أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عبدالله بنسعد - من جنون البقر إلى أنفلونزا الطّيور : مسار العولمة الليبراليّة المدمّرة















المزيد.....



من جنون البقر إلى أنفلونزا الطّيور : مسار العولمة الليبراليّة المدمّرة


عبدالله بنسعد

الحوار المتمدن-العدد: 4642 - 2014 / 11 / 24 - 17:26
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


على هامش عودة مرض أنفلونزا الطيور للظهور من جديد وإصدار وزارة الفلاحة بتونس لبلاغ حول الموضوع ، نعيد نشر مقال حول الموضوع صدر بجريدة الشعب بتاريخ 14 أفريل 2007 تعميما للفائدة
تصدير : «إنّ سيادة الرأسمال المالي الإحتكاري في الإقتصاد الرأسمالي العالمي في الثلث الأخير من القرن العشرين قد أدّت إلى ظهور قضايا كونيّة لم تكن جليّة أو لم تكن بمثل هذه الحدّة في أوائل قرننا أو إلى تفاقمها خارق التّفاقم. فإنّ تلوّث البيئة المحيطة ومشكلة الأغذية
ومشكلة الخامات ومشكلة فيض السكّان في المدن الكبيرة ومشكلة فقر عدد ضخم جدّا من سكّان الكرة الأرضيّة ، كلّ هذا تحوّل إلى خطر يتهدّد أهل الأرض ويتفاقم من جرّاء تسيير الإقتصاد على أساس الملكيّة الرأسماليّة والإستغلال الوحشي للموارد الطبيعيّة الذي يرافق شتّى أشكال السّيادة الإحتكاريّة». ـ روداكوفا ـ (بصدد مؤلّف لينين "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسماليّة")
توطئة : لم يسبق للبشريّة ، في ظلّ الرأسماليّة ، أن عاشت وضعا أسوأ (خارج الحروب العالميّة) من الوضع الذي تعيشه في بداية هذا القرن الواحد والعشرين وذلك على كلّ المستويات الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة.
فالرأسماليّة التّي بشّرت بالحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان إفتضح أمرها بسرعة ، فالنّتيجة التي أدّت إليها الرأسماليّة بقوانينها وآليّاتها بعد عشرات العقود من ظهورها (وخاصة في ظل العولمة الليبراليّة) لم تكن سوى حرّية الشذوذ الجنسي والديمقراطيّة التي تصدّر على ظهور الدبّابات. فهل كان إنسان واحد يتصوّر بأن تصبح أولويّة الدول الرأسماليّة في القرن الواحد والعشرين هي إصدار التشريعات التي تسمح بزواج الأشخاص من نفس الجنس. أي نعم فهذه الدولة أو تلك تتباهى بأنّها أوّل من سمح بزواج الشّواذ جنسيّا حيث أصبح في عصر العولمة الليبراليّة بإمكان رجلين شاذّين أو إمرأتين شاذّتين إبرام عقد زواج وبناء "عش زوجيّة" (هكذا !!! ) وتبنّي الأطفال أيضا. لكنّنا نسأل أي مستقبل لطفل (ذكر أم أنثى) يترعرع ويكبر في ظلّ شخصين شاذّين من جنس واحد ؟ وأيّ نفسيّة يمكن أن يكبر عليها طفل (ذكر أم أنثى) لا يجد التركيبة العائليّة الطبيعيّة المتكوّنة من أب ذكر وأم أنثى يحضنانه ويربّيانه ؟ النّتيجة لن تكون إلاّ مجتمعا من الشّواذ. لكن الأخطر من ذلك في عصر العولمة الليبراليّة هو أنّ مخابر البحث في البلدان الرأسماليّة التي تقف وراءها الشركات متعدّدة الجنسيّات ، تخصّص ميزانيّات كبيرة جدّا وتضعها على ذمّة الباحثين لإستنساخ الإنسان (أنظر مقالنا الصّادر بجريدة الشعب بالعددين 397 و398 بتاريخ 24 ماي و31 ماي 1997 تحت عنوان : الإستنساخ بين العلم والميتافيزيقيا). فإستنساخ الإنسان ليس سوى تجسيدا لنظريّة الجنس الرّاقي عبر تكريس الإيديولوجيا الأوجينيّة ومطبّقيها أي لمنظّري العنصريّة والتفرقة بين الأجناس وتدمير بعضها البعض.
لذلك فإنّني أعتقد أنّه لا يوجد عاقلان إثنان يمكن أن يختلفا على أنّ الحريّة التي بشّرت بها الرأسماليّة ليست سوى حريّة الشّذوذ الجنسي من ناحية وتدمير الآخر من ناحية أخرى.
أمّا الديمقراطيّة (والمقصود طبعا الديمقراطيّة الغربيّة) التي بنت عليها الرأسماليّة نظريّتها وطالما إعتبرتها البديل الواحد والوحيد لما تعتبره دكتاتوريّة الأنظمة "الشموليّة" فقد إفتضحت في مرّة أولى من خلال الإستعمار المباشر للشعوب والأمم في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاّتينيّة فنهبت خيراتها ودمّرت ثقافاتها وفرضت عليها سياساتها الإستعماريّة.
ثمّ إفتضحت في مرّة ثانية ببروز الأنظمة النازيّة والفاشيّة التي قتّلت وشرّدت عشرات الملايين من أبناء الطبقات المظطهدة في أوروبا وإفريقيا ولم يقع وضع حدّ للتقتيل والتدمير إلاّ بعد البطولات التي قدّمها الجيش الأحمر السوفياتي (قدّم ملايين الشّهداء أيضا) وتمكّنه يوم 30 أفريل 1945 من دخول برلين ورفع علم الإتّحاد السوفياتي فوق مبنى البرلمان (الرايخستاغ) وإعلان الإنتصار النّهائي على النّازيّة والفاشيّة يوم 8 ماي 1945.
وها هي تفتضح مرّة ثالثة لا فقط بمحاولات تصديرها للديمقراطيّة عبر ظهور الدبّابات في يوغسلافيا وأفغانستان وخاصّة العراق ولكن أيضا بدعمها لأنظمة دكتاتوريّة في أشباه المستعمرات كلّ ذلك إضافة إلى قيام الرأسماليّة ، التي تدّعي الديمقراطيّة ، بدعم الكيان الصهيوني رأس حربة الإمبرياليّة في قلب الوطن العربي كنموذج لإستعمار إستيطاني لا يختلف في شيء عن الإستعمار الإستيطاني لأمريكا وأستراليا من قبل الأوروبيين الذين قضوا على السكّان الأصليين لتلك البلدان وإستحوذوا على أراضيهم وبنوا بلدانا كاملة فوق جماجمهم. أمّا عن حقوق الإنسان فحدّث ولا حرج فمن فضائح سجن أبو غريب إلى إرهاب سجن غوانتانامو الذي لم يوجد مثيل له في التّاريخ ، إلى خطف رؤساء الدّول والمواطنين من أيّ بلد كان لمجرّد الإشتباه بعلاقتهم بما تسمّيه الإمبرياليّة إرهابا وأخيرا وليس آخرا إغتيال الرّؤساء الذين لا يسيرون في ركابهم (ياسر عرفات وصلوبودان ميلوزيفيتش الذان ماتا مسمومان وتهديد الرّئيس الفنزويلي هيغو شافاز يالقتل إضافة إلى ما يمكن أن يتعرّض له الرّئيس العراقي صدّام حسين كما عبّر عن ذلك المحامي خليل الدّليمي الذي أبدى خشيته من أن يتعرّض موكّله إلى نفس المصير والبقيّة تأتي). هذه هي الحريّة والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان التي بشّرت بها الرأسماليّة.
