|
سعاد
مجاهد الطيب
(Megahed Al-taieb)
الحوار المتمدن-العدد: 4646 - 2014 / 11 / 28 - 18:25
المحور:
الادب والفن
سعاد
كأنّه يشاهد الفيلم للمرة الأولى ، ومع ذلك نزل فجأة ، لم يغلق التليفزيون ، سمح لي بمشاهدة ما تبقى ، ومضى تاركا آخر التفاصيل : "الدفراوي سيلقي من السيارة علبة سجائره المدون بها موعد الاجتماع التالي للتنظيم السري ، صلاح ذو الفقار سيلتقط العلبة ويخبرنا ويخبر رشدي به . " ترك هذه التفاصيل ؛ ليس مسايرة لمن ينتفضون فجأة في قاعات السينما ؛ ليسجلوا نباهة قبل إضاءة الأنوار . كانت المرة الأولى التي يلتقى فيها سعاد ، بعد "غروب وشروق " مباشرة ، لما قِيدَ أبوها عزمي باشا رئيس قلم البوليس السياسي إلى السجن تحت حراسة رجاله ، وفي مقدمتهم الصاغ فريد مكرم ( محمد الدفراوي ) ، ومضى رشدي أباظة بصحبة صديقه الوحيد كابتن طيار أمين عاكف إلى حال سبيلهما ؛ لأن الفيلم قد انتهي بالفعل . في هذه اللحظة وقفت سعاد إلى جانب الشباك ، وأزاحت ستارته ؛ لترى الراحلين ، وترى وحدتها . هنا بالضبط كان الموعد. استغرقا وقتا أكثر من اللازم فيما أتذكر وهما يقطعان الفناء الواسع . في حرم القصر الخاوي على عروشه يسيران ، وفي نهاية الممر الطويل جلسة أولى بينهما تأخرت طويلا ، ونادل ينتظر. أشار إلى التاكسي . طلبت سعاد شايا بالنعناع وجاء له النادل بقهوته كالمعتاد ، كان بوده أن يغير المعتاد - راحت روحه للنعناع ، لكن ، ليكن. لم يتطرقا مطلقا لما حدث لها ، هي تعرف في الغالب سبب مجيئه ، كان قد شاهد الفيلم مرارا ، وآلمه ما وصل إليه الحال في المشهد الأخير ، إلا أنه في هذه المرة بالذات كان عليه أن يفعل شيئا. كان المشهد مستقلا ، وإنْ ظلت سعاد بنفس الفستان الداكن ذي الأكمام الطويلة المنتهي بـ ياقة شبه دائرية من الدانتل الأبيض ، الـدانتيل محكَم بـ بروش - كزرار أخير قبل الطلوع إلى الوجه. لم يتطرقا كما قلت سابقا لما حدث لها ولمديحة عزمي ، على اعتبار أنه ما جاء إلا تأثرا و تقديرا ، أو لأن الكلام في مثل هذه الحالات زائد مهما قلَّ ، ناهيك عن أن دموعها ما هي إلا المشهد الأخير من الفيلم ، ومحمود المليجي لن يدخل السجن ، وربما يتمثَّل في فيلمه القادم الأستاذ زكي رستم ؛ فيتزوج من بنت جميلة تصغره بثلاثين سنة على الأقل ؛ ليصير للحب نهر . وربما يكون رئيس عصابة ، وليس لديه بنت وإنْ حدث فلن تكون سعاد ، ولذا فسوف يستحق عن جدارة مصيره الذي ناله في الفيلم السابق. . رشدي أباظة ، وإن تمنته سعاد ، لم يعد له دور، حضوره الآن سيفسد كل شيء ، مناسبته في غيابه ، اختفاء رشدي – أقول بتجرد - في مصلحة الدراما تماما. كانت سعاد ساكتة تضع يسراها على خدها ، وكان هو – بمسئولية - يتحدث بصمت كسلاسل الذهب . تحادثا طويلا ، ، لم يتركا أيا من الأشياء التي تستحق ، كالمعتاد ما لا يستحق كان أجمل . كانت سعاد وكانت مديحة ، وكانت تتململ . . صمت رهيب وجمال رهيب . سعاد لمّا تشوفها عَ الطبيعة مختلفة شوية ، لم أستطع أنا ولم يُرِدْ هو أن يميز طبيعة الاختلاف ؛ لإنُه مش ها يعرف سعاد النهارده يعني. كانت تبادله الصمت بطلاقة نادرة ، جملة الحوار الوحيدة التي نطقت بها أنْ نادت على النادل " ممكن مية لو سمحت ؟ " .بالقطع لم تكن تريد الماء ، . جاء النادل بكوب الماء ، ثم تراجع ، وهو ينسحب من الكادر أزاح الببيون ثم السُّترة وانضم إلى كثيرين خلف الكاميرا أنهوا أدوارهم ولم يغادروا ، ظلت سعاد مدة تنظر إلى : " ممكن مية لو سمحت " ، بهدوء وراءه ذهول ، لن يُسجَّل ذهولا ، كانت تنظر إلى " ندائها " للنادل بامتنان من اكتشف صدفة أن بوسعه أن يتكلم وبوسع الآخرين أن يسمعوه . . بالمناسبة كانت هذه هي المرة الأولى ( والأخيرة ؟ ) التي يعيش فيها على طبيعته و أمامه جماهير . أثناء الشاي بالنعناع وبعده تبدلت سعاد كثيرا ، من صمت إلى صمت ، لا صمت يشبه الآخر ، . تجولتْ - بتأنٍ - في أنواع من السكوت يصعب وصفها . نعم صمتها حزين ، لكن الحزن – كما هو ثابت - لا يخفي ما دونه . رغم أنها كانت ترتدي ملابس مديحة عزمي وكافة إكسسوارت الروح . إلا أنها ضحكتْ . هل تعرف ضحكة سعاد ؟ ضحكتها مجلجلة . صح ؟ ضحكتْ سعاد ؛ فوقفتْ فجأة ، وأرسلت يديها خلف ظهرها ؛ ربما تمهيدا لحيرة سوف تتلبسها بعد عشر دقائق . بدت يداها وهي حرة كأنها ليست لها بالذات ، ثم عادت وجلست و أخذت تدندن ما سوف تقوله بعد خمسة عشر عاما: " أنا باضحك من قلبي ياجماعة / مع إني راح مني ولاعة / وبطاقتي في جاكتة سرقوها / وغلاسة كمان سرقوا الشماعة" .... كانت سعاد في مشهد " الشيكا بيكا " كما تعرف ترقص وتغني بحماسة ؛ لتظهر خيبة أملها في الحماسة .أمسكت بالبالونة لو تفتكر ونفخت فيها بعزمها حتى فرقعت . صمتها الآن مرادف لهذه الحالة التي ستأتي بعد سنوات . ليس مرادفا بالضبط .
