|
السفر الهيرمينوطيقي عبر جزر الخيال: أملات في البرزخ وتعدد دلالات الصورة-الرمز من خلال فكر محيي الدين ابن عربي (ترجمة من الاسبانية إلى العربية)
نرجس اليعقوبي
الحوار المتمدن-العدد: 4633 - 2014 / 11 / 14 - 17:11
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
بابلوِ بِنييطو أرياس * Pablo Beneito Arias
ترجمة: نرجــس اليعـــقوبي إلى ذكرى صديقتي المُلهمة إيمّا كاردونا
الفن كخيمياء رمزية
امتاز الإسلام في سياق بحثه عن شكله التعبيري بالتجريد واختزال الموضوع الفني إلى عناصره الأساسية على حساب الفن التشكيلي الواقعي الذي بدأ بالظهور مؤخرا فقط كنتيجة للتأثر بفن عصر النهضة الأوروبي وما بعده. فالميل إلى التجريد واختزال الموضوع الفني إلى عناصره الأساسية وإلى الهندسة لا يعتبر من محددات الإرث العربي لمهد الإسلام فقط، كما أشار إلى ذلك أولِغ غْرابار (1979)، أو نتيجة للجدل السياسي المتمثل في معارضة بيزنطة ورموزها وكل ما يمثلها، كما أنه لم يكن أيضا نتيجة لادعاءات رفض وتحريم رسم الإنسان والنحت والتصوير الواردة في الأحاديث المنسوبة للرسول وبعض تأويلات الفقهاء. أعتقد أن الروح الخاصة للإسلام أفرزت عالما من الصور لا يهدف إلى التعبير عن طريق الصور وإعادة إنتاج سلطة الأبعاد الثلاثة للأجسام، بل يهدف، على العكس من ذلك، إلى التعالي بالتعبير عن طريق الصور وإلى تحرير الصورة التي تم التفكير فيها منذ البدء لتكون رمزا متعدد الدلالات، ينبغي تأويله مادام هو انعكاس لبعد آخر ( أكثر تلطّفا ورقيا و أكثر روحانية وأكثر كيفية ومعقولية) مختلِف عن توجه المجال الكمي والزمن الأفقي أوالكرونولوجي. يسافر مؤوِّل الإشارات الإلهية في الكتابة الأولى وفي الكتاب المُنزل وفي كتاب الكون وفي عالم الإنسان المصغر من بُعد إلى آخر وهو غارق في برزخ الخيال. للتمييز بين هذا العالم، أي عالم الخيال الخلاق المستقل والحي للنماذج الأصلية والرموز الحية، وبين عالم التخيل والوهم والاستيهامات الشخصية المُعرب عنها، اقترح هنري كوربان في مؤلفاته حول هذا الموضوع، مصطلح عالم الخيال الذي استعمل كثيرا من طرف دارسين أتوا بعده. فالرمز إذن، هو واقع ديناميكي ومتعدد الدلالات وحي. بالاضافة إلى هذا، ففي مقابل مفهوم الرمز كإشارة اعتباطية، يَفهمُ التصور التقليدي الإسلامي -مثله مثل باقي أشكال الفكر التقليدي- من الإشارة أو الصورة- الرمز أنها آيات لتدخل العناية الإلهية.
اتضح من الأساس أنه في هذا المجال من الواقع، لا يمكن للمفهوم أن يُعَوّض الرمز، أي أن الرمز لا يُمثل مجموعة أفكار أو عميلة ذهنية عادية أو ميكانيكية، لأنه يشكل جزءا من ديناميكية رمزية، مقدما طريقة منفتحة للمعنى، فالرمز إذن يملك طبيعة متعددة الدلالات التي تقيم حوارا إبداعيا مع محيطها الرمزي. أعتبر، إذن، أن مفهوم الخيال الذي يسود في الإسلام (وعندما أقول يسود أفكر، على سبيل المثال، في التأثير الحاسم لابن عربي المُرسي الذي سأتحدث عنه لاحقا، في فكر القرون الثمانية الأخيرة للثقافة الإسلامية) ألهم فن الاستحضار وفن الاشارة وفن الانعكاس وفن تعدد دلالات الرمز، وهي فنون تحيل في صورها المخفية عموما على نموذج أصيل، وعلى طرازها الأصلي السماوي وعلى مبادئها الميتافيزيقية الكامنة وراء الأصل. يتم تمثل الواقع عبر الصور لما تم التعبير عنه عن طريق صورة أعيد إنتاجها في هذا البعد (عالم الواقع) وكأن الغرض هو تثبيت ما هو عرضي وزائل في ظهورها الكثيف وغير الشفاف وفي أسلوبها الأكثر خلوا من المعنى. وعلى العكس من ذلك، فتحرير الصورة يقوم على أساس إعادة شفافيتها. ينبغي على الفنان أن يفهم الصورة في حركية عودتها نحو مبدئها. ترتقي الصورة مثلها مثل الكلمة في سلم المعاني نحو مبدئها الضروري، وهو الواحدية الإلهية، ذلك المبدأ الذي يعتبر دعامة جميع الصور. في الفن الذي تم التفكير فيه ومنذ البدء ليكون خيمياء روحية يتم إجراء ما يشبه تلاشي الصورة التي هي في طور التحول. انطلاقا من تحديد المصطلحات يمكننا التحدث عن الفناء أو إبادة الصورة، التي في كل دينامية إبداعية ستكون وبالضرورة مرافقة لمقابلها بقاء، أي استمرارها في عالم الصور أو عالم المثال.قبل الاستمرار في هذا العرض حول الجزر العجيبة لجغرافيا التضاد، كنت أود أن أشير إلى أنني لست بصدد عرض مقال فكري وأكاديمي فقط، بل بالأحرى أنا بصدد عرض مجموعة من الأفكار الخاصة،ذات الطابع العام، حول مختلف المفاهيم الإسلامية التي تقود إلى تأويل خاص للصورة والفن في الإسلام. مرجع تأملاتي الدائم هي أعمال ابن عربي المرسي، الذي تفرغتُ لدراسة متنه، وكانت النتيجة تأليفي لمجموعة من الكتب التي تتضمن بالتفصيل عدة مصادر ومراجع، وحتى لا أثقل عليكم سأحيل القراء على ملخص هذه المصادر والمراجع في نهاية المقال. هذا المؤلف الشهير يُعتبر النموذج الأكبر للتصوف في مرحلة الذروة ونقطة تحول بين مرحلة "ما قبل" ومرحلة "ما بعد" في الفكر الإسلامي، وهو أساس هذه التقديرات (في متنه) التي لا تتوقف عن الإلحاح على أهمية طريقة مقاربة الفن والفن الإسلامي على الخصوص والتي يتم تجاهلها عادة في الدراسات الأكاديمية. قبل التطرق للحديث عن التضاد كمنهج هيرمينوطيقي و أساس للفن الإسلامي الصرف، سأقدم أولا على شكل مدخل، ملخص عام عن حياة ابن عربي –موجه بالخصوص إلى الأشخاص الذين لم يتعودوا على قراءة حياته ومتنه- وفي نفس الوقت سأقدم بشكل عام أيضا بعض المصطلحات التي تميز فكره.
