عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4649 - 2014 / 12 / 1 - 21:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد أنطلق الأوربيين من قاعدة فكرية فلسفية وأخلاقية تمخضت من قرار مصيري حسمته القوى الناشئة دون خوف أو تردد وتحملت مسئولية القيادة متسلحة بدعم مادي وبقوى أقتصادية ناهضة قادرة على الوقف لنهاية المسيرة لأنها كانت تعتقد بترابط مصيرها مع المصير الذي اختاره المجتمع وربطت نتيجة الصرع بحلمها بالوصول إلى التكاملية الفكرية السياسية والاقتصادية للمجتمع الأوربي الجديد, هنا استطاعت العلمانية أن تولد من رحم المعاناة من تخلف الدين من موجهة الاستحقاقات التاريخية ولم تدخل في حوار مع الأخر المناقض كي يلغي نفسه أو يتحول طوعيا بل سارت وتركت الأخرين يقررون من هو صاحب الأتجاه الحقيقي الذي يستحق أن يقود هذه المسيرة ولم ينتظروا أيضا أن يأتيهم المدد المصيري من خارج الواقع.
لقد طبق الأوربيون الجدد من حيث لا يعلمون مبدأ إسلامي حقيقي بدون أن يعوا أن التغيير دوما يبدأ من الذات لا من العوامل الخارجية والتي صدح بها الإسلام من قبل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }الأنفال53,هذه لمشكلة لا زال الحداثيون العرب والعلمانيون منهم يظنون أن التغير لا ينتظر أن يدع الأخرون لك أن تبدأ ولكن عليهم أن يختاروا ويقرروا ويمضوا بقرارهم للأخر متسلحين بمشروعهم الحضاري ويتركوا للناس أن تقرر بالتجربة لا بالأماني المجردة والأحلام النائمة في نظرياتهم بين سطورها.
لا زال الحداثيون العرب مترددين بخوف ووجل من الإمساك بزمام المبادرة ولم يستطيعوا أن يصنعوا مشروعهم وتحويله من نظريات فكرية على الورق إلى واقع بتردد واضح وعجز عن مواجهة التيار الإسلامي المتطرف أولا ومحاولة كسب التيارات الأخرى للانضمام لمشروعهم كونهم لم يفرقوا بين الإسلام المتنور وبين النظرة التقليدية المتطرفة والسوداوية وعجزوا أن يتحالفوا مع قوى اقتصادية ناهضة ولم يستفيدوا من حالة السخط الأجتماعي الذي يعم طبقات مهمة وواسعة تتذمر وتريد التحرك لكن غياب المشروع القيادي الناضج والموحد, فكثيرا من الأفكار الحداثية والعلمانية منقسمة في مشروعها ومتناقضة حتى في توصيف المشاكل والأوليات دون أن تتفق على مشتركات جامعة بالقاسم المشترك ولم تنضج عندها أصلا ملامح المشروع البديل.
المشكلة إذا ليست في الإسلام بذاته الإشكال في الإنسان المسلم الذي يعيش حلة التيه الفكري الاستراتيجي فهو غير قادر على ترك الإسلام وليس له حل ورؤية متكاملة بديلة وغياب أفق وملامح روية ممكنة برغم تعالى صيحات النقد من الواقع وللرغبة في الانتقال إلى مرحلة تملك مشروعية وجدية وهدف محدد الملامح وخوف من الضياع في أزمة لا تعرف عواقبها بفقدان الشخصية مع مرارة التجربة السابقة ومجهولية ما هو قادم.
الإسلام الحداثي يمكن أن يكون بديلا عن ما هو قائم من تطبيقات لفكرة الإسلام والتي حرفها الإنسان عن طريقها ومنهجها معتمدا على قراءة شخصية فرضت نفسها خدمة لمشروع سياسي صاغته عقلية محافظة عقلية تنتظر من الإسلام أن يخدم هدفها لا أن يخدم قضية الإسلام .
هذه القراءة التي تمكنت بحد السيف أن تشوه الإسلام وتسرق التجربة لصالح فكر ظلالي سلطاني متضخم بأنانيته وتلصق نتائج خطيئتها بالإسلام وتحمله المسئولية الأخلاقية والتاريخية عما جرى معتمدة بذلك على إدعائها حراسة الدين والنيابة عن الله في التطبيق هذا ما جعل الكثيرون من الذين لا يفهمون ولا يقدرون ما في الإسلام من ديناميكية قادرة بالفعل والقوة على إعادة طرح المشروع الإنساني الموافق لعوامل التطور الزمني والتوسع بالمعرفة الإنسانية التي تنحو نحو تمدد رهيب وغير مسيطر عليه من تسارع تخطى حدود التوقع والقياس.
