نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1302 - 2005 / 8 / 30 - 10:13
المحور:
كتابات ساخرة
حين كنا شبابا يُفعاً ننضح بالحيوية والأفكار الحمراء,التي يبدو أنها أصبحت رمادية وسرابا في زمن المد البدوي الأجوف,وكما ذرّت بعضها ,وذهبت هباء منثورا في الهواء بسبب سطوة,وانتعاش بزنس المخابرات ,كانت تدور تلك المعارك الفكرية والحوارية الضارية بين بعض الزملاء من مختلف المشارب والاتجاهات ,وكانت إحدى هذه النزالات تدعو, مثلا, فيما تدعوه إلى تحرير المرأة, وانتشالها من آبار الجهل ,وشريعة الوأد ,تحت مختلف المسميات, التي لا تزال سارية المفعول حتى الآن برغم انقضاء "الجاهلية" منذ ألف وأربعمائة سنة ونيف على حد زعم "الفهمانين" من العربان ,وحين كان يصل البعض للسؤال المهم والحاسم ,هل تقبل بأن يطبق هذا التحرر كما تراه وتقترحه على أختك وأن تراها تتأبط ذراع "البوي فريند" وتمر أمامك مخاطبة إياك بـ "هاي شيري",كان المحاور الفائر يتراجع ويلحس كلامه,ويصبح محافظا,وينسحب ملوما مدحورا ,ويتمنى أن تحرر المرأة بالشكل الساذج والسطحي وبمفهومه الغربي ,المبتذل أحيانا,على بنات الناس وليس على أخته بالذات,لا بل يرى في ذلك شيئا من لذة وحكمة.
وحال هؤلاء ,أيام الفتوة والشباب,كحال أصحابنا من نجوم الإرهاب الآن الذين يفتون بالقتل والانتحار والجهاد ,ويحللون سفك دماء الناس لأبرياء,ولكن بشرط ألا يكون أحد من هؤلاء الجهاديين أو الانتحاريين أو الضحايا من فروعه الأقربين, وأبنائه المدللين المحصنين,ولم يرسل أي منهم أحدا من أبناءه البررة للقتال برغم اشتعال البؤر الجهادية في أكثر من مكان في العالم,وألا تشمل هذه الفتوى الدول التي يقبضون مكافآتهم ورواتبهم منها, والذين – حتما- لا يجب أن تشملهم فتواه القتالية.وظلت تجارته- البائرة الآن - تشمل وتوجه فقط إلى سقط المتاع من تلك "البضاعة" التي تنتجها مدن الصفيح وضحايا أنظمة الفقر والاستبداد.ومن شروط هذه الفتاوى أن تكون عندها الفتاوى فرض كفاية ,وألا تصبح يوما ما فرض عين,ولا ضير لو قتل جميع سكان البلاد ,والذين, وبكل أسف ,هم وقود هذه المحرقة الغاشمة العشواء,المهم أن يبقى هو وآله الطاهرين الميامين في بر الأمان.والكل سمع بتلك القصة الفضيحة لذاك الشيخ البدوي الذي بلغه أن فلذة كبده المحروس المدلل-عين أمه عليه وصلوا على النبي العدنان- متوجها للجهاد وقتال الصليبيين الكفار في العراق فقام فورا بالإبلاغ عنه ,وتم إيقاف الصبي المغرر به جهاديا على حدود بلاده,ولكي لا تذرف أمه الحنون الدموع عليه, بعد أن كان المجاهد البار عاقدا العزم على تفجير نفسه بمن تبقى من أطفال مدارس لم يصلها شرور هؤلاء البغاة ,ولحس الرجل كل فتاويه السابقة من أجل عيون الحبيب الغالي ,وولي عهده الأمين ,وترك صنعة الإفتاء و"كسر الدف وبطل الغناء والترنيم الأصولي" بعد ذاك.
