|
بولس – 4 – عقيدة التبرير
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4649 - 2014 / 12 / 1 - 20:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
(لست أعرف ما أنا أفعله [...] لست بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطية الساكنة فيّ) [الترجمة الحرفية: "لا أفهم ما أفعله أنا [...] لكن الحقيقة هي أننى لا أفعل أنا ذلك، ولكن الذي يفعل ذلك هو الخطيئة الساكنة في داخلي"] بولس مخاطباً أهل رومية الذين سمعوا عنه وعن ما يفعله أياً كان [رسالة بولس إلى أهل رومية 7: 15 و 17]
تطرقت في المقالة السابقة (بولس - 3 - بولس والشيطان) [انظر الهامش رقم 1] إلى شرح مفصل لأعراض مرض بولس التي كان يعاني منها وشرحها هو مفصلة في رسالته إلى أهل رومية [روما]. فبسبب أن بولس لم يلتقي أهل رومية من قبل عند كتابته تلك الرسالة لهم، فهم لا يعرفونه وجهاً لوجه، وبسبب معرفته اليقينية أنهم سمعوا عنه من مصادر مختلفة سواء معه أو عليه، فإنه كان مضطراً أن يكون صريحاً معهم بعض الشيء عن ما كان هو متأكداً أنهم سمعوا عنه بخصوص بعض تصرفاته، وكان عليه أن "يبرر" [على القارئ أن يتذكر هذه الكلمة جيداً حتى نهاية المقالة] لهم بوسيلة ما تلك التصرفات التي بدرت منه. (لاحظ هنا) أنه على عكس ما نعرفه عن أهل غلاطية وكورنثوس على سبيل المثال، وعن آراء أهلها وتفاعلاتهم مع بولس سلباً وإيجاباً، فإننا (نجهل تماماً ردود أفعال أهل رومية على رسالة بولس لهم، وبماذا أجابوه، وماذا كانت نتيجة رسالة بولس لهم، وعن ما إذا كانوا صدقوه أم كذبوه)، إذ تَعمّدَ السياق اللاهوتي المسيحي اللاحق، لسبب ما ولكنه جوهري بالتأكيد، (التغييب المتعمد) لكل ما يتعلق بهم، أي بأهل رومية [روما]، مع بولس. فهذه الجزئية هي (مِنْ المسكوت عنه في اللاهوت المسيحي). ولا يُسكتْ في الفضاء الديني عن جزئية (إلا لسبب خطير ومُحرج جداً) لهذا اللاهوت. إذ الأناجيل الثلاثة الأولى بالذات [مرقس أولاً، ثم قارن مع متّى ولوقا ثانياً] تعطي الدارس براهين ساطعة غير قابلة للنقض لهذه الممارسة المسيحية في القرون الأولى والتي لم يكن يجد "قديسوها" الأوائل أي حرج من استخدامها في (تشكيل وتهذيب وحتى اختراع النص المقدس المسيحي).
ولكن، وحتى نُركز الانتباه على بولس وأهل رومية وتلك الممارسة، لننظر إلى سفر (أعمال الرسل) وكاتبه الذي هو (نفس كاتب إنجيل لوقا). بالطبع، أحداث سفر (أعمال الرسل) هي أحداث، في مجملها، (منحولة ومزورة أو مهذبة ومُعاد صياغة أحداثها فيما يخص بولس)، ولا يُعتد بما فيه كـ (تاريخ) وقع بالفعل إلا إذا شهدت له كتابات بولس التي كتبها هو بالفعل وليست المنحولة باسمه [لقائمة بالرسائل المنحولة على بولس في "العهد الجديد" انظر الهامش رقم 2]. ولكن الغرض من الاستشهاد بنصوص هذا السفر هنا هو التدليل على (تعمد سكوت كاتب النص المسيحي المقدس، لسبب ما، عمّا حدث في روما من جانب أهلها فيما يخص بولس). ففي سفر (أعمال الرسل) نجد كاتبه (يؤكد) على أن يسوع ظهر لبولس ليقول له (كما شهدت بما لي في أورشليم هكذا ينبغي أن تشهد في رومية أيضاً) [أعمال رسل 23: 11]، فهو، أي إله بولس الجديد يسوع، يبدو وكأنه يحث بولس للذهاب إلى روما (رومية). ثم