لا يحب فيلم شفيقة ومتولي ، لكنه من الحريصين على " بانوا بانوا " . في بانوا يجلجل المزمار البلدي أولا ثم يختفي . إن كانت سعاد ، في بانوا ، عند البعض تقدم حفلة تأبين بنفسها لنفسها ، إلا أنه عندما غنت ( بعد موسيقا أطول من اللازم لولا ما حدث خلالها ) لم يتأثر كثيرا بالكلام ، كان صوتها بعد أن وجد محله المختار يمزج ببال مرتاح بين حزن جديد ( ليس عدوا ولا حبيبا ) ، وبين دلال يحاول أن ينطفئ بخطره .لا ، الدلال يدخل ويخرج كأنه لم يحسم أمره بعد ، الصوت الذي صار جسما يراوح بين التجريس ، وبين العزلة في عز الجمع ، وبين الاستمتاع بلا شبهة أثرة ، كأنها استقرت ، بعد أن رقصت بالفعل ، أنه بات لزامًا أن ترقص للرقص ، وأن هذا لا يضير. في "الشيكا بيكا - الحركات اللي مش هيا " كانت مصدومة ؛ لأنه ببساطة : ما ينفعش كده ! في " بانوا " تقريبا الدنيا شالت وحطت ، هِيَّ ورا شوية : هل صارت ترى بوضوح أنَّ " القلب على الحب يشابي / والحب بعيد عن أوطانه " ؟ طيب ، لديَّ مشكلة فعلا مع صاحبات الشَّعر الحر ( مهما كان جميلا) اللاتي يعشن أزمة يمكن أن تحل بيد واحدة . وأبدا لا يفعلن ، وإنْ ، فيكون متأخرا جدا . لكن الأمر هنا بدا مختلفا تماما . أعتقد هو أيضا لديه نفس المشكلة ، إلا أنه رأى أنَّ : نفس الاستجابات قد تتكرر بالحرف ، لكنها لن تكون نفس الاستجابات. حين كانت في قصر أبيها ، حين كانت ترى إليهم من الشباك ، كان شعرها كما تعرف ملموما طبقا لتوجيهات المخرج والسيناريست وتقديرا للظروف ، وظل هكذا لوقت طويل ، لا يعرف بالضبط متى صار حرا ، قد تكون اللقطة البينية قد غابت عنه ، وربما حدث هذا حين امتد حبل الصمت .وربما ..... ، عموما ليس هذا ما شغله ، لأنك يمكن أن تسمتع بشَعر حر ، ولا تسأل عن السبب . الحكاية أنها كانت تقبض على كوب الماء الملآن ، والذي سيظل هكذا ، بيدٍ ، وبكف اليد الأخرى المفتوحة تضغط على التراييزة ، كأنها تسند شيئا ما ، شيئا لا دور له في المشهد ، وربما لا وجود له أصلا ، لكن - كما هو واضح - من المستحيل أن تتركه لحاله ، كأنها كانت تعرف أن خصلات من الشعر الذي صار حرا ستطير ، واليدان - للأسف - مشغولتان . في الحقيقة ، صار مبررا تماما ، وعلى الرحب والسعة ظهور الشَّعر الحر، بل طيران الخصلات دون مقاومة ، والدليل على ذلك أنه عندما تراءتْ بعد قطع مفاجئ بالبلوزة البيضاء التي تظهر السلسلة الذهبية كاملة ، لم ير الـ " فجأة " ، بالعكس كانت النَّقْلَة ناعمة جدا ، وتقبل بحماس كل ما تلا ذلك من ألوان . أخبـرها بأكثر من طريقة أنه كان يراها على الدوام إلى جانب دورها ورغمه ، ويطمئن عليها ، لم تكن على ما يرام في أكثر من فيلم . خلال مسافة في الزمن بدت أطول من الاحتمال صادفتها حيرة ، الحيرة التي أوقفتها وأطلقت يديها منذ عشر دقائق ؟ الحيرة أعقبها تململ ، تلاه سكوت جديد ، ليس كالسكوت الأول . اختفت الصورة وبقيَ صوت الصمت يسري ، انتظرَ لترجع ، لم تعد ، لم يعرف التفاصيل ولم يحاول ، إلا أنها في لقاء تالِ ، رغم أن الفيلم لم يكن على المستوى ، كانت والحمد لله أفضل كثيرا .
#مجاهد_الطيب (هاشتاغ)
Megahed_Al-taieb#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هربت الفكرة
-
لقطة المترو
-
دَوا نُقَط
-
فوقية
-
قهوة علي مالك
-
جبال الألب
-
محمود ونوجة وصفية
-
النادي الفرنساوي
-
بأثر رجعي
-
شارع الحب
-
مصر الجديدة - الرابع والخامس من ديسمبر 2012
-
ليلي نهارك
-
نُؤْنُؤ
-
حراس الفكرة
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|