أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - زقنموت (رواية) 8















المزيد.....


زقنموت (رواية) 8


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 4638 - 2014 / 11 / 19 - 20:00
المحور: الادب والفن
    


وجوه تنوعت..وجوه تضحك..تمتلك قدراً كبيراً من المرح واللامبالاة،تطلق الطرف،تحرر الضحكات بقدر عالٍ من الصوت،ومن لا يمتلك روح مرحة يرفع صوته مزمجراً يلوّث جو المرح بأصوات منكرة.
وجوه مغتمة..لا تمتلك الكثير من الوسائل كي تتعايش مع القدر،دامعة العيون،منغلقة القلوب،كأنها تساق للمشانق.
الحروب مشانق جماعية.(قال لسانه)
كل طرف يشنق الطرف الآخر من غير ذنب أو محاكمة،الحرب في مفهومها العام شنق بالجملة،من غير توقيتات معلنة،في زمن الحرب،كل أمريء محكوم بالموت،صغاراً وكباراً،رجالاً وإناثاً،الجماد والشجر والحيوانات،الكل خاضع للبشاعة البشرية الأبدية.
الشعوب تشنق بعضها البعض،بوسائل متنوعة،قد تكون طريقة الشنق أكثر بشاعة من شنق الحروب،كون المشنوق يرى موته،يعرف ساعة خلاصه،يرسم مشهد موته على إيقاع قلبه.
في الحرب يأتي الشنق من باب المصادفات،كثيرون تمر بهم ماكنات الشنق،تخطئهم،أو تكتفي بترك أوشام أو عاهات تجعل من بقية حياتهم جحيماً وشنقاً يومياً.
من خلال النافذة،يتأمل(ماهر)التلال الهاربة،منازل منفردة مسوّرة ببساتين متهالكة،عربات عسكرية تمر محملة بجنود مخوذين ولابسين لباس الحرب،نساء يتناثرن في المزارع والحقول،الرجال أصبحوا عسكر،رأسه يكاد أن ينفلق،صخب آلة التسجيل يمزق التفكير،يضجر الروح،تزنعر كلمات أغنية سطحية،لا شيء سوى صراخ وطبل وصوت أنثى تحاول أن تقنع السامعين بجراح قلبها وهجر حبيبها الأسمر،شاعت هجمة أغاني تم إدراجها من قبل المعنيين والمختصين من أصحاب الأذواق القديمة والمدافعين في كل محفل عن موجة السبعينات كون السبعينات أتت بأصوات ذهبية ترسخت في القلوب والأذهان،الآتون من بعدهم تم زجهم في سجل الموجة الهابطة.
التغيير السياسي وتبديل الوجوه تتبعها تغيير في كل المعايير،لابد من(ستيرن)بيد ماكر يمتلك مهارة في توجيه دفة الأمور لتماشي مزاج سيد المقام العالي،كي ينام مطمأن البال،ولا ينشغل بأمخاخ الناس المتعجرفة،ليتفرغ لأموره الخاصة وتوزيع منجزات ثورته ومكاسبها على الأهل والعشيرة والخلاّن ضيزى.
لم تعد قلوب الناس تحتاج إلى آهات وصفنات كي تبقى سعيدة،يمكن لشاعر فاشل أن يرص كلمات لتغدو أناشيد تعزيمية،سيتكفل ملحن من الدرجة التعيسة بـ ضخ نيران الحماسة في تلك الأشعار،ليهتز بدن الشعب من شرقه لغربه،من شماله لجنوبه،من فقيره لغنيه،من عاقله لغبيه،في رقصة كونية تذلل الصعاب وتمزق رؤوس أعداء الثورة،لتسقط رهانات نظرية المؤامرة إلى أسفل السافلين.