لكن شتّان بين الرأسماليّة التي تدّعي الحريّة والديمقراطيّة وبين الإشتراكيّة التي تصفها بالديكتاتوريّة والشّموليّة. ففي الوقت الذي يموت فيه آلاف المهمّشين والمعدمين والمشرّدين (Sans domicile fixe) في البلدان الرأسماليّة نتيجة البطالة والفقر والبرد وحتّى الحرارة (مات أكثر من 14 ألف شخص في فرنسا صائفة 2004) كانت البلدان الإشتراكيّة توفّر الصحّة للجميع والتعليم للجميع والمسكن اللاّئق للجميع. فماذا تعني الحريّة والديمقراطيّة في بلد رأسمالي لشخص يعيش البطالة والفقر والتشرّد والموت؟
العولمة والأمراض : تفشّي الأمراض العابرة للحدود
إنّ السّمة البارزة للعولمة الليبراليّة منذ ترسّخها بداية من أواسط الثّمانينات هو تفشّي الأوبئة والأمراض التي تتميّز بطابعها الوبائي لا على مستوى القطر الذي تظهر فيه فقط حيث تعرف بالجائحة المحدودة (Epidémie) إن كانت مرضا بشريّا أو (Epizootie) إن كانت مرضا حيوانيّا وإنّما تنتشر على نطاق عالمي لتمثّل ما يعرف بالجائحة الواسعة (Pandémie) إن كانت مرضا بشريّا أو (Panzootie) إن كانت مرضا حيوانيّا.
فالعولمة الليبراليّة التي إرتكزت على حريّة رأس المال في التنقّل من بلد إلى آخر وبدون أي ضوابط بينما بالمقابل وقع سجن العمّال في بلدانهم الأصليّة ، تميّزت أيضا بحريّة الأمراض الحيوانيّة في التنقّل بين البلدان بسرعة مذهلة وهو ما يجعلنا نعرّف هذه الأمراض بـ "الأمراض العابرة للحدود".
إنّ ظهور هذه الأمراض يذكّرنا بظهور الطاعون في العصور القديمة لكن وإن كان ظهور الطاعون ربّما يكون مفهوما نظرا للتخلّف العلمي والتكنولوجي في تلك العصور ، فإنّ الإستغراب يصبح مبرّرا في عصر بلغت فيه العلوم والتكنولوجيا مستوى لم يسبق له مثيل ولم يكن ليخطر على بال. فمن الثورة الفيزيائيّة التي أدّت إلى غزو الفضاء إلى ثورة الهندسة الوراثيّة التي أدّت إلى الإستنساخ مرورا بالثورة البيوتكنولوجيّة التي أدّت إلى المعالجة الجينيّة للنباتات.
فهل يعقل في ظلّ هذا الواقع العلمي والتكنولوجي ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين أن يعجز العلم على صنع أدوية لمقاومة أمراض مثل أنفلونزا الطيور والسّارس وحتّى السيدا ؟ ألا يجعلنا هذا الواقع محقّين في إتّهام مخابر البلدان الرأسماليّة التي تقف وراءها الشّركات متعدّدة الجنسيّات (التي تتحكّم في سياسات وإقتصاديّات العالم) بتوجيه أبحاثها لخدمة رأس المال وهو تماما ما عبّر عنه وبكلّ وضوح العالم التّونسي محمّد العربي بوقرّة في كتابه الشّهير "البحث ضدّ العالم الثالث" (La recherche contre le tiers monde) الذي أصدره سنة 1996 ولاقى إقبالا كبيرا في أوروبا. أمّا أكبر مثال على ذلك فهو ما تقوم به الشركات متعدّدة الجنسيّات ومنها شركة "مونسانتو" (المدعومة من الحكومة الأمريكيّة) باستماتة في خلق أسواق لأغذيتها المعدلة وراثيا (OGM) بأساليب الإرغام والإفساد رغم رفض أغلبيّة الباحثين الذين يحترمون أنفسهم لأغذية الهندسة الوراثية لأسباب صحية وبيئيّة في نفس الوقت. وخلافا لما تروّج له هذه الشّركات من أنّ الأغذية المعدّلة وراثيّا هي الحلّ الوحيد للقضاء على المجاعة في العالم نظرا لوفرة إنتاج هذه الأغذية فإنّنا نؤكّد بأنّ تلك الأغذية تلبى حاجة جوع الشركات العملاقة للربح الوفير أكثر من إشباعها لجوع الفقراء في العالم.
بل إنّني أذهب أبعد من ذلك وأجزم بأنّ الرأسماليّة تعتمد على سياسة صحيّة طبقيّة بكلّ ما في الكلمة من معنى. فمرض مثل السيدا ، على سبيل المثال ، الذي يقضي على عشرات الملايين من الأشخاص في السّنة الواحدة هو مرض لا يصيب إلاّ الفقراء والمعدمين في أوروبّا والبلدان الإفريقية (50 % على سبيل الذكر لا الحصر من سكّان أوغندا يحملون الفيروس) والآسيويّة والأمريكيّة.
فهل يعقل أنّ يبقى هذا المرض الذي ظهر منذ بداية الثّمانينات والذي وقع تحديد الفيروس المتسبّب فيه منذ بداية ظهور المرض دون علاج في الوقت الذي تتلاعب فيه مخابر الشّركات متعدّدة الجنسيّات بالجينات والخلايا والأنسجة فتغيّر الخصائص الوراثيّة للنباتات وتخلق نباتات جديدة تحتوي "بجين" (جين منقول) قاتل يمنع نموّ الحبّة التي وقع حصادها وهو ما يعرف بـ"البذور النهائيّة" Terminator والهدف طبعا هو إحتكار الشركة التي تنتج هذه البذرة لسوق البذور وبالتّالي وضع الفلاّح الفقير تحت رحمة رأس المال (إقرأ كتاب الدكتور سمير بسباس : خلايا في المزاد العلني ـ علم مجنون في خدمة أرصدة لا تشبع). كلّ هذا يجعلنا نلخّص ما تقوم به هذه المخابر بجملة واحدة "إنتصار قانون الرّبح على قانون الحياة". لكن المسألة لا تقف عند هذا الحدّ فهناك أمراض أخرى موجودة في البلدان المتخلّفة لا تدخل هي أيضا في دائرة إهتمام مخابر البلدان الرأسماليّة ولا تقوم بأيّ بحوث حولها ومنها على سبيل الذكر لا الحصر مرض الملاريا الذي يقتل طفل كلّ ثلاث ثوان ، نعم كلّ ثلاث ثوان يموت طفل إفريقي نتيجة الملاريا التي تتسبّب فيها بعوضة (أي نعم بعوضة تقتل ملايين الأطفال الفقراء في إفريقيا) ولا يوجد إلاّ مخبر واحد في العاصمة الماليّة باماكو يقوم ببحوث جادّة للقضاء على هذا الخطر بإمكانيّات بشريّة ومادّية محدودة جدّا هذا مثال لمرض يصيب الإنسان أمّا الأمراض الفلاحيّة فيمكن ذكر مرض يصيب النّخيل في بلدان المغرب العربي وقد قضى على واحات كاملة للنّخيل بالمغرب والجزائر وهو يتنقّل ببطء نحو واحات تونس ويعرف بإسم "البيّوض".
إنّ ما سبق ذكره يجعلنا نؤكّد بأنّه إلى جانب السّياسة الصحّية الطبقيّة التي أشرنا إليها سابقا (Politique de classe) تعتمد الرأسماليّة أيضا سياسة صحيّة إستعماريّة (Politique coloniale) .
فما هي أهمّ الأمراض العابرة للحدود التي ظهرت في السّنوات الأخيرة ؟
-;- مرض جنون البقر
يعتبر جنون البقر مرض العولمة الليبراليّة بدون منازع وذلك لسببين إثنين :
* أوّلا لم يكن هذا المرض موجودا بالمرّة قبل أواسط الثّمانينات أي قبل ظهور النّظام العالمي الجديد أو العولمة الليبراليّة.
