|
خطى في الجحيم !
سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1301 - 2005 / 8 / 29 - 10:50
المحور:
الادب والفن
أدناه مجتزأ من أحد فصول رواية صدرت للكاتب هذه الأيام في السويد عن دار نشر VISIONMEDIA ، وتقع أحداث الرواية هذه ما بين مدينتي : بغداد والناصرية في جنوب العراق ، وتغطي فترة زمنية تمتد ما بين نشوب الحرب العالمية الأولى ، وبين سنة 1980 م ، ولكنها أحيانا تخرج عن هذين الإطارين زمانا ومكانا . والرواية ، بعد ذلك ، تتوزع على أربعة فصول ، و205 من الصفحات .
خطى في الجحيم
في ذات صباح مشرق ، بديع ، خلاب من صباحات بغداد ، وحين بدأت طلائع برد لذيذة تؤم المدينة ، تحملها ريح شمالية تنذر برحيل الخريف ، وقدوم الشتاء ، ساعتها كان الاستاذ الرحيم يوزع عناوين البحوث على طلابه في مادة الدراسات السكانية ( الانثروبولجي ) في كلية التربية من جامعة بغداد ، وكان يختار طالبا، طالبا لموضوع بحث معين، إلا انه أصر على أن يكون موضوع التطبيب والعلاج الخرافي في الريف من نصيب باهر . ربما كان تقدير الاستاذ صائبا تماما ، فباهر كان قد قدم الى بغداد من منطقة نائية من جنوب العراق ، حيث تحط الأمراض كلها ، وحيث ينعدم الدواء والطبيب ، ولم يبق أمام الناس هناك إلا دواء زاير عبد وأمثاله، ذلك الدواء الذي سماه الاستاذ الرحيم بالخرافي رغم أن بعضا من هذا العلاج قد كان نافعا تماما لأكثر من مرض ، وهذا النفع قد شمل باهر نفسه حين تعرض هو لصنوف من الأمراض أيام طفولته المبكرة ، ولهذا كان يحرص من صميم قلبه على اسقاط كلمة: خرافي من عنوان البحث، ولكنه لم يفلح في ذلك ، فقد كان هو والاستاذ على طرفي مذهبين فلسفيين متباينين، فالاستاذ براغماتي الهوى ، مبشرا من طراز ممتاز بفلسفة جون ديوي ، شأنه في ذلك شأن أغلب الأساتذة العراقيين الدارسين في أمريكا ، والعاملين في جامعات العراق . أما باهر فقد كان ينحو منحى مادي في نظرته للعالم من حوله ، ولهذا كان هو والاستاذ الرحيم على طرفي النقيض هذا . لقد فاض الأستاذ عجبا ذات مرة ، حين جاءه جواب من باهر عن عدد الصفحات العشرين التي قدمها لهم استاذ الفلسفة أحمد الحلي ، والتي تتحدث عن الفلسفة البراغماتية ، وقال بأنه اعتاد أن يقدم في هذه المادة أربعين صفحة لطلابه ، ولا يقبل بأقل من ذلك أبدا ، فالبراغماتية على حدّ وصفه هي فلسفة العصر ، ولهذا كان هو يعتقد بأن زميله في المذهب كان مقصرا في بسط موضوع تلك الفلسفة العظيمة ! على طلابه بتلك العجالة ، رغم أن زميله ، أحمد حقي الحلي ، كان جنديا صنديدا في دفاعه عن تلك الفلسفة ، والتي كانت عرضة لنقد مستمر من قبل باهر وبعض من زملائه ، وذلك حين يحتدم النقاش أثناء المحاضرات التي كان يلقيها الاستاذ في تلك الفلسفة . لقد كان باهر وزملاؤه يركزون على الظلم الإجتماعي الذي تفضي له تلك الفلسفة ، والحروب التي تشن في هذا المكان من العالم أو ذاك باسمها ، والنزعة العدوانية