كان سائق الحافلة ما بين لحظة وأخرى يترك(ستيرن)الحافلة،يصفق بكفّين يخرجان صليات صفق كما الرصاص المنطلق من فوّهة بندقية،يهز جسده في ميعة أفعوان،كأنه في معشر(غجر)،يطلق صيحاته كامرأة لحظات الطلق،فمه يعلك كعاهرة محترفة،يخرج من بين شفتيه كرة بيضاء،تكبر قبل أن تنفلق ليصطبغ أطراف فمه وكامل شاربيه بالعلكة المنفلقة،الشباب بدءوا يتفاعلون مع الجو العام داخل الحافلة،كل شيء آيل للموت،هكذا تتبدل نفوس الناس في البلدان المتغيرة،ضجيج يعلو وأكف تصفق،فشلت أن تنسجم وتتناغم وهي تحاول تقليد صفقات السائق،على ما يبدو كان من روّاد بيوت(الكيولية)،هكذا يفسر المشهد كنيته، خبرته في هز جسده وهو يقود الحافلة وتصفيق يديه العالي وطقطقات فمه وهي تحرر بالونات العلكة كلها مبشرات بأنه صاحب تجربة احترافية في زيارة منازل الآثام التي بنتها السلطة لقتل ديدان الانتفاضة في أجسادهم المحرومة.
كلمات الأغنية لا تمنح الحيران دفقة أمل،أو تخفف عنه عناء الهموم وسموم الزمن،ألحان سريعة وكلمات(قشمرية)ترجف أبدان الجيل الضائع ليس سعادة بل نفوراً وخذلان،لم يعد المرء ينشغل بالغناء،عقله مشغول بـ حرب ستأتي على البشر،نفراً نفرا،جماعات جماعات،ثم تجرف خيرات البلد،قبل أن تغرقه في ديون مستحقة تشوي عشرات الأجيال اللاحقة بنيران التشرد في المنافي لـ غسل صحون ناس كانت تدفع إلى وقت قريب(جزية)مقابل السماح لها أن تمارس دين آباءها وأجدادها الأولين.
(ماهر)حائر،يمتلك رغبة لوضع النقاط على حروف حياته القادمة،تتصارع فيه جملة إخفاقات،هجره مدرسته وترك أمّه وحيدة،و(مها)لؤلؤة قلبه ستسهر كثيراً وتفقد الكثير من حيويتها وبراءة وجهها.
ذهنه متوتر،ينشد صفاء،يريد استعادة ملامح(مها)،كلماتها،دفئها،لذة القبلات الأوّل،يغمض عينيه،كلّما يستحضرها،كلّما تتهيأ مشاعره لإخماد نيران عاطفته،يلطم جسده جسد أحدهم،فيبدد لديه نشوة اللحظة السامية.
الطريق تهرب،روحه تفر،سواد يلوح شاشة الأفق،تشق المركبة وهي ضاجة بـ خراب الأخلاق طريقها نحو ذلك السواد المتسع.
وصلوا المعسكر.
ضبّاط برتب متباينة،شبعوا طعاماً،حلّقوا ذقونهم،لبسوا أجمل أسمالهم،نظراتهم سهام تنطلق بحرص وتفاني، كأنها رصاصات تهيأت لقتل كل شيء،لا يندمج مع الموجة العاتية،لا ينخرط تحت عباءة أيديولوجية الحزب الصامد،ولا يتنفس مع الشهيق وصايا الرجل الضرورة،قائد الجمع المنبعث من سلالة الأجداد العظام.
وقفوا متأهبين كما تأهبوا لـ فض بكارات زوجاتهم ليلة الدخلة،متحمسون كأنهم ينتظروا عدواً مأسوراً قادماً،وقفوا مسرورين ليشهدوا على موته،بأيديهم سيمزقون أعداء العافية الجديدة لبلاد تشكلت بين فخذين(دجلة الخير أم البساتين)و(فرات..عذب سائغ ماءه)،مثل تماثيل عشوائية،عيونهم جامدة،أوداجهم منتفخة،يتمنطقون مسدساتهم الشخصية،كأنهم في سوح الإعدامات،يتضورون جوعاً للقصاص.
من يمتلك فلسفة تفسير أجواف الناس،بوسعه قراءة مخابئ النفوس من وراء(ماكياج)الوطنية،سيرى العجب، أولئك الذين يتظاهرون بالرجولة ليسوا سوى خشب مسندة،سمّوهم سراً((أبو خابصهه))يرقصون بشدة أوان السلم،لكن في سوح الحقيقة نساء،عفواً هناك نساء رجال،لذلك يمكن توصيفهم بـ فارغون من محتوى البشرية،بل أضل من مخلوقات ستغدو تراباً بعد توفى كل نفس حسابها.
كانت عيونهم تبرق بوميض الخوف ـ هكذا تفسر حالهم ـ أكثر مما تظهر ملامح الشجاعة،وميض رغبة كاذبة في مقارعة عدو الدولة والثورة.