حول ابن عربي "بين نعم ولا تطير الأرواح" ( الفتوحات المكية، دار الكتب العلمية: ط، الأولى، 1999. ص.235)
ولد المفكر الشهير والشاعر المتصوف محي الدين ابن عربي في مورسية سنة 560هـ 1165م ، انتقل في طفولته إلى اشبيلية التي كانت عاصمة الموحدين في الأندلس، حيث تلقى تعليمه في العلوم الدينية سافر خلال المرحلة الأولى من حياته إلى كل من الأندلس والمغرب (فاس وبجاية وتونس...) حتى رحل في النهاية إلى الشرق الأوسط وهناك قضى الجزء الثاني من حياته. بعد زيارته المتتالية لمكة والمدينة وقونية التركية ومالطة وبغداد وحلب، استقر في الأخير في دمشق حيث توفي بها في 638هـ 1240م، ويوجد قبره في الضريح الذي شيده على شرفه السلطان العثماني سليم الثاني والموجود عند سفح جبل قاديسون، يمكن زيارة قبره في جامع الشيخ محي الدين بن عربي والذي يوجد في حي يحمل اسمه أيضا. تعتبر حياةُ وكتابات وأسفار وتأملات ابن عربي وعمله الهيرمينوطيقي أبعادا غير منفصلة في حياة هذا العَلَم الأصيل الأندلسي الذي جمع في تفكيره بين التقليد والعقل والكشف وحقق تصالحا فيما بينها. لقب بن عربي لاحقا بالشيخ الأكبر، ويعتبر في أوساط المتصوفة وريثَ ومؤول للروح المحمدية وبامتياز. ألف أكثر من 250 مؤلفا من أهمها مؤلفه الهائل الذي يندرج في العلوم الروحانية للإسلام "الفتوحات المكية"، ومؤلفه "فصوص الحكم" وكان هذا الأخير محط اهتمام أهم المفكرين والمهتمين بالشأن الصوفي حيث حظي بأكثر من 100 تعليق وتفسير بمختلف اللغات (العربية والفارسية والتركية والأردية...) إضافة إلى شعره كما نجده في "ترجمان الأشواق". أثرت أعماله بشكل حاسم في الفكر الإسلامي في القرون الثمانية الأخيرة في العالم الإسلامي قاطبة ابتدءا من المغرب وحتى الصين، وليس فقط في العالم العربي. كان هذا المؤلف الملهم، المعروف عالميا فاقت شهرته كل أقرانه ألأندلسيين، المحور الأساس للفكر العثماني، وهو لا يزال حتى يومنا هذا مرجعا ثابتا في محيط اللغة الفارسية. يتمتع تفكيره حاليا، وفي العالم كله، بطاقة حيوية تبرز الاهتمام الذي تثيره أعماله بين مبدعين ومثقفين وروحانيين من مختلف الأصول والطبائع. وخير مثال على هذا الأنشطة المقدمة من طرف "الجمعية الدولية لمحي الدين بن عربي"، التي يوجد مقرها بأوكسفورد(**) ومن طرف "جمعية بن عربي الدولية"(***) في صيغتها الإسبانية ويوجد مقرها بمورسية، (بالإسبانية: (MIAS-Latina، ويمكن للقارئ كما هو واضح أن يتأكد من أن الدراسات والترجمات المتعلقة بأعمال بن عربي إلى اللغات الغربية قد تضاعفت في العقود الأخيرة وحتى في يومنا هذا، يمكن قراءة بن عربي بعمق باللغة الإسبانية والفرنسية والانجليزية والتركية ولغات أوروبية أخرى. يرتبط فكر بن عربي وبشكل كامل بالتقليد الإبراهيمي وعالم النبوة. وبالرغم من أن فكر ابن عربي هو وريث الحكمة القديمة والفكر الإغريقي والعالم الإيراني والتقليد اليهودي-المسيحي، فإنه بحق فكر عربي، ذلك لأنه متجذر بعمق في الثقافة واللغة العربية، وهو إسلامي بشكل تام، لأن مصادره الدائمة هي أصول الكتب الإسلامية أي القران والسنة. بمقتضى نفس هذا الأساس الإسلامي تُقدم أعماله فكرا كونيا يعترف بجميع الرسل على مدار التاريخ ويعترف كذلك بمختلف شعائر الوحي – التي تعتبر طرقا دائمة تشملها العناية الإلهية وتتمتع بالفعالية للوصول إلى درجة الروحانية- بما في ذلك كل الطّـُّرق الملهِمة للمعرفة الحقيقية ولعبادة الواحد الكثير الذي هو نفس الوقت متعالي وملازم، متشابه ومنزه، ظاهر وباطن، وحتى في عبادةٍ مثل هذه والتي تبدو وكأنها تتلبَّس بمظهر عبادة الأصنام، نجد هنا بابا مفتوحا للحوار وللاحترام الحقيقي –الاعتراف الحقيقي بكرامة الآخر- بين مختلف الثقافات والتقاليد. يُفهم الوجود ويُعاش كتجلٍ لألوهية الإله أي انكشاف الواحد في تعدد تجلياته وأسمائه، هو في نهاية المطاف جمال خالص، شفقة بدون حدود. الله المسمى الحق، هو حاضر في جميع الأشياء وفي نفس الوقت يتعالى عن كل شيء.غاية الإنسان هو معرفة الخالق. الكائن الإنساني يتطور عبر المقامات الروحانية، يرشده الإحسان، حتى يستعيد الصفات الإلهية الأصلية التي كانت على الصورة الآدمية. هكذا ينال الإنسان، في ما يسمى أرض الحقيقة الواسعة، منزلة العبودية الكاملة. يكون قلبه عندها مسَلَّما ومتقبلا للتجليات الإلهية المتجددة بالأنفاس. بامتلاكه لملكة الكشف، يعيش المتصوف في حضرة الحق وتماشيا مع إرادته. يعتبر ابن عربي بمساره الحيوي وما وصلت إليه أعماله و بتأثيره في كل الأزمنة، نموذجا لعبور مسار داخلي نحو الوحدة التي تجمع بين الأضداد وتجمع بين العوالم ودرجات الوجود، وتجمع بين أفقين هما الشرق والغرب. يمكن الـتأكيد على أن ابن عربي الذي أدمج في فكره بين العقل والكشف، الوحدة والتنوع، يعتبر أول مؤلف من بين المؤلفين في التقليد الإبراهيمي، في القرنين الثاني والثالث عشر، الذي عرض بشكل متين ومحدِّد الأسس التي تسمح وتتطلب وضع حوار خلاَّق ومسالم بين مختلف المعتقدات والثقافات. سأركز الآن على عرض بعض المصطلحات المرجعية (الخاصة بالدرجة الأولى بالتصوف) التي تمكن من فهم مصطلح تعدد الدلالات بشكل أفضل وانتقال وضع إلى وضع آخر رمزيا في الفن الإسلامي.