التي تأصلت في نفوس معتنقيها ، ويضربون مثلا على ذلك بالحرب العدوانية التي تشنها أمريكا ، زعيمة هذا المذهب على الشعب الفيتنامي المكافح ، والمدافع عن أرضه ووطنه ببسالة ، لكن الاستاذ الحلي يرى أنه مادام عائد الربح المتحقق من إنتاج وبيع الفحم الفيتنامي أعلى من الخسائر ، فالحرب مبررة وفق عرف الامبرياليين ، وأما ما يموت من الناس ، ويهلك من الزرع والضرع ، ويدمر من المدن والحواضر في تلك الحرب الطاحنة ، فلا يهز ضميرا ميتا عند عشاق المال والثروة ، ولا يحرك خيط شعور إنساني في نفس الاستاذ القادم من مدرسة الفكر الرأسمالي ، والمبشر من وراء منصة في قاعة من قاعات المحاضرات في كلية التربية من جامعة بغداد، والذي ما انفك يقول ويكرر القول من أن العراقيين لا يفكرون ، ولطالما حاول باهر وزملاؤه من رد التهمة هذه ، متهمين الاستاذ بعدم معرفة ما يجري داخل المجتمع العراقي من كبت للحريات ، وحبس للأفكار ، ومطاردة للناس الخيرين . ولكي يحرج باهر الاستاذ كثيرا ، وأمام الطلاب فقد طلب منه أن يقوم ولو لمرة واحدة بزيارة لأحد سجون العراق، ويرى بأم عينيه المئات من العراقيين الذين يرزحون تحت ظلم الحاكم المدعوم من سيدة العالم أمريكا ! : ــ لا لن أذهب . ردّ الأستاذ بفزغ واستغراب ! : ــ لتذهب ـ يا استاذ ـ وسترى كيف أن العراقيين يحسنون التفكير! : ــ وما دخلي أنا ، هذا موضوع آخر . : ــ ولكنك من هذا الشعب يا استاذ ! قال أمين قاسم ، الطالب المتوثب دائما ، ذلك وبشيء من السخرية . : ــ أتدري ـ يا استاذ ـ أننا تعلمنا شيئا كثيرا عن المدارس الفلسفية قبل أن تطأ أقدامنا القاعة هذه التي نستمع بها إليك . قال باهر . : ــ وأين تعلمتم ؟ : ــ في بيوتنا ، وفي مقاهينا ! : ــ عجيب ! قال الاستاذ مستفهما . : ـ في بيوتنا ومقاهينا مدارس يا استاذ ! كأنك لم تعرف العراق بعد ، ولم تعرف حسين الفلاح الذي تخرج فيلسوفا من سجون العراق ، بعد أن صرف من عمره سنوات هناك ، وصار كتاب في الفلسفة عنده أغلى من رغيف الخبز ، وعاد يفتخر من أنه تعلم القراءة والكتابة في سجن نقرة السلمان الرهيب ، والمفتوح على صحراء الموت أبدا ، ومن أنه ساهم مع سجناء كثر في بناء مدرسة شيد في الفضاء الرحب أمام السجن ، وتعلم على يدي أساتذة أكفاء ، توزعوا على اختصاصات مختلفة ، حتى أنهم ترجموا عن لغات أخرى كتبا في الفلسفة والاقتصاد الى اللغة العربية ، كان من بينها رأس المال ، لكارل ماركس . لقد استعرت ـ يا أستاذ ـ أول كتاب غني ، نافع ، ومبسط في الفلسفة من جواد الخياط ، كان الكتاب يشرح باسلوب جذاب انقسام المدارس الفلسفة على المسألة الرئيسة والثانوية فيها ، ولكن زاويته العليا من جهة اليسار قد أكلتها الأرض ، فالكتاب مع كتب أخرى كان مدفونا في الأرض على مدى سنوات ، وذلك حين صعد دعاة القومية بالقطار الأمريكي ، وجاءوا الى الحكم في العراق ، وقتها ـ يا استاذ ـ أشاعوا الرعب والخوف في الشوارع ، ودعوا