* ثانيا ، وهذا هو الأهمّ ، المرض هو إحدى الإفرازات المباشرة للعولمة الليبراليّة وهو ما سنعمل على تأكيده حين نجيب على السّؤال التّالي : كيف ظهر جنون البقر إلى الوجود؟
في البداية نوضّح بأنّ الإسم الحقيقي لمرض جنون البقر هو ما يعرف بالفرنسيّة بإسم L’Encéphalopatie Spongiforme Bovine (ESB) الذي يمكن ترجمته كالآتي : المرض الدّماغي الإسفنجي البقري (أنظر مقالنا الصّادر بجريدة الشعب بتاريخ 31 مارس 2001 تحت عنوان : جنون البقر ، 136 ألف شخص قد يصابون به إلى حدود سنة 2010). يعود تاريخ ظهور مرض جنون البقر إلى سنة 1986 حيث وقع التصريح بوجود أوّل حالة في بريطانيا. وهو ناتج عن إستعمال الطّحين الحيواني (Farine animale) الذي يضاف إلى العلف الحيواني لتسريع نموّ الحيوانات.
أمّا كيفيّة الحصول على الطحين الحيواني فتتمثّل في جرش فواضل هياكل الحيوانات (العظام) ، بعد ذبحها أو بعد نزعها من الحيوانات الميّتة ، للحصول على جزئيّات يتراوح حجمها بين 10 و15 مليمتر ، أمّا المرحلة الثانية فتتمثّل في وضع هذه الجزئيّات تحت درجة حرارة تتراوح بين 100 و140 درجة. ثمّ بعد ذلك تأتي مرحلة العصر للحصول على الشّحوم لتنتهي بالمرحلة الأخيرة المتمثّلة في إعادة عمليّة الجرش الذي يؤدّي إلى الحصول على الطّحين الحيواني المعروف. هذه هي الطّريقة العلميّة للحصول على الطحين الحيواني لكنّ الجشع الرّأسمالي (أي إنفلات الرأسماليّة من تحت عقّالها في ظل العولمة) أدّى بأصحاب معامل صنع الطحين الجيواني إلى تغيير هذه الطّريقة وبالتالي غلّبوا مصلحتهم الذاتية بأن فكّروا في أرصدتهم البنكيّة على حساب صحّة الإنسان. فقد عمد الصّناعيّون الأنقليز إلى حذف بعض المراحل في عمليّة صنع الطّحين الحيواني بغية التنقيص من كلفة الإنتاج فقاموا بحذف المذيبات (Solvants) إضافة إلى التخفيض في درجة الحرارة إلى مستوى أقل بكثير ممّا هو معروف وهو ما أدّى إلى بقاء "الهيولينات الغريبة" (Protéines) التي إنتقلت عبر العلف إلى الأبقار وتسبّبت في ظهور مرض جنون البقر الذي يصيب الحيوان والإنسان الذي يستهلك لحوم الحيوانات المريضة. هذا المرض إنتشر في مختلف أنحاء العالم (وهو ما يجعل منه مرضا عابرا للقارّات بدون منازع) بعد أن ظهر في أوروبّا وخاصّة إنقلترا وأصاب عددا غير معروف من الأشخاص نظرا للتعتيم الإعلامي الذي صاحب ظهور المرض نظرا لأنّه مرض جديد وأعراضه تتشابه مع بعض الأمراض الأخرى. غير أنّ فريق البحث الأنقليزي الذي يقوده الأستاذ روا أندرسون تكهّن بأن يبلغ عدد المصابين بهذا المرض من هنا إلى حدود سنة 2010 بين 63 ألف و136 ألف مصاب لكن في صورة إثبات أنّ هذا المرض يمكن أن يكون وراثيّا فإنّ عدد المصابين سيتضاعف عشرات المرّات.
-;- مرض الحمّى القلاعيّة
جنون البقر ثمّ الحمى القلاعية ، ما كاد يخف هاجس المرض الأول قليلا حتى أفاق الفلاّحون على جائحة أخرى تصيب المواشي وتفتك بها ألا وهي مرض الحمى القلاعية.
فالحمى القلاعية (أي مرض القدم والفم) هي مرض فيروسي شديد العدوى يصيب الحيوانات ذات الحافر مثل الأبقار والخنازير والأغنام والماعز ، وتصاب أظلاف الحيوان المصاب وفمه بالبثور التي تؤدي إلى العرج وزيادة سيلان اللعاب ونقص الشهية. وسرعان ما يفقد الحيوان المصاب الوزن وينقص إدرار الحليب عنده ثمّ يموت. ويعتبر هذا المرض من أخطر الأمراض المعدية عند الحيوان .
وكان الفلاحون والبياطرة يعتقدون أنّه وقع القضاء عليه تماما في أوروبا إلا أن الجائحة الأخيرة التي اجتاحت بريطانيا ثمّ أغلب بلدان أوروبّا كذبت تلك الظنون. وهو دليل آخر عمّا قلناه حول الآثار المدّمرة لتفكيك هياكل الرّقابة والمتابعة في عصر العولمة الليبراليّة وفتح الباب على مصراعيه أمام الجشع الرأسمالي الذي ليس له حدود ولا ضوابط.
ورغم أن المرض لا يشكل خطرا على الإنسان إذ أنّه مرض حيواني بالأساس ، إلا أنه شديد العدوى لحيوانات مثل الماشية والخراف والماعز والخنازير ويؤدي إلى موتها. وقد قامت فرنسا بقتل نحو 20 ألف رأس من الأغنام المستوردة من بريطانيا ، كما أعلنت ألمانيا وغيرها من الدول اتخاذ التدابير الصحية الصارمة. وطبعا كما أكّدنا آنفا فإنّ أكبر المتضرّرين هم الفلاّحون الفقراء في البلدان المتخلّفة الذين إمّا أنّهم لا يملكون الإمكانيّات اللاّزمة لمداواة حيواناتهم أو أنّ دولهم غير قادرة على توفير الدّواء الذي تبقى عمليّة تصنيعه حكرا على مخابر الدّول الرأسماليّة. فإذا قامت فرنسا على سبيل الذكر بالتخلّص من 20 ألف رأس من الأغنام للتخلّص (بطريقة راديكاليّة) من المرض ، وهي التي تملك كلّ الإمكانيّات الماديّة والتكنولوجيّة للتصدّي ، لكم أن تتصوّروا ماذا يمكن أن تفعل دولة فقيرة في مثل هذه الحالة.
المتضرّرون إذا هم الفقراء بإعتبار وأنّه من المعروف أنّ الإقتصاد العائلي في الريّف يرتكز على تربية 2 أو 3 أغنام وماعز التي تمثّل المصدر الرّئيسي للبروتينات والحليب أو هي أيضا مصدرها الوحيد للرزق ، ألا يقول المثل بأنّ "العنزة هي بقرة الفقير". ولكم أن تتصوّروا الحالة التي تصبح عليها عائلة ريفيّة تحرم من مصدر رزقها هذا.
ينتقل المرض عن طريق الحيوانات المصابة أو عن طريق المربّين والعملة المباشرين للحيوانات (إحتكاك الحيوانات الحاملة للفيروس ببعضها البعض أو بواسطة أناس يرتدون لباسا أو حذاءا ملوثا بفضلات حيوانات مصابة بالمرض كما يمكن أن ينتقل الفيروس عن طريق لحوم الحيوانات المصابة أو منتجاتها عندما تتغذى بها حيوانات معرضة للإصابة كما أنّه يمكن أن ينتقل بواسطة ذرات الغبار في الهواء).
