|
قراءة معاصرة لمسرحية تمرد شعب الإسبانية بمناسبة مهرجان البراءة للجميع
خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4651 - 2014 / 12 / 3 - 17:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
" لكنها تدور، يا أرض الكنانة"
قراءة معاصرة لمسرحية تمرد شعب الإسبانية وسط مهرجان البراءة للجميع
د. خالد سالم حملني مشهد البراءة للجميع الذي شهدناه السبت الماضي، في محاكمة القرن لمبارك وأركان نظامه، إلى مسرحية "تمرد شعب"، التي لا يزال في ذاكرتي الموقف الجمعي لأهل القرية، وهو مشهد مهيب، لحظة سؤال قاضي التحقيق لأهل القرية عن قاتل قائد المنطقة فجاءت إجابتهم جامعة قاطعة "قتله فوينتي أوبيخونا، أهل القرية جميعهم". فلم يستطع القاضي إدانة أحد إذ توزع دم القائد الظالم بين سكان القرية كلها. لا يزال ماثلاً في أذني صوت أستاذ مادة أدب العصر الذهبي، في الصف الثاني بكلية الفلسفة والآداب، وهو يردد الأبيات التي تعبر عن الموقف الجمعي في القرية، بأن القاتل السكان جميعهم. عنوان المسرحية هو "فوينتي أوبيخونا Fuente Ovejuna "، وهو اسم لقرية أندلسية، ترجمها الدكتور حسين مؤنس في الستنيات، تماشيًا مع الخط الناصري، إلى "ثورة الفلاحين"، وهو عنوان موفق رغم استغلاله للحظة التاريخية. وزع مؤلف المسرحية الإسبانية دماء ذلك القائد على القبيلة، سكان القرية كلها، رجالاً ونساء وأطفالاً، ما حال دون انزال عقاب بأحد، فلا يستطيع حاكم أن يسجن أو يعدم شعبًا بأكمله. تدخل الملك وأصدر عفوًا أمام ضغوط الشعب الذي كان يصل صوته مجلجلاً من خارج المشهد الأخير في المسرحية. كان توحيد صفوف أبناء القرية العامل الحاسم في اجبار القاضي ومعه الملك في عدم انزال أي عقاب بهم. المشهد موحٍ، مؤثر ومحفز، يصب في تمسك الشعب برأيه لتخليص نفسه من تعسف حاكم، فرنان غوميث دي غوثمان، أذله وانتهك حرماته ونساءه، ممثلة في البطلة لاورينثيا التي خطفها ليلة عرسها واغتصبها وزج بعروسها، فروندوسو، في غياهب السجن في الليلة نفسها، ليفترسها في ليلة تحقيق حلمها الأكبر، فخسرت شرفها على يد رجل يفترض أنه يمثل رمزًا من أبرز رموز العصر الوسطى، الفروسية، وفي الوقت نفسه يمثل حاكم البلاد، الملكان الكاثوليكيان فرناندو وإيسابيل. ومسرحية "فوينتي أوبيخونا تحمل اسم قرية من أعمال قرطبة، تنتمي إلى مسرح العصر الذهبي في الأدب الإسباني، القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهي لعنقاء المسرح الإسباني لوبي دي بيغا. وتدور أحداثها في لحظة حاسمة في تاريخ إسبانيا، لحظة حرب الاسترداد Reconquista، خلال مرحلة متأخرة من عصر الاقطاع، وتمثل فصلاً تاريخيًا لأحداث وقعت في نهاية القرن الخامس عشر. وتتمحور حبكتها حول علاقة حاكم ظالم بشعبه من خلال سوء استخدام السلطة وانتهاك حرمات شعبه، وانتهاكه لشرف احدى فتيات القرية ليلة عرسها، فما كان من الشعب إلا أن انتفض وهب منتقمًا من حاكم مستبد، لا يحترم القوانين، كان ينتهك القواعد الاجتماعية المعمول بها في ذلك المجتمع، فقتله. حدث هذا رغم أنه سبق له أن راود الفتاة عن نفسها، لكنها رفضت وتمسكت بخطيبها، فروندوسو. أمام خروقات القائد المتكررة والبشاعات التي استحلها لنفسه وسرقاته، قرر سكان القرية الاتحاد وأخذ العدالة بأيديهم. وفي إحدى الليالي استولوا على القصر وولوجوا في دهاليزه وغرفه فقتلوه باسم القرية كلها. وفي المحاكمة يسأل القاضي سكان القرية عن قاتل القائد فيرد السكان كلهم بأن القرية كلها شاركت في العميلة. الاستجواب والجواب عليه يجمع بينهما الإيقاع الشعري الذي كان يميز مسرحيات تلك الفترة، ما جعل منه جملة شائعة، متداولة، طلبًا للعدالة والديمقراطية، بينما القافية تلعب دورها المؤثر، إذ جاءت كما يلي: - ¿-;-Quién mató-;- al comendador? - ¨Fuente Ovejuna, señ-;-or¨ - من قتل القائد؟ - فوينتي أوبيخونا، يا سيدي.
