أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد أمزال - مبادئ القراءة والتأويل عند الجابري وأركون















المزيد.....


مبادئ القراءة والتأويل عند الجابري وأركون


خالد أمزال
كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية

(Khalid Amazzal)


الحوار المتمدن-العدد: 4635 - 2014 / 11 / 16 - 18:10
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مبادئ القراءة والتأويل عند الجابري وأركون

خالد أمزال

I- مقدمة :
يعتبر مشروع كل من المحمدين الجابري وأركون من أكثر المشاريع الفكرية التي عنيت بدراسة العقل العربي والإسلامي، ومحاولة قراءة التراث الفكري والديني، أقول الأكثر رصانة وعمقا، ليس فقط على الساحة العربية بل والعالمية كذلك. ليس لكون مشروعيهما يتسلحان بخلفية معرفية متماسكة، وأدوات منهجية عالية الإجرائية، ولكن لأن مشروع الجابري وأركون في نقد العقل العربي/الإسلامي، انتقل من نقد المسائل والمقولات والتصورات التراثية إلى فحص وتحليل النظام المعرفي الذي أنتجها، وهذا هو الانعطاف النقدي الجديد الذي حصل معهما.
ويشترك كل من الجابري وأكون في العديد من النقاط ليس أولهما انتماؤها للفضاء الثقافي المغاربي، وليس آخرهما اتخاذهما نقد العقل أساس مشروعيهما. فمجموعة من الأشياء الملفتة جمعت بينهما مثل إدخالهما لمفهوم العقل في دراسة الفكر العربي والإسلامي، وتبنيهما لمفهوم النقد بمعناه الفلسفي كما اجترحه كانط، واشتراكهما في الهدف النهائي من هذين المشروعين، هو معالجة إشكالية ثنائية التراث والحداثة في الفكر العربي والإسلامي، من خلال تمهيد أرضية تراثية يمكن لها أن تستقبل الحداثة دون تصادم أو ممانعة، وليس هناك دليل أكبر على تقاطع مشروعيهما من صدور كتابيهما المؤسسين لنقد العقل في نفس السنة وهي سنة 1984، "تكوين العقل العربي" للجابري و "نحو نقد للعقل الإسلامي" لأركون.
إن مشروع الجابري وأركون في نقد العقل العربي/ الإسلامي، انزياح كبير على مستوى المنهج والرؤية، فقد تحول نقد التراث عبر مشروعهما، من نقد المسائل والمقولات التراثية إلى فحص وتحليل النظام المعرفي الذي أنتج تلك المسائل والمقولات، من مناقشة التصورات الدينية في التراث إلى مناقشة النظام الفكري العميق، أو الأنظمة الفكرية المنتجة للتصورات الدينية في التراث الإسلامي
وحين نقول نقد النظام أو الأنظمة، فهذا يعني أن الهدف هو دراسة المنهج، أي بنية العقل الديني وطريقة اشتغال آلياته وليس مضامين الشريعة والعقيدة بحدّ ذاتها، فمسائل الشريعة والعقيدة كما يقول أركون “قد تختلف، ولكن الجذور المعرفية واحدة”، أو بتعبير آخر؛ “ليس الاهتمام بالأفكار ذاتها، وإنما بالأداة المنتجة لهذه الأفكار”، وهو المنهج .
والهدف النهائي من هذين المشروعين، هو معالجة إشكالية ثنائية (التراث والحداثة) في الفكر الإسلامي، من خلال تهيئة أو تمهيد أرضية تراثية يمكن لها أن تستقبل الحداثة دون تصادم أو ممانعة. المشكلة أن هذه المنهجية تفترض – بوعي أو بدون وعي – أن الإشكالية تكمن في التراث دون الحداثة، ولهذا ينصب نقدها ومراجعتها وقراءتها وإعادة الصياغة والتكوين للتراث دون الحداثة. مع أن الحداثة الغربية بحاجة ماسة أيضاً إلى القراءة والمراجعة، إن لم تكن هي أولى بالنقد والمراجعة وإعادة الصياغة والتكوين حتى تتوافق مع الذات المسلمة .