واليوم وبعد عودة الوعي للبريطانيين تتبدل المواقف,وتشذب اللحى المرسلات,وتصمت الحناجر الصارخة المطالبة بالدماء,وتنزوي بعيدا كل تلك الفصاحات .وبدأت التراجعات مع صدور لائحة من خمسين اسما جديداعلى قائمة التسليم والإبعاد,وبعد أن أصبح واضحا أن لا مهادنة ولا تعايش مع هذا الفكر الهدّام لأنه كالنار إن لم تجد ما تأكله ,أكلت نفسها ,كما التهمت أجساد الأبرياء الإنجليز في ذاك الصبح التموزي المشؤوم, وانفضاح أمر هؤلاء الذين كانوا يتاجرون بأرواح الفقراء من وراء البحار ,وهم يرفلون بالنعيم والعز والجاه والعيش على المعونات الاجتماعية ,وفي ذات الوقت كانوا يعتبرون هذه البلاد كـ "مرحاض" أعزكم العزيز الجبار, لمجرد قضاء حاجتهم الطبيعية فيه كما صرح بذلك واحد من رموزهم الذي يقبع في أحد سجون لندن الآن.
الآن تشهد بورصة الجهاد انخفاضا حادا وملحوظا,وقد تبدو مهددة بالانهيار والإغلاق, بعد أن خسرت الكثير من عتاة المتعاملين,وأرباب المضاربين بأسهم الإرهاب,وبعد أن تحسس الجميع صلعاتهم إثر الإجراءات البريطانية الجادة الأخيرة,ومحاصرتهم قانونيا في أكثر من مكان ,وصار البعض يعد للعشرة بعد الألف قبل أن ينبس بحرف واحد في هذا الشأن .وأنا شخصيا – وأعوذ بالله من كلمة أنا - بانتظار تصريح لأحد مشاهير الترويج الانتحاري والمتغزلين فيه و"بشيوخه" الأفاضل ,لأرى ما سيطرأ من تحول على تصريحاته,وكيف سيتحول فجأة إلى غاندي في غابة الرياء.وفي نفس الوقت الذي فر فيه بعض رموز التنظير الاستشهادي والداعين للقتل وسفك الدماء جهارا نهارا ,هناك من غير مواقفه كليا مئة وثمانين درجة مكفرا ما كان يعتبره بالأمس القريب واجبا شرعيا ,وعملا بطوليا خارقا جزاؤه الجنة والحور العين, والغلمان الفتيان الذين لا يشيبون ولا يكبرون مع مر الزمان.وأصبح هناك تحول ملحوظ في المؤشر البياني الذي يلحظ نشاطهم في عاصمة الضباب. وصار شعارهم المرفوع , "مئة أم تبكي ولا أمي تبكي" وألف كلمة جبان ,ولا كلمة الله يرحمه .وأصبحوا- ويا سبحان الله- حملانا وديعة تبشر بالمحبة والتعايش والوئام, ويبزّون في ذلك سيدنا المسيح,وحواريه, عليهم –جميعا – السكينة والسلام.
لقد كانت تجارة خاسرة و"بايرة" ذبذبة المواقف تلك وتأرجحها وتغييرها والتي قام بها هؤلاء,وعهدنا بهم أنهم لايخافون إلا الله ,ولا يأبهون لهذه الدنيا ,ولاتغريهم زخرفتها الفانية الفحشاء,أم أن هذا الكلام للمغرر بهم فقط ؟كما أنهم لم يداروا تلك النعمة الكبيرة التي وفرتها الدساتير العلمانية للناس, وكانت حياة وأرواح الناس هي البضاعة التي بها يشتغلون,ولكن حين بدأت السكين التي كانوا يجيزون بها قطع رقاب الناس تقترب من رقابهم ,وتهدد حياتهم وبقاءهم, آثروا السلامة والأمان والانسحاب ,و"يا دار ما دخلك شر",و"يا روح ما بعدك روح" ,وهذا يفضح زيف كلامهم وأدبياتهم وادعاءاتهم عن التضحية ,والموت ,والفداء في سبيل الله.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