تتطور الأحداث في هذا السفر ليُلقى القبض على بولس ويُذهب به إلى رومية [روما] ليُقّدم بولس إلتماساً إلى قيصر [أعمال رسل 28: 19]. ولكن المفاجأة تحدث عند وصول بولس إلى رومية على حسب سيناريو سفر (أعمال الرسل) الذي كتب كاتبه عن أدق التفاصيل [الوهمية بالطبع] عن معجزات بولس، ومناديله ومآزره التي تطرد الشياطين، وعن اعتقاد الناس أن "الآلهة" نزلت في شخص بولس، وعن رحلاته ومعاناته، وحواراته ومع أصدقائه وخصومه، بل وحتى ختانه بنفسه رفيق سفره تيموثاوس، وإلى آخر ما نقرأه في هذا السفر، فإذا كاتب سفر (أعمال الرسل) يكتب عن تواجد بولس في رومية وتفاعله مع أهلها (سطراً واحداً ونصف السطر) فقط لا غير، وهو هذا: (وأقام بولس سنتين كاملتين في بيت استأجره لنفسه. وكان يقبل جميع الذين يدخلون إليه. كارزا بملكوت الله، ومعلماً بأمر الرب يسوع المسيح بكل مجاهرة، بلا مانع) [أعمال رسل 28: 30-31]، ثم بعد ذلك تحدث المفاجأة الثانية: (يُنهي كاتب سفر أعمال الرسل كتابة سفره هذا عند نهاية هذه الجملة)(!!!). ينتهي سفر أعمال الرسل هنا. سنتين كاملتين لبولس في روما ولا تفاصيل عن دعوة بولس هناك، لا تفاصيل عن كنائس رومية، لا تفاصيل عن أتباع بولس هناك، ولا حوارات ولا مخاصمات ولا أتباع ولا "معجزات" ولا "آلهة" نزلت أو صعدت، ولا مناديل لبولس ولا مآزر تطرد الشياطين. كل هذا لا وجود له في رومية [روما]. ولكن الأهم هو (لا وجود لقصة قتل بولس من جانب الرومان). لاحظ أن كاتب سفر (أعمال الرسل) كان يكتب سفره هذا حوالي (30 سنة على الأقل بعد موت بولس)، فهو يعرف يقيناً ما حدث لبولس هناك وكيف انتهى، ومع ذلك لم يكتب شيئاً عن أسطورة مقتله ولا أحداثها ولا تفاصيلها ولا حتى إشارة ولو عابرة لها على الرغم من أهميتها "الدرامية" للوعي المسيحي، ولا حرفاً واحداً(!!!) [أسطورة قتل بولس مصدرها من القرن الثاني الميلادي وليس الكتابات المسيحية المقدسة، بل الكتابات المسيحية المقدسة توحي بالعكس عن نهاية بولس، لاحظ ما يقوله كاتب سفر أعمال الرسل في الاقتباس أعلاه: (كارزاً بملكوت الله، ومعلماً بأمر الرب يسوع المسيح بكل مجاهرة، بلا مانع)]، وقد كتب هذه العبارة (بعد موت بولس). كاتب سفر (أعمال الرسل)، الذي هو نفسه كاتب إنجيل لوقا، لابد أنه (سكت عن حياة بولس في روما وأحداث السنتين لسبب وجيه جداً)، ولابد أنه (سكت عن تفاصيل موت بولس لسبب وجيه جداً) أيضاً، وهذا السبب (لابد أنه كان محرجاً جداً للرؤية الدينية اللاهوتية المسيحية الناشئة آنذاك). والمحتمل هو أن (الذاكرة الجماعية) لِما حدث لبولس في رومية، وقت كتابة سفر (أعمال الرسل)، كان لا يزال قوياً وحاضراً في الذهن بحيث أن أية محاولة لتزوير الأحداث سوف يتم كشفها بسهولة، فكان الطريق الأسلم أمام الكاتب هو (أن يسكت عن الحدث تماماً ويصمت عنه ويتناساه، وسوف يتكفل الزمن بالباقي)، وهكذا انتهى سفر (أعمال الرسل) وبولس جالس في بيت مستأجر في روما. هذا (المسكوت عنه تعمداً) في الفضاء اللاهوتي المسيحي المؤسس هو الإطار العام الذي يجب أن (تُفهم من خلاله رسالة بولس لأهل رومية، بالإضافة إلى ما تطرقنا إليه في المقالتين السابقتين عن اعتقاد بولس بأن الشيطان هو المتسبب بمرضه المزمن هذا).