على أية حال؛ الهدف النهائي لمشروع (نقد العقل العربي/ الإسلامي) هو صياغة ذات عربية تراثية يمكنها أن تتوافق وتنسجم مع الحداثة المعاصرة. وهذا يعني إزالة كافة الأطر والسياجات الدينية والتراثية (الفاسدة والصحيحة على حدّ سواء)، والتي طالما كانت تمنع العربي و المسلم من الدخول في فضاء الحداثة .
إن جوهر القراءة التَّأويلية التي يقوم بها الجابري وأركون للتراث إذن تنبني على الانتقاد بدل الاعتقاد حيث عملت على قراءة النصوص التراثية إضافة إلى القرآن الكريم، والعمل على تأويلها وفق منطلقات وغايات مختلفة عن ما قام به السلف، لذلك سنحاول في هذه الوريقات، وبشكل مختزل قد لا يخلو من تجزيء وبتر، مقاربة منهج القراءة والتأويل عند الجابري وأركون بالتركيز على المبادئ الأساسية التي توجه وتتحكم في هذه العملية.


II- منهج القراءة والتَّأويل عند محمد عابد الجابريّ :
يعمل الجابريّ على بناء قراءةٍ نقديَّة للتُّراث لكي يتجاوز القراءات التُّراثية، وفي هذا السِّياق طرح مشروعه الفكريّ العقلانيّ والنَّقديّ للتُّراث، وللعقل العربيّ بدأه بكتاب «نحن والتُّراث» سنة 1980، وعمل على تطويره في مؤلفاته التَّالية، ويعتبر كتاب «نحن والتُّراث» مفتاحًا في فهم قراءته للتُّراث، وهو بمثابة مقالٍ في المنهج، تضع الأسس والقواعد لقراءةٍ جديدةٍ، وتقطع مع القراءات السَّلفية الثَّلاثة، والتي تتمثَّل:
- القراءة السَّلفية الدِّينيَّة: وهي قراءة أيديولوجية جدالية .. لا تاريخيّة، ذاتية، تُسقط المستقبل على الماضي، ولا يمكنها أن تنتج «سوى نوعٍ واحدٍ من الفهم للتُّراث هو الفهم التُّراثي للتُّراث»[1].
- القراءة اللِّيبراليّة الاستشراقيّة: وهي قراءة أوروباوية النَّـزعة، وتقوم على قراءةٍ تراثٍ بتراث، اعتمادًا على المنهج الفيلولوجي، ومُهِمَّتُها تنحصر في ردِّ التُّراث العربيّ الإسلاميّ، إلى الأصول إمَّا يهوديَّة أو مسيحيَّة أو فارسيَّة أو يونانيَّة أو هنديَّة[2].
- القراءة اليساريَّة الماركسيَّة: وهذه القراءة لا تتبنى المنهج الجدليّ كمنهجٍ للتَّطبيق، بل كمنهجٍ مطبَّق مما ينتهي بها، إلى سلفية ماركسيّة، أي إلى محاولة لتطبيق طريقة تطبيق السّلف الماركسيّ للمنهج الجدليّ[3].
ويخلص الجابري إلى القول أن هذه القراءات، هي قراءاتٌ سلفيّة تفتقد من النَّاحية المنهجيَّة للموضوعيّة، وتعاني من ناحية الرُّؤية من غياب النَّظرة التَّاريخيَّة، ومن النَّاحية الابستمولوجية، فهي تتأسس جميعها على طريقةٍ واحدةٍ في التَّفكير تقومُ على ما أطلقَ عليه العرب القدامى: "قياس الغائب على الشَّاهد" [4].