وهناك لقاح للوقاية من هذا المرض ، ولكنه نادرا ما يستخدم في اغلب الدول لثمنه الباهظ ولتخلّي أغلب الدول عن القيام بحملات الوقاية التي كانت تقوم بها قبل تطبيق برامج الإصلاح الهيكلي. ويقول الأطباء البياطرة إن إعطاء اللقاح للحيوانات قد يمنع حدوث الأعراض عندها ، ولكنها تظل حاملة للفيروس ، وتنقله إلى الحيوانات الأخرى .
ولهذا فإن الدول الخالية من هذا المرض ترفض استيراد الحيوانات التي أعطيت اللقاح خشية استمرار حملها للفيروس وإمكانية نقلها للمرض إلى ماشيتها ، رغم عدم وجود أية أعراض عندها. ولهذا فإن البياطرة يعتقدون أن أفضل طريقة لإيقاف انتشار الحمى القلاعية هو قتل قطيع الحيوانات المصابة وحرقها ، وعزل المزارع المصابة بهذا المرض. وهذا هو مربط الفرس ، فالنيوليبراليّة الشرسة والمتوحّشة تهدف أساسا إلى ضرب القاعدة الإنتاجيّة للعائلات الرّيفيّة من أجل ربطها كلّيا بآليّات السّوق وهو ما سنعود للتأكيد عليه لاحقا عند الحديث على أنفلونزا الطّيور.
و رغم تحذير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ( الفاو ) عند ظهور المرض من أن الحمى القلاعية قد تصيب دولا عديدة في مختلف أنحاء العالم حيث دعت المنظمة إلى فرض قيود أشد على المهاجرين والسياح الذين يزيدون من مخاطر إنتشار المرض نظرا لسهولة إنتقال الفيروس إلاّ أنّ هذا المرض الفيروسي عبر الحدود بسرعة كبيرة وإنتشر في الأغلبيّة السّاحقة من بلدان العالم. هذا المرض مازال موجودا إلى اليوم (ونحن في شهر مارس 2006) بالعديد من الدّول الآسيويّة (بنغلاداش ، تايلندا ، الفلبين...) وقد قضى على مئات الآلاف من الحيوانات وخاصّة في المزارع العائليّة التي تمثّل الرّكيزة الأساسيّة لتربية الحيوانات في إفريقيا وآسيا خاصّة وحيث أنّ عدد السكّان في هاتين القارّتين يمثّل أكثر من نصف سكّان العالم فلكم أن تتصوّروا حجم المأساة الإقتصاديّة وحتّى الإجتماعيّة في هذه المنطقة من العالم. وللتأكيد على ما نقول صرّح الدكتور بيتر رودر خبير الصحّة الحيوانيّة لدى منظّمة الأغذية والزّراعة قائلا : «على سبيل المثال فإن عدداً كبيراً من المزارعين في جنوب شرقي آسيا يعتمدون على الجاموس في عمليات إعداد الأراضي لزراعة الأرز. وبدون هذه الحيوانات فإن المزارع قد يفقد ما يصل إلى نصف إنتاجه من الأرز. وقبل بضعة أعوام أشارت حساباتي إلى أن إحدى جائحات الحمى القلاعية في كمبوديا كلَّفت الأسرة الزراعية المتوسطة نحو 60 دولاراً ، وهو ما يزيد على دخلها السنوي المتاح للإنفاق».
نمرّ الآن للحديث عن أنفلونزا الطّيور لأنّ حدود هذا المقال لا تتّسع إلى جرد كلّ الأمراض العابرة للحدود التي ظهرت في عصر العولمة الليبراليّة والتي تصيب الإنسان والحيوان على حدّ السّواء حيث نتذكّر جيّدا أيضا مرض "السّارس" (SARS) أو "السراس" (SRAS : Syndrome respiratoire aigu sévère) الذي سبّب حالة من الهلع على مستوى العالم حيث أصبح الأشخاص لا يتنقلون إلاّ بالكمامات الواقية خاصّة وأنّ المرض ناتج عن فيروس يتنقّل بسرعة البرق بين الأشخاص.
مرض آخر أصبح حديث أجهزة الإعلام ظهر هذه الأيّام في بعض الجزر الإفريقيّة وخاصّة جزيرة "ريينيون" (Ré-union-) المستعمرة من طرف فرنسا ، جزر موريس ، جزيرة السيشل ومدغشقر وتم كذلك الإبلاغ عن هذا الداء في جنوب شرق آسيا وجنوب الهند وباكستان حيث تنقّل مرض ذو إسم غريب هو مرض شيكونغونيا (Chikungunya) بسرعة البرق بين الجزر المذكورة.
وينتقل داء شيكونغونيا، وهو مرض فيروسي (لاحظوا بأنّ كلّ الأمراض التي تحدّثنا عنها ما عدى جنون البقر هي أمراض فيروسيّة والمعروف أنّه سهل جدّا خلق الفيروسات في المخابر) ، إلى البشر عن طريق البعوض وهو من جنس الزاعجة المصرية في العادة ولكن هناك أجناساً أخرى من البعوض يمكنها أيضاً نقل المرض. وينحدر اسم شيكونغونيا من اللغة السواحيلية ويعني "المشي منحنياً" ويعكس ذلك حالة المرء المصاب بالمرض.
-;- أنفلونزا الطّيور : هل هو مرض مستحدث ؟
لقد تحدّثنا آنفا على الثورة البيوتكنولوجيّة وثورة الهندسة الوراثيّة التي أدّت إلى تمكّن مخابر البلدان الرأسماليّة التي تقف وراءها الشّركات متعدّدة الجنسيّات إلى التّلاعب بالجينات والأنسجة وبالتّالي قدرتها اللاّمحدودة على فعل ما تريد ، أي أنّ المخابر قادرة على إستحداث الفيروسات وبالتّالي خلق الأمراض التي تخدم مصالحها لإنتاج المضادّات اللاّزمة وبيعها بأثمان خياليّة. هذه الوضعيّة نجدها متفشيّة بكثرة في مجال الإعلاميّة والإنترنات فالكلّ يعلم بأنّ هناك العديد من الشّركات التي تصنع فيروسات تصيب الحواسيب والأنظمة المعلوماتيّة ثمّ تقوم بعد ذلك بصنع مضادّات لتلك الفيروسات لبيعها وبالتّالي تحقّق أرباحا طائلة من خلال هذه العمليّات القذرة. لذلك فإنّنا نجزم بأنّ مرض أنفلونزا الطّيور هو مرض مستحدث أو مبتكر(Une maladie provoquée) هدفه الأوّل والأخير كما أسلفنا الذكر هو ضرب القاعدة الإقتصاديّة للعائلات الريفيّة في مختلف أنحاء العالم. فالعولمة الليبراليّة إنبنت على سياسة جديدة (بعد إنتهاء الحرب الباردة التي كانت ترتكز على سياسة الإعتراض (Politique d’endiguement) لمحاولة التصدّي للزحف الشيوعي في العالم) سمّيت بسياسة التوسّع (Politique d’élargissement) أي توسيع نفوذ إقتصاد السوق. ففي عصر العولمة لم يعد رأس المال (عن طريق السّياسات التي يفرضها والآليّات التي يمتلكها) يسمح بأيّ نشاط خارج السّوق. فسياسة التوسّع لا تعني فقط أن يشمل السّوق كلّ الأنشطة بما فيها الأنشطة الإجتماعيّة وسلعنتها (Marchandisation) وإنّما التوسّع يعني أيضا ، بالنّسبة للرأسماليّة المنفلتة من تحت عقّالها ، أن لا يوجد أيّ إنسان أو مجموعة أو دولة خارج السّوق.