أوقفوا الجميع على شكل أرتل.
صاح نائب ضابط بدين،كرشه يندلق أمامه كـ بطن امرأة حامل:
((أستا..عد..!))
قرعت الأقدام الأرض،قرعات غير منسجمة،متفاوتة،في سياقات العسكر يسمونها((خربطة)).
غضب أحد الضبّاط..صاح:
((أولاد القنادر شنو ها الخربطة.))
صاح نائب الضابط(مدعبل)البطن:
((أستا..ريح.!))
همس أحد الشبّان مغمغماً((أطلق من دبرك ريح.))،لم يتمالك الواقف لصقه نفسه،أطلق كركرة مختنقة،هشيم نار سار،تحررت ثغور مستفزة،وانطلقت ضحكة نصف جماعية.
أزبد الضابط الكبير وأرعد..صاح:
((أولاد القحاب،سألعن والديكم،سأجعلكم تنهشون بساطيل المعسكر بأسنانكم.))
لم يحتمل أحد الشبّان الشتيمة..صاح:
((لا ـ تغلط ـ سيدي،نحن أبناء حمولة،أولاد ـ الـ شيد الـ رعيس.))
(فشّ)الضابط،تراخت أساريره،أشار للشاب المتلعثم بعصاه،تقدم الشاب مرفوع الأنف،منتشياً لنصر معنوي حققه بكلامه الواثق،وقف أمام الضابط الكبير من غير تردد،عيناه في عينيه،كأنهما خاضا شوطاً من التحدي في مباراة كسر النظرات.
حين تسمع كلمة(السيد الرئيس)على السامعين أن يـ خرسوا،حضور الكلمة يدخل السامعين في مستنقع الحيرة،يشعر أن تماسيح الموت تحيطه،على كل لسان أن يعلن ولائه العلني،(الشيد الرعيس)كما لهج الشاب تميمة وطنية،على الجميع أن يتبرك بها،لازمة لغوية نافعة يجب أن تقفل أو تفتح بها الحوارات،متبوعاً بـ(حفظه الله ورعاه).
قال الضابط الكبير:
((يبدو أنك أبن أصول.))
تنفس الشاب الصعداء:
((كلنا أولاد الأصول سيدي،نحن جئنا نلبي نداء الوطن.))
((حسناً..من بدأ بالضحك.؟))
((سيدي يجب أن تتحملنا،نحن الآن ضيوف عندكم،لم نبدأ بأداء خدمة العلم بعد.))
((أنتم الآن جنود يا حمار.))
((سيدي ليكن صدرك واسعاً،تصورنا أنك ستضحكنا كي نتأقلم مع الجو الجديد.))
((أ..تقول..أضحككم..سأبكيكم يا أولاد الشوارع.))
أشار إليه أن يتراجع،ارتعشت الأبدان،الكل توقع أنه سينهال بعصاه عليهم عقاباً على كركرة تصاعدت من فم شاب مستجد بالأمور العسكرية في بلاد دينها منجزات ثورتها.
تراجع الضابط الكبير إلى الوراء..صاح:
((كلاب..انبطح.؟))
ألقوا بأنفسهم على الأرض،الولد الذي جادل ظلّ واقفاً،صاح نائب الضابط(أبو الكرش)بوجهه:
((أنبطح يا كديش))
لم يحتمل الشاب الإهانة..تهستر:
((أنت كدييييييييييش.!))
انهالت عليه العصي والقبضات للضبّاط وسط فوران دم الضابط الكبير،أسقطوه،بدأت الأقدام تركله، والعصي تتكسر وتتطاير على طول جسده،قبل أن يطلق دبر أحد المنبطحين(ضرطة)فكت قيود الخوف لبعض الثغور،كما فتحت صمامات الأمان لدبرين آخرين كي يحررا(ضرطتين)متفاوتتين في القوة.
صاح الضابط الكبير:
((أولاد ـ المضاريط ـ أنهض.))
قبل أن يطلق هو الآخر ضحكة مجلجلة،سمحت لأفواه الضبّاط من حوله أن يشاركوه الضحك..صاح:
((هيّا خذوهم وحلقوا رؤوسهم فيما بعد سأعلمهم الأدب ـ تفو ـ عليكم يا مضاريط.))