ويحدِّد الجابريّ الخطوات المنهجيّة في القراءة والتَّأويل من خلال التَّركيز على المقولات الابستمولوجية والتَّحليل الأيديولوجي، وذلك من خلال:
1/ ضرورة القطيعة مع الفهم التُّراثي للتُّراث : أي إرساء قطيعة ابستيمولوجيّة بالمفهوم الباشلاري «مع بنية العقل العربيّ في عصر الانحطاط، وامتداداتها إلى الفكر العربيّ الحديث» ، ولا يعني الأمر هنا الانفصال الكليّ عن التُّراث ذاته، بل «القطيعة مع نوعٍ من العلاقة مع التُّراث، القطيعة التي تحوِّلنا من "كائنات تراثيّة" إلى كائنات لها تراث، أي إلى شخصيّات يشكِّل التُّراث أحد مقوماتها، المقوّم الجامع بينها في شخصية أعمّ، هي شخصيَّة الأمّة صاحبة التُّراث»[5].
2/ فصل المقروء عن القارئ ومشكلة الموضوعيّة : أي إرساء عمليّة فصل مزدوج بين الذّات والموضوع (فصل الموضوع عن الذّات، وفصل الذّات عن الموضوع)، ذلك أن «القارئ العربيّ مؤطَّرٌ بتراثه، مثقلٌ بحاضره»، ومن ثم وجب «تحرير الذّات من هيمنة النَّص التُّراث»، وهو ما يتحقّق من خلال منهجٍ ثلاثيّ :
أ- المعالجة البنيويّة: أي النّظر إلى النّص التُّراثي «ككلٍ تتحكّم فيه ثوابت، ويعتني بالتَّحولات التي يجريها عليها حول محورٍ واحد» ، و«محورة فكر صاحب النَّص حول إشكاليَّة واضحة».
ب – التَّحليل التَّاريخي: ربط النص بـ: «مجاله التَّاريخي بكلِّ أبعاده الثَّقافيّة والأيديولوجيّة والسِّياسيَّة والاجتماعيَّة».
ج- الطَّرح الأيديولوجي: أي «الكشف عن الوظيفة الأيديولوجيّة (الاجتماعيّة السياسيّة) التي أدَّاها الفكر المعني، الذي ينتمي إليه»[6].
3/ وصل القارئ والمقروء ومشكلة الاستمراريّة : أي ضرورة الحدث الاستشرافي كحقٍّ للذَّات القارئة التي «تحاول أن تقرأ نفسها في الذَّات المقروءة، ولكن مع الاحتفاظ لهذه الأخيرة بكيانها الذَّاتي كاملاً ومستقلاًّ، الشَّيء الذي يعني أن الذَّات القارئة تبقى محتفظةً بوعيها وبكامل شخصيَّتها»[7].
وبهذا فإنَّ الجابريّ يستخدم منهجًا مرنًا يعمل من خلاله على توظيف جملةٍ من المفاهيم الحداثيّة تنتمي إلى مجالاتٍ معرفيّة متعدِّدة؛ فهو يقول: «إنَّنا لا نتقيَّد في توظيفنا لتلك المفاهيم بنفس الحُدُود والقُيُود التي تؤطِّرها في إطارها المرجعيّ الأصليّ، بل كثيرًا ما نتعامل معها بحريَّةٍ واسعة.. وذلك لأنَّنا لا نعتبر هذه المفاهيم قوالب نهائيّة، بل فقط أدوات للعمل يجب استعمالها في كلّ موضوعٍ بالكيفيّة التي تجعلها منتجة»[8].
إن الجابري إجمالا يقترح علينا قراءة تجعل المقروء معاصرا لنفسه ولنا في نفس الوقت، فهو معاصر لنفسه على صعيد الإشكالية والمحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي. ومعاصرا لنا على صعيد الفهم والمعقولية. بهذا الشكل يكون الجابري قد حقق قراءة معرفية متميزة على مستويين: منهجا ورؤية. فمن حيث المنهجية المعتمدة يعترف بثلاثيته البحثية الموضوعية : المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي والبحث الإيديولوجي، وبذلك يتم وصل القارئ بالمقروء بالبحث عن الحقيقة الموضوعية للطروحات التراثية. ومن حيث الرؤية يتبنى الباحث وحدة الإشكالية داخل الفضاء التداولي العربي الإسلامي. إذ كل فكر هو تاريخي بطبعه ونتاج لسؤال معرفي محدد.