فلم تعد الرأسماليّة تسمح ببقاء الإقتصاد العائلي أو الإقتصاد الإجتماعي كما يسمّيه البعض في عصر العولمة الذي تسيطر فيه الشّركات متعدّدة الجنسيّات حتّى على الهواء الذي نتنفّسه يعمل حسب آليّاته وإستراتيجيّاته الخاصّة به. لذلك أجزم بأنّ الرأسماليّة التي تعلم جيّدا أنّ الإقتصاد العائلي في البلدان المتخلّفة ينبني أساسا على تربية الحيوانات وخاصّة الدّواجن (الذي لا يتطلّب ، خلافا للنّشاط الزّراعي ، وجود قطعة أرض عادة ما يفتقر لها الفلاّحون الفقراء لزراعتها) حيث أنّ تربية الدّواجن في البلدان الآسيويّة والإفريقيّة تقع بين 50 و80 % في المزارع العائليّة ، قرّرت القضاء على هذا النّشاط بخلق فيروس أنفلونزا الطّيور والقيام بحملة إعلاميّة غير مسبوقة في تاريخ البشريّة في حين أنّ هذا المرض لم يقتل إلى حدّ الآن إلاّ بضع عشرات من الأشخاص في العالم بينما توجد أمراض أخرى تقتل عشرات الملايين من النّاس لم تلقى حظّها من الدّعاية من أجل مقاومتها والقضاء عليها. فالرأسماليّة من خلال إستراتيجيّتها هذه تضرب عصفورين بحجر واحد : على المدى القريب تبيع كمّيات كبيرة من الأدوية (رغم أنّها غير فعّالة في مقاومة المرض) حيث طلبت عشرات الدّول كمّيات كبيرة جدّا من الأدوية بمبالغ خياليّة (نضيف أيضا بأنّ دونالد رامسفيلد وزير الحرب الأمريكي يملك أسهما في إحدى أكبر المخابر التّي تقوم بتصنيع دواء مضاد لأنفلونزا الطّيور) وعلى المدى المتوسّط والبعيد تصبح تربية الدّواجن صناعة بأتمّ معنى الكلمة (من التربية في المداجن العصريّة إلى الذبح في المسالخ إلى البيع في شكل معلّب) تعوّض التربية التقليديّة العائليّة الحاليّة.
ويتّضح ذلك جليّا من خلال الحلّ "السّحري" الذي تقدّمه أجهزة الدّعاية الرأسماليّة والمنظّمات العالميّة التي تخدم السّياسات الإمبرياليّة (منظّمة الأغذية والزّراعة ، منظّمة الصحّة العالميّة ، المنظّمة العالميّة لصحّة الحيوان ، المنظّمة العالميّة للتّجارة...) حيث تؤكّد أنّه للقضاء على مرض أنفلونزا الطّيور يجب القضاء على كلّ الدّواجن التي تربّى بشكل تقليدي. وعلى سبيل الذكر لا الحصر وقع القضاء على 120 مليون طير في ظرف 3 أشهر في 4 بلدان آسيويّة فقط (الصين ، الفيتنام ، كمبوديا وتايلندا) بين ديسمبر ومارس من سنة 2003 بينما وقع القضاء على مليون ونصف طير في هونغ كونغ في ظرف 3 أيّام فقط (بين 29 و31 ديسمبر 2003) ، لاحظوا حجم الكارثة الإقتصاديّة.
نفس هذه السّياسة تطبّقها مصر حاليّا حيث صرّح الوزير الأوّل المصري منذ أيّام عندما وصل المرض إلى مصر بأنّ الحكومة المصريّة قرّرت وضع حدّ للتربية التقليديّة والعائليّة للدواجن ولن يسمح مستقبلا إلاّ للمزارع العصريّة التي تحصل على رخصة للقيام بهذا النّشاط. طبعا هذا ليس قرارا للحكومة المصريّة إتّخذته عن إقتناع أو لضرورة (تماما مثل القرار الذي إتّخذته الدول الآسيويّة التي تحدّثنا عنها) وإنّما هو تطبيق حرفيّ لتوصيات المنظّمات التي تسير في ركاب الإمبرياليّة التي أشرنا لها آنفا. حيث نقرأ في الإستراتيجيّة التي أصدرتها المنظّمة العالميّة للصحّة في شهر أوت من سنة 2005 تحت عنوان "الإجراءات الاستراتيجية الموصى بها ، ترصد الأمراض السارية والاستجابة لمقتضياتها: البرنامج العالمي لمكافحة الأنفلونزا" ما يلي : «أعطيت الأولوية للتدخلات في نظام الزراعة الريفي في الأفنية، وفي الأسواق الشعبية للمنتجات الطازجة، حيث ُتباع الدواجن الحية غالبًا في ظروف من الاكتظاظ وانعدام الصحّة (...) فرض رقابة على حركة الحيوانات والسلع وإعادة هيكلة صناعة الدواجن في بعض البلدان (...) وتعترف الاستراتيجية اعترافًا تامً ا بأن مكافحة المرض في أسراب الطيور التي تعيش في الأفنية الريفية ستكون أصعب تحدٍ في هذا الصدد ويساعد الدعم القوي المقدم من قطاع الصحة، مثلما أعربت عنه منظمة الصحة العالمية، على تجميع الإرادة السياسية من أجل مواجهة هذا التحدي». فماذا تعني عبارات مثل إعادة هيكلة صناعة الدّواجن أو تجميع الإرادة السّياسيّة من أجل مواجهة هذا التحدّي غير تأكيد صدق ما ذهبنا إليه ؟
أمّا لماذا نجزم بأنّ هذا المرض مستحدث وإضافة إلى ما ذكرناه من أسباب تجعلنا نطرح هذه الفرضيّة فهو ما ورد بصحيفة ساندي تايمز البريطانية المشهورة في عددها الصادر يوم 16 تشرين الثاني 1998 من معلومات عما أسميت ب (قنبلة إسرائيل العرقية) حيث أكّدت أنّ العلماء الصهاينة يحاولون التعرف إلى جينات خاصة يحملها العرب وذلك لاستخدامها في تخليق فيروسات وبكتيريا خطرة مهندسة وراثياً بحيث لا تهاجم إلا هذه الجينات وأشارت الصحيفة إلى أن برنامج القنبلة العرقية يجري داخل معهد (نسن تسيونا) السري قرب تل أبيب والمتخصص بإنتاج الأسلحة الكيميائية والبيولوجية وقد عادت مجلة ساندي تايمز في عدد تشرين الأول 1999 إلى التأكيد على أن الكيان الصهيوني يعزز خطواته العلمية باتجاه القنبلة العرقية.
وقد ذهب معن عاقل شعبان أحمد في مقال له بجريدة "قاسيون" الإلكترونيّة النّاطقة بإسم الشيوعيين السّوريين بتاريخ 1 فيفري 2006 إلى حدّ أن عنون مقاله بـ أنفلونزا الطّيور قنبلة إسرائيليّة حيث كتب يقول : « هل الفيروس الذي وقع عليه اختيار الصهاينة ليكون (قنبلة إسرائيل العرقية) هو انفلونزا الطيور؟‏ ربما سارع البعض إلى القول : لكن هذا الفيروس إنما ظهر أولاً في شرقي وجنوب شرقي آسيا منذ عام 2003 ولم ينتقل إلى آسيا الصغرى (تركيا) إلا في عام 2006 وهي ملاحظة صحيحة ولكنها لا تمنع من التفكير أن البدء من تلك المنطقة البعيدة كانت له دوافع منها:‏ 1. اختبار الفيروس في تأثيره على الجينات العرقية الخاصة بالعرق الأصفر الآسيوي وهو عرق يتميز بدرجة عالية من التخصص كما أنه -وخاصة في الصين- يشكل القوة المستقبلية الصاعدة في مواجهة التفرد الأميركي بالسيطرة على العالم ولابد لنا هنا من التذكير أن فيروس الإيدز قد ابتكر ليكون (القنبلة العرقية) ضد السود ولكن بعد إطلاقه طال بأذاه بعض البيض وإن كان بنسبة أقل.‏ 2. يشكل المجتمع الأندونيسي بالذات حقل اختبار ملائم لتأثير الفيروس على الأعراق بما فيها تلك التي تعود إلى أصول عربية إذ أنّ جزءاً مهماً من الشعب الأندونيسي هم من أصول عربية يمنية أو اختلطوا بالتزاوج مع العرب.‏ 3. قد يكون الهدف من اختيار الموقع الآسيوي البعيد لظهور الفيروس هو التمويه على الحقيقة بلفت الأنظار إلى مكان النشأة البعيد واعتبار انتقاله بواسطة الطيور مسألة طبيعية».