رمى بصقته عليهم،استدار وتوجه نحو القاعات،سار خلفه نائب الضابط البدين الذي تسبب في حفلة التعذيب الجماعي،بقى ضابطان ونائب عريف محترق السحنة بمعيتهم،بدءوا بعملية تدوين أسماءهم،ترتيب أمورهم وتوزيعهم على القاعات،فصائل ورعائل.
ساقوهم مجاميع.
الولد الشجاع صاحب العقاب الوحشي،كان يتراخى في مشيه،رافعاً بوزه كأنه أنتصر في معركته الغرورية، واضعاً في باله فكرة((من عاداك آخاك))حتماً سيكون صاحب مكانة مقربة من السيد الآمر،لابد أن يستدعيه ويمازحه قبل أن يقدم اعتذاراً لما بدر منه في لحظة عسكرية لا تقبل المهادنة والتسامح،كون ساحة العرضات تمثل عرض الجندي،ناموسه المقدس،من لا يحترم ساحة العرضات لا عرض له،وبكلام غير مهذب هو أبن(..........).
ظلّ يمشي غير مبالياً بما جرى له،وصلوا غرفة سقفها صفائح،وجدوا ثلاث صفائح زيت مقلوبة،وثلاثة جنود يحملون ماكنات حلاقة.
في الجوار تلال من الشعور،تبعث رائحة مقززة،لم يحتمل أحد الشبان المنظر،صاح وهو يقيء،تجاوب معه ثلاثة شبان..صاح ضابط متورد الخدين:
((شنو..القضية عندنا مقتل ـ مال زواع ـ))
قاء الأربعة،كادت أحشاءهم أن تندلق،لولا تدخل أحد الجنود،حمل جردل ماء وسكبه على رؤوسهم،كاد (ماهر)هو الآخر أن يقيء،لولا صوت البوق الذي هز جنبات القاعات.
صاح أحد الضباط:
((شباب ـ القصعة ـ فيما بعد سنحلق أعشاش رؤوسكم العفنة.))
ساد فرح عام.
وزعوا عليهم(القصع)كل ستة جنود بـ(قصعة)،ساروا مجاميع(القصع)رتلاً نحو المذخر،جندي على ساعده الأيمن خيط أسود،يلبس وشاحاً،مكتوب عليه((ر.ع.الخفر.السرية الأولى))حاول أن يضبط سيرهم،لا يجوز المشي في المعسكر عبثاً((أنت في ساحة الحرب،أرفع رأسك عالياً،أنت جندي،أبرز صدرك للأمام كي تقاتل بهمة الرجال الغيارى،أرفع يدك إلى كتف صاحبك،حافظ على النسق،واحد..أثنين..ثلاثة..أين الطبّة الرابعة.))أوقفهم مرات لتهيئتهم للسير بخطوات عسكرية منضبطة،كل شيء بنظام((يس..يم..خربطة))يجب الوقوف((أستاعد..أستريح،أستاعد،رعيل..عادة سر))بعد جملة وقفات وإيعازات أوقفهم عند سقيفة صفيحية، أرتل جنود يحملون(قصعهم)يقفون في انتظار أدوارهم،ضابط بدين يقف لصقه(نائب ضابط)بدين أيضاً،ليس بالنائب الضابط الذي أقام حفلة استقبال(ضارطة)لهم،كان بعصاه الخيزرانية يدير دفة توزيع الغداء.
عادوا يحملون(رز مطبوخ مسكوب عليه مرق مع دجاجة برازيلية مسلوقة)،جلسوا والتهموا أوّل(زقنبوت) حكومي،قالها الشاب الذي أشبعوه ضرباً،فيما بعد عرف الجميع أنه كان محقاً في كلامه،فكل طعام يقدم وفق القوانين يغدو علقماً،أن تحمل صحنك وتمشي بعسكرية منضبطة،أن تقف رتلاً،يأتي ضابط تقام له مراسيم عسكرية كاملة لتقديم وجبة الغداء كما تقدم مراسيم استقبال الملوك والرؤساء،أو مثلما يحدث أثناء وضع أكاليل النصر على قبور وهمية،يتم أقناع الناس على أنها قبور لجنود مجاهيل،فدوا بأرواحهم الرخيصة ورووا بدمائهم الفقيرة من فيتامينات مانعة الأمراض أوطانهم التعيسة.