في المقالة السابقة [هامش رقم 1] تم استعراض نص في غاية الأهمية كتبه بولس لأهل رومية شارحاً فيه (أعراض ما يجده في نفسه وجسده) ومن ثم مبرراً لهم تلك العلة. هذا النص هو [رسالة بولس إلى أهل رومية 7: 14-23]، وترجمناه (حرفياً) من ترجمة (The New Oxford Annotated Bible) ونسختي الشخصية هي النسخة المنقحة للطبعة الرابعة لسنة 2010، ثم فككنا النص تفصيلياً حتى نفهم أعراض مرض بولس وكيف "برره" لأهل رومية [انظر الهامش رقم 1 لنقاش تحليلي حول هذا النص]. بولس في هذا النص كان يقول لأهل رومية الآتي: جسده قد استعبد للخطيئة، ويعلن عجزه عن فهم أفعاله (لست أعرف ما أنا أفعله) [الترجمة الحرفية: "لا أفهم ما أفعله أنا"]، ولكنه يبدو أنه يعرف شيئاً واحداً وهو (إني أعلم أنه ليس ساكن فيّ، أي في جسدي، شيء صالح) [الإشارة للشيطان (رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 12: 7)]، وبعد ذلك يصف أعراض مرضه وأفعاله لأهل رومية التي يبدو أنهم قد سمعوا عنهما شيئاً ما: (أستطيع أن أريد ما هو صحيح، ولكنني لا أستطيع فعله [...] لأنني لا أفعل ما أريده، ولكنني أفعل الأشياء ذاتها التي أكرهها. لأنني أنا لا أفعل الصالح الذي أريده، ولكن الشر الذي لا أريده هو الذي أفعله [...] متى ما أريد أن أفعل ما هو صالح فإن الشر يكون دائماً قريباً من يدي). ثم بعد ذلك يقدم لهم بولس [أغرب تبرير لأفعال البشر] في أي لاهوت ديني متواجد اليوم بين البشر، وهذا (ليست صيغة مبالغة إطلاقاً)، ولكنها حقيقة تثبتها الأديان والعقائد المقارنة. يبرر بولس أفعاله هكذا [حسب نص الترجمة الحرفية]: (الحقيقة هي أننى لا أفعل أنا ذلك، ولكن الذي يفعل ذلك هو الخطيئة الساكنة في داخلي [...] إذا فعلت الذي لا أريد فعله، فإنه ليس أنا الذي فعله، ولكن الخطيئة الساكنة بداخلي هي التي فعلتها)(!!!). بولس يقول لأهل رومية: بأن ما قد سمعوه من أفعاله غير المحبذة (ليس هو الذي فعلها)، ولكن الخطيئة الساكنة في داخل جسده [الإشارة للشيطان] هي التي فعلتها. ولذلك فإن (بولس بريئ تماماً من تلك الأفعال التي فعلها جسده وانخرطت بها أعضاؤه)(!!)، وإنما الملوم هو الشيطان الذي أشار إليه في رسالته إلى أهل كورنثوس. وبولس فَصَلَ تماماً بين جسده وأفعاله من جهة وبين ذهنه ورغباته من جهة أخرى. فالأولى، أي جسد بولس وأفعاله مسؤول عنهما الشيطان حصراً وليس بولس، أما الثانية، أي رغبات بولس الخيرة وذهنه الفاضل كما يقول لأهل رومية، فهذا هو "بولس" الحقيقي، ثم يختم تلك الفقرة من رسالته لأهل رومية التي يبرر بها أمامهم أفعاله بتلك العبارة: (أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله، ولكن بالجسد ناموس الخطية) [رسالة بولس إلى أهل رومية 7: 25].
إذن، ما فعله بولس، بسبب مرض ما كان يعاني منه وأراد (تبريره)، ومن ثم تبناه اللاهوت المسيحي في فترة مبكرة (ثم انقلب عليه في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني بسبب خطورة نتائجه) كما سوف نرى أدناه، هو أنه (فصل بين أفعال جسد الإنسان، وبين ذهنه ورغباته الفاضلة). فالأولى، أي أفعال البشر، (ليس مسؤول عنها الإنسان، ولكن الخطيئة [القوى الشيطانية] التي بداخله هي المسؤولة عنها)، أما أفكاره الخيرة هي وحدها التي تُمثل الإنسان وبها، وبها فقط، (يجب أن يُحكم على الإنسان وليس من خلال أفعاله). النص في رسالة بولس إلى أهل رومية (واضح الدلالة جداً وبدون أي لبس أو إبهام).