وأمام استحالة إنزال العقاب بشعب بأكمله صفح القاضي عن أهل القرية بعفو ملكي لم يكن بعيدًا عن السياسة إذ كان الملكان الكاثوليكيان فرناندو وإيسابيل، يريدان استرداد تلك القرية الكبيرة من أيدٍ مناوئة لهما وقطع الطريق على ذلك القائد لغزو مدينة ثيوداد ريال لصالح الخصوم. وأمام الوقفة الجماعية الموحدة للشعب والحصول على الصفح القضائي والملكي يُعدها العلامة الراحل مينينديث بيلايو من أكثر المسرحيات الإسبانية ديمقراطيةً. أبدع لوبي دي بيغا Lope de Vega في نسج وشائج العمل المسرحي بالجمع بين ما هو تاريخي وما هو خيالي، إذ جمع بين شخوص تاريخيين وآخرين من وحي خياله. حملته قريحته على كتابة مئات المسرحيات، لا تزال تعتلي خشبات المسرح اليوم. وكان هذا المؤلف قد شكل إلى جانب كل من كالديرون ديلا باركا –تُرجم إلى العربية في الستنيات أيضًا- وتيرسو دي مولينا أكبر رموز المسرح الباروكي الإسباني في لحظة تاريخية للمسرح إذ تحول فيها إلى ظاهرة ثقافية جماهيرية. وأطلق عليه حينها عملاق الرواية الإسباني العالمي ثيربانتيس لقب عنقاء العباقرة وعملاق الطبيعة. تشكل بنية المسرحية ثلاثة فصول، يتكئ الأول على انتصار الخير على الشر، عندما ينقذ فروندوسو ابنة العمدة، لاورينثيا، ويواجه القائد بسلاحه، بينما الثاني يُبنى على الشر عندما يعصف بفرحة العروسين ليلة الزفاف ويقبض عليهما، ويعود الخير لينتصر في الفصل الثالث والأخير عندما يهزم الشعب القائد ويصفح عنه الملكان الكاثوليكيان. ومن خلال تنويعات مختلفة في العروض الشعري يحيك المؤلف لغة تعكس الوضع الاجتماعي لشخوص المسرحية، دون أن يفوته تصوير روح الحقبة، متشحًا بخواص المرحلة الباروكية في الأدب الإسباني، مثل فساد الحاكم وعنف الشعب المبالغ فيه باغتياله للقائد ووضع رأسه على سن رمح. بيد أن هذه الروح الجماعية، رغم قسوة الاجراء، هي أبرز ما في المسرحية، فإذا لم يتحد الشعب ضد القائد، فلا استطاع أن ينال منه ولا أن يحوز العفو الملكي. وكان ذلك الاتحاد في القرية هو ما ينشده الملكان الكاثوليكيان اللذان كان يسهران من أجل توحيد إسبانيا دينيًا واجتماعيًا تحت عشرهما. من النقاط البارزة أيضًا في هذا العمل المسرحي انحراف القائد عن مساره مستغلاً نفوذه في انتهاك أعراض نساء القرية، الشعب، وخيانة شعبه ومثاليات الفروسية في العصور الوسطى، لهذا لم يكن له أن يحتفظ بهذه الصفة فقُتل. هذا بالإضافة إلى الشرف فبسطاء الشعب، من النساء، يفضلن الحفاظ على شرفهن على ألا يتحولن إلى محظيات للقائد، رغم وعوده البراقة. إلا أن القائد يسخر من فكرة أن يكون للبسطاء شرف، ومن هنا كان تشديد المؤلف، لوبي دي بيغا، على أن الانتماء إلى طبقة النبلاء لا يساوي الشرف. كما أن حب العروسين، فروندوسوولاورينثيا، يواجه غُلمة القائد الذي يريد أن ينتهك عرض الفتاة مستخدمًا سلطاته لتحقيق مرامه. استلهم لوبي دي بيغا حدثًا تاريخيًا وقع في عام 1476 في تلك القرية القرطبية على يد حاكم المنطقة، إلى جانب الصراع بين الملكة إيسابيل واحدى النبيلات للاستيلاء على مدينة ثيوداد ريال. إلا أن الحب بين الشابين يمثل حلقة الوصل القوية، الحدث الرئيس، في المسرحية. ويصعب على المشاهد أو القارئ أن يظل ساكنًا أمام تمادي الحاكم وسوء استخدامه هو ورجاله للسلطة، فارتكبوا خروقات لم تشهدها القرية، ما أسفر عن انفجار الشعب في انتفاضة عنيفة بعد أن وصل إلى أقصى حدود التحمل ودهس كرامته. يذل الرجال ويجبر النساء على