‏على كلّ أعتقد شخصيّا بأنّ الإمبرياليّة تستعمل رأس حربتها الصهيونيّة لتنفيذ مشاريعها ولا أستبعد أنّ الصهونيّة هي من يقف وراء هذا المشروع بحكم الخبرة التي كسبها الصّهاينة والأبحاث التي يقومون بها بدون رقابة ولا وصاية في مجالات البحوث النّوويّة والأسلحة الجرثوميّة والكيمياويّة وربّما أسلحة أخرى لم نسمع بها بعد بإعتبار وأنّ لا مجلس الأمن ولا الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة ولا أي هيكل أممي أو دولي آخر يستطيع فرض رقابة على الصّهاينة ، فهم الإبن المدلّل للإمبرياليّة العالميّة يفعلون ما يشاؤون وقرّرون ما يريدون. لكنّني أعتبر أنّ المشروع قصير الأمد هو ، كما ذكرت آنفا ، القضاء على الدّواجن التي تمثّل القاعدة الإقتصاديّة للمزارعين الفقراء في آسيا وإفريقيا حيث يوجد حوالي ثلثي سكّان العالم. أمّا إستعمال هذا الفيروس لإستهداف الإنسان أو العرب مثلما تحدّثت جريدة سانداي تايمز فلا أعتقد أنّه الأولويّة لدى الإمبرياليّة والصهيونيّة في الوقت الحاضر.
-;- ما هو مرض أنفلونزا الطّيور ؟
هو مرض فيروسي يصيب أغلب أنواع الطّيور الدّاجنة منها والبرّية كما يمكن أن يصيب أنواعا أخرى من الحيوانات (الخنزير ، الحصان ، النمر وأخيرا ظهرت إصابات لدى القطط). وأنفلونزا الدّجاج أو أنفلونزا الطّيور هو مرض ناجم عن فيروس من فئة "ألف" (A) وهو يتكوّن من بروتينين إثنين (2 protéines) "إتش" (H) وهو الحرف الأوّل من الكلمة اللاّتينيّة (Hémagglutinine) ويحتوي على 15 نوعا (H1 à H15) و"إن" (N) وهو الحرف الأوّل من الكلمة اللاّتينيّة (Neuraminidase) ويحتوي على 9 أنواع (N1 à N9). يتواجد هاذين البروتينين على السطح الخارجي للفيروس ولكلّ منهما دور ، فالبروتين "إتش" (H) مسؤول على دخول الفيروس إلى الخلايا ليقوم بعمليّة التّكاثر أمّا البروتين "إن" (N) فهو مسؤول على خروج الفيروس من الخلايا بعد إصابتها والبحث عن حاضن جديد.
ويعتبر الفيروس الذي ظهر منذ سنة 1997 في هونغ كونغ هو من نوع "إتش 5 إن 1" (H5 N1) من أخطر أنواع فيروسات أنفلونزا الطّيور التي بدأت للظهور منذ سنة 1889 حيث وجد فيروس من نوع "إتش 3 إن 8" (H3 N8) أمّا سنة 1918 فقد ظهر فيروس من نوع "إتش 1 إن 1" (H1 N1) وسنة 1957 ظهر فيروس من نوع "إتش 2 إن 2" (H2 N2) بينما كان آخر فيروس ظهر سنة 1968 ، قبل الجائحة الحاليّة ، هو من نوع "إتش 3 إن 2" (H3 N2).
يتنقّل هذا الفيروس بين مزرعة وأخرى عبر تنقّل الطّيور والأشخاص (عندما تكون ملابسهم ملوّثة) ووسائل النقل والتجهيزات والآليّات وغيرها من الأدوات الملوّثة بالفيروس. والمعروف أنّ الفيروس الحالي "إتش 5 إن 1" الخطير قادر على البقاء لمدّة طويلة في البيئة وخاصّة في درجة حرارة منخفظة : حوالي 35 يوما في درجة حرارة تساوي 4 درجات أمّا في درجة الحرارة المرتفعة (37 درجة) فهو قادر على العيش لمدّة 6 أيّام فقط (هذه النقطة تلعب لصالح دول الجنوب مثل تونس).
أمّا أعراض هذا المرض التي ظهرت لدى الأشخاص الذين أصيبوا به منذ سنة 1997 (حوالي 170 شخص توفّي منهم حوالي 100) فتتمثّل في الرشح ، السّعال ، إلتهاب الأنف والعينين ، صعوبة التنفّس ، الإحساس بالإعياء ، الألم في العضلات وخاصّة الحرارة الشّديدة أمّا حين يتقدّم المرض فتضاف إلى هذه الأعراض أعراض أخرى مثل الإسهال والقيء وسيلان الدّم من الأنف واللثّة.
هل يمكن أن يتطوّر هذا المرض ويصبح جائحة تصيب البشر ؟
نظرًا للطابع المتغير باستمرار الذي تتسم به فيروسات الأنفلونزا لا يمكن التنبؤ بتوقيت حدوث الجائحة ومدى شدتها. ويمكن أن تحدث الخطوة النهائية أي القدرة على الانتقال بين البشر، عن طر يق آليتين رئيسيتين، وهما حدوث إعادة التفارز، وهي عملية يتم فيها تبادل المادة الجينية بين فيروسات البشر و فيروسات الطيور أثناء العدوى المشتركة لإنسان أو خنزير، أو من خلال عملية أكثر تدرجًا من عمليات الطفرة التكيفية والتي تزيد من خلالها قدرة هذه الفيروسات على الارتباط بالخلايا البشرية أثناء حالات العدوى اللاحقة لدى البشر.
إنّ الخطر الكبير إذا هو إصابة الخنزير بهذا المرض لذلك فإنّ الخبراء يتابعون بإهتمام كبير هذا المرض في آسيا بإعتبار تواجد الخنازير بكثرة وخاصّة داخل المزارع الرّيفيّة.
وإذا عدنا إلى التّاريخ نجد أنّه وقع تسجيل ثلاث جوائح رغم ظهور هذا المرض حوالي 14 مرّة منذ سنة 1889 تاريخ تحديد المرض لأوّل مرّة.