أن تتقدم وفق أيعاز منضبط،أن تقف وتمد صحنك،ترتفع(مجرفة)صنعت لعزق الأرض أو تنظيف المجاري،تخترق جبال الرز المعبق برائحة دهن(محترق)،يد ماهرة تحمل تل تمن،لكنه يمتلك طريقة ماكرة في التوزيع،تراه بهزة شيطانية يعيد ثلثي ما في المجرفة إلى داخل القدر،يصيب(قصعتك)حفنة صغيرة،تستلم الإيعاز،تتقدم من قدر عملاق،علبة معدنية شبه صدئة مربوطة بعصا تدخل مستنقعاً دموياً،جندي أسمر معرق الوجه،ما بين لحظة ولحظة،يمد كفه ليمسح عرقه،تاركاً قطرات منه تسقط منتصف قدر المرق،يرش على الرز في صحنك بخّات من دم باهت،تسبح فيه أشياء أُخر،حبات فاصوليا،حمص،أو قطع بطاطس، باذنجان،وأحياناً بامياء عاصية،وفي الكثير من المرات(مرقة هوا)ماء وردي وبصل وبهار وزيت.
تعود بانضباط،تجلس بانضباط،تتناول بكفك المترب مع كفوف أخر نست(النظافة من الأيمان)،تنهي وجبتك وتتقدم من جدول ماء يشق أحشاء المعسكر،لتغسل(قصعتك)،تعلقه في مشجب مخصص لها،كل هذه التراجيديا أقنعت الجنود أن طعام الجيش(زقنموت)وليس كما أسر الولد أبن الأصول(زقنبوت)..!!

لا وقت للراحة.
حلقوا رؤوسهم(نمرة)صفر،صارت رؤوسهم من بعيد كثمرات البطيخ،تلمع تحت وهج الشمس،بدأت أيديهم تواصل مداعبة اللذة المتوالدة جرّاء الاحتكاك.
صاح(نائب عريف)أسود مفلوق الشفتين:
((سريّة الأولى تجمع.))
تجمعوا بعد صياح وهرج فصائل رعائل.
بعد جملة إيعازات عسكرية وتنظيمية سار بهم إلى قاعة مغبرة،وجدوا السيد الآمر،الضابط الذي استقبلهم بحفلة تعذيب ساخرة،يقف،منتفخ البطن بعد وجبة غداء دسمة،في عينيه بان خدر الطعام.
وقفوا باستعداد تام،قرع(نائب العريف)قدميه مؤدياً التحية العسكرية..قال الآمر:
((أما تستحون،كيف تواجهون عدونا.؟!))
همس ثغر(بمدافع أدبارنا)،كظم(ماهر)جرس ضحكة كادت أن تنفلت منه،لولا صوت الآمر الذي أسعفه:
((من ـ يضرط ـ في ساحة التدريب سيغوط على نفسه في ساحة المعركة.))
أطلق ضحكة مفتعلة،بانت أسنانه شبه(مزنجرة).
((أما تعلمون من ـ يضرط ـ في ساحة العرض كعاهرة ـ تضرط ـ أوان مضاجعتها.))
كانت الأجساد متخشبة،يحاول كل واحد أن يتماسك،أن لا يغدو ضحية قادمة،قبل أن يسمح لهم بالضحك، بعضهم ضحك ضحكات مصطنعة،كون الضحك في حضرة الضابط،في ساحة العرضات،يساوي عقابه في الأعراف العسكرية،في بلاد الثورة،عقوبة من يأتمر في محاولة انقلاب محبطة.
تقدم منهم،راح يقرع بعصاه القيادية على رؤوسهم،رأساً رأساً..قال:
((رؤوسكم تذكرني بالبطيخ.))
كل رأس أستقبل نقرة عصاه.
((لا تضرطوا مرة أخرى،من في جوفه مصنع غاز ليستأذن ويخرج لـ ـ يضرط ـ على راحته.))
تراجع وأمر أن توزع عليهم التجهيزات العسكرية،كانت القياسات متفاوتة،لا تراعي أجسامهم،حصل لغط قبل أن يصيح(نائب العريف):
((أقطع الكلام.))
قال الآمر:
((تبادلوا فيما بينكم التجهيزات داخل القاعة،خيّاط المعسكر مجاز.))
((أمرك سيدي))صاح الجميع.