كيف إذن تأثر بولس، واللاهوت المسيحي من بعده، بهذا (التبرير) الغريب جداً؟
لقد (اخترع بولس) مصطلحاً جديداً في اللاهوت المسيحي (لم يعرفه حتى يسوع نفسه وتلامذته) وهو مصطلح: (التبرير). اخترعه أول مرة في رسالته إلى أهل رومية. فما هو مفهوم (التبرير) عنده؟
كلمة (التبرير)، أو باليونانية (dikaiosis)، مشتقة من الكلمة اليونانية (dikaiosune) التي تعني حرفياً (with righteousness) أي (مع المنهج البار أو الحق أو الصحيح أو المستقيم). فـ (التبرير) لغوياً تعني (أن يتم الإعلان بأن شخصاً ما هو على المنهج البار أو المنهج الحق أو الصحيح أو المستقيم). وما لا يعيه العامة من المسيحيين هو أن مصطلح (التبرير) هو أصلاً (مصطلح قانوني) يفيد بالضبط (البراءة أو التبريئ) أو (أن يُعلنَ بأن شخص ما بريئٌ تماماً من الذنب). إذن، ما كان يقصده بولس في (اختراعه هذا المصطلح في اللاهوت المسيحي) هو:
التبرير: أن (يُعلَنَ شخص ما بأنه بريئ تماماً من الذنوب التي اقترفها، كلها أياً كان نوعها ودرجتها ومن دون استثناء، وأنه على منهج الأبرار وعلى الطريق الحق ومؤهل للخلاص، فقط لأنه آمن بيسوع على أنه المسيح على حسب المفهوم الذي دعى له بولس).
بما أننا عرفنا معنى هذا المصطلح عند بولس، فلنقرأ الآن معاً ما كان يدعو له بولس من خلال اختراعه هذا المفهوم في اللاهوت المسيحي، وسوف أضع الترجمة الرسمية العربية لرسائل بولس وبجانبها، إذا استدعت ضرورة لذلك، الترجمة (الحرفية) مستخدماً ترجمة (The New Oxford Annotated Bible) ونسختي الشخصية هي النسخة المنقحة للطبعة الرابعة لسنة 2010:
أ- مقدمة بولس لمبدأ (التبرير):
بولس يقتبس من المزمور رقم 14 ورقم 53: (الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد) [رسالة بولس إلى أهل رومية 3: 12] بولس يعلن بأن الجميع، جميع البشر، الكل وبلا استثناء، أو بحسب تعبيره (اليهود واليونانيين أجمعين تحت الخطية) [رسالة بولس إلى أهل رومية 3: 9]، كلهم قد زاغوا وفسدوا ولا يوجد أصلاً من يعمل صلاحاً إطلاقاً، وبالتالي (هو أيضاً ضمنهم). ولذلك (لا يجب أن تكون أفعاله مصدراً للنقد). فما الحل إذن؟
ب- اختراع وشرح بولس لمبدأ (التبرير) الذي سوف يخلص أتباعه من تبعة (الفساد والخطيئة):
ملاحظة مهمة جداً:
على القارئ الكريم أن ينتبه في الاقتباسات أدناه إلى ما سوف يفعله بولس. سوف يحصر (الخلاص) بـ (الإيمان بيسوع)، إلهه الجديد، (فقط لا غير)، ويفصله تماماً عن أعمال الإنسان (أياً كان نوعها). بمعنى أن ما سوف يُبرئ الإنسان ويُعلن أنه على (الطريق الحق والمنهج البر) هو (إيمانه) فقط، (وليست أعماله أياً كانت درجة خطيئتها).
