كمال اللبواني
الحوار المتمدن-العدد: 1301 - 2005 / 8 / 29 - 06:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ربما كانت الخطوة الأهم في دراسة علوم المجتمع ، والنظم الاجتماعية هي تحديد آلية الحركة داخل هذه المجتمعات : من يتثأر بمن ؟ ومن يتبع من ؟ومن يغير من ؟ ، ضمن دوامة عامة معقدة لكنها غير عشوائية , بل ذات غايات ووظائف تكمل بعضها البعض .
ومن دون التعريف بمكونات المجتمعات ومن ثم باختلاف تلك المكونات , و بعلاقة تلك المكونات مع بعضها , وبالتالي بآلية تبادلها التأثير ، وبنمط الديناميكية الاجتماعية الداخلية العاملة فيها ، سوف نبقى من دون ذلك عاجزين عن ايجاد وسيلة التغيير والتبدل والتدخل الفاعل الهادف لتحقيق أهداف محددة , ويبقى تعاملنا مع الظواهر تعاملا فوضويا عبثيا غير محسوب ولا عقلاني .
والمسألة على ما يبدو ليست بذلك التبسيط الذي حاولت المادية التاريخية ( الماركسية ) شرحه .. و تقسيمها البنيان الاجتماعي إلى بنى تحتية وبنى فوقية ما كان ليوضح آليات التدخل والعمل من خلال الديناميكية الداخلية ذاتها ، حيث تركت الفعل للتغيرات التحتية ، وحذفت دور العوامل الفوقية ، وصار على من يريد التدخل الذاتي الفاعل أن يمر عبر طريق الثورة والتمرد وتحطيم الحركة الاجتماعية التلقائية , واجبارها على السير وفق ارادته الثورية المحروسة بالحزب الجيش المنضبط , والتي تعطل بدورها ارادة البشر وقوى المجتمع , وتستبدلها بارادة جهاز التخطيط الحزبي , بحيث تسير كل الأمور ليس حسب طبيعتها التلقائية السلسة , بل بالتدخل الفاعل للطبقة الثورية , التي عليها أن تصنع التاريخ بيديها .. أي بالثورة والانقلاب والديكتاتورية وليس عبر التعبير الحر عن الذات والتسلل الطبيعي التلقائي للحوادث .
فالبنى التحتية ( قوى الانتاج المكونة من بشر و أدوات ) هي التي تحدد وبشكل حاسم البنى الفوقية ( علاقات الانتاج ونظم السياسة ونمط وتكوين الثقافة ) وبالتالي على كل طالب تغيير أن ينتظر البنى التحتية لكي تغير هي وليس هو ، أو أن يلغي التاريخ الطبيعي الذي يصنعه البشر الأحرار الذين ينخرطون في الحياة الاجتماعية ، ويستبدله بتاريخ قسري مصنوع بالقوة العسكرية ، ويقوم بفرض بنية فوقية تعطل وتغير البنى التحتية بشكل جذري , فتعيد النظر بكل علاقات الانتاج , مما يسمح بحدوث قفزة في تطور قوى الانتاج لكي تنتج في النهاية واقعاً جديداً ، وبنى فوقية جديد ، وبانتظار حدوث هذه القفزة يجب الاحتفاظ بالسلطة والدفاع عن البنى الفوقية الثورية الجديدة بواسطة القوة والاكراه والحديد والدم ، و هذا هو مبدأ الشرعية الثورية المعروف .
هذا المفهوم الثوري الانقلابي عن السياسة (التي هي أداة تجسيد الارادة وتأثيرها على البنى التحتية ), هو نتيجة حتمية للمفهوم الميكانيكي للتعامل مع التاريخ والمجتمع ، بحيث تم منذ البداية الغاء فردية وارادة الانسان وقدرته على الاختيار ، لصالح خضوعه الأعمى لضغوطات مادية ، فينتفي دور الثقافة والدين والمعرفة والتربية , لصالح هيمنة المصالح المادية والغرائز البهيمية بشكل مطلق ، فكل حديث عن قيم ومثل ودين وأخلاق ومعارف وديمقراطية وحرية هي مجرد خدعة برجوازية ، ليس لها معنى قبل الاستيلاء على السلطة ونزع ملكية وسائل الانتاج ، وجعلها ملكية عامة مدارة ليس بقانون السوق والارادة الحرة للبشر في التبادل والانتاج والاستهلاك ، بل بقرارات وخطط الحزب الثوري القائد الذي يقود المجتمع ويوجه التاريخ بخططه العبقرية وبقائده الملهم .