طريق التضاد
"وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" (سورة الأنفال الآية 17)
يعتبر التضاد عموما والغموض على الخصوص، في الغالب، مصطلحين سلبيين، مادام بهما نقص ويفتقران للوضوح. كثيرا ما يتم ربط التضاد بالغموض وباللبس والشبهة دون الأخذ بعين الاعتبار خاصية هذه المفردات التوضيحية كتعويض لخصائصها التي يعتبرها البعض سلبية. يسترجع المتصوفة المعنى الإيجابي للتضاد، ولا ينبغي أن نخلط بين هذا المعنى و بين الالتباس/الشبهة التي لم تسلم من لعنة القرآن، مستعيدين بعده الميتافيزيقي. في الخطاب الصوفي عند المتصوفة الذين ينتسبون للتيار الروحي لابن عربي المرسي، لا يقدَّم التضاد على أنه نقص أو عائق أمام الفهم. وعلى العكس من ذلك، فلمعرفة شيء بشكل تام، من الدقة إدراكه في تضاده الكلي. عندما يتم إدراك واجهة واحدة لموضوع المعرفة – على سبيل المثال إدراك موضوع ما كمخلوق وكثافة وجسم- يظهر الموضوع على أنه غير شفاف. ومع ذلك، فالإدراك متعدد الدلالات لموضوع ما يمكن أن يكشف عن شفافيته الجوهرية. المرآة هي متضادة لأن لها سطح غير شفاف وفي نفس الوقت يعتبر سطحها هو المكان الذي يظهر فيه انعكاس الموضوع. الخلق، كمرآة للأنوار الالهية يشارك بالضرورة في هذا التعدد الدلالي. لا يبحث المتأمل عن الحل للتضاد أو التحرر منه، بل بالأحرى يبحث عن التحقيق الكامل لمعناه، عن معرفته لذاته كمكان للتجلي يبحث عن تحوُّلُه إلى وعي خالص إلى شهادة حية للتضاد الكامل للغز الواحد الظاهر الباطن. الغوص في التضاد ليس خللا، بل هو انجاز صوفي، إنه غاية للتحقق الصوفي. تكمن السلطة السحرية للقلب في قدرته على كشف التضاد لجميع التحديدات، محولا كنه ما هو متنوع إلى ذهب الجوهر. في مدرسة وحدة الوجود، الجوهر هو واحدُ مفعولاته وتجلياته متعددة. تؤكد مدرسة وحدة الوجود على الجوهر الواحد وعلى تعدد التجليات في نفس الوقت وهذا التأكيد المزدوج هو ما يشكل الأساس الميتافيزيقي للتضاد كله. هكذا، يكون التضاد في نفس الوقت أساس التجربة الصوفية – وفي الحقيقة هو أساس كل تجربة، و كل علاقة بين الداخل والخارج- وهو كذلك الطريق الروحي الذي يحفظ التوازن بين حدس ما هو متعالي وإدراك ما هو حال في العالم وحفظ التوازن بين الاختلاف والهوية. في التصوف الأكبر -هكذا يسمى فكر بن عربي والمنتمين إلى تقليده الروحي- المعرفة الكاملة هي نتيجة تكامل معرفة ما هو واحد و ما هو متعدد، يمكن أن نستعمل كذلك أحد مصطلحاته المتضادة، في معرفة الواحد-المتعدد. كل كائن وكل حالة أو كل درجة للوجود هي برزخ، بمعنى، التقاء –أو انفصال- لواقعين آخرين. يساهم كل واقع من الطبيعة ومن خصائص الواقعين بهذا الشكل في الجمع والفصل. من الخط الذي يفصل الضوء عن الظلمة يمكن أن نقول عنه بأنه ضوء و ظلمة. كما يمكن أن نقول عن هذا الخط أيضا بأنه ليس بضوء وليس بظل. كل كائن مخلوق هو واقع وَسَطِ ومتضاد والذي هو في نفس الوقت هو ولا هو. كل العوالم الممكنة، كل الأبعاد وكل درجات الكائن الروحي، ينبغي أن تفهم في إطار هذه النظرة التكاملية كعالمين وسطين أي كبرزخ، و عليه فهما متضادان. في هذه الميتافيزيقا أي ميتافيزيقا الغموض –نفهم هذه الكلمة هنا في معناها النيِّر- تكمن المعرفة في التوازن الذي يضعه لغز التضاد. هذا التوازن العادل ُيدمج –وفي نفس الوقت يتعالى- الوحدة والتعدد، التشبيه والتنزيه العظمة والجمال، الحزم والشفقة، الاحترام الموقر والحميمية، القرب والبعد. يطلق بن عربي اسم طريق الربيع على الإدماج التام بين التشبيه والتنزيه داخل القلب، ويطلق على المنزلة الروحية الأعلى مقام الحيرة. فالمتصوف يتعالى إذن نحو الحيرة كنتيجة لتضاد الوجود الحق ونتيجة للغموض النيِّر للمعرفة. لا تعني الحيرة هنا اللبس، بل ما تعنيه بالأحرى هو التحقق الروحي المُوحِّد والمميِّز في نفس الوقت. بين الهوية المطلقة والاختلاف المطلق، يعيد قياس المصطلحات – يوجد البرزخ بين الهوية والاختلاف، كتعويض للمعنى السلبي للتضاد كما سبقت الإشارة إلى ذلك- للوعي الرابط الأصلي لجميع التجليات النسبية التي هي نتيجة للعلاقات القائمة بين أسماء الله. من بين العديد من النصوص الدينية في الإسلام سأشير إلى بعض النصوص التي تؤسس لطريق التضاد. ذلك أن النصوص التي سأستشهد بها هي معروفة جدا ويمكن العثور عليها بسهولة – على سبيل المثال، الكتب التي نشرتها سابقا عن ابن عربي- يذكر في حديث قدسي مشهور، يرويه المتصوفة على لسان الرسول: "لقد كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف"، هذا الحديث الذي يستشهد به ابن عربي كثيرا يوضح الدور المركزي للكائن الإنسان: وهذا الدور هو معرفة الخالق. في نهاية المطاف الله هو من يعرف ذاته بذاته في مكان تجليه –الخلق- والإنسان الكامل هو إنسان عين الله في الكون. في علاقة مع التضاد، هذا الحديث هم مهم بدرجة خاصة لأنه يشير إلى سبب خلق الكون: ظهور صفات الألوهية في حضرة الإله المحب المحبوب. سر الحب الإلهي والشوق الإلهي، ورغبة الله في أن يُعرف، تؤسس الحاجة للتضاد. الثلاثي حب ومحب ومحبوب يكوِّن دينامية خلاقة للرغبة: فأمام المعرفة المطلقة والأبدية واللامتغيرة تتجدد دينامية المعرفة باستمرار؛ وأمام الإرادة الكاملة غير المنقسمة هناك الله الراغب في الإنسان والمرغوب من طرف الإنسان، إنسان راغب في الله ومرغوب من طرف الله. عندما سألوا الخراز بما عرفت الله؟ أجاب: بجمع الأضداد. وبعد هذا ذكر الآية القرآنية التالية: "هو الأول والآخِر والظاهر والباطن" سورة الحديد الآية 3 .هذا الجمع بين الأضداد الجدلية وإعادة إدماجها في وحدتها الذاتية هي الطريق الأرقى لتحقيق التوحيد الإلهي. تعتبر الشهادة الإسلامية أساس الإيمان عند المسلمين، تشكل هذه العبارة التضاد في صيغته الأكثر وضوحا: "أشهد أن لا إله إلا لله وأن محمدا رسول الله" الشطر الأول من هذا الكنز، أي كنز المتضادات قد يتم التعبير عنه كذلك بهذا الشكل:" لا وجود لإله ليس هو الله" ذلك أنه لا يتم التأكيد فقط على التعالي وتنزيه الواحد أثناء إنكار وجود آلهة أخرى يمكن أن تشترك مع الله لكن يتم التأكيد أيضا من منظور آخر على ألوهية ذاك الذي ينكر استقلاله وتشبيه الله في كل مظاهره وحضور الله في تجلياته الإلهية. تتنوع أثار أسماء وصفات الله، وذلك راجع لتعدد خصائص الأسماء آخذين بعين الاعتبار صفتها المميِّزة. وبالرغم من ذلك فان كل الأسماء تعني ذاتا واحدة. من منظور جامع وموحِّد، كل مناظر الخلق هي تجليات الواحد، الذي هو واحد بكل واحد في كل واحدة من تجلياته. ليس هناك إذن لا خلط ولا جمع بين الجواهر. الذات الحقيقية الوحيدة في نهاية المطاف هي ذات الله. كل ما عدا ذلك يوجد فقط من أجله. نفس الرحمن يوجدُ جميع المخلوقات ليكون الإنسان الكامل ولي الله في الأرض، فهدف الخلق هو معرفة الخالق. غموض طبيعة الإنسان، هذا البرزخ هو أسمى الخلق، فهذا الكائن المصغّر الذي خلق على صورة خالقه، ينعكس في فكرة أن الإنسان هو مرآة الحق ومحل تجلياته. يمكن للكائن الإنساني أن يعرف الله فقط بقدر ما تسمح به مرآة قلبه: نزعته واستعداده وقبوليته تعتبر في هذا الصدد محددات ضرورية. من البديهي أن هذه المعرفة، لا تتم عن طريق نظر عقلي، بل إنها