وقد ظل الجابري وفيا لهذه المقدمة المنهجية في كتابه الأخير من خلال تعامله مع النص القرآني وفق مبدأ جعل المقروء (النص القرآني) معاصرا لنفسه وللمتلقي. وتتحقق المعاصرة من خلال ربط النص بفضائه الإنتاجي ” فالظاهرة القرآنية، وإن كانت في جوهرها تجربة روحية، نبوة ورسالة، فهي في انتمائها اللغوي والاجتماعي والثقافي ظاهرة عربية، وبالتالي يجب أن لا ننتظر منها أن تخرج تماما عن فضاء اللغة العربية، لا على مستوى الإرسال ولا على مستوى التلقي”. أما جعله معاصرا لنا فيتم من خلال التناول الموضوعي لقضاياه على مستويين: مستوى التجربة الدينية التي هي ذاتية في جوهرها كما كانت عند الرسول وهذه إحالة إلى التوجه العلماني، ومستوى الفهم والمعقولية من خلال استيعاب النص ومعالجته. ومعنى ذلك أن الجابري يضع النص في إطاره الموضوعي الإنتاجي والحاجة المعرفية الحالية له.وهنا يتميز عن القراءات الأخرى باستحضاره لمعرفة النص وتركيزه على الجانب الإيبستمي في قراءته من خلال جمعه بين أصول استدلالية تفرقت في باقي القراءات.
III- منهج القراءة والتَّأويل عند محمد أركون :
تعتبر قراءة محمد أركون للتُّراث الإسلاميّ والنَّص القرآني أحد أهم القراءات المحدثة، والتي استلهمت الحداثة الغربيّة كنموذجٍ إرشاديٍّ في قراءة التراث، ويهدف أركون من خلال مشروعه النَّقدي إلى «تأسيس تاريخٍ منفتحٍ وتطبيقيٍّ للفكر الإسلاميّ» ، ويصف أركون مشروعه بالجدّية والتَّعقيد، كما يصف الإنتاج الفكري العربيّ الإسلاميّ بقوله: «إذا ما نظرنا إلى ناحية الباحثين العرب والمسلمين وجدنا تأخُّرًا وبطأً، ونواقص أشدُّ إيلامًا وحزنًا. إن تفاقم المشاكل السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة منذ السّبعينات يفسِّر لنا سبب الانخفاض الواضح للإنتاج العلميّ في المجال العربيّ والإسلاميّ كمًّا ونوعًا، أما الأدبيَّات النِّضالية فهي على العكس من ذلك وافرةٌ وغزيرةٌ جدًّا»[9].
تتمثّل خطوات المنهج في القراءة والتَّأويل لدى محمد أركون من خلال الهدف الذي يتوخَّى تحقيقه، ألا وهو بناءُ إسلاميَّاتٍ تطبيقيَّة، فالإسلاميّات التَّطبيقية «تدرس الإسلام ضمن منظور المساهمة العامة بإنجاز الانثروبولوجيا الدِّينيَّة» ، فمن هنا كانت المنهجيَّة التي حاول أركون تطبيقها على النَّص القرآني، وهي منهجيَّة كانت قد طُبِّقت على النُّصوص المسيحيَّة، وتتلخّص في إخضاع القرآن لمحكِّ النَّقد التَّاريخيّ المقارن، والتَّحليل الألسنيّ والتَّفكيكي، والتَّأمل الفلسفيّ المتعلق بإنتاج المعنى وتحوُّلاته.
