|
حكاية حرامي من ادلب
أحمد الحاج علي
الحوار المتمدن-العدد: 1302 - 2005 / 8 / 30 - 07:55
المحور:
كتابات ساخرة
حتى أوائل السبعينات من القرن الماضي . كان المكان الذي شيد عليه القصر العدلي وبناء المحافظة في مدينة ادلب ساحة ترابية عامة واسعة يلعب فيها أطفال البيوت التي حولها . وقد بقيت هذه الساحة عشرات السنوات بدون استخدام إلى أن بدأ محصول القمح في سورية – أواخر الستينات من القرن الماضي – يعطي الفلاح ضعف ما كان يعطيه الدونم الواحد بسبب تحسن بذور الأقماح واستيراد البعض منها مثل الاقماح المكسيكية ، ونظرا لوفرة المحاصيل في تلك الفترة ، فقد اضطر مكتب الحبوب في محافظة ادلب إلى وضع جزء من الاقماح المسلمة إليه في الساحة المذكورة على شكل أكداس هرمية ، يحوي الواحد منها من ألفين إلى ألفين وخمسمائة شوال ، تغطى بشوادر لحمايتها من المطر والشمس ، ويتم حراسة هذه الأكداس ليلا ونهارا إلى أن يتم شحنها على فترات متقطعة للاستهلاك أو التصدير . وكان إلى الجنوب من الساحة التي وضعت عليها الأكداس ، حي شعبي لا يبعد عنها سوى أمتار قليلة ، أحدهم ولنسمه أبا محمود كانت داره مواجهة لأحد الأكداس ، وكان فقيرا معدما ، يعتاش من عمله كبائع خضرة على عربة بثلاثة دواليب . يدفعها أمامه قاصدا ساحة الخضرة بعد طلوع الفجر من كل يوم ، وكان حين يمر بجانب الأكداس ، عابرا بعربته إلى الطريق الرئيسي . يلحظ أن لا حراس يتجولون حول الأكداس ، بل كان في بعض المرات يتلكؤ في دفع العربة ، فيركنها بجانب الطريق متظاهراً بتفقد دواليبها . عله يرى أحد الحراس ، فيرتد بصره مطمئننا إياه . لا أحد ، ويوما بعد يوم اقتنع في سره أن سرقة بعض القمح من الأكداس ، مضمونة ومستورة . إلا أن مشكلة أرقته وتركته ، قلقلا إلى درجة أنه لم يستطع النوم تلك الليلة ، وهذه المشكلة هي أنه لا يستطيع سحب شوال واحد دون احتمال أن تنهار بقية الشوالات ، ولا بد من التفكير بطريقة يحصل فيها على القمح ، إلى أن لمعت الفكرة في رأسه ، فابتسم ، ونهض واقفا ، ثم مسرعا ، إلى دكان الحداد أبي ابراهيم ، الذي صنع له من قطعة حديد مجوفة قلم ضرب مفتوحا من طرفيه ومدبب من أحدها ليسهل غرزه في شوال القمح . لم يستطع أبي محمود النوم تلك الليلة التي عزم فيها على سرقة القمح ، وكان إلى جانبه قلم الضرب وكيسا من الخام وكان قلقا وخائفا ومترددا ، ففي حياته كلها لم يسرق بقيمة ليرة واحدة فكيف يسرق اليوم مقدار نصف شوال حنطة . قبل أذان الفجر سمع صياح الديكة ، فنهض من اتكائته ، رش على وجهه بعض الماء ومشى على رؤوس أصابعه نحو باب الدار ، بحذر قط ، فتحه مطلا على الأكداس ، كان هناك الليل وغناء الزيزان ورائحة الحنطة ، وبخفة لص ، سلّ كحنش مقتربا من احد الأكداس ، رفع حجرين كبيرين عن الشادر ، وغل تحته . تحسس شوالات الحنطة المليئة . غرز قلم الضرب بإحداها بعد أن وضع طرفه الآخر في كيس الخام . كرر فعل الغرز في شوالات أخرى حتى امتلأ كيسه وبخفة خائف ، أعاد الحجرين إلى مكانهما ودخل داره. ركن أبو محمود كيس الخام المليء بالحنطة في إحدى الغرف ، ونام بجانبه ونفسه راضية مرضيه . بعد أسبوع صار عند أبي محمود في ركن الغرفة ما يعادل شوالين ، يتحسسهما كلما دخل الغرفة ليطمئن على وجودهما إلا أن الفأر لعب في عبه ، وسأل نفسه، ترى لو أن إحدى الجارات الثرثارات رأت الشوالات المليئة بالحنطة ، ألا تكون فضيحتنا فضيحة بجلاجل ، وهذه المرة اهتدى إلى الحل دون أن يتعب نفسه في التفكير ، وصاح صيحة واحدة ضاربا كفا بكف ( الجب ) كان في وسط ساحة داره القديمة بئر فيه بقايا ماءٍ وطين ، نزح الماء والطين ونشّفه ببقايا مِزَقٍ من شرواله المرقع عشرات الرقع . وأفرغ أكياس الحنطة فيه ثم قال في سره مطمئنا نفسه : كل شيء تمام . وعلى مدى أربعين يوما ، يسرق أبو محمود ما تيسر له حتى صار عنده في الجب خمسة عشر شوالا بالتمام والكمال . عندها صار يقرشها ويجمع ويضرب وفي كل مرة تختلف حسبته عن المرة التي قبلها ، إلى أن وقع يوما في فخ حراس الأكداس بعد أن شاهدوا ضمور بعض الشوالات وآثار قلم الضرب عليها . عند التحقيق معه اعترف أبو محمود بسرقاته ، ودلّ الشرطة على مكان القمح المسروق ، فأحالوه إلى المحكمة لتحكم بسجنه سنة واحدة . أما أكثرية سكان حي أبو محمود ، فقد اعتبروا أن حكم المحكمة غير كاف لردع اللص عن السرقة مما اضطرهم بعد المشاورات والمداولات فيما بينهم إلى أن يحكموا على أبي محمود ( بالتجريسه ) والتجريسه من فعل جَرَسَ . يلفظها الادالبة بالصاد بدل السين فتصبح تجريصة * وللتجريصة طقسها المتعارف عليه منذ أيام المماليك والعثمانيين ، وهي أن يأتوا بحمارة بيضاء يركب عليها السارق بالمقلوب ، وخلفه يمشي الناس ، يصفقون ، ويصفرون ، ويهتفون حرامي حرامي . رحم الله أبا محمود ، حبسوه ، وجرصوه ، وأركبوه حمارة بيضاء ، وهو الفقير المعدم . وسرقته وقتها لاتتجاوز قيمتها أكثر من ألف وخمسمئة ليرة . ترى كم حمارة بيضاء يلزمنا هذه الأيام لتنفيذ حكم الناس وتجريص لصوصنا الوطنيين الذين سرقوا بالمليارات وأودعوها في مصارف أوروبا وأمريكا . ويا ترى متى يصحو ضمير قضائنا ليطال أمثال هؤلاء اللصوص المدللين .
- الجَرسَة : التسميع والتنديد بمن اقترف ماينافي المروءة / المعجم الوسيط
#أحمد_الحاج_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تنين الأسطورة أم تنين الفساد
-
ريّا
-
حكاية الفرقة الكلبية للغناء
-
العقل المعتقل متى وكيف نفرج عنه
-
حكايتان
-
حكاية الشيخ الحكيم والكلاب الجائعة
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|