إن النقطة المحورية التي لم يستطيع التيار المدني والليبرالي والعلماني من تجاوزها هو الاتكال على انتظار صرخة الجمهور كي يتمكن من أن يركب الموجة والمواجهة المصيرية بين مشروعهم والمشروع الاستبدادي ,والجمهور ينتظر قيادة تصوغ له ملامح المرحة وتنهض بمسئولية التصدي وكل منهم ينتظر المبادرة من الطرف الأخر, وحتى لو تحركت الجماهير نرى أن التيار المدني فاقد الخبرة والتجربة يتخلف عن تولي زمام المبادرة لتسقط منه الفرصة التأريخية والتجربة الحالية التي يمر المجتمع العربي مما يسمى بالربيع أثبتت تشرذم وفشل المشروع المدني المنقسم على نفسه مقابل الوحدة والتوحد والمركزية التي يتمتع بها الخصم الإسلامي المتطرف الذي اختبر أساليب كسب البسطاء من الناس الذين يمثلون غالبية المجتمع العربي والتي تبحث عن قوتها ولا يهمها المشروع الذي يأتي إلا من خلال ما يوفر لها فرصة العمل والتعلم.
لقد فشل المشروع الحداثي اليوم في قيادة الجماهير ليس متأتيا من فقدانه القدرة فقط على القيادة وأيضا فقدانه القدرة على المحاججة وكسب الناس لمشروعهم بافتراض قد وضعوه بأن الدين خصم ينبغي التخلص منه بأي حال دون أن يفهم الحداثيون أن الإنسان العربي روحيا كونيا في التوجه وفي نظرته للحياة ويحاول أن يحفظ تدينه على أنه مصير وقضية هوية ووجود لا بد من الدفاع عنها مع نشاط الطرف الثاني الذي يصور التنويريين والحداثيين على أنهم شياطين لا يمكن الوقوف معهم أو الثقة بهم, لأن في الوقوف معهم تخلي عن الدين وعن الله وبالتالي يكسبون الناس بهذه الكيفية الروحية التي تنطلي في ظاهرها الروحي على البسطاء وتعري التيار المدني من الغطاء الذي يحميهم.
لقد حوصر التيار الليبرالي والحداثيون والعلمانيون شعبيا وتم تسقيط الفكر التنويري نتيجة أخطاء هذا التيار الذي لم يدرك عمق وأهمية الدين بالنسبة للشعب العربي, وما يشكله من استفزاز يرتد عكسيا على ما يحسب على التيار الليبرالي من فكر وقيادات وتوجهات ,فكان على هذا التيار أن يتبنى لغة تراعي الواقع وتتفهم دور الدوافع والكوابح ومحاولة تجنب التجييش المتعمد ضده لكي لا ينتهج نفس المنهج الخاطئ والإقصائي الذي يمرسه التيار الديني المحافظ.
إن فشل المشروع المدني في المجتمع العربي يعطي قوة دفع للتيارات الدينية التقليدية على وجه العموم والمتشددة على وجه الخصوص ويثبت مرة أخرى عجز المجتمع العربي وليس عجز الإسلام عن التوافق بين متطلبات القضايا الكونية له مع واقع حال المجموعة البشرية الماضي بقوة نحو الحداثة الشمولية وما بعد المدنية المعاصرة ويظهر أيضا قوة النزعة التشاؤمية التي تغطي مساحة واسعة من إحساسات الأنا ويجذر روح الإحباط واليأس فيها, لذا كان لزاما أن تدرك نخب المدنية أن ما سيحدث لاحقا وبناء على هذه النتيجة ستتحمل هي وزره ولا تعود لتلقي بالتهمة على الدين وعلى عدم قدرته على المواجهة.
إن المطلوب اليوم أن تعيد القوى المدنية قراءتها للواقع وأن تتفهم حقيقية المجتمع الفكرية والأجتماعية وأن تتبنى موقفا أكثر تقدمية وأعم في فهم مسألة علاقة الدين بالمجتمع وأن تعمل جاهدة للتخلص من نظرتها السطحية للدين مع اليقين الكامل بأن الإسلام الحقيقي هو إسلام مدني وليس دينا كهنوتي كما كان في أوربا وأنه قادر بشيء من الجدية أن توظف مقاصده الكية ليكون رافدا مهما في تقوية ودعم التيار المدني بعيدا عن تأويلات المؤسسة الدينية المتخلفة عن فهمها للإسلام وأن لا نصنع منه خصما.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