تجربة الإلهام، إنه إعلام الهي. تتجدد المعرفة داخل القلب المنفتح المتقبّل للإلهام الإلهي والحب الإلهي. لازال قلب المتصوف يتردَّدُ بدون توقف ولازال يغير من منظوره ولازال يتأقلم في الحال مع كل تجدد للتجلي. الكون هو أيضا مرآة الحق، لهذا السبب له وجود ولا وجود له، يكون ولا يكون: هو واقعي حقيقي من حيث أنه تجلي الهي وهو في نفس الوقت مجرد مظهر لمخلوق من بين المخلوقات. يخاطب الله محمدا في سورة الأنفال الاية 17 إذ يقول له "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". النص القرآني ينكر ويثبت: الرسول رمى في إطار محسوس لما هو متعدد لكن في النظام غير المختلف عن الواقع الذي رمى هو الله نفسه. الغموض النهائي للمعرفة الإنسانية يُختصر في كون أن الإنسان هو الذي يكشف وفي نفس الوقت يخفي ذاك الذي يكشفه. الإنسان هو حجاب الله. وهذا في حد ذاته لا يشكل نقصا أو علة. وظيفة الإنسان هي معرفة الله، وفي نفس الوقت حجبه من أجل الحفاظ على نظام ما هو متعدد. الحجاب هو هبة إلهية. ما اقترحه لفهم التصوف أو أشكال أخرى للروحانيات الإسلامية، وما أضافه للفن الإسلامي هو الوعي بقبول التضاد كسلطة امتيازية للتجربة الروحية تعتبر ركنا من أركان الوضوح الداخلي. في التقليد الصوفي يتموضع الكائن البشري في البرزخ أو من الأفضل القول هو البرزخ، هو العالم الوسط الذي يجمع بين الأضداد وفي نفس الوقت يميزها. هكذا يصالح الإنسان الواعي عبر التصوف بين وضعه البشري كعبد بتحقيق فقره الأنطولوجي وبين وضعه كخليفة الله في الكون. يأخذ الإنسان على عاتقه في نفس الحين، وضعه كفاعل مخلوق على صورة الخالق ومشيئته ومسؤوليته من جهة، ومن جهة أخرى خضوعه التام لإرادة القادر ووضعه السلبي وقبوله الكامل ليكون محل الشهادة . تلتقي الحرية مع الخضوع في البرزخ الإنساني. يضطلع الإنسان في المجال الإلهي بالجمع بين الحرية والخضوع، بالرغم من أنه في مجال الخلق لما هو متعدد تتميز الحرية و الخضوع بآثارهما. هكذا يكون الإنسان إذن حر وغير حر. هذا التضاد يمكن أن يُولـِّد ارتباكا بالنسبة للعقل النظري الذي يعمل بطريقة ثنائية، عن طريق التعارض والتقابل، لكن التضاد هو المجال الخاص للتأمل الذي يؤكد وينفي في نفس الوقت، إنه العالم الوسط الذي يربط بين نعم ولا. عندما يحكي ابن عربي عن لقائه بابن رشد في قرطبة أشار بأن الفيلسوف سأله: " كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟ هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت له: نعم لا و بين نعم ولا تطير الأرواح من موادّها و الأعناق من أجسادها." ( الفتوحات المكية، دار الكتب العلمية: ط، الأولى، 1999. ص.235) يقترح التصوف وعيا مزدوجا – يكون/لا يكون، الظاهر/الباطن- يدرك العالم من خلال نظرتين: نظرة العين الخارجية للبصر ونظرة العين الداخلية للقلب. يدرك الوعي المزدوج أو الوضوح التكاملي الموجود في فردانيته كشيء مختلف عن أي شيء آخر في النظام التمييزي، لكنه يدرك أيضا بأن كل موجود، بالرغم من أنه واحد وغير متكرر، ليس إلا تجلٍ للواحد. القضية ليست هي يكون أولا يكون. يؤكد القرآن أنه جاء بلسان عربي فصيح. على أي أساس يستند في وضوحه هذا؟ ينبغي أن نفهم أن هذا الوضوح يقصد به الملاءَمة التامة للكلمة ولمعناها ولفهمها. اللغة العربية للقرآن هي واضحة لأنها تعبر بشكل كامل عن كل ما ينبغي التعبير عنه وفق الإرادة الإلهية ولأنها مفهومة بشكل تام. ليس لأن هدفها هو أن تخلق وضوحا وبداهة فوريين لدى أي محاور يتقن اللغة العربية. هذا الوضوح الأساسي لا يؤدي إلى مجرد وضوح عقلاني، لكنه يؤدي إلى فهم يفوق ما هو عقلاني. وضوح اللسان القرآني العربي يكمن في كون الكلام الإلهي يُصيغ ما يريد قوله بالضبط. بما أن الوجود هو تضاد، الكلمة التي تنير وتُوضّح الوجود عليها أن تكون متضادة. وضوح القرآن إذن هو في تعدد دلالاته الخاص به وفي عين سره. الكَشْف يحجب ويَكشِف. مثل الإنسان الذي يؤول الإشارات الإلهية، الكشف يُشَفّر نفس الشيء الذي يحل شفرته، يخفي ما يظهر. في السفر الهيرمينوطيقي تقود اللغة القرآنية المـُؤول إلى منبع التضاد. وضوحها هو النور الذي يجعل تأمل وحدة الأضداد في القلب ممكنا، وهو الذي يرشد المسافر ويسمح له بالارتقاء إلى حضرة الواحدية وفي نفس الوقت الاستمرار بالعيش في بعد التنوع محتفظا بالاختلافات. يكون السالك في حضرة الواحدية حائرا: هو وليس هو فانيا باقيا. تتفاعل ضمائر الخطاب الإلهي مُحرّكِين من طرف العناية الإلهية: أنا، أنت، هو، نحن... كل الضمائر هي أسماء إلهية تتجلى في مختلف الحضرات. هو أي الله واحد في كل حضرة وواحد في كل فردانية. يرافق العقل النظري السالك في تجربته لكنه خاضع للشهادة المباشرة وللحدس. تتجاوز ملكة الكشف وأداة الخيال والتي تجعل تأمل ظهور الملائكة ممكنا، كل اختزال للغة يحصرها في الثنائيات: وحده الكشف يمكن أن يعكس أسرار النظام الإلهي وذلك بفضل تضاده الجوهري. التضاد الذي نتحدث عنه لا يقصي تجلي الوضوح المباشر في المجال الخارجي. على العكس من ذلك يفرض التضاد بالضرورة على كل معنى داخلي ما يماثله في المعنى الخارجي المباشر. وضوح الكلمة المُنزّلة هو وضوح تام في كل مستوى من مستويات المعنى. في نهاية المطاف الوضوح هو الذي يضم في الوحدة وضوح الوضوح لجميع المستويات المتعاقبة والذي يتم عن طريق استبطان الكلمة من الداخل بشكل مُتَقدم ومتصاعد: هذه الكلمة المستبطنة هي وضوح الوضوح. بالنسبة لفهم محدود وعادي، مثل هذا الوضوح المفهوم والواضح يمكن أن يظهر فقط على أنه خلط وارتباك. وحدها القابلية المنفتحة لتقبل أضداد الحقائق والغموض الجوهري للمعرفة يمكنها تُعلَّم الأسرار الإلهية. ولهذا السبب تظل الأسرار أسرارا بالرغم من تجددها والإفصاح عنها. لا تبحث الأسرار عن أجوبة، ما تبحث عنه هو أن تعاش. ولهذا فالتصوف الإسلامي كتجربة لمعرفة الأسرار لا يمكن نقلها للغة أخرى غير اللغة الصوفية. من منظور التصوف، بالرغم من أن التضاد يقدّم على أنه مفارقة أو معضلة أمام الإدراكات التي تختزل كل شيء في ثنائيات، إلا أنه يشكل منبع المعاني الجامعة ومجال الإلهام التنويري للذين يشهدون بالوحدة. من هذا الذي يشهد بأن لا إله إلا الله؟ ومن الذي يشهد أن محمد هو رسول الله؟ هل يمكن لأحد غير الله نفسه أن يشهد بوحدانيته المتعالية؟ في الواقع، وحده من يعرف الله يمكن أن يشهد به، ولا أحد يعرف الله معرفة تامة، حسب التقليد الصوفي، إلا الله نفسه. وعليه فالإنسان يشهد بالله ولا يشهد بالله. في الحالة الأولى يشهد الإنسان بالله لأنه هو إنسان عين الله التي يبصر بها، هو محل بصره؛ وفي الحالة الثانية لا يشهد الإنسان بالله لأن الله وحده هو من يستطيع أن يشهد لنفسه. في حديث يخاطب فيه الله الإنسان ورد ما يلي: "... فإذا أحببته...كنت بصره الذي يبصر به..." رواه أبو هريرة في صحيح البخاري. 8/131(6502). وهنا نصل إلى قمة التضاد: عندما يحب الله الإنسان فهو يكون بصره الذي يتأمل به تجليات الصفات الإلهية. يتضاعف تعدد الدلالات المتعددة عندما نعتبر أن مصطلح العين يعني كذلك الأعيان أو الجوهر أو الهوية و أيضا منبع. يكتسي قلب الإنسان الذي يشبه مِشكالا Caleidoscopio (أنبوب مرايا يحتوي على أشكال ملونة) في مجال تعدد الدلالات بالصفات الإلهية مستعيدا بذلك الصورة الآدمية الأولى. فصفات من هذا النوع هي في الحقيقة من خصائص الله فقط. عندما يتبناها الإنسان يمكن القول بأنها خصائصه وليست بخصائصه. هذه الصيرورة المتصاعدة للتخلق بالأخلاق الإلهية teomí-;-mesis تتوَّج بتحقق الحق فهي تبجيل التضاد، والتي بها يعرف الله نفسه في مكان تجليه. واحد في واحد يساوي واحد والتضاد يجد حله في النهاية في العين الواحدة. التحقق الأحدي للألوهية عند التأله التي يشير إليها الحديث السابق تستلزم بالضرورة الوحدة الذاتية. يصور ابن عربي هذا الموضوع في الفتوحات المكية فيقول: إذا تجلى حبيبي بأي عين أراهُ بعينه، لا بعيني فما يراه سواهُ
