|
الخروج من الكابوس
محمود الغيطاني
الحوار المتمدن-العدد: 1303 - 2005 / 8 / 31 - 10:59
المحور:
الادب والفن
في المرحلة الضبابية من اغماءتي اليومية العميقة أراني نائما و كأنني قد انفصلت عن ذاتي. يبدو لي الأمر و كأني أشاهد أحد العروض السينمائية المثيرة.أجل، فها هي غرفة نومي المنظمة أراها رؤى العين بينما صوت التكييف اللعين يشرخ صمت الليل بأزيزه المتواصل. بل ها هي زوجتي في إغمائتها العميقة هي الأخرى تغط في نوم عميق و قد اطمأن جوارها طفلنا الوليد الذي يحلم بأحلامه الطفلية الجميلة. أوتراني أتوهم؟ و لكن أنّي يتأتي لي ذلك بينما أري شبح ابتسامة ترتسم علي وجه طفلي فأبتسم له سعيدا؟ أراقب نفسي جيدا. أتراني أحلم الآن بذات الأحلام؟ بالتأكيد لا؛ فهناك ضيق ما أراه يرتسم علي ملامحي المنقبضة و كأني أكاد أن أختنق. إني بالفعل أحرك رأسي يمنة و يسرة كمن يلفظ أنفاسه الأخيرة. لا بد أن هناك شيئا ما يخفي علّي. أقترب بهدوء من جسدي المتوتر محاولا معرفة الحقيقة. أندمج فيه ببساطة فأدخله. أري ظلا ما يشبه في جملته إنسانا أو كائنا شبيها يقترب منّي بهدوء. أتأمله جيدا فإذا الأشياء تبدو واضحة جلية من خلال جسده الأسود الشفيف. رعدة قوية تشملني حينما يقف جانبي لتنتصب علي أثرها الملايين من الشعيرات التي تغطي جسدي. شعور ما بكون قيد حديدي يكاد أن يخنقني يحتويني. بكل ما أوتيت من قوة أحاول الحركة فأفشل. شلل ما أصاب مركز إرادتي فأفقدني القدرة التامة عن الحركة. يزداد الضيق الجاثم علي صدري فأكاد أن ألفظ أنفاسي. أحول نظري تجاه زوجتي النائمة جواري. أناديها بقوة لكنها كانت تسعد بأحلامها. يراودني الأمل حينما أراها تتقلب إلا أنها سرعان ما أعطت ظهرها لي لتمارس طقوس نومها المطمئنة. موجة من الإحباط الشديد تشملني. يبدو لي الأمر و كأني أزعق من أعماقي و لكن ما من أحد يستطيع سماعي. أحاول مناداتها مرة أخري متمسكا بأهداب الأمل الذاوي حينما يمسك الظل الأسود يدي رافعا إياها. حينما أفشل في جذب انتباهها أنهره آمرا إياه أن يتركني. يخرج صوتي مشوه الملامح و كأنه قادم من أعماق جب سحيق. تنتبه زوجتي الراقدة جواري فتستيقظ فزعة علي صوتي المشوه. تحاول إيقاظي برعب فأعود إلى رشدي بينما يدي التي كان يمسك بها ما زالت عالقة في الهواء. * * * في اليوم التالي كنت أتأمل تجربتي السابقة بتمهل. كانت قد عاودتني كثيرا في الفترة الأخيرة حتى كدت آلفها و كأنها واجب يومي. كنت قد أمسيت تائقا للنوم كثيرا كي تعاودني التجربة فأتأملها علي مهل، و كأن الكابوس قد صار صديقا أحبه و أرغب في حضوره اليومي. كنت قد هيأت نفسي اليوم للتعرف عليه عن قرب. خرجت زوجتي لقضاء شيئا ما لم أسألها عنه؛ فرغبتي الشديدة في الانفراد بكابوسي جعلتني أتعجل خروجها. حاولت التحايل علي النوم حينما صرت وحيدا إلا أني لست أدري متي غشيتني سنة من نوم فرحت في سبات عميق. أراه قادما بعيدا بعيدا في خطواته الواثقة المتحدية. نوع ما من التوتر يغشاني بهالة شديدة من الضيق. أحاول النطق بصعوبة حينما يقف لصيقا بي: - ما بغيتك؟ صوت ما قادم من اللاجهة:- لا شئ. حالة الدهشة القصوى التي تنتابني تجعلني ألتزم الصمت طويلا. أتأمل ملامحه المطموسة تماما و كأنه لا شئ. مجرد ظل أسود شفيف لإنسان ما. أقول بغيظ: - إذن فما سر زيارتك اليومية لي؟ - انه القدر المسلط علّي و عليك منذ الأبد. - أي قدر هذا؟ هل لك أن تزيدني فهما؟ بحيادية غريبة:- قدري أن آتي للناس في أحلامهم فيصيبهم الضيق الشديد المصحوب بفقد الإرادة، و قدرهم أن يحدث لهم ما يحدث حين ظهوري لهم. ينتابني شعور ما بكون رنة حزن بسيطة في صوته فأشفق عليه. أكاشفه: - أحزين أنت من شئ ما؟ بغضب و كأنني قد أهنته:- بل غاضب من وصفكم لي بالكابوس. مندهشا:- و كيف نصفك إذن في حين أنك تصيبنا بالاختناق؟ يهتف بشكل أكثر غضبا:- كيف تجرؤ علي مناقشتي؟ انه أمر لم يفعله أحد من أبناء جنسك من قبل. مبتسما:- أعلم ذلك، لكني أدمنتك حتى صرت واقعا يوميا. بعد فترة صمت طويلة:- إذن ما رأيك في لعبة شيقة نلعبها معا؟ بدهشة:- أية لعبة؟ - سآتيك يوميا فأجثم علي صدرك، إما أن تقاومني و تصدني أو أحاول خنقك حتى تكاد أن تلفظ أنفاسك. - أستقتلني بالفعل؟ - بالطبع لا.. و من سيمارس معي لعبتي بعد موتك؟ سأتركك حينما تكاد أن تختنق. بعد تفكير عميق:- لكنها لعبة خطرة. - إذن فأنت لا توافق عليها. رغبتي الشديدة في خوض التجربة تجعلني أنطق هاتفا:- بالتأكيد أوافق، و لكن هل ستفي بوعدك لي بعدم خنقي؟ مبتسما:- بالتأكيد، ألسنا أصدقاءا؟ * * * صار كابوسي الجميل يأتيني أكثر من مرة يوميا حتى صرنا بالفعل أصدقاءا، بل انه بدأ يغير في قواعد اللعبة دون استشارتي فبات يباغتني في يقظتي بالرغم من اتفاقنا بإتيانه لي أثناء نومي فقط. كثيرا ما كنت أشعر بتوتر ما يصيب جسدي أثناء اليقظة ليصلّبه فأعرف أنه قد بدأ لعبتنا الخطرة. استمر الحال علي هذه اللعبة شهرا كاملا أذكر أنه قد حاول مرتين أو ثلاثا خنقي حتى كدت أن ألفظ أنفاسي بالفعل. يومها غضبت منه و هددته إذا هو فعلها مرة أخري فسوف تكون قطيعة بيننا و لن ألعبها معه ثانية فعاهدني علي عدم فعلها، إلا أنه كان كثيرا ما ينقض العهد الذي بيننا و يعيد الكرة مما أورثني كراهية شديدة له و تربصت له شرا! * * * كنت قد اتفقت مع الكابوس علي اللقاء اليوم بعد منتصف الليل فوافق. أقبّل زوجتي وولدي منتظرا إياهم حتى يغطوا في نومهم. أهيئ نفسي لتأخذني سنة من نوم. لم أدر كم من الوقت مرّ علّي مذ ذهبت في غيبوبتي إلا أني انتبهت علي صوت ما يعاني اختناقا شديدا. أنظر حولي فإذا بها زوجتي متقلصة الملامح تكاد أن تختنق. أرعد غاضبا: - أخرج منها أيها الوغد… ليست هذه قواعد اللعبة التي اتفقنا عليها. إلا أن ملامحها المتقلصة كانت تزداد تقلصا بينما جسدها يبدو متيبسا و كأن هناك من يجثم عليه. أحاول إيقاظها بكل ما أوتيت من حيلة إلا أنها كانت تكاد أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. أسرع إلى سكين حاد شارعا إياه محذرا: - إذا لم تخرج الآن قتلتك. إلا أن تجاهله لي و ملامح زوجتي التي تلفظ أنفاسها جعلاني أهوي بقوة علي صدرها، عنقه، بطنها، في محاولة يائسة لقتله بينما أري الدماء المنبثقة كعين ماء انفجرت، أو هي كالشلال هادرا من الفتحات التي صنعها سكيني الحاد.
#محمود_الغيطاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول السينما النظيفة و السينما التي ماتت
-
مملكة الجنة.. الانسان يعلو فوق كل شئ
المزيد.....
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|