مضاجعته. وكان خطف تلك الفتاة ليلة عرسها ثم هربها من قصره بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ خرجت ممزقة الملابس مستنهضة أهل القرية كي يثور على القائد. إنها ثورة شعب على الظلم والاستبداد بالسلطة، وعندما تصر الشعوب تحقق ما تصبو إليه، وفي طريقها تضعف العوائق لتتلاشى، فتفسح الدروب أمام تحقيق الآمال الجماعية التي تصبح مشروعة عندما تتشح بالمشروعة والشرعية عندما تمثل رغبة وإرادة توافقية جماعية، ولا تتطلب في هذه الحالة اجماعًا، بل أغلبية. حينئذ لا يستطيع أحد أن يقفق في طريقها، والحدثان ماثلان وشاهدان على ذلك، حدث المسرحية وحدث تنحية رئيس مصر الأسبق جراء ثورة شعبية شهد العالم لمفجريها وانحنى أمام الشعب المصري في سلميته واصراره على تحقيق مطلبه في 11 فبراير 2011. وكانت تلك الثورة، ثورة الشعب المصري هي التي اجبرت الرئيس الأسبق على التنحي، وكانت نموذجًا احتذت به شعوب أخرى، منها الشعب الإسباني نفسه الذي تظاهر واعتصم في الشوارع فتمخضت حركته هذه عن حزب وليد " Podemos"، أي "نحن نستطيع"، ينافس أكبر حزبين، الاشتراكي والشعبي، يسيطران على المشهد السياسي الإسباني منذ عودة الديمقراطية إلى إسبانيا في مطلع الثمانينات، ليبدأ في سحب البساط من تحت قدميهما، مهددة إياهما بتصدر المشهد السياسي في الانتخابات الاقليمية والعامة التي ستشهدها البلاد خلال العام المقبل.
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الموت المجاني في بر مصر
-
ذكريات أندلسية مع الشاعر حسن توفيق
-
فلسطين بين مظفر النواب وأميركا اللاتينية
-
استنهاض عبد الناصر من ثراه
-
مهانة العروبة والإسلام
-
خالد سالم - كاتب وباحث أكاديمي - في حوار مفتوح مع القراء وال
...
-
الوضع الراهن في العراق من وجهة نظر أوروبية
-
شباب إسبانيا يتفوقون على ثوار مصر في تقليد ميدان التحرير
-
حمدين صباحي يأبى أن يصير ذَكر نَحل السياسة المصرية
-
محطات إسبانية في حياة إميل حبيبي
-
ثورة العسكر أم ثورة القرنفل؟!!
-
الإعلام المصري وزوج الأم في زمن الفرجة
-
رحيل الكاتب الكولمبي غارثيا ماركيث أحد مبدعي الواقعية السحري
...
-
بدرو مارتينيث مونابيث شيخ الإستعراب الإسباني المعاصر في عقده
...
-
الموت يغيب أدولفو سواريث جسر إسبانيا نحو الوفاق الوطني والدي
...
-
المرأة فكريًا وفنيًا في مسرح توفيق الحكيم وغارثيا لوركا
-
الحجاب الإسلامي من منظور كاتب أميركي لاتيني
-
البربر والبرابرة والعائلة
-
جدلية العلاقة بين الشمال والجنوب من خلال مسرحيات كاتب إسباني
-
طارق بن زياد غزا الأندلس من أجل الخيل والنساء حسب المستعرب ا
...
المزيد.....
-
-المعادن النادرة مقابل المساعدات العسكرية-.. ترامب يكشف ملام
...
-
الاتحاد الأوروبي يستعد للمواجهة بعد تأكيد ترامب فرض رسوم جمر
...
-
ترامب يطالب أوروبا بزيادة المساعدة لأوكرانيا
-
-بوليتيكو-: قلق كبير يعيشه نظام كييف إزاء تقارب المواقف الرو
...
-
السعودية واليابان توقعان مذكرتي تفاهم حول إنشاء مجلس الشراكة
...
-
-رويترز-: الولايات المتحدة تستأنف ضخ الأسلحة إلى أوكرانيا
-
-Senego-: فرنسا تبدأ في سحب قواتها من السنغال
-
الرئيس الجزائري يندّد بـ-مناخ ضار- في العلاقات مع باريس
-
عشية زيارته إلى تركيا... الشرع يؤكد أن تنظيم انتخابات في سور
...
-
النائب الجمهوري في مجلس النواب الأمريكي جو ويلسون يدعو إلى ق
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|