إن منهج الإسلاميّات التَّطبيقيَّة الذي يتبَّناه أركون، يعتمد على عُلُوم الإنسان والمجتمع، وذلك لكون مشروعه يعمل على جبهاتٍ وحقولٍ معرفيَّة متعدَّدة يجملها أركون بما يلي : القرآن وتجربة المدينة، وجيل الصَّحابة، ورهانات الصِّراع من أجل الخلافة أو الإمامة، السُّنة والتَّسنُّن، وأصول الدِّين، وأصول الفقه، والشريعة، ومكانة الفلسفة أو الحكمة المعرفية وآفاقها، والعقل في العُلُوم العقليّة، والعقل والمخيال في الأدبيَّات التَّاريخية والجغرافيّة، والعقل والمخيال في الشِّعر والأسطورة، والعقل والمخيال في الآداب الشَّفهية، والمعرفة السكولائييَّة، والمعارف التَّطبيقيَّة أو التَّجريبية، والعقل الوضعيّ والنَّهضة، والعقل والمخيال الاجتماعيّ والثَّورات، ورهانات العقلانيَّة وتحوُّلات المعنى. [10]
إن خطة القراءة لدى أركون تعمل على إزاحة مسلَّمات الإسلام الأرثوذكسي بحسب وصفه، والتي تستند كما يرى إلى أحاديَّة الحقيقة المطلقة المنحصرة في الرِّسالة الدِّينيّة، والموقف المقدَّس للأنبياء من منظور الخلاص الأخرويّ، وعدم الشَّك في صحَّة الحكايات التي تنقل عجائب الأمور، وهي مسلَّماتُ التُّراث الإسلاميّ الكلِّي ذات الوظيفة الأيديولوجية في صراع الشَّرعية المعرفيَّة والسياسيَّة، والتي تخترق كافة مراحل التَّاريخ الإسلاميّ.
إن أركون يهدف إلى أحداث قطيعةٍ مع التُّراث تتجاوز الإسلام الأرثوذكسي، وتعتمد قراءته على المقاربات التالية :
1/ المقاربة السِّيميائية اللسانية : أي استخدام مقولات السِّيميائيّات واللِّسانيات من أجل عودةٍ نقديَّة للمواد المقروءة لمعرفة كيف تقوم العلامات المستخدمة في النُّصوص بالدَّلالة وتوليد المعنى وكيف ينبثق هذا المعنى وضمن أيّة شروط.
وهكذا يوظِّف أركون المفاهيم اللسانية باعتبار دورها الرئيسي في إرساء هذه الزَّحزحة المنهجيَّة الأساسيَّة : «القول بأن دعامة التَّوصيل ليست هي المعرفة الصَّحيحة» التي نمتلكها عن المادة المدروسة ... وإنما هي تكمن في المنظورات المتبادلة المقامة بين المتخاطبين المتنافسين المرتبطين بنفس إطار التَّحسس والإدراك والتَّصورات، أو بالأحرى نفس الصُّور العقليَّة التي تشير إليها العلامات اللُّغوية[11].
2/ المقاربة التَّاريخيَّة والسوسيولوجيّة : إن هذه المقاربة يهدف منها تقويض "الرُّؤية الدِّينيَّة" للتَّاريخ كما مارسها العلماء المسلمون الأوائل الذين «يهتمون بالأحداث الزَّمنيّة المتسلسلة، وبالسيرة الذَّاتيّة، وبالحكايات المناسبة من أجل البرهنة على صحَّة المادة المنقولة أو المرويّة وموثوقيَّتها». فالمقاربة التي يدشِّنها أركون ترتكز على النَّظر إلى التُّراث من خلال بُعْدَين عملت "المقاربة الثيولوجية الدوغمائيّة" على طمسها، وهما :
- أولاً: تاريخيَّة كلّ العمليَّات الثَّقافيّة والممارسة العمليّة التي يندمج الكتاب المقدَّس بواسطتها داخل الجسد الاجتماعيّ ويمارس دوره فيه.
- ثانيًا: سوسيولوجيا التلقّي أو الاستقبال، أي الكيفيّة التي تتلقى بها الفئات الاجتماعيّة أو الاثنيّة الاجتماعيّة المختلفة التُّراث[12].
3/ الموقف الثيولوجي : أي إخضاع الثيولوجي لـ«القواعد والمناهج المشتركة المطبَّقة على كل عمليّة معرفيّة»، ومن أجل ذلك لابُدَّ من دراسة الوحي انطلاقًا من "معطيات جديدة"، وهي معطيات الأنثروبولوجيا الدِّينية، وعلم نفس المعرفة اللَّذين يعلِّماننا بأنّ «الإيمان يتطابق عمومًا مع دوافع الرَّغبة الأكثر استعصاءً على الكبح، ومع مضامين الذَّاكرة الأكثر تعقيدًا، ومع تصورات المخيال الأكثر استيهامًا، ومع نبضات القلب الأكثر قوةً، ومع حاجات العقل الأكثر صرامة»[13].