وهكذا تنتفي آليات التفاعل بين الثقافة والسياسة ، ومن ثم بينها وبين الاقتصاد الذي ينعكس على الثقافة , لكن ليس بشكل ميكانيكي , بل عبر بوابة المخزون المعرفي القيمي الأخلاقي الموروث في المجتمعات , والذي يحتفظ بأثر كبير في تكوين المجتمعات ( بشكل خاص الدين كمنظومة معرفية قيمية متكاملة تتبنى فلسفة تشمل وتفسر كل شيء ) ، وتنتفي أيضاً آليات تنظيم النشاط المادي للمجتمعات ، والمرتبطة بالحاجات والامكانيات والرغبات الكثيرة والمعقدة التي تحرك البشر , ويتم تبسيط الانسان إلى آلة تحتاج إلى كم محدد من الطاقة والراحة ، ومقدار من الصيانة ، لكي تعمل بطاقتها القصوى في ماكينة الدولة الشمولية . وتنتفي فردية الفرد وحقوقه الأساسية وارادته ، وتجير لصالح جهاز يفرض نفسه بالقوة ، ثم سرعان ما سوف يسخر هذه القوة لتحقيق مصالح جزئية ضيقة وأنانية ، فيتكون لدينا نمطاً جديداً من العبودية تحت شعارات ثورية ومساواتية .
هذا هو المحتوى الأساسي للفلسفة الشمولية الثورية بصيغتها الماركسية ، والتي أخذت عنها كل الفلسفات الأخرى والتي هي نموذج مشابه للفلسفات الفاشية القومية التي تقوم على مفهوم الأمة المقدسة والدولة الحديدية والمواطن الجندي .
في حين أن الفلسفة الليبرالية تعترف أولاً بالفرد ، وتعترف ثانياً بالحرية كطريقة وحيدة للتعبير عن الذات والرغبات , وبالتالي تعترف بآليات التعبير الحر كطريقة نحو تشكيل التجمعات البشرية ، ومن دون تلك الحريات التي يتمتع بها الفرد لن تكون هناك ظاهرة اجتماعية طبيعية وعفوية ، بل ظاهرة مصطنعة ( سجن ) سرعان ما ينهار ويتحطم لأنه يفتقد لآليات اعادة انتاجة وترميمه الذاتية التلقائية ، المعبر عنها بارادة البشر المتجددة والحرة .
كما أنها ترى أن قانون السوق ، أي حرية التبادل والانتاج والاستهلاك هي المحددات الطبيعة للنشاط الاقتصادي ,وهي التي تعكس وبشكل طبيعي وعفوي حاجات البشر ورغباتهم ومتطلباتهم ، وهي آليات لا بد منها لتحقيق التوازي والانسجام بين حاجات البشر وبين نشاطهم الاقتصادي .
ومهما كانت هذه الآليات فسوف تبقى ضرورة وشرطا لكل نظام اقتصادي - سياسي ، وكل تدخل لردم الهوة بين الفقر والغنى ، أو لتلبية حاجات المحرومين والمجتاجين ، لا يجب أن تلغي هذه الآلية الحرة . مع ضرورة التأكيد على حاجة المجتمع لضمان الكرامة الانسانية وتكافؤ الفرص ، وحاجته لتوفير الشروط المقبولة أمام جميع أفراده للتعلم والعمل والتربية والصحة ، وهي مسؤوليات اجتماعية لا يجوز التهرب منها ، لكنها لا تشترط من أجل تحقيقها أن نلغي آليات السوق العفوية الحرة ، والمحروسة من الغش والاحتكار .
فالحالة الطبيعية التي تنطلق فيها الدوامة الحركية الداخلية للمجتمعات هي تأثر الثقافة بنمط الحياة وبالحاجات والرغبات المتولدة من الانخراط في النشاط المادي ، لكن هذا التأثر ليس انعكاساً مباشراً في مرآة ، وصورة طبق الأصل ، بل يمر عبر مخزون كبير من المعارف والخبرات والقناعات , التي تضيف خبرتها وبصماتها وتساهم بصياغة نمط رد الفعل السياسي على تلك الشروط , وتوجه سلوك الانسان للتعامل مع تلك الشروط تغييراً أو اعادة انتاج , وهكذا يساهم الاقتصاد في ترسيم الثقافة السياسية التي توجه الفعل السياسي الذي يغير الاقتصاد , وهكذا تكون هذه الحركة هي الطريق الطبيعي العفوي الحر للديناميكة الاجتماعية ، مع ملاحظة دور المخزون المعرفي القيمي الموروث والمستورد والمتضمن في الذهن الاجتماعي والذاكرة الجمعية . و تأثيره لا يقل أهمية عن تأثير شروط الحياة التحتية . وبالتالي تكون كل سياسة انعاكاساً لثقافة وكل ثقافة هي تكون حر وتعبير تلقائي عن الواقع التحتي والمحمول الذهني المتوارث للمجتمعات معاً وسوية .. لذلك لسنا دوماً بحاجة لنكرر تاريخ من سبقونا لكي نحقق ما حققوه , بل أحياناً يكفي تناقل الخبرات وتبادل الثقافات لكي نحقق الشرط الأهم في انتاج النظم الاجتماعية والسياسية . ولا يكون الحديث عن ضرورة وجود حامل اجتماعي طبقي متميز المصالح دوماً صحيحاً ، إلا اذا أخذ بعين الاعتبار العامل الذهني والمعرفي والقيمي المزروع في الذهن الاجتماعي بالوراثة أو بالتعليم أو بالتبادل . فتصبح العوامل التحتية، التي تولد التقسيم الطبقي الماركسي المعروف ، مجرد محرضات ، لكن الشكل النهائي لردة الفعل سوف يعبر عن النمط الثقافي السائد أيضاً .