من منظور تجلي الصفات الإلهية هناك هوية واحدة فقط، نظرة واحدة فقط، لكنها هوية منبثقة، نظرة منعكسة. عندما تكون العين هي عين الإنسان، والإنسان هو الذي يرى بها، فالبصر هو بصر إنساني، نظرة الإنسان وإبداع التضاد الذي هوهو ولا هو. عندما تكون العين هي عين إلهية يتأمل المحب نفسه في مجلى صفاته الإلهية المسمى الإنسان الكامل. الله وحده يستطيع أن يعرف نفسه معرفة حقيقية. ومع ذلك ففي هذين الطريقتين للإدراك توجد هوية واحدة فقط وهي "العين" التي تنبثق في التضاد إلى الواحد-الكثير. في إطار الوحدة التي تدمج الكثرة، القضية الحقيقية ليست هي يكون أولا يكون. في مجال التضاد، الذي هو مكان التجربة الصوفية وبامتياز يكون الطرح هنا هو يكون ولا يكون هذه هي القضية.
الصورة- الرمز في الفن الإسلامي. برزخ الخيال
"سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم" ( سورة فصلت الآية 53)
كما تمت الإشارة سابقا، يدعو القرآن الإنسان باستمرار إلى تأويل آياته التي أظهرها الله في خلقه وفي النفس الإنسانية وفي كتابه. يظهر الكون قاطبة في جميع أبعاده ككون لا متناهي من الإشارات والآيات التي تعتبر علامات لحقيقة وحيدة، حقيقة الأحدية القصوى للواحد، الخالق الواحد لجميع الكائنات. عملية تأويل الإشارات حسب التسمية التي يقترحها القرآن في مختلف آياته هي الاعتبار، أي الانتقال، بمعنى العبور من عدوة الظاهر إلى عدوة الباطن، الانتقال من الخارج إلى الداخل من الشكل إلى الدلالة. كما يقول الحديث "لكل حق حقيقة" ( الزهد والرقائق: لعبد الله بن المبارك، تحقيق حبيب الرحمان الأعظمي، دار الكتب العلمية بيروت. ص. 106.) فالاعتبار هو انتقال من الحقيقة الظاهرة للكائنات إلى حقيقتها النهائية. حسب بيت شعر أبي العتاهية والذي أشار إليه ابن عربي إليه باستمرار: "وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد" ( التمثيل والمحاضرة: لعبد الملك الثعالبي، تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، الدار العربية للكتاب: ج. 1، 1981. ص. 11) هذا السفر الهيرمينوطيقي المستمر للصيرورة المعرفية، سواء كان في الليل أو في النهار، في الظهور الخارجي أو في البعد الداخلي للتجربة النفسية، هو دائما حركة تنطلق من التعدد في اتجاه الواحدية الذي يتعالى بها عن التعدد ويدمجها مع التعدد في نفس الوقت. انطلاقا مما رأيناه فالقرآن يصف الكون، كمجال رمزي حيث تحتل الرموز فيه مكانة مرموقة وعالية جدا، إنه عالم من التمثلات المتضادة، ووسائط خلقها الله، كما يقول حديث الكنز الخفي، بهدف أن الله أراد أن يُعرف. إذا كان هدف الإنسان هو معرفة الخالق فهدف الخلق هو أن يُعرف الخالق. فالفن إذن كصيرورة إبداعية خلاّقة يكون بالضرورة وبشكل غير منفصل مرتبط بالوظيفة المعرفية للإنسان وللكون. لا يوجد أي شيء في الكون ليس بعلامة للواحد. كل شيء لديه معنى تام بمقتضى هذا المعنى الجوهري. الفن الخاص بالإسلام يجب أن يكون فن كشف معنى ما هو ظاهر. الإبداع هو صيرورة الخيال الإلهي. المعرفة الإنسانية هي مرتبطة بالضرورة بالخيال، في كل من صيغة الخيال الذي يسميه ابن عربي الخيال المنفصل كما في صيغة الخيال المسمى الخيال المتصل. في نهاية المطاف كل صيغ الخيال، وكذلك مختلف درجات الوجود، هي تجليات لنفس الواقع الأصلي في مختلف درجاته. من جهة أخرى يظهر الكون بأسره وفي كل أبعاده كخيال. بهذا المعنى يطلق عليه عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل اسم خيال في خيال. بمعنى شامل، كجزء من خيال الله والذي هو الخلق، نحن أيضا خيال، غارقون في الخيال، ولا وجود لأية لحظة لا نتخيل فيها. حسب ما ينص عليه حديث الرسول: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" (حلية الأولياء وطبقات الاصفياء لأبو نعيم بن مهران الأصبهاني، الناشر السعادة ـ بجوار محافظة مصر: ج. 7، 1974. ص. 32). يفهم من هذا الأمر أن الإنسان يخرج من الحلم الذي يمثل العالم الخداع. ويستيقظ على وعي بتجلي الحق. لهذا السبب كان الرسول يوصي أصحابه بالموت، يُقصد به الموت الداخلي، قبل أن يصل إليهم الموت الجسدي. ينبغي أن نموت ونحن جاهلين بالخيال الـدُّوني المعروف بكثافته وبهويات تمثـَلاته المحسوسة والمعروف أيضا بمنهاجه الشيطاني –بالمعنى الإيتيمولوجي في اللغة الإغريقية اليونانية (diabolos) الذي يعتبر المتعدد بعثرة وتشتتا، ينبغي الموت جهلا بكل هذا لكي نحيا ثانية في المعرفة التي يمنحها الوعي الرمزي للقلب المنير، المتحَرّر من تمسكه بالدرجات الدنيا، الذي يسافر في عالم المثال. التجلي الالهي (teofaní-;-a) المتجدد باستمرار يُنعش القلب الذي هو مركز الخيال في وظيفته المزدوجة وظيفة نشيطة وأخرى مُـستقبِـلة، خلال سفره للعودة إلى المعنى الأصلي. الكون المُدرك في نفس اللحظة هو مجال دونى للخيال. في سلم درجات الوجود، هذا البعد الكثيف يتعارض مع البعد العلوي الأكثر لطافة وروحانية بشكل خالص. على القلب أن يسافر عبر درجات الخيال، ابتداء من الدرجة الأكثر كثافة والأجسام غير شفافة إلى الدرجة الأكثر لطافة وشفافية للواقع الروحي، ومن الدرجة الأكثر حساسية جدا نحو الدرجة الأسهل فهما وبشكل تام. ومع ذلك من الأساسي فهم أنه ليس هناك أي انقطاع أبدا بين الأبعاد المتعاقبة أو درجات الوجود وذلك نظرا لوحدته النهائية. الله هو مالك ورب كل العوالم، هناك اتصال وتزامن بين جميع الدرجات: وبهذا الشكل فما هو جسمي هو بالضرورة مرتبط بما هو روحي، وما هو محسوس مرتبط بما ما هو معنوي. في السلم التدريجي ما هو كثيف للغاية مرتبط بشكل كبير جدا بما هو لطيف. لا يوجد أي مكان خالٍ من الروح أو من النور. إن المجال الذي يربط -وفي نفس الوقت يفصل- بين الأضداد والذي يُجمّع هذه الأضداد وفي نفس الوقت يميٍّزها، يسمى البرزخ، أو عالم وسط. عالم النفس أو عالم الملائكة هو برزخ. في كثير من الأحيان يطلق اسم البرزخ على الآخرة. من منظور الخيال، كل الكون هو برزخ. الكائن الإنساني هو برزخ، بين الخالق والخلق. في مطلع أحد المخطوطات يُطلق على ابن عربي نفسه اسم برزخ البرازخ. كل شيء في الوجود هو برزخ بين حقيقتين أخريين. الخيال هو برزخ بامتياز من أي منطلق نظرنا إليه. بهذا العرض الوجيز لأفكار ولأمثلة حول الإشارات والخيال والوعي الرمزي، أريد أن أشير إلى التوسط بين مختلف درجات التجلي تقود إلى مفهوم خاص للفن كتوسط، كمنهج للتحقق الرمزي، أي أن هناك إعادة إصلاح المعنى لتكامله.