فالجائحة الأولى ظهرت سنة 1918 وعرفت بأنفلونزا إسبانيا رغم أنّها ظهرت تقريبا في كلّ بلدان أوروبا وقتلت بين 40 و50 مليون شخص (على سبيل المقارنة لم تقتل الحرب العالميّة الأولى إلاّ حوالي 8 ملايين شخص) ، الجائحتان الثّانية والثالثة ظهرتا سنتي 1957 و1968 وقتلتا حوالي مليوني شخص في كلّ مرّة فقط ويعزى الفارق في عدد الموتى بين الجائحة الأولى والجائحتين الثّانية والثّالثة ، حسب الخبراء ، إلى تطوّر النّظام الصحّي في العالم (تزامنت الجائحة الأولى مع الحرب العالميّة الأولى حيث كانت كلّ بلدان أوروبّا الغربيّة موجّهة جهودها إلى الحرب). وطبعا ظهور المرض في بداية القرن الواحد والعشرين ، وحتّى في حال تطوّر الفيروس ليصبح معدي بين البشر ، يجعلنا مطمئنّين نوعا ما نظرا للتطوّر الكبير للأنظمة الصحّية في بلدان العالم رغم الإختلافات الكبيرة بين البلدان الرأسماليّة والبلدان المتخلّفة سواء على مستوى الموارد الماليّة المخصّصة لمواجهة الجائحة أو على مستوى تصنيع الأدوية وتخزينها ونقاط الضعف الأخرى الموجودة في عصر العولمة الليبراليّة حيث تتمثّل نقطة الضعف الرّئيسيّة في ضعف نظام الإنذار المبكر حيث لابد من وجود نظام إنذار مبكر حساس لكشف أول علامة للتغيرات في سلوك الفيروس . وفي البلدان المعرضة للخطر يوجد ضعف في نظم المعلومات الخاصة بالأمراض وفي القدرات الصحية والبيطرية والمختبرية. ولا يمكن لأشد البلدان تضررًا أن تعوض بشكل كافٍ المزارعين عن إعدام دواجنهم كحلّ للتصدّي للمرض (الحل السحري الذي إقترحته كما ذكرنا المنظّمات الدوليّة الواقعة تحت سيطرة البلدان الإمبرياليّة) مما يثنيهم عن التبليغ عن الحالات التي تقع في المناطق الريفية حيث حدثت الغالبية العظمى من حالات الإصابة بين البشر. وكثيرًا ما تخفق خدمات الإرشاد البيطري في الوصول إلى هذه المناطق ويؤدي الفقر الريفي إلى تواصل السلوكيات المنطوية على مخاطر شديدة ، بما في ذلك ما هو معتاد من التعايش مع الطيور المريضة وذبحها واستهلاكها في المنزل. كما يواجه تشخيص حالات الإصابة بين البشر عقبات بسبب ضعف الدعم المختبري وتعقيد عملية الفحص وخاصّة ارتفاع تكاليفها (على سبيل المثال في الفيتنام تمثّل نفقات الصحّة لكلّ مواطن واحد مبلغ 8 دولارات في السّنة بينما تتكلّف عمليّة فحص شخص واحد للتثبّت من إصابته بأنفلونزا الطّيور نفس المبلغ أي 8 دولارات أي أنّ الدولة تنفق المبلغ الذي من المفروض أن تنفقه على المواطن الفيتنامي طيلة سنة كاملة في مرّة واحدة ولكم أن تتصوّروا النّتيجة). ولدى عدد قليل من البلدان ا لمتضررة ما يلزم من الموظفين والموارد من أجل تقصي حالات الإصابة بين البشر تقصيًا شاملا. وفي كل البلدان المتضررة تقريبًا يوجد عجز كبير في إمدادات الأدوية المضادة للفيروسات علما وأنّ أكثر دواء مستعمل حاليّا لمقاومة أنفلونزا الطّيور (رغم أنّه ليس دواءا فعّالا ولا يمكن أن يلعب دورا وقائيّا : Vaccin) هو دواء "أوزلتميفير" (Oseltamivir) الذي يباع تحت إسم "تاميفلو" (Tamiflu) ولا يؤدّي هذا الدّواء فاعليّته إلاّ إذا وقع تطعيم المصاب بالمرض في ظرف 48 ساعة من ظهور الأعراض وإلاّ فإنّ فاعليّته تصبح منعدمة.
كما أنّ خمس بلدان العالم فقط ، حسب المنظّمة العالميّة للصحّة ، لديها شكل ما من خطط مواجهة الجائحة في حال حدوثها حيث ما زال الحصول على الأدوية المضادّة للفيروسات يمثّل مشكلة كبرى بسبب محدوديّة القدرة على صنعها وخاصّة بسبب تكاليفها المرتفعة أيضا. طلب نحو 23 بلدا فقط الحصول على الأدوية من أجل المخزونات الإحتياطيّة الوطنيّة (ولا ندري إن كانت تونس من بين هذه البلدان).
هل يمكن أن يصل هذا المرض إلى تونس ؟
لا توجد دولة واحدة في العالم مهما كانت عظمتها قادرة على حماية حدودها من الطّيور المهاجرة. فلا شرطة الحدود ولا الدّيوانة ولا الجيش ولا حتّى الحواجز الإلكترونيّة (المستعملة في الحدود الجنوبية للولايات المتحدة الأمريكية) بإمكانها أن تمنع الطّيور المهاجرة من الدخول أو الخروج. لكن ليس بالضّرورة أن يصل المرض إلى كلّ بلدان العالم وتونس إلى حدّ كتابة هذا المقال لم تسجّل فيها حالة مرض حسب تصريح السّلط المختصّة ، غير أنّني لا أستغرب وصول المرض للأسباب التي ذكرتها.
لكنّني أريد أن أؤكّد أنّني شخصيّا لا أتألّم فقط لوفاة شخص ما في تونس (في حال إنتقال المرض إلى قطرنا وإصابته للإنسان) ولكنّني أتألّم أيضا كلّما أسمع بوفاة أي شخص في أيّ مكان في العالم خاصّة وأنّ الذين أصبوا بمرض أنفلونزا الطّيور منذ ظهوره سنة 1997 إلى اليوم هم العمّال الفلاحيين المستغلّين (بفتح الغين) أوالفلاّحين الفقراء ولم تحمل لنا الأنباء وفاة أيّ صاحب ضيعة إقطاعي أو رأسمالي.
وأريد أن أستغلّ الفرصة للإشارة إلى الومضات الإشهاريّة التي نشاهدها هذه الأيّام وخاصّة في التلفزة التّونسيّة. فهذه الومضات وإن أتت متأخّرة جدّا بعد أشهر عديدة من ظهور المرض ، وكأنّها أتت لحلّ المشكل الإقتصادي بعد الخسارة الكبيرة التي شهدها قطاع الدّواجن نتيجة عزوف التونسيين عن إستهلاك الدّجاج ، أراها موجّهة لسكّان المدن ولا تأخذ بعين الإعتبار بالمرّة سكّان الرّيف المعنيين أكثر من غيرهم بمرض أنفلونزا الطّيور. إضافة إلى الثّقة شبه المفقودة بين التلفزة والجماهير الشعبيّة في تونس والتي يطول شرح أسبابها ، والتي زادت الطّين بلّة.
فالومضات التي تقدّم لنا البياطرة وهم يردّون على المكالمات الهاتفيّة خير على دليل على ما نقول ، فهل يعرف سكّان الرّيف ما معنى الخطّ الأخضر ؟ وهل يملك سكّان الرّيف الهاتف في منازلهم ؟ ولماذا لا تعتمد ومضات ترتكز على الصّورة تكون أبلغ في تقديم المعلومة لسكّان الرّيف حيث توجد نسبة عالية من الأمّية مثل الومضات التي تقدّمها التلفزة المصريّة ؟ فشخصيّا أعجبتني ومضات التلفزة المصريّة التي تظهر على سبيل المثال كيفيّة طبخ الدّجاجة في درجة حرارة تقضي على الفيروس إعتمادا على الصورة فقط.
لماذا أردت التركيز على سكّان الرّيف لأنّ مرض أنفلونزا الطّيور في صورة دخوله إلى تونس سيكون أخطر على التربية التقليديّة للدّجاج (ما يعرف في تونس بالدّجاج العربي) بإعتبار وأنّ العدوى تقع عبر الطّيور المهاجرة والتي لا يمكنها بحال من الأحوال (أو لنقل مستبعد جدّا) أن تكون في إتّصال بالدّواجن التي تقع تربيتها داخل المداجن العصريّة التي تمثّل تقريبا 80 % من نشاط تربية الدّواجن في تونس خلافا لما هو موجود في آسيا حيث العكس هو القاعدة.