أي أننى لكي نحقق الحرية لا يجب أن ننتظر ثورة صناعية وبرجوازية قومية صاعدة ، ولا ننتظر وجود مستوى معين من التطور المادي لكي يحق لنا المطالبة بالديمقراطية .. وهكذا مروراً بالعدالة والضمان الاجتماعي , فكل ذلك من الممكن أن ينعكس في السياسة بتأثير الثقافة المتبادلة بين الشعوب دون ضرورة البحث عن الشروط التحتية التي أوجدته في لحظة تاريخية معينة . البشر دوماً يبحثون عن الأفضل ويتعلمون ويحاولون الافادة مما تعلموه , والكثير من المشروعات السياسية جاءت لتعبر عن أحلام وتمنيات اجتماعية , وجدت من ينصارها بطريقة أو أخرى ، ولا يجوز لنا أن نشترط عليهم الانضمام لطبقات تشريحية محددة لكي نقبل ارادتهم السياسية .
أخيراً سوف ننتقل للموضوع الأعقد في أسئلة الليبرالية وهو العلمانية ، والتي لا يمكن الحديث عن ليبرالية ولا ديمقراطية من دونها ، وبالنظر لطبيعة الدين وبشكل خاص الاسلامي ، كان لا بد من مناقشة هذا الموضوع مطولاً لإزالة الالتباس القائم بين الموروث والدين والهوية ، وبين الحداثة السياسية والاجتماعية المطلوبة .
بداية نرى أنه من الخطأ تعريف العلمانية ( بفتح العين ) أنها عملية فصل الدين عن الدولة ، فهذا يعني فصل الثقافة عن السياسة وهذا مستحيل ، و فصل الشعب عن معتقداته , لأن الدولة تعني الشعب الذي شكل سلطة سياسية على أرض محددة ، وحتى لو استخدمنا مصطلح الدولة للتعبير عن السلطة السياسية فقط ، فمن الخطأ أيضاً الحديث عن فصل الدين عن السلطة السياسية . فهذا يعني حرمان الدين من حق التأثير على المنتوج السياسي الآيديولجي ، والذي يعتبر تعطيلا لحرية البشر ولدور الثقافة الهام في انتاج السياسة ، وهذا هو محتوى النقد المحق الذي يوجهه المتدينون للدعوة العلمانية ، لذلك اكتفينا عندما قدمنا ورقتنا , بمفهوم محدد للعلمانية يقول بضرورة تحييد رجال الدين عن التأثير المباشر بأي سلطة سياسية تشريعية . وهذا شيء مختلف وضروري وهام من أجل الديمقراطية ، حيث تكون سلطة الشعب مطلقة وحرة فيها ، وتكون ارادته وحدها هي التي تتحقق عبر آليات تمثيل وانتخاب وتفويض نزيهة ومباشرة ، لكن هذه الارادة لا بد أن تعكس الثقافة والدين ، انما هذا الانعكاس يمر حتما عبر ارادة الناس الحرة ، والتي لا يجب أن تصادر أو تقيد لصالح فتاوى فقهاء ، أو مواعظ رجال دين من أي نوع كانت ، والتي لا يجب اعتبارها أكثر من أراء واجتهادات يأخذ بها من أراد طوعاً وبكامل حريته . فالعلمانية هي بالضبط تحييد رجال الدين عن السلطة السياسية ، مع الاحتفاظ بحقهم في السلطة المعنوية على من يريد اتباعهم وتقليدهم ، لكن من دون أي أداة قانونية تنفيذية تراقب وتحاسب وتلزم وتعاقب ، وهذا بالتالي يمنعهم من قمع حرية التعبير و اعاقة سلطة الشعب ، باسم الدين والتفويض الالهي .
ولكن العلمانية من وجهة نظرنا أبداً ليست هي إلغاءً للدين ولا تقليلاً من دوره ، بل فقط التأكيد على جعل دور الدين يمر عبر ارادة الناس الحرة , وليس مباشرة من رجل الدين للسلطة ، وجعل التدين أمر حر وطوعي , وضمان الاعتراف بكامل حق الاعتقاد , وبشرعية كل الديانات , كخيارات حرة يختارها البشر , ومساواتها سواسية بالاحترام والحقوق . وهذا أساسي ولا بد منه لتحقيق الديموقراطية ، وهو شرط الليبرالية ونتيجة لها .
وفي مقالات قادمة سوف نشرح ماهو الدين وما علاقته بالسياسة . ولماذا هو هام وضروري لاكتمال الحلقة الاجتماعية , ولماذا ايضاً ضرورياً حرمان رجال الدين من السلطة المباشرة على المجتمع .
#كمال_اللبواني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