حجاب الفن وفن الحجاب
"وما كان لبشر أن يُكلّمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيُوحِي بإذنِه" ( سورة الشورى الاية 51)
هناك مرجعيتان أساسيتان للثقافة الإسلامية وهما: الحجاب والمرآة، وهما صورتان متداولتان ومتجذّرتان بشكل عميق في المفهوم الإسلامي للوجود المُستوحى من القرآن ومن هيرمينوطيقا اللغة المشتركة لمنطقة البحر المتوسط ذات الخلفية الأفلاطونية المحدثة. يظهر الحق على أنه سر. الوجود هو لغة ملَغَّزة وناتجة عن العناية الإلهية التي ينبغي حل ألغازها، بمعنى، ينبغي كشفه عن طريق ملكة الكشف فالإدراك ينتج بالضبط عن طريق رفع حجاب الإدراك العادي لكي يتم الإبصار عن طريق القلب الذي هو عضو أو الوسيلة التي يستعملها الخيال. حسب حديث معروف آخر مفاده أن الله يوجد وراء سبعين ألف حجاب من النور وحجاب الظلمة. في غياب هذه الحُجب، هذه العظمة المُشعّة لوجهه ستمحي وستقضي على كل الأشياء المخلوقة. يظهر الحجاب في هذا الإطار كنعمة إلهية ضرورية لاستمرار بقاء الكون. تدعونا صورة الحديث لفهم أن كل حجاب النور مرتبط بحجاب الظُلمة الموافِق له. الخلق هو ثوب من الأنوار والظلام الذي ينعكس في كل عنصر من عناصر الفن الإسلامي (أفكر بشكل خاص في الهندسة المعمارية كفن إدماجي إجمالي بامتياز في الإسلام). في تعارض مع هذا الاضمحلال النوري بفضل الحُجب، يلاحظ في الفن الإسلامي، بالرغم من هذا، ومن جهة أخرى، وجود ميل لما يمكن أن نسميه غياب الفراغ. ولا حتى الصحراء المترامية الأطراف والتي تبدو ظاهريا خالية من السكان هي خلاء. أنا لا أؤول هذا الميل وكأنه قَرَف أو رعب بسبب الفراغ، مادام هناك إصرار على عدم وجود الفراغ كتصنيف أو مرجع جوهري في الثقافة الإسلامية. لا وجود لفراغ مطلق في الكون: كل شيء يتحرك داخل هذا الثوب من الأنوار والظلال التي تقطن في كل ركن من أركان الوجود. كل تجلٍّ للإله هو كشف للوجود، كل ما يوجد يكون له معنى كامل وتام، وكل مكان يحتوي الإله يفيض بالوجود. الفراغ كوجود لا وجود له إطلاقا، ولا يشكل مرجعا خلاقا للعالم الإسلامي حيث الصمت لا يعتبر أيضا صنفا، بل ما يشكل مرجعا خلاقا هو التعبير عن القبول والترحيب بالصوت الداخلي أو القبول بتجلٍ آخر. في نفس المعنى، الموت هو فقط انتقال بين حالتين، بين شكلين للحياة. لا يوجد إذن أي شيء فارغ تماما ولا وجود لموت حقيقي كما أنه لا وجود لأي شيء صامت تماما. كل ما هو موجود هو غارق في هذا المحيط من الحُجب والظلال. يُفرَغ القلب من بعض التمثلات لكي يكون أكثر قبولا وترحيبا بتمثلات جديدة في صيرورة دائمة للإبداع. بهذا الشكل لا العدم الخالص ولا الفراغ الخالص لديهما أي واقع وأي وجود. في الفن الإسلامي تروم الفضاءات إلى إظهار هذا التمدد المتدفق للوجود. إذا وجدنا مساحة تبدو وكأنها فارغة، على سبيل المثال، نافذة غير شفافة، فنحن لسنا أمام مجرد فراغ، لكننا بالأحرى نكون أمام حجاب يجب اختراقه بالخيال. الفراغات المؤَطّرَة للنوافذ الكاذبة أو النوافذ بدون فتحات للفن الإسلامي هي نوافذ مفتوحة على المناظر المخفية للسر الداخلي وهي تعبيرات للاحتمالات الخالصة. بالعودة إلى منظور الحجاب، سنقوم بربط الحجاب باعتباره حد مفتوح بمفهوم البرزخ. يمكن القول أن كل برزخ هو حجاب التضاد للنور والظلام. كل حجاب من بين سبعين ألف حجاب من حُجب الوجود، يَحجُب ويكشف نفس الشيء وفي نفس اللحظة. إنه حجاب النور، فهو تجلي الإله الذي هو نور السموات والأرض، لكنه أيضا حَجْب وإخفاء، ذلك أن النور الخالص يعمي البصر ويمنع الرؤية. إنه حجاب الظلمة الذي يمنع رؤيته، لكنه أيضا شاشة تجعل النور المُنعكس يُمكن تأمله عن طريق انكسار الضوء. كل حجاب هو تضاد: داخل وخارج، ظاهر وباطن، نور وظل. الحجاب الذي يخفي وجه الحبيبة هو نفس الحجاب الذي يكشف لنا عن جوانب الوجه ونطاقه. الحجاب هو حضور كما أنه غياب أيضا. انطلاقا من اعتباره حدا – لكن كحد مرن، ومتغير ومتحرك وقابل للاختراق- هو مكان للاجتماع ومكان للافتراق. وانطلاقا من اعتباره برزخ، كل كائن وكل حالة وكل تجلي هو حجاب بين حجابين. كشف وعائق في طريق كشف جديد. يقول المتصوفة، في هذا المعنى، الإنسان هو حجاب الله في الخلق: ذاك الذي يبطن ويكشف. من منظور أخر وكما يقترح ابن عربي أيضا، الإنسان يحجب نفسه عن نفسه: هو الحجاب الوحيد الذي يحجب عنه الواقع (الله). المعرفة الحقيقية تكمن في أن يترك الإنسان حجب نفسه بنفسه. ليست بمعرفة مكتسبة، بل هو تحرر هو معرفة مكتشَفة تتم عندما نتخلص من وهم الهوية المحدودة. الفن هو أيضا حجاب يجب أن يكون متعاليا كما تمت الإشارة إلى ذلك كثيرا وعلى سبيل المثال، في شعر الرومي. هذا الحضور لعلة الحجاب والستار وثوب التوريق أي الأرابيسك هي حالة ثابتة في الفن الإسلامي