المسألة الثانية التي أريد التأكيد عليها (وأنا هنا أقوم بدور الإرشاد الفلاحي بعيدا عن طريقة بينور سيّء الصّيت) هي أنّ المرض لا ينتقل إلاّ من الحيوان المريض إلى الإنسان (إلى حدّ الآن) الذي يباشره (عامل فلاحي أو صاحب المزرعة) وخلافا لجنون البقر فإنّ إستهلاك لحم الطير المريض (إذا كان مطهيّا) لا يسبّب المرض بإعتبار وأنّ الفيروس يموت في درجة حرارة تساوي 60 درجة. كما أنّ إستهلاك البيض لا يمثّل أيّ خطر بالمرّة بإعتبار وأنّ الطير المريض لا يبيض بتاتا. كلّ هذا يجعلني أؤكّد على أنّه في صورة وصول المرض إلى قطرنا فإنّني أقف إلى جانب من يرفض أن يقع تطبيق الحلّ السحري (الذي لا يوجد تبرير علمي له وإنّما سببه رأسمالي بحت) الذي إقترحته المنظّمات الدوليّة التي تحدّثنا عنها والمتمثّل في قتل كلّ الطّيور حتّى وإن لم تكن مصابة. لأنّني بكلّ بساطة أرفض أن يقع مزيد تفقير الفقراء. والحل يكمن في محاصرة المرض في المكان الذي يظهر فيه وإتخاذ الإحتياطات اللازمة لعدم تنقله إلى خارج ذلك المكان.
في الختام أقول بأنّني شخصيّا متفائل بعدم حدوث جائحة تصيب الإنسان حتّى وإن تطوّر الفيروس لتصبح إصابة الإنسان واردة من طرف إنسان مريض آخر. وأتمسّك بموقفي المتمثّل في أنّ هذا المرض المستحدث له أسباب إقتصاديّة فإلى جانب ما تحدّثنا عنه وركّزنا عليه في خصوص السعي المحموم للرأسماليّة المنفلتة من تحت عقّالها في ضرب القاعدة الإقتصاديّة للفلاّحين الفقراء في الريف بغية ربطهم النّهائي بالسوق الرأسمالي وقوانينه وآليّاته ، هناك نتيجة ثانية ظاهرة للعيان وتتمثّل في الخسارة الإقتصاديّة التي حصلت أو ستحصل لأشباه المستعمرات (وهي أيضا نتيجة إقتصادية سعت إليها الرأسماليّة) حيث تمكّن من مزيد ربط تلك البلدان بالرأسماليّة العالميّة عبر القروض التي تفرضها الصّناديق الماليّة النهّابة وما يتبعها من مزيد تجذير الإستعمار الجديد. فعلى سبيل الذكر لا الحصر خسرت تايلندا ، نتيجة تفشّي مرض أنفلونزا الطّيور ، 1,2 بليون دولار سنة 2004 فقط من النّاتج الداخلي الخام بينما خسرت بعض بلدان آسيا التي ظهر فيها المرض (تايلندا ، هونغ كونغ ، فيتنام ، الصين ، أندونيسيا) لنفس الفترة مبلغا ضخما تراوح بين 10 و15 بليون دولار.
سؤال لا بدّ منه : لماذا تفشّت الأمراض العابرة للحدود في عصر العولمة الليبراليّة ؟
إنّ الإجابة بكلّ بساطة تتمثّل في تخلّي الدولة عن دورها (Désengagement de l’Etat)
على إثر تطبيق برامج الإصلاح الهيكلي. هذه الدولة التي تدفعها رياح الليبراليّة نحو دولة الحدّ الأدنى (Minimum d’Etat).
ثلاث نتائج على الأقل أصبحت الميزة الخاصّة للسّياسات الفلاحيّة في عصر العولمة الليبراليّة :
-;- تفكيك هياكل الرّقابة والمتابعة وهو ما فتح الباب واسعا أمام الجشع الرأسمالي لفعل ما يشاء لتمويل أرصدته التي لا تشبع حيث لم يكن لمرض مثل جنون البقر أن يظهر لو لم يقع تفكيك هياكل الرّقابة.
-;- تخلّي الدولة عن دورها في مجال الإرشاد الفلاحي حيث أصبح هذا النّشاط يمثّل حقّا "عقب أخيل" (Le talon d’Achille) إي نقطة ضعف السّياسات الفلاحيّة في البلدان المتخلّفة. فالأغلبيّة السّاحقة من الدّول الثّمانين التي تطبّق برامج الإصلاح الهيكلي المملاة من طرف الصّناديق الماليّة النهّابة (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي) ، خصخصت كليّا أو جزئيّا نشاط الإرشاد الفلاحي أو هي في طريق الخصخصة أو في حالات أخرى تطبّق "طريقة بينور" للإرشاد وهي طريقة تؤدّي تقريبا إلى نفس النّتيجة. فالمعروف أنّ "بينور" هذا هو صهيوني مختصّ في الإرشاد الفلاحي إختلق طريقة للإرشاد حملت إسمه لكنّها أظهرت محدوديّتها أينما طبّقت بل هي غير قابلة للتطبيق أحيانا بإعتبار وأنّها تعتمد على إعطاء الأوامر وزملاء بينور في البنك العالمي سمّوها "طريقة الجنرال" (تشبيها للجنرال في الجيش الذي يعطي الأوامر دون أن يناقش) ، لكن رغم كلّ ذلك فإنّ البنك العالمي يحاول فرضها على البلدان التي تطبّق برامج الإصلاح الهيكلي.
-;- مزيد تفقير الفلاّحين في الأرياف ، هؤلاء الفلاّحون الذين لم يعودوا قادرين على الرّعاية الصحّية لحيواناتهم. فلاهم قادرين على دفع ثمن الفحص الذي يقوم به البياطرة الخواص ولا هم قادرين على شراء الأدوية من الصيدليّات لمداواة الأمراض التي تصيب حيواناتهم والتي تكاثرت بشكل لافت للإنتباه خاصّة في ظلّ تخلّي الدول عن دورها في القيام بالحملات الصحيّة التي كانت تقوم بها لتلقيح الحيوانات ضدّ الأمراض الخطيرة والمعدية.
فقد أكّدت دراسة قامت بها في السّنة الفارطة المنظّمة العالميّة لصحّة الحيوان في بعض البلدان الإفريقيّة والآسيويّة أنّ البلدان المعنيّة تخلّت على حوالي ثلثي عمليّات التلقيح ضدّ الأمراض التي كانت تقوم بها إلى حدود بداية التسعينات وهو ما يفسّر تفشّي الأمراض وسرعة تنقّلها بين القطعان.
هذا هو إذا جوهر العولمة الليبراليّة التي لن تقود إلاّ إلى تفقير الإنسان وتدمير البيئة.



#عبدالله_بنسعد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل إنتهى حزب البعث في العراق ؟ : لماذا يرفض حزب البعث التندي ...
- بين حزب البعث في العراق و-داعش- وبين الحقائق على الأرض والتض ...
- دستور 2014 : خدعة جديدة للعمّال وعموم الشعب وإنقلاب على مطال ...
- العولمة والتعليم في تونس : سلعنة المدرسة خدمة لرأس المال ، م ...
- في الذكرى 56 لإصدار مجلة الأحوال الشخصية بتونس : المطلوب مسا ...
- ميزانية 2012 : ميزانية تفقير المفقّرين والتخلي عن -السيادة ا ...
- على هامش الإنتخابات الرئاسية الفرنسية : لا علاقة لفرنسوا هول ...
- المشروع الفلاحي السويسري بالصحراء التونسية : هل هو حقا لإنتا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- غرّة ماي مابين سنتي 1886 و1889 من إنتفاضة العمّال بشيكاغو إل ...
- الأهداف الإستراتيجية للحرب على الإرهاب
- الأهداف الإستراتيجية للحرب الإمبرياليّة على العراق (الجزء ال ...


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عبدالله بنسعد - من جنون البقر إلى أنفلونزا الطّيور : مسار العولمة الليبراليّة المدمّرة