1- (نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس) الترجمة الحرفية: [نحن نتبنى بأن الإنسان سيُعلًن بأنه بريء من الذنوب وأنه على منهج الأبرار [=يتبرر] بالإيمان، وذلك بدون الأعمال المكتوبة في الشريعة] [رسالة بولس إلى أهل رومية 3: 28]
2- (فماذا نقول؟ إن الأمم الذين لم يسعوا في أثر البر أدركوا البر، البر الذي بالإيمان. ولكن إسرائيل، وهو يسعى في أثر ناموس البر، لم يدرك ناموس البر، لماذا؟ لأنه فعل ذلك ليس بالإيمان، بل كأنه بأعمال الناموس. فإنهم اصطدموا بحجر الصدمة) الترجمة الحرفية: [ماذا إذن نحن سنقول؟ الأمم غير اليهودية، الذين لم يقوموا بأية مجاهدة وعمل لأجل الطريق القويم [طريق البر] قد حصلوا عليها، على الطريق القويم [طريق البر]، من خلال الإيمان [يقصد بيسوع]، ولكن إسرائيل [يقصد اليهود]، الذين جاهدوا وعملوا لأجل الطريق القويم [طريق البر] المبني على الشريعة لم ينجحوا في استيفائها. لماذا؟ لأنهم لم يجاهدوا لأجلها من خلال الإيمان ولكن من خلال الأعمال. لقد اصطدموا بحجر عثرة] [رسالة بولس إلى أهل رومية 9: 30-32]
من الطريف هنا أن يلاحظ القارئ الكريم هنا (كيف كان بولس "يشتم" الأمم غير اليهودية بطريقة خفية)، وهي (عادة مكررة عنده) في رسائله. لاحظ عبارته: (الأمم غير اليهودية، الذين لم يقوموا بأية مجاهدة وعمل لأجل الطريق القويم [طريق البر]) أو على حسب الترجمة الرسمية: (إن الأمم الذين لم يسعوا في أثر البر). بولس يقول لهم بأنكم لم تسعوا إطلاقاً في طريق الفضيلة، كان هذا فقط لليهود (!)، ولكنكم أحرزتم الخلاص والفضيلة التي لم تسعوا لها أصلاً بإيمانكم بيسوع فقط (!).
بالطبع هناك اقتباسات أخرى عند بولس، ولكن حتى لا تطول المقالة أكثر، سأدع تتبعها للقارئ الكريم. فبولس في تلك الاقتباسات واضح جداً: "آمن فقط بيسوع الذي أدعو له أنا، وأنت على طريق الخلاص بغضّ النظر تماماً عن أفعالك ومدى تطابقها مع البر والفضيلة أو لا. بل حتى الذنوب العظيمة [قتل، زنا ... الخ] التي لا تغفرها الشريعة اليهودية، آمن بيسوع الذي أدعو له، ولا تهمك تلك الأعمال لأنها لا تؤثر على الخلاص". (ولاحظ هذه الملاحظة المهمة جداً): بولس لم يدعو إطلاقاً إلى التوقف عن تلك الأعمال المناهضة للشريعة اليهودية أو للذنوب الكبيرة بها. هو لم يدعو لذلك إطلاقاً كضرورة للخلاص الآتي من خلال الإيمان. هو لايربط إطلاقاً بين الأعمال والإيمان. لم يفعل ذلك إطلاقاً في رسائله المؤكد نسبتها إليه. بل هو نفسه، كما رسائله، سوف يدعو للانقلاب على كليات الشريعة اليهودية بدون تحديد، أو قيد، أو شرط.
بالطبع، سوف يتأثر كل مَنْ كان معجباً بهذه (الفكرة الجذابة جداً) عند بولس، أي افعل ما شئت (أياً كان) ولكن آمن فقط بيسوع وسوف تخلص وتُعَلن بريئاً، لتنعكس على كتاباته ذاتها. وهذا مثال عند كاتب سفر (أعمال الرسل) [هو ذاته كاتب إنجيل لوقا] وهو ينقل على لسان بولس:
(فليكن معلوماً عندكم أيها الرجال الإخوة، أنه بهذا ينادى لكم بغفران الخطايا. وبهذا يتبرر [=يُعلَن بريئاً] كل من يؤمن من كل ما لم تقدروا أن تتبرروا منه بناموس موسى) [أعمال الرسل 13: 38-39] الترجمة الحرفية لِما كتبه كاتب سفر (أعمال الرسل) ولم تترجمه الكنيسة العربية بدقة لسبب ما: (ولهذا ليكن معلوماً عندكم، يا أخوتي، أنه مِن خلال هذا الرجل [يقصد يسوع] سوف يُعلَن [يُنادى علناً] لكم بغفران جميع ذنوبكم. بيسوع هذا فإن جميع مَن يؤمن سوف يُطلقُ حراً من جميع الذنوب التي لم يستطع أن يُطلق منها حراً بحسب شريعة موسى) [أعمال الرسل 13: 38-39]
إذن، ما كان يدعو له بولس في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، واضحاً جداً. وهو باختصار:
(أنا لست مسؤولاً عن أفعالي، مهما كان مدى درجة ذنبها وشرها، ولكن الخطيئة التي بداخلي هي المسؤولة، ولذلك مهما فعلت أو بدر مني من خطايا وذنوب، ولو كانت عظيمة، فإنه مجرد الإيمان بيسوع على أنه (المسيح المخلص) سوف يحررني من تبعات ذلك الذنوب وأُعلن بريئاً على طريق الخلاص. ولذلك "أنا" بريئ على طريق الخلاص مهما فعلته).