((أيّاكم أن تلوثوا القاعات بالضراط.))
منسحباً أطلق ضحكته
سحبوهم إلى القاعات.
تحرروا من لجام الأوامر،راحت الضحكات تعلو،والغبار يتصاعد،وجد(ماهر)التمدد على سريره أنفع،بعدما وجد قياس بدلته ليس فيه عيب،ترك(تقريمها)إلى إجازته،تمدد وراح وسط الضجيج،وسط كوّر دخان السجائر،يتأمل غباراً يتكاثف،يلتف ويمتزج بدخان السجائر قبل أن يغدو شاشة رمادية عملاقة،في خضمها يسكن مستقبله.
***
منتصف الليل.
شرخ صمت القاعة صوت:
((أنهض.؟))
ما بين اليقظة والحلم،ما بين الجفوة والنوم،سمع(ماهر)صرخات الجنود،عرف أن(نائب العريف)الأسود مفلوق الشفتين ومعه آخرون ينهالون على أجساد الجنود في أسرتهم بعصيهم،رغم قفزته لم يفلت من ضربة موفقة على مؤخرته،صاروا خارج القاعة،كان الآمر واقفاً،يرتدي(تراكسوت)رياضي،يشهر مسدسه الشخصي،ثمة ضبّاط آخرون بقيافتهم العسكرية،يقفون كالأصنام من حوله.
الكل يرتجف،تصطك أسنانهم من هول البرد وشدة النعاس.
قال الآمر:
((أخرجتكم لتحرروا غازات بطونكم براحتكم في الهواء الطلق.))
أستلم أحد الضباط الإيعاز،بدأت عملية الهرولة،قبل أن يصدح صوت(نائب العريف)الأسود تالياً أنشودة بالية،من هول قدمها صارت علكة في فم الأطفال ودجاجات الأزقة وقططها وكلابها المنقرضة.
((طالعلك يا عديوي طالع..من كل بيت وحارة وشارع.))
رَفعْ أصواتهم،أمر عسكري مفروغ منه،الكل يستجيب صارخاً وراء تلك اللازمة العقيمة:
((طالعلك..هي..طالعلك..هي..))
شَقْ حجاب الظلام بحناجرهم يقنع الآمر بـ جاهزيتهم،على أقدامهم أن تزلزل الأرض،العدو قريب،لابد أن يتم وقف زحفه،أو إبادته في عقر داره.
تعبوا.
لمح الآمر تعثر خطوات البعض،وخفوت أصواتهم..صاح:
((أجلبوهم إلى ساحة المغاوير.))
كل جندي مستجد يعرف مسبقاً ما معنى كلمة(مغاوير)،كلام سمعوه،ثمت أنفار تطوعوا لذلك الصنف الوحشي،كانوا يتباهون بين أقرانهم في الأجازات الدورية لانتمائهم لذلك الصنف الغابي.
خابت مساعيهم لأحداث انقلاب في مزاج السيد الآمر،كانت محاولات فردية لرفع الأصوات،أحدثت تباينات في الصوت،رديئة،(نشاز).
وصلوا الساحة،إنارة غير كاملة،تلال مصنوعة ملغومة بأحجار مدببة،أعمدة طويلة تتصل مع بعضها بأسلاك متينة،مستنقعات مائية تلعب بها الضفادع،ماء نتن،أخضر اللون،احتبسوا أنفاسهم نهاراً حين مروا بها،لنتانة الضوع المشاع في الساحة،خال الجميع أنها مياه مجاري أو مستودعاً لقاذورات دورات المياه،تم رميها هناك بعيداً عن القاعات..صاح الآمر:
((أدخلوهم إلى البركة.!))
صاح النقيب:
((أبطال إلى البركة هيّا.))
لم يجرؤ أحدهم أن يكون السبّاق،انهالت العصي على الأقدام والأدبار،الماء أهون الشرّين،تعالت الصرخات من قوة البرد الجليدي،حرر دبر أحدهم صوتاً مفرقعاً من تحت الماء..صاح الآمر:
((غداً سأفحص أدباركم،على ما يبدو أن أحدكم دبره غير طبيعي.))
تواصلت فرقعات الماء من أمكنة عدة،كأنها أصوات ضفادع تنقنق وتبقبق..صاح النقيب:
((هيّا أنزلوا رؤوسكم يا أولاد الزربان.))