يبدو أن أركون قد اتَّبع منهجًا في دراسة الخطاب الدِّينيّ يستند إلى منهج التَّحليل والتَّفكيك. والنَّقدُ عند أركون يهدف إلى إبراز الصِّفات اللِّسانيّة اللُّغوية للقرآن الكريم دون الوُصُول إلى حقيقةٍ بعينها؛ فهو ينفر منها بشدَّة، ويتلخَّص هدفه الأساس برفعِ قدسيَّة النَّص القرآني، وإبراز أسطوريَّته ولا عقلانيَّته، فهو لا يفتأ يردِّد مقولات النَّتشويّة الفرنسيّة، فهو يؤكِّد في كتابه «قضايا في نقد العقل الدينيّ» على القول : «وقد استمر العقل الحديث قبل مجيء ماركس ونتشه وفرويد في استغلال تلك المزودجات الثُّنائية الضِّديّة التي طالما استغلَّها الفكر القروسطي حتى شبع منها. أقصد بذلك المزدوجات التَّالية: خير/شر، صحيح/ خاطئ، جميل/قبيح، مادي/روحاني، فان/ باق، حلولي أو مُثولي/منزَّه أو متعال .. الخ»[14].
ولم يكتف العقل الحديث بهذا الإرث القروسطي، بل إنه أضاف إليه متضادات أخرى: تاريخي/ أسطوري، مقدس/دنيوي، ديني/سياسي، كنسيّة/دولة، روحي/زمني ... الخ[15].
يحمل أركون بشدَّة على الأدبيَّات الإسلاميّة القديمة والحديثة التي تعمل على تكفير الملل والأديان الأخرى، وتقسِّم البشريَّة إلى أتباع لدينٍ قَوِيمٍ وآخرين ضالين، فهو يقول: «ما كان في إمكانهم أن يتحرَّرُوا من النَّظرية اللاَّهوتيَّة القائلة: بالدِّين الحقّ من جهة، وبالنِّحل والأهواء الضالة من جهة أخرى»[16].
إن منهجية محمد أركون في القراءة والتَّأويل تستند إذن إلى مبدأ ألا حقيقةٌ هنالك على الإطلاق، وفي أيّ مجال من المجالات، ومن كان يرغب في اكتناه حقائق الأمور بموضوعيَّةٍ وتجرّد، فإن أركون يثبِّط من عزمه منذ البداية، ويُشعره بأنه خاسر لا محال في أول محاولة للدُّخول في معمعة الفكر. فأركون يدحض القول بالوُصُول إلى الحقيقة، ويسمِّيه ادعاءات العقل الكلاسيكيّ التي كانت سائدةً قبل أن يُنقد منطق أرسطو على يد العلم الحديث. فنحن الآن على حدِّ قول أركون وصلنا إلى مرحلةٍ جديدةٍ "مرحلة نهاية اليقينيَّات"، فالإنسان إذن مؤطَّرٌ في النِّسبويّة، ومأسورٌ في اللاحقيقة، ودنياه التي يعيش فيها ولغتُه ومؤسَّساته هي سجن مؤبَّدٌ لا تترك له فرجة للنَّظر إلى العالم بموضوعيّة، ولا يمكّنهم من استمداد أيّ نوعٍ من اليقينيَّات.
IV- الخاتمة :
إذا ما حاولنا في الختام الوقوف عند بعض ما يميز مشروعي الرجلين على مستوى قراءة وتأويل التراث يمكن أن نقف عند ثلاث نقط أساسية هي عينة فقط لما يفرق بينهما :
- على مستوى حقل ممارسة فعلي القراءة والتأويل لم يضع أركون حداً يؤطر حقل عمله داخل التراث، إذ اعتبر أن كل ما قد أنتجه العقل العربي الإسلامي شفهياً أو كتابياً، فلسفياً أو دينياً يجب التوقف عنده، والبحث في أسسه. بينما نجد الجابري قد حصر عمله بالثقافة العالمة، وحصر إطار بحثه بالعقل العربي وحده، وبما أنتجه في إطار البيان والعرفان والبرهان، مبعداً بذلك نفسه عن العقل اللاهوتي الذي له أربابه.