بالطبع، (هذه فكرة شاذة جداً). إذ أنها تُمهد الطريق لارتكاب العظائم من الشرور [كانت في الحقيقة ضمن اللاهوت المسيحي الممهد لارتكاب التوحش والقتل والتعذيب والتخريب والدمار في قارات العالم أجمع تحت اسم يسوع على مدى 19 قرناً بالتمام والكمال، وكان ضحاياها بالمئات من الملايين من البشر والشعوب، وكانت ضمن القضايا التي فصلت البروتستانت عن الكاثوليك وسقط بسببها البروتستانت ضحايا لهذه العقيدة الكاثوليكية]. ولذلك نجد (انقلاباً عليها)، ولو كان بسيطاً، في نصوص العهد الجديد ذاتها. إذ أول إشارة لبوادر الانقلاب على فكرة بولس هذه، (وإنْ لم يُكتب لها النجاح)، هي في رسالة يعقوب التي يحتويها (العهد الجديد) [بالطبع، وهذا ما لا يعيه أيضاً العامة من المسيحيين، فإن إنجيل متّى يُمثل إنقلاباً من نوع آخر على أفكار بولس فيما يخص الشريعة اليهودية، وهو بدوره لم يُكتب له النجاح أيضاً]. فعلى عكس اعتقاد العامة من المسيحيين، فهذه الرسالة (لم يكتبها يعقوب أخ يسوع)، ولكنها رسالة تنتمي إلى (نهاية القرن الأول الميلادي أو بدايات القرن الثاني) وتأخر إضافتها لنصوص العهد الجديد المقدسة حتى منتصف القرن الرابع الميلادي ولأسباب واضحة في الحقيقة. فهي (تعارض ضمناً تارة، وتارة أخرى صراحة، بولس). فهذه رسالة كُتبت بعد وفاة بولس بحوالي 40 سنة على أقل تقدير. ففي هذه الرسالة نجد (الاعتراض على فكرة بولس بوضوح شديد):
(ما المنفعة يا إخوتي إن قال أحد [الإشارة إلى فكرة بولس في التبرير ومَنْ يتبناها] إن له إيماناً ولكن ليس له أعمال؟ هل يقدر الإيمان أن يخلصه؟! [...] هكذا الإيمان أيضاً، إن لم يكن له أعمال، ميت في ذاته) [رسالة يعقوب 2: 14 و 17] واقترح أن يعود القارئ الكريم للأصحاح ليقرأه كاملاً حتى يعي حجم التناقض الهائل بين هذه الرسالة وما كان يدعو له بولس وكاتب إنجيل لوقا [سفر أعمال الرسل].
إذن، معارضة كاتب رسالة يعقوب لفكرة بولس في (الخلاص بالإيمان) واضحة جداً. وهذا سبب تأخر إدراج تلك الرسالة في نصوص العهد الجديد.
... يتبع
هـــــــــــــــــــــــــــوامـــــــــــــــــــــــــش:
1- بولس - 3 - بولس والشيطان
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=442228
2- بولس - 1
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=440701
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بولس - 3 - بولس والشيطان
-
بولس – 2 – بولس والشيطان
-
بولس - 1
-
في مسألة طيران بولس
-
حرام - وسيأتي
-
مغالطات يسوع المنطقية - 4
-
مغالطات يسوع المنطقية - توضيح
-
مغالطات يسوع المنطقية - 3
-
مغالطات يسوع المنطقية - 2
-
مغالطات يسوع المنطقية - 1
-
الإزدواجية العقلانية المسيحية
-
في مسألة كلبية يسوع
-
في مسألة عري يسوع
-
نصوص كذب يسوع
-
غرائب المنطق في الوطن العربي البائس
-
التعامل مع فاقدي السلطة الأخلاقية
-
الفقه اليهودي والمبادئ الإنسانية الليبرالية
-
نصوص التوحش الإسرائيلي
-
منطق السقوط المعكوس
-
جرائم الحرب الإسرائيلية يا أيها الغثاء
المزيد.....
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|