الذي يحيل إلى لغة متدوالة أي لغة السر واللغز. على الفن في الإسلام، الفن الإسلامي البحت، أن يكون فن كشف معنى لما تم إظهاره، إنه فن اعتباري، انعكاس للكلمة الإلهية الخلاقة التي تؤَوِل الكلمة، انه التمثُّل الرمزي الذي يؤول رموز الخطاب الإلهي للخلق، الذي يعلو نحو المعنى الأصيل الأول عن طريق منهج التأويل. ومع ذلك، فإنني أحذر بإلحاح كبير، من الكثير من الدارسين والمقتنعين في مجال تاريخ الفن والذين تشبعوا فقط بمذاهب واتجاهات التاريخانية والمادية، فبالرغم من خلو دراستهم وخطاباتهم من الخلفية الميتافيزيقية، فإنهم يحللون الفن الإسلامي بمؤشرات وصور نمطية تحصر أهدافه في خدمة مشروعية السلطة فقط أو خدمة خطاب خاص وتحقيق طموحات مثل البهجة البسيطة للحواس. من الطبيعي أن المشروعية والمتعة الإستيطيقية هي أهداف ووظائف تجليات لكل تعبير فني، بطريقة أو بأخرى، لكن كثيرا مالا يتم الانتباه إلى كون المشروعية والمتعة الاستطيقية يمكن أن تعتبر في نفس الوقت مجرد تمثلات فقط. التحليلات الرسمية المفصلة التي تصدر عن الذين يتبنون هذه المناهج هي في الغالب تحليلات قيمة من منظور المعلومات والمعارف التقنية، لكنها إقصائية ومُحبِطة عندما يتم نقلها إلى مجال تأويل المعاني. مثل هؤلاء الباحثين عادة ما يكونون مفرطين في عقلانيتهم وقياساتهم، وكثيرا ما لا يأخذون وللأسف بعين الاعتبار إمكانية وجود خطابات أخرى حول الفن. وعموما، فهؤلاء الباحثين يفوتهم كون المفاهيم والمراجع التي تبدو لهم شرعية ومُشَرِّعة لنشاطاتهم وللفن (تدخل في هذا الإطار أيضا المتعة الإستطيقية والمشروعية) هي تمثلات مضادة لتمثلات رمزية أخرى وذلك من المنظور الذي ننطلق منه نحن فقط. علما أن الفكر هو معقد بالطبيعة، يبدو أنه من الأفضل لبحث حول الفن، يكن ما يكون منهجه، أن يظل منفتحا على الحوار المثمر مع توجهات أخرى وأن يكون متحررا من ضيق الأفق دون التخلي عن الجدية في بناء الموضوع. التمسك بمنهج ما يمكن أن يؤدي إلى تكوين حجاب وعر يمنع اختراق حجاب الفن.
من التّخلق بالأخلاق الإلهية teomí-;-mesis إلى التحقّق teosis
إن الفن الإسلامي البحت ذو الطابع الرمزي الواضح، أي المُتحَقِّق والمُدرَك بوعي رمزي بديهي، يؤدي إلى استثمار منظور محاكاة الطبيعة: نحن هنا أمام الفن وكأنه مرآة البرزخ. الفنان لا يحاكي عالم الكثافة المادي، بل إنه يصبو للعودة إلى عالم النماذج الأولى للطبيعة، بمعناها العربي أي انطباع وأثر للنفس الكلية بشكل نافذ ودقيق، التي تنحدر من نموذج أعلى في سلم درجات الوجود الميتافيزيقي. يساهم الفن بالضرورة في الحركة النازلة للظهور، لكن جوهره يكمن، على العكس من هذا، في الحركة العليا للتأويل الذي يصعد نحو المعنى: الفن الإسلامي هو قبل كل شيء تأويل للطبيعة التي تتعالى بالطبيعة، ذلك لأنها تأويل لسر الكائنات في سفر ذهابها وعودتها انطلاقا من الوحدة وصولا للوحدة الأولية. إنه فن الاسترجاع: إعادة الإبداع الذي لا يهدف إلى إعادة إنتاج حصيلة نهائية معينة، بل يهدف إلى إعادة إنتاج صيرورة الإبداع نفسها في صعودها ونزولها المتقدم. إنه فن التوسط، فن برزخي. هذا البعد التأويلي للفن ينبغي أن يعاش كصيرورة مزدوجة للذهاب وفي نفس الوقت للعودة، الظاهر والباطن، النزول والصعود عبر السلم المزدوج الذي يربط الواحد والكثرة. الذهن المُنكشف والكاشف يصبح أكثر وضوحا للعقل المتأمل للمؤول الفنان، هو شاهد ذو بصيرة يتأمل ويعتبر الكون الذي هو صنعة البارئ. محاكاة عالم الكثافة هو فعل محدود، ومع ذلك فالفن الإسلامي يروم ما هو لا محدود: أثناء تهشيم الجزيئات الدقيقة، بشكل مستمر، لذرات الكثرة الخاصة بعمل فني، نكون أمام لا نهائية الوحدة التي تدمجمها وتحتفظ بها وتتعالى بواسطتها. لا محدودية الواحد الأحد يُعبر عنها في كل وحدة فردية غير متكررة داخل مجموعة تهرب دائما من الاختزال. ذاك الجليل وذاك الواسع يصير حاضرا في كل الأشياء من أصغرها إلى أكبرها. في كل لحظة يتجدد فيها الإبداع يتلاشى العمل الفني وفي نفس الوقت يتجمّع داخل إيقاعه الداخلي. يتأمل المتأمل الإيقاع المُنَظّـِّم للعناصر المزينة لحائط ما أو شباك نافذة أو قبة ما، يقوم بتجديد هذا الإيقاع على وتيرة إيقاع الإبداع المتجدد في كل لحظة. تماما مثلما يحدث أثناء الذكر بأسماء الله ففي كل نفس يقوم المتذكر بتذوق إيقاع تجديد الخلق بالأوقات حسب ابن عربي. يتجلى الصانع في العمل الفني الذي هو حجاب النور وشاشة الظل، تكمن مهمة الإنسان المُلهَـم في أن يحقق في القلب صورته الأصلية، وبذلك فهو يبدأ سفره بطور التخلق بأخلاق الله، من أجل البلوغ في النهاية إلى حالة التحقق أي تحقق نشأته الأولى. هذا ما يقوم به الفن أيضا كفن الخيمياء ابتداءا من المحاكاة ووصولا إلى التحقيق الذاتي.