- على صعيد المنهج، فالأداة التي استخدمها كل منهما لإنجاز مشروعه مختلفة، فقد استعان أركون بمنجزات مناهج علوم الإنسان والمجتمع واللغة على التراث العربي الإسلامي، وسمح لعقله أن يطرق باب المقدس، والمستحيل التفكير فيه، مستعيناً بالألسنية، والسيميائية، والأنتروبولوجيا الإسلامية، أما الجابري فقد أعلن منذ بداية مشروعه عن تبنيه للإبستمولوجيا، واعتماده النقد الأبستمولوجي بغية التمكن من تفكيك بُنى العقل العربي والكشف عن مكوناتها. لذلك كان من الضروري بالنسبة إليه أخذ اللغة العربية كأداة معرفة تحمل تصوراً للعالم خاصاً بها،
- على صعيد الموقف من التصوف يرى الجابري أن التصوّف الإسلامي غرق في بحر الهرمسية، بخاصة عندما ادعى المتصوفة أن مشاهداتهم هي بمثابة الحقيقة في مقابل الشريعة، أو الباطن في مقابل الظاهر. بينما أركون ينظر للتصوف نظرة مغايرة تماماً يقرأ من خلالها التجربة الصوفية والخطاب الذي نتج عنها، مشيراً إلى غنى التجربة الصوفية المبنية على رحلة نحو اكتشاف المعنى، وبالتالي الوجود، يغذّيها هذا التوق الدائم نحو المطلق، ويُعبر عنها بلغة سيميائية متميزة لها مفرداتها وأساليبها الخاصة.
في الخاتمة لن نجد ما نقول ونحن نضع نقطة النهاية لهذه المقارنة المتعجلة أفضل مما قاله علي حرب في مختتم مقارنة له بين الجابري وأركون في :
" بالإجمال يمكنني القول في ختام هذه المقارنة أن أركون هو أكثر توغلا من الجابري في الكشف عن طبقات النصوص، وأشدّ تعرية لما يدور في باطن العقل الإسلامي من الآليات اللاشعورية واللامعقولة. غير أن الجابري هو أكثر منهجية وتركيزا من أركون، وأكثر عناية بالفرز والتصنيف، وأكثر اهتماما بترتيب المقدمات واستخلاص النتائج، أي أكثر ميلا للتنظير والتأصيل، معتمدا في ذلك على المنهجية الإبستيمولوجية بمختلف تلاوينها وتطبيقاتها" [17].




الهوامش :

[1] د. محمد عابد الجابري: «نحن والتراث» المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1980، ص8.
[2] المرجع السابق ص 10.
[3] المرجع السابق ص12.
[4] المرجع السابق ص13.
[5] د. محمد عابد الجابري: «نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي» ، المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء، الطبعة السادسة، 1993، ص 19-21.
[6] المرجع السابق: ص 21-25.
[7] المرجع السابق ص: 25-26.
[8] د. محمد عابد الجابري: «الخطاب العربي المعاصر» ، المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء، الطبعة السادسة، 1993،ص 12.
[9] محمد أركون: «تاريخية الفكر العربي الإسلامي» ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، الطبعة الأولى، 1986، ص15.
[10] محمد أركون: «تاريخيّة الفكر العربي الإسلامي» ، ص 16.
[11] محمد أركون: «الفكر الإسلامي: قراءة علمية» ، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1987، ص 32- 35.
[12] المرجع السابق، ص 35-44.
[13] المرجع السابق، ص 44 - 47.
[14] محمد أركون: «قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟» ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1998، ص 238.
[15] المرجع سابق، ص 238.
[16] محمد أركون: «القرآن : من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني» ، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2001، ص6.
[17] علي حرب: «النص والحقيقة : نقد النص»، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2000، ص 116-117.



#خالد_أمزال (هاشتاغ)       Khalid_Amazzal#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد أمزال - مبادئ القراءة والتأويل عند الجابري وأركون