطع سبّابته التي تصلبت بفعل احتكاكها المزمن بالزناد ويرميها للكلاب لكنه تراجع خائبا حين تذكر انه ليس بقادر على خداع اللجان التي سوف يمثل أمامها كمتهم وضيع. جرع جرعة ثانية وثالثة ورابعة وصارت الجدران تدور به، وانطلق الصوت المثقوب بشوكة المرارة يغني (كذاب دولبني الوقت بمحبتك ، كذاب روحي تمرمرت من عشرتك) حين أكمل أغنيته المعتادة صرخ بأعلى صوته طالبا الزوجة والأولاد . انتظر قليلا قدومهم لكنهم لم يجرؤوا على الدخول فخرج إلى باحة البيت وازداد صراخه عنفا وقوة. استسلمت الزوجة أخيرا لجنونه فكانت أول من خرج ثم تبعها أولادها. وقف كقائد عسكري متسلط وقادر وقال لهم بصوت آمر:
ـ قفوا صفا واحدا
انصاع الجميع لأمره ووقفوا صفا واحدا . ابتسم شبه ابتسامة ثم أوعز:
ـ أستريح!
لم يتحرك شيئا فيهم إلا العيون الخائفة داخل محاجرها المستنفرة. كرر أمره الناهي:
ـ استاااريح
أدى الجميع حركة الاستراحة العسكرية.
ـ استااااعد!
استعدوا غير عابئين بالدموع التي كانت تسيل بصمت من عيونهم والارتعاشات المفاجئة التي كانت تخلخل استقامة أرجلهم.
ـ إلى اليسار در.
استداروا إلى اليسار مسلّمين أمرهم لله ولنزوات الرجل الذي تعودوا على طقوس توديعه منذ زمن بعيد.
ـ عادة سر
ساروا مسيرا عسكريا مضحكا ومبكيا في ذات الوقت وصاروا يقطعون الباحة طولا وعرضا بحسب مشيئة الرجل الذي لم ينجح أبدا في التغلب على انتكاسات يأسه في ساعة الوداع الأخيرة.
ـ قف.. سلاااااام خذ.
نفذوا الحركة كيفما اتفق وانتظروا الأمر التالي. رفع (البطل) وشرب ما تبقى فيه مرة واحدة ثم قال وهو يلوّح في زهو بالقنينة الفارغة.
ـ لهذا فقط يجب أن يكون سلام الأمراء .. انصراف.
رمى الأولاد أنفسهم في حضن أمهم واستأنف الجميع نحيبهم المكبوت. نظر إليهم بشفقة وانحدرت الدموع من عينيه كنهر حزين يحاول عبثا أن يغسل آثامه وخيباته وعجزه عن التصرف بطريقة أكثر رجولة فأرتمى بينهم يفرّغ ببكاء المذنب التائه كل قيح وصديد واحتقانات السنين التي قضاها بعيدا عنهم كجندي مهان ومستلب الإرادة. قال لهم والدموع تشوش تتابع كلماته: ـ أنا ذاهب إلى حيث لا أريد وسوف افعل قسرا كل ما أمقته.
نهض واقفا وطاف بنظره على وجوههم باحثا عن نأمة صفح لكنه لم يلمح غير علامات الخوف والسخط. التفت نحو أمه فرأى إشارة باهتة من عدم الرضا مبعثرة على تجاعيدها السبعينية فأدرك حجم ما اقترفه من سوء مدموغا في زمّة شفتيها المرتعشتين. انتفض فجأة كي يهرب من عالم وديع قوّض بحماقته أركانه الطرية ودخل في الحال إلى غرفته. ارتدى ملابسه على عجل. حمل حقيبته باشمئزاز. حشر نقوده وأوراقه وعلبة سكائره في جيوبه. مسح دموعه. انطلق كزرافة بلهاء نحو الباب الخارجي دون أن يقدر على الالتفاف ولو للحظة أو ينبس بكلمة وداع مطمئنة.



#حجي_خلات_المرشاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلم ثقافي.. وقصص أخرى
- قصص قصيرة.. أوان الموت
- مياه بابل(قصص قصيرة جدا)
- كارثة النطفة-قصص قصيرة جدا
- تقاسيم على مقام ايزيد
- الخيول الغاضبة


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حجي خلات المرشاوي - مرارة الألتحاق