السلم الداخلي ومعارج الباطن "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا..."( سورة الإسراء، الآية 1)
حسب السنة والتأويل العام والمتداول، فقد أمر الله الرسول وجعله يسافر إلى السماء ليلا، أولا سافر في الأرض أفقيا، من المسجد الحرام بمكة حتى المسجد الأقصى بالقدس وبعدها قام بسفر عمودي، انطلاقا من هذا العالم الأرضي ووصولا إلى الحضرة الإلهية على بعد حسب ما ورد في الآية 9 لسورة النجم "فكان قاب قوسين أو أدنى". المرحلة الأولى في هذا السفر السريع جدا تم على ظهر البراق، وتنتمي هذه الكلمة للجذر المعجمي "برْق" يسمى هذا الحدث في الثقافة الإسلامية بالإسراء، ولكي نميز المرحلة الثانية من السفر عن الأولى يطلق عليها اسم المعراج. إذا تتبعنا نموذج هذا الصعود، فروحانيو الإسلام يطمحون إلى تقليد وإعادة عيش هذا السفر، وذلك عن طريق تحقيقهم الصعود الداخلي. يمكن أن نجد نماذج كثير لهذا السفر الداخلي في كتاب : Le voyage initiatique en terre d’Islam لمؤلفه Mohammad Ali Amir-Moezzi
ترتفع المآذن كرمز للصعود الروحي عبر درجات ومقامات الترقي هذا الترقي الروحي تُمثَله أدراج ومستويات هذا البناء. هكذا وعلى سبيل المثال فالجدران الخارجية للخيرالدة أي مئذنة الجامع الأكبر في اشبيلية والمشيدة في عهد ابن عربي، يتغير علوها في كل واجهة من واجهاتها خاضعة لعلو أدراج السلم الذي يوجد بممرها الداخلي، كما يذكر خوان كلمنتي رودريكيث Juan Clemente Rodriguez في دراسته الرائعة El alminar de Isbiliya
هذا الحوار الديناميكي التواصلي بين الخارج والداخل يرمز بالضبط إلى هذا السلم المزدوج للذهاب والعودة، في الداخل: بالاختفاء، وفي الخارج: بنظام الظهور لكل صعود روحي. ما أريد قوله هنا من منطلق قراءاتي للأدبيات الصوفية هو أن الفن الإسلامي هو من الأساس تعبير لتأمل طور النزول والصعود الذي يحدث في الوسط بين العوالم والأضداد، بين الشهادة والغيب، بين الظاهر والباطن، وبين الدنيا والآخرة،... أي تعبير لتأمل الوقائع الواضحة جدا للعالم الخيالي والبعد الروحي للنفس، وسط بين الجسد والروح. تميل الملامح المُميَّزة للفن الإسلامي (من بينها اختزال الموضوع إلى عناصره الأساسية، التي تشبه في روحها عالم المُثُل بالمفهوم الذي وظفه أفلاطون في أسطورة الكهف) إلى تمَثُل عالم النماذج الأصلية والصور الحية، كاشفة طابع التلاشي الخادع لبعد الكثافة المادي. الفن الإٍسلامي فن محض، وهو بهذا الشكل فن حالم بالنماذج الأصلية. الفن الذي لا يحقق الـتأمل يمكن أن يكون إسلاميا ثقافيا، لكن ليس فنا إسلاميا بحتا، لأنه لا يقدم جوابا عن الجوهر الرمزي الروحي الخاص بالإسلام. قادنا هذا التجوال في بعض جزر الخيال، هذا السفر الذي لم ينته بعد، إلى تأويل تجليات الفن الإسلامي، ضمن دائرة الفن العالمي المقدس، كتعبيرات حدسية لعملية الصعود الرمزي والتي بمقتضاها يسافر الفنان المتأمل ابتداء من صور الطبيعة في اتجاه جنة النماذج الأصلية المعقولة. في عالم الكتاب والرسل، يعتبر الفن هيرمينوطيقا وطريقا لتحققها. يكشف الفن في الإسلام، كتجربة التوسط عن تجربة واعية بعالم برزخ الخيال الخلاق. لذلك فالفنان في هذا التقليد لا يبحث عن تحقيق واقعية الصورة ولا أصالة الاختلاف لكنه يبحث عن واقع المبادئ وأصالة الأصل.
مصدر المقال: - Repensando la experiencia mí-;-stica desde las í-;-nsulas extrañ-;-as. Edició-;-n de Luce Ló-;-pez-Baralt, Madrid, 2013. Coordinació-;-n: Beatriz Cruz Sotomayor, pp. 361-378.
هوامش ومراجع:
*) دكتوراه في الفيلولوجيا العربية يعمل حاليا كأستاذ بجامعة مورسيا هو متخصص في ابن عربي، صدرت له العديد من الكتب والمقالات كما شارك في العديد من الندوات الدولية حول ابن عربي والتصوف، يشغل كذلك منصب رئيس جمعية ابن عربي الدولية التي يوجد مقرها بمورسيا، كما ساهم في تأسيس مهرجان ابن عربي للفيلم الذي يقام سنويا بمدينة مورسيا. للإشارة فقد تمت مراجعة الترجمة مع الكاتب وتمت الموافقة عليها من طرفه. **) www.ibnarabisociety.org )*** www.ibnarabisociety.es
Addas,C. (1989), Ibn Arabī-;- ou la Quête du soufre Rouge, Parí-;-s. - (1993), «Andalusi Mystism and the Rise of Ibn ʿ-;-Arabī-;-», en S. Khadra jayyusi, ed., The Legacy of Muslim Spain, vol. II, Leiden, Brill, 909-933. - Aladdin, B., ed. (2007), Symbolism et herméneutique dans la pensée d´ Ibn ʿ-;-Arabī-;-, Damasco, IFPO. - Amir-Moezzi, M.Ali (1998), Le voyage initiatique en terre d´Islam ascensions celestes et itineraires spirituels, Parí-;-s, Peeters. - Antó-;-n Pacheco, J.A. (1988), Symbolica Nomina. Introducció-;-n a la hermenéutica espiritual del Libro, Barcelona, Symbolos. - (2003), Los testigos del instante. Ensayos de hermenéutica comparada. Madrid, Biblioteca Nueva. - Beneito, Pablo. (2005), El lenguaje de las alusiones, Murcia, ERM. - Chittik,W. (1989), The sufí-;- Path of Knowledge (Ibn al-ʿ-;-Arabi´s Metaphysics of Imagination), Nueva York, State University of new York Press. - (1998), The Self-Disclousure of God, Nueva York, Suny. - (2000), Mundos Imaginales: Ibn al-ʿ-;-Arabī-;- y la diversidad de las creencias, Madrid, Mandala. - Girlot,J.E. (1970), El espí-;-ritu abstracto, Barcelona, Labor. Corá-;-n, (1984²), Intr. Y trad. J. Cortés, Madrid, Editora Nacional. - Corbin, H. (1996), Cuerpo espiritual y tierra celeste [1961 y 1979²], trad. De C. Crespo, Madrid, Siruela. - Grabar, O. (1979), La formació-;-n del arte islá-;-mico, Madrid, Cá-;-tedra. - Lomba, J. (2005), El mundo tan bello como es: pensamiento y arte musulmá-;-n, Barcelona, Edhasa. - Ló-;-pez-Baralt, L. (1998), Asedios a lo Indecible San Juan de Cruz canta al éxtasis transformante, Madrid, Trotta. - Puerta Ví-;-lchez, J.M. (1997), Historia del pensamiento estético á-;-rabe. Al-Á-;-ndalus y la estética á-;-rabe clá-;-sica, Madrid, Akal. - Rodrí-;-guez Estévez, J. C. (1998), El alminar de Isbiliya, Sevilla, Ayuntamiento de Sevilla. - Ŷ-;-ī-;-lī-;-, Abd al-Karī-;-m. (2001), El Hombre universal (al-insā-;-n al-kā-;-mil), Madrid, Mandala.
#نرجس_اليعقوبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في أسباب العنف العلاقة بين العدمية و الدين (ترجمة من الاسبان
...
-
المرأة والمساواة بين التربية الدينية والحقوق المدنية الدين ك
...
المزيد.....
-
مصر: الدولار يسجل أعلى مستوى أمام الجنيه منذ التعويم.. ومصرف
...
-
مدينة أمريكية تستقبل 2025 بنسف فندق.. ما علاقة صدام حسين وإي
...
-
الطيران الروسي يشن غارة قوية على تجمع للقوات الأوكرانية في ز
...
-
استراتيجية جديدة لتكوين عادات جيدة والتخلص من السيئة
-
كتائب القسام تعلن عن إيقاع جنود إسرائيليين بين قتيل وجريح به
...
-
الجيشان المصري والسعودي يختتمان تدريبات -السهم الثاقب- برماي
...
-
-التلغراف-: طلب لزيلينسكي يثير غضب البريطانيين وسخريتهم
-
أنور قرقاش: ستبقى الإمارات دار الأمان وواحة الاستقرار
-
سابقة تاريخية.. الشيوخ المصري يرفع الحصانة عن رئيس رابطة الأ
...
-
منذ الصباح.. -حزب الله- يشن هجمات صاروخية متواصلة وغير مسبوق
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|