قال السيد الآمر:
((على ما يبدو أمهاتكم ولدنكم برشق ضرطات.))
بدأت الرؤوس تختفي وتخرج،لم يعد البرد يشكل شيئاً أليماً بعدما تخثر الجسد وأدمن التجلد.
أخرجوهم،كانوا كائنات مرتجفة،غارقة في وحلٍ نتن،تصطك أسنانهم،يشتركون في هذيان عام.
ساقوهم متهالكين إلى القاعات.
قال الآمر:
((يجب أن تكونوا بمستوى المطلوب،الحرب مستعرة،علينا أن نؤهلكم للمعركة المصيرية بوقت قياسي،شعبكم ينتظر منكم تحقيق النصر،ومن يستشهد سيرفع رأس أبيه عالياً))
همس جندي يقف لصق(ماهر)وهو يرتجف((هيأ......مرتك معنا))،نغزه،رد ناغزاً معلناً تحديه.
صاح جندي:
((أبي ميت سيدي.))
قال النقيب:
((ستتباهى أمّك بك.))
((أمي أيضاً ميّتة سيدي)).رد الجندي
((حين تموت سيخرجان رأسيهما لاستقبالك،لكن أيّاك أن ـ تضرط ـ في المقبرة.))
أدخلوهم القاعات.
كان يجب أن يغتسلوا.
ماء المستنقع آسن،تنام فيه الكلاب،تعيش فيه مستعمرة ضفادع صادحة طوال الليل،حتى أن البعض منهم أقسم أنه كان متضايقاً،لم يستحمل فضلاته المتدفقة،وجد فرصة تاريخية لن تتكرر،أفرغ(غائطه وبوله)داخل الماء،راهن على ذلك،من لم يصدق كلامه سيرى في الغد أكوام الغائط تعربد في البركة.
كلام مرعش جعل(ماهر)يشعر بدبابيس توخز جسده،اندفع نحو الحمّام،رغم برودة الماء دخل تحت الصنبور،تشجع البقيّة،حصل لغط وازدحام،مما حدا بهم أن يدخلوا بمجاميع معاً،صاروا من لحظتها يستحموا بالماء البارد أفراداً وجماعات.
أستحم(ماهر)وجلس يصطاد الكلمات.

الكلمات الفارة من ثغرك
مهرجان
يسوق غيوم معسكري إلى أنأى مكان
نضرب خيام طفولتنا
في ضوء الزمان
أنتِ ببسمتكِ زاهية الألوان
وأنا..الحيران
بشعري المطرز بلمسات أصابعك
نعلن ثورتنا
على الطغيان
فتهب إلينا أزاهير نيسان
تطاردها
حراب الواهمين
وغابات السكاكين
أعداء الإنسان.!
***
هذا مساء آخر قد أقبلْ
يا من
من بين كل النظرات
كنتِ الخيار الأجملْ
أفترش صخب الجنود
دخان سجائرهم فضاء يخنق الجذلْ
أحاول
بناء قلعة رصينة بالجمل
يشاطرني في حربي
وهج الأمل
إيييييييييييييييييييييييييييييييييه
يا ساقية روحي بأجمل القُبَلْ
من يعيد إشعال قناديل
بلدتنا المنطفئة
ليركض حصان المستقبلْ
هذا مساء مدجج بالترهل
عاقبونا وأشربونا مجاريف الأجواف القبيحة
هذا ليل
يرفض قمره أن يكتمل
نجومه تذرف رصاص الخوف
على جيلٍ
قبل الأوان
قد أكتهلْ.!
***



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زقنموت (رواية) 7
- زقنموت (رواية) 6
- زقنموت (رواية) 5
- زقنموت (رواية) 4
- زقنموت (رواية) 3
- زقنموت (رواية) 2
- زقنموت (رواية) 1
- ليالي المنسية(رواية)جزء38الأخير
- ليالي المنسية (رواية) جزء 37
- ليالي المنسية (رواية) جزء 36
- ليالي المنسية (رواية) جزء 35
- ليالي المنسية (رواية) جزء 34
- ليالي المنسية ( رواية) الجزء 33
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 32
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 31
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 30
- ليالي المنسية(رواية)الجزء 29
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 28
- ليالي المنسية ( رواية ) الجزء 27
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 26


المزيد.....




- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - زقنموت (رواية) 8