الى الموت علنا من إذاعة بغداد ،لقد سالت دماء كثيرة غزيرة ، وزهقت أرواح بريئة ، وكان كل ذلك القتل ينسجم مع فلسفة الربح التي تدعو إليها أنت هنا ، والتي شرعها من قبل فيلسوف رأس المال جون دوي ، وقتها ـ يا استاذ ـ كنت طفلا نابها ، لكن طفولتي لم تمنع حاكمهم العسكري ، والمؤيد من الدولة العظمى من إصدار حكم الموت ضدي ، ووفقا للمادة مئتين وخمس وعشرين من قانون العقوبات البغدادي ! كان باهر يراقب قسمات وجه استاذه القادم من أمريكا قبيل سنوات قليلة والمبشر بالفلسفة البراغماتية في جامعة بغداد ، والمنتصب دوما وراء منصة القاء المحاضرات في الجهة اليمنى من القاعة ، فهو إن جلس على الكرسي ضاع ، ولم يره أحد من الطلاب ، فقد قصرت قامته ، ونحف جسده ، فاستعاض عن هذا النقض بالوقوف وراء المنصة أبدا . لقد أحس باهر أن استاذه قد أخذه الشك بكل ما تحدث له عنه ، وذلك من دون سبب واضح ، ولهذا أضاف : ــ سآتيك بالكتاب غدا يا استاذ ! قال باهر ذلك ،وكان يأمل أن يبدد الشك الذي بدا يسيل على وجه استاذه . : ــ ما زال الكتاب لديك ، رغم هذه السنوات الطوال ! ؟ : ـ نعم . ما زال الكتاب لدي ، وسآتيك به غدا ، وسترى أن العراقيين يفكرون ، وأنهم يقدرون الفكر والمفكرين ، وقد اعتنوا بالكتب التي هي ثمار الفكر عناية فائقة منذ الكتاب الأول : ملحمة كلكامش . وأنت قد تعلم أن الظلم والعوز هما اللذان منعا الكتاب والمعرفة عن العراقيين اليوم ، وعلى أية حال سآتيك بالكتاب غدا . كان اسم الكتاب الذي حصل عليه باهر من جواد الخياط ، وهو لا يزال طالبا في المرحلة الثانوية ، هو : الفلسفة المادية الديالكتيكية ، لمؤلفين روسيين : هما بوسنت وياخوت ، وكان أشد ما يعجب باهر به هو القدر الرصين ، والسهل ، والواضح الذي عرض فيه المؤلفان أفكار الكتاب، رغم أن الكتاب كان يخوض في غمار مواضيع فلسفية ، كانت أكبر من عقل باهر الذي كان لا يزال في سنته الأولى من المرحلة الثانوية ، لقد كان ذلك العرض هو سر عجاب باهر به ، ولذا فقد صانه صيانة خاصة وحرص عليه حرصا كثيرا ، فرغم أنه كان قد غلفه بغلاف شفاف وقوي فقد ظل يتفقد من حين لحين ، وهو يزين خزان كتبه ، ويعود إليه كلما دعته حاجة لذلك ، فقد شكل هذا الكتاب القاعدة التي نهضت عليها معارفه في الفلسفة ، فحين كانت تعصي عليه مسألة فهما فيها في كتاب أخر غيره ، كان يعود إليه فيجدها فيه مبسوطة بشكل سلس ،واضح، ومفهوم . لقد رحل الكتاب هذا معه حين رحل الى بغداد ، وها هو يزين مع بقية كتب طاولة في غرفته من شقة في طابق ثالث ، وفي عمارة متطامنة تقع في بداية شارع المتنبي من جهة شارع الرشيد ، كان هو قد استأجرها مع زملاء له من أول محامية في العراق ، هي صبيحة شيخ داود ، وعن طريق سمسارها، خالد ، الذي أخذ من غرفة تقع في الطابق الثاني، وفي ومواجهة نهاية السلم التي يفضي إليها ، مكان نوم وحراسة ، وفي هذا الطابق شغل ثلاثة محامين معروفين ثلاث غرف أخرى ، هم المحامي عبد الهادي شليلة ، والمحامي كريم الأسدي ، وهو ضابط طيار من ضباط القوة الجوية العراقية في عهد الزعيم ، ثم السجين في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد بعد انقلاب شباط ١٩٦٣ الأسود ، وحين أفرج عنه طرد من الجيش ، فواصل دراسته في كلية الحقوق من جامعة بغداد والتي تخرج فيها محاميا . لقد فوجئ باهر وزملاؤه من الطلاب باسم المحامي الثالث ، داود الجنابي ، حين أذيع من إذاعة بغداد كواحد من المشتركين بمحاولة كانت تستهدف الحزب والثورة ! على ما جاء في البيان المذاع من تلك الإذاعة. وقتها كان خالد ، بواب العمارة ، يرتعش من الخوف ، ويخشى من عواقب الأمور ، وربما سيلبس ثوب تهمة يأخذه دون محاكمة من قصر النهاية الى حفرة موت ، فكم من مرة اشتكى لباهر سوء حظه العاثر، وذلك بعد أن جاء إليه عميلان لشرطة سلطة البعث السرية صباح هذا اليوم ، وحين كان باهر عائدا من الكلية بادره . : ــ أ تعلم أن الشرطة السرية جاءوا يسألون عنك صباح اليوم ؟ : ــ عني أنا . رد باهر . : ــ نعم عنك أنت ! : ــ ولماذا ؟ ماذا قالوا لك عني ؟ : ـ لم يقولوا شيئا ، لقد سألوا فيما كنت تسكن عندي أم لا . : ــ وماذا قلت لهم ؟ : ــ أنكرت ، وقلت لهم لم أعرف شخصا بهذا الاسم ، ولكنني أقسم لك ـ يا باهر ـ كنت دائما محط سؤال ، ومنذ العهد الملكي ، وشرطة نوري السعيد ، فأغلب الذين يستأجرون عندي يظهرون فيما بعد من أعضاء ومناصري الحزب السري ، وحتى حين كنت بوابا قبل عدة سنوات لأحد البيوت الواقع قرب بيت أم داود في الحيدر خانة ، وقبل أن أنتقل الى شارع المتنبي هنا كما ترى . : - أ تعرف أم داود ؟ سأل خالد باهرا . :ــ نعم . أعرفها أنا . كنت قد استأجرت منها غرفة قبل أن أسكن أنا هنا عندك ، كانت غرفتي تقع في الطابق الثاني من البيت ، وهي تحرص على عدم إسكان الطلاب في الطابق الأول منه ، هي لم تقل لي ذلك ، ولكنني لم أر طالبا واحدا يسكن فيه ، لقد اتخذت هي غرفة وسطية كبيرة بعرض الدار كلها ، وبمواجهة باب تلك الدار الرئيس ، والذي كانت ترمي عيونها عليه دائما، وترى من الخارج ومن الداخل . : ــ أ كانت تحدثكم ؟ سأل خالد . : ــ أبدا . كنا نحدثها مرة في الشهر حين نعطيها إيجار الغرفة ، وأحيانا حين يريد الواحد منا أن يشعل النار في سخان الحمام ، وأنت تعرف أن الطلاب في أغلب الأوقات كانوا يذهبون الى الحمامات العامة ، ومع ذلك فهي ، وكما أظن ، لا تريد أن تشغل نفسها بحديث مع أيّ منا، كانت دوما مهتمة برجل شرطي ، وبرتبة نقيب ، تفتح له باب غرفتها، وتطيل ساعات السهر معه ، ويتجاذبا حديثا غير مسموع، وربما كان هو وبعد أن يطول بهم ذلك الحديث ، لا يخرج من تلك الغرفة الليل كله ، كان علاقتهما غير مفهومة ، وكان الطلاب لا يعيرون معرفة تلك العلاقة اهتماما يذكر ، ولا يريدون أن يشغلون أنفسهم بها ، فقد وضعت أم داود بينها وبينهم حجبا من الصمت ، فهي ما كلمت أحدا منهم أبدا ، ولا ثرثرة على عادة بعض النساء معهم ، وكانت تبدو صارمة الملامح ، رغم أن دفقا من جمال كان يتبدى على وجنتين بارزتين ، يشع منهما قمر من بياض ، تعلوهما عينان سبح الحور فيهما ، وشعر فاحم ، سلسل تدلى على جانبيهما ، يزين وجهها غنج ، ويملأ صدرها نهدان طافحان ، وأكثر ما يلفت النظر لها ساقان مثيران ، وفخذان ممتلئان ، عبلاوان ! : ــ أ تدري أنها يهودية الدين ؟ سأل خالد . : ــ من قال ؟ : ــ أنا أعرف ذلك ، فقد عملت على قرب منها سنوات عديدة ، وكما حدثتني بأن أمها رفضت الهجرة الى إسرائيل ، وبقيت في العراق مع ما بقي من يهوده فيه ، والذين رفضوا مؤامرة نوري السعيد وإسرائيل نهاية الأربعينيات من القرن العشرين في ترحيلهم إليها ، وفي عملية تهجير قذرة ، مثل تلك العملية التي جرت أواخر العشرينيات من ذات القرن ، حين هُجر العرب الشيعة الى الحجاز. يبدو أن خالدا كان قد تعلم الكثير من تاريخ العراق الحديث من خلال معاصرته لأحداثه القريبة ، ومن خلال ما كان يسمعه من المستأجرين الذين شغلوا أنفسهم بالسياسة وعالمها ، إذ كثير ما كانت تجري نقاشات ساخنة بينهم ، وعلى قرب من مسامعه ، وبرغبة صادقة منه ، رغم أن حظه من القراءة والكتابة كان محدودا ، لكن هذا لم يكن ليمنعه من أن يحفظ ما يريد هو أن يحفظه مما كان يسمعه من المتناقشين الذين تعلو أصواتهم أحيانا ، حتى ليخيل للسامع أنهم دخلوا في عراك حقيقي ، فذات مرة ، وبعد تردد كثير، سأل باهر عن معنى البروليتاريا الرثة ، فقد بدأت له كلتا الكلمتين غريبتين جدا ، رغم أن الثانية كانت عربية المولد ، بينما كانت الأولى معربة عن اللاتينية ، كما أن تساؤله لم يقف عند هذا الحد ، بل تعدى الى أول من تحدث بها . لقد تردد باهر كثيرا في إجابته بادئ الأمر ، فهو يعرف أن ماركس حين ابتدع هذا المصطلح وقتها ، كان يعني به خالدا وأمثاله من العمال الذين يمارسون مهنا حقيرة ، لا تليق بالإنسان وكرامته ، تلك الكرامة التي حفظتها له المشرعون ، والمصلحون من بني البشر ، لكنها مرغت بالوحل حين اشتد جشع عباد المال وجنوده . بماذا سيجيب باهر خالدا عن سؤاله ؟ هل سيقول له أنت واحد من الذين عناهم ماركس بمصطلحه ؟ هل يقول له أنت من سُفحت كرامته ، وحُط من قدره ؟ : ــ إنهم شغيلة المطاعم والمقاهي وما شابه ذلك ، أخيرا أجابه باهر . : ـ أ تدري أنا تعلمت أشياء كثيرة من الطلاب الذين يستأجرون غرفا في البناية التي أكون أنا فيها بوابا ، حتى أنني تعلمت منهم شيئا مهما من الكتابة والقراءة . : ـ ولماذا لم تذهب الى المدرسة حين كنت صغيرا ، وتعيش في بغداد حيث الكثير من المدارس،والطرق سالكة إليها، فالمدارس في بغداد ليس شحيحة كما هي في أهوار جنوب العراق . : ــ ألا توجد مدارس في الأهوار ؟ سأل خالد . : ـ توجد مدرسة هنا ومدرسة هناك ، تتقاسم الواحدة منها عشرات القرى والذهاب إليها غير ميسور ، فهناك الجداول والأنهار الصغيرة، وهناك المستنقعات الكثيرة التي كانت تبدو لأعين صغار مثلنا بحارا ما لها حدود وما كان الواحد منا يسير إليها محتذيا ، كنا نسير حفاة ، عراة الصدور، فقد كان البعض منها لا يقوى على شراء أزرار ثوب له ! ضحك خالد من أعماقه مقهقها ، وهو يصغي لباهر باهتمام ، وكأنه يحدثه عن مخلوقات لا تعيش على الأرض ، وإنما في عالم يصعب على واحد مثل خالد تصوره . : ــ لا تتعجب ـ يا خالد ـ فأنت لم تسمع مني ما يثير العجب بعد . : ــ وماذا بعد ؟ : ــ لقد كنا نبول دما أحمر ، قانيا ، كان كل طلاب المدرسة يبولون دما، أنت لم تعرف ربما معنى البلهارزيا ، أو ربما لم تسمع بهذه الكلمة ، إنه مرض يفتك بالصغار والكبار من الرجال والنساء . : ــ لماذا لا تذهبون الى الطبيب ؟ ضحك باهر ضحكة خافتة ، لم يجد خالد سببا لها على ما يبدو ، والذي انشغل بصوت جاءه من الرصيف المقابل في شارع المتنبي ، وهو يقف مع باهر على شرفة في الطابق الثالث من البناية التي هو بوابها ، كان الصوت صوت زاير العامل الرئيس في مطعم الإخلاص للكباب ، ذلك المطعم الذي شغل الطابق الأرضي كله من تلك البناية . كان زاير يريد أن يمازح خالدا ، مستغلا فترة توقف قصيرة تسبق تقديم وجبة الغداء لرواد المطعم ، والتي اعتاد زاير أن يقضيها على الرصيف وهو يحتسي قدحا من شاي ، يتناوله في هذه الاستراحة على عادته كل يوم من أيام العمل السبعة ، فالمطعم لا يعرف العطلة ، وزاير لا يملك من هذه العطلة إلا هذه الدقائق المعدودة ، والتي يقضيها مازحا مع خالد، أو مع بائع الشاي ، فورمان ، ذلك الرجل الذي اتخذ من ركن صغير في الشارع ، يقع على مقربة من المطعم ، مكانا لعدة متواضعة يصنع فيها شايا طيب المذاق ، زكي النكهة ، ولهذا فقد ذاعت شهرته في بغداد كلها وعرفه كثير من أهلها وقاطنيها، فكان الواحد منهم ، إذا ما تناول وجبة غذاء أو عشاء حرص على أن يشرب من شايه اللذيذ ، هذا بالإضافة الى أن هناك الكثير من طلبة الجامعة ، ممن كانوا يسكنون في الشارع ذاته، أو في أماكن قريبة منه ، لا يتخطونه أبدا، وحتى أولئك الذين أثقلت الخمرة رؤوسهم في شارع أبو نواس ، وفي ساعة متأخرة من الليل، كانوا يحثون الخطى إليه ، رغم شحط المسافة بين هذين الشارعين ، أما هو فقد ظل وفيا لرواده ، ينتظرهم لساعة تهبط فيها خيوط الفجر الجميل على دجلة الخالد ، والمسافر دوما بهموم ، وتطلعات البغداديين نحو الجنوب. لقد أختلف رواده في السبب الذي وقف وراء اسمه : فورمان ، ولكنهم كانوا متفقين على لفظه ومعناه ، فهو كلمة انجليزية تعني رئيس العمل، أو اسطه بلهجة أهل بغداد ، لكن ما السبب الذي حدا بأمه أو بأبيه الى أن يسمياه بهذا الاسم ، والذي صمت عنه هو ، بينما انقسم الرواد الى شيع، كانت كل شيعة منها تدلي برأي مغاير ، فقد رأى البعض منها أن العراقيين إنما سموا أبناءهم بأسماء انجليزية أو بكلمات من لغتهم ، ذلك لأنهم جروا على عادة عربية ، قديمة عاشت في عصر ما قبل الإسلام هي اعتقادهم الراسخ بأن الطفل إذا ما سمي باسم قبيح عاش ولم يمت، فالاسم القبيح ، على اعتقادهم هذا ، يمنح الطفل حياة أكيدة ، ويبعد كل أنواع الشرور عنه ، ولهذا فقد سمى العرب أبناءهم بأسماء الحيوانات والهوائم ، فشاعت عندهم أسماء مثل : مازن ويعني فحل القمل ، ولؤي ويعني ثور ، وكليب وهكذا ، ورأى أصحاب المعتقد هذا أن العرب في العراق قد عدلوا عن أسماء الحيوانات الى أسماء الإنجليز بعد احتلالهم للعراق في مطلع القرن العشرين ، وما اقترفوه من جرائم بحق الناس فيه وما سلبوا من خيراته بغير وجه حق ، ويبرهن هؤلاء على صدق ما ذهبوا إليه بما عند الشعوب الأخرى ، التي تعرضت لاحتلال وغزو غاشم ، من ردود أفعال ، فالنساء الاسبانيات مثلا ، حين يتخلف عنهن أطفالهن في السير ، وحين يظهرون هم عنادا في ذلك يخيفنهم بقولة: جاءك موشى ! وهن يعنين بموشى هنا موسى بن النصير ، القائد العربي المولد ، وفاتح الشمال الأفريقي ، وبلاد الأندلس ، لكن آخرون يرون أن العراقيين في استعارة الأسماء الإنجليزية قسمان : قسم هو ما تقول به الجماعة الأولى ، وهو ما ينطبق ، برأي هؤلاء على سكان القرى والأرياف ، ولذا فقد استعار هؤلاء السكان أسماء انجليزية مثل : كوكس، ودكسن ، وهما من قادة القوات البريطانية التي نزلت البصرة ، ثم اتجهت شمالا صوب بغداد . أما القسم الأخر من العراقيين ، وعلى رأي هذه الجماعة كذلك ، فهم سكان المدن ، وخاصة بغداد التي كان يتباهى بعض من أهلها بكل ما هو أجنبي ، فيقولون لك مثلا : هذا قماش فاخر، إنه إنجليزي الصنع ! أو إنني لا ألبس إلا الأحذية الانجليزية ، ولا أزور من البلدان إلا لندن، لكن زاير وحده ينفرد عن كلتا الفرقتين بتفسيره لهذه الظاهرة، فلطالما أغاض فورمان بهذا التفسير ، وهو يدلق الشاي زكيا من بطون أباريقه لرواده . : ــ قل لي ، فورمان ، لماذا سمتك أمك بهذا الاسم الإنجليزي ؟ سأله زاير . : ــ لك خذ شايك ، وامش ِ ، لا تحرق أعصابي من الصبح ! : ـ لو لم ينم جندي انجليزي مع أمك ليلة حمراء ، لما أخذت حمرة وجوه الانجليز ، وخضرة عيونهم ، قه قه قه قه قه! هيا سل هؤلاء الواقفين ! : ـ هل رأيتم عراقيا قبل فورمان بعينين خضراوين ؟ سأل زاير الواقفين من الرواد هازئا بدلا منه . : ــ لك ، اليوم ما عندك شغل ؟ إمش ِ شوف شغلك ! رد فورمان على عادته ببرودة أعصاب الإنجليز . لكن زاير الذي لا يملّ من مزاح ، حمل كأسا مملوءً بالماء ، ثم وضعه على مؤخرته البارزة بارتكاز محسوب ، وراح يدور به أمام المارة والواقفين بحركة بهلوانية دون المبالاة بكأس الماء الواقف بقوة جذب مغناطيسية على تلك المؤخرة ، وفي ذات الوقت كان يغني هو : واعد امحاط ، امحاط للبصرة جزه ونام وهدل شعره . أغنية المقير للمطرب ، ياس خضر ، والتي لم تقوَ ذاكرته على حفظ غيرها من الأغاني أبدا ، فقد سئم رواد مطعم الإخلاص من كثر ما سمعوها منه ، وذلك حين يفاجئهم بها . وهو يسألهم عمّا يريدون من أكل . : ــ واعد امحاط ، امحاط