|
منزلنا الريفي (67)
عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .
الحوار المتمدن-العدد: 4633 - 2014 / 11 / 14 - 19:19
المحور:
الادب والفن
الفاميلة الزينة (4)
كانت عبوش في عامها الرابع عشر حينما أقدم والدها على تزويجها، كانت طفلة تلعب الغميضة مع صديقاتها الراعيات، لم تكن تعرف معنى الزواج !! فالذي كانت تعرفه هو أنه حينما يهطل المطر، كانت ترتدي (صباط البوط) على رجليها، وتضع قطعة بلاستيكية على رأسها، وتهيم نحو المرعى، فلا تعود إلى المنزل إلا مع غروب الشمس. تظل طوال النهار ماكثة في المرعى، تتابع مسار الأغنام وهي تبحث عن الكلأ، متجولة بين الغابات والوديان والحقول. لقد أصبحت الأغنام وعبوش تفهمان بعضهما البعض، ففي فترة القيظ لا تغادر الأغنام الغابة، بل تظل قريبة من صديقتها عبوش، وهي تنتظر أختها الزايرة لكي تمدها بوجبة الغداء . كانت الوجبة عبارة عن صيكوك، أي لبن مختلط بدقيق الذرة المفور. كان لذيذا خلال فترة القيظ الذي تكتنفه نسمات حارة قادمة من الشرق. كانت تدعو صديقاتها إلى مشاركتها الطعام، وكن يقبلن ذلك على مضض، ربما عائلتهن نست تزويدهن بالطعام في أدغال الغابة. لقد صرن أكثر من صديقات، فكن يحملن معهن مشطا إلى المرعى، ويرجلن شعورهن، ويفلين رؤوس بعضهن البعض من القمل، كما يأخذهن معهن طعاريجهن، ويغنين ويرقصن على مشارف الوادي، كانت عبوش هي رئيستهن، وتفرض عليهن أغنيتها التي تقول فيها : يا حباباتي كولو لذاك الراجل ميدنيش، أنا مكنبغيش هو ما مكيبغنيش "*، كان صوتها يصدح في السماء، يمتح من الرفض، ويرقص مع الجفول، إنه صوت راعيات قرويات تجمعن قرب الوادي، داعبن أجسادهن، وتغنين بشعورهن، ولامسن عواطفهن الخرساء، وقفزن مع السيول، وقدن أغنامهن نحو الأفق، كن لا يخشين شيئا، المرعى هو صديقهن، يقضين فيه كل وقتهن، هو حلمهن وأنشودتهن، فصرن تلميذات للمرعى، فطيلة رحلتهن كن يشيدن أعشاشا يرقدن فيها أثناء فترة القيظ، أما خلال الشتاء فكن يضعن القطع البلاستيكية على الأعشاش، ويحمين أنفسهن من لسعات البرد وزخات المطر، وبينما الوادي يفيض كن ينزحن نحو السفح، فيراقبن فيضانه بمجون، كان لونه مفعما بالحياة، يرسل بشائر الربيع، ويبعث ذبذبات الحب في القرية التي هدتها نكسات الخريف . كانت عبوش ترى فورة الوادي تلك من فورتها، كانت تعتبر السيول الجارفة التي يحملها الوادي في أحشائه لا تفوق سيولتها العاطفية وانتفاضتها الجسدية. أما وهي الآن في عامها الرابع عشر ؟؟ لقد باتت تحس بجسدها أكثر من ذي قبل، أحست بتغيره خلال السنين الأخيرة، انتفخ صدرها، اتسع حوضها، كما كبر جسدها، وفاض خيالها ...في الليل، كان يأتيها رجل وسيم يحدثها عن الحب، ويأخذها على حصانه ويغادران نحو المجهول . لقد كانت تضحك حينما يأخذها بين يديه، ويضعها على صهوة الحصان، وعندما تتوجه إلى المرعى، كانت تحكي لصديقتها ما رأته في حلمها، كن لا يقدرن كلامها، ويعتبرنه حالما، فالإفراط في الحلم يؤدي إلى الجنون، لذا هن يعتبرن حلمهن لا يوجد إلا في هذه الأرض، وليس بعيدا في عالم المتمنيات. ذات يوم أجبرت عبوش على عدم الذهاب إلى المرعى، كانت عيون رجل تطاردها بين مسامات الغابة، كان هذا الرجل فلاحا، يأخذ كل صباح معوله، ويذهب لشق الأرض، لم يكن يؤمن بالحلم، كان يعتبر أن المرأة لا تختلف عن الأرض، فالمرأة ينبغي أن نشقها بمعولنا مثلما نشق الأرض، وإلا ستتحول إلى قطعة بوار . من أفق واسع لا تحده حدود إلى منزل ضيق تحده الجدران، وجدت عبوش نفسها مطوقة، لم تعد تلك الفتاة الصغيرة الحالمة، بل صارت تلك المرأة الشائخة التي تنتظر حلول الموت لكي تغادر هذا العالم المر، ففي غضون سنة تسارع الزمن كأن الفاصل بين الشيخوخة والطفولة لا يساوي حتى شبر، كل الأحلام ماتت، وعبوش تحولت إلى دجاجة دون ديك تجر خلفها العشرات من الكتاكيت، إنها امرأة نذرت نفسها للآخرين، ونست عواطفها ورغباتها. في ذلك الأفق البعيد المفعم بالزرقة، كانت رياح قارسة تهب من المحيط، كانت هناك امرأة عائدة من رحلة طويلة، تحمل طفلا يرتعد من هول البرد، وكانت تضع في يديها رزما صغيرة تحوي بلح البحر. كانت خنائن الطفل تملأ وجهه، والجوع ينخر كيانه. ها هي الشمس توشك على الأفول، لا شيء في اليد غير نزر يسير تعبث به الرياح، أما ماذا أكل الأولاد ؟ وماذا شربوا ؟ فكل فهذه الأسئلة ليست في الحسبان، أربعة أولاد في رقبة امرأة، أجبرت على الزواج صغيرة، وطلقت صغيرة، فكرهتها العائلة وذمها الدوار، فرحلت بعيدا تبحث عن لقمة العيش على مشارف البحر، إن المرأة في المجتمع المغربي (الإنسان بصفة عامة) أينما حللت فهي متهمة دائما، طالما هي دون رجل تكون عرضة للرجال، فالرجل لا يقبل وجود امرأة في الفضاء العام، وإذا عثر عليها، يعتبرها أداة للتحرش، أو سلعة للاستهلاك، لهذا كم مرة سأل الرجال عبوش : هل هي متزوجة ؟ عبوش غير متزوجة، بل نذرت نفسها لأبناء مثل من يعتني بشجرة صغيرة، من ثمة هي تراهن على تحدي المجتمع، فلا قسوة تضاهي قسوته، فلسنا سوى قرابين من أجل غول اسمه المجتمع، لقد قدمت عبوش قربانا للمجتمع في زواجها، وها هي تقدم قربانا له بعد طلاقها، وفيما بعد ستقدم أبناءها قربانا للمجتمع، وإلا لماذا تكد من أجلهم ناسية ذاتها ؟ كل صباح، كانت تستيقظ باكرة، تعد الفطور، وتوقظ أبناءها الثلاثة، فيفطرون، ويرحلون إلى المدرسة، أما هي فتأخذ ابنها الصغير، وتتردد عبر المنازل لعلها تعثر على شغل، وإذا لم تعثر عليه تتوجه صوب البحر. -------------------------------------
* تعني هذه العبارة باللغة العربية : يا صديقاتي ! لا تتركن ذاك الرجل يأخذني، فأنا لا أحبه وهو لا يحبني .
عبد الله عنتار - 14 نونبر 2014 / المغرب
#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خربشات المحال
-
منزلنا الريفي (66)
-
منزلنا الريفي (65)
-
منزلنا الريفي (64)
-
منزلنا الريفي (63)
-
حلمة الأثر
-
منزلنا الريفي (62)
-
منزلنا الريفي (61)
-
منزلنا الريفي (60)
-
شمس الخريف
-
كئيب الروح والحياة
-
منزلنا الريفي (59)
-
زهرة الناي
-
منزلنا الريفي (58)
-
منزلنا الريفي (57)
-
رحلة إلى فضالات ...غبن يرتدي معطف الاستحمار
-
منزلنا الريفي (56)
-
رحلة إلى بوزنيقة ...رحلة بين أحضان الرعاع
-
على شاطئ الموت
-
دموعي من دموع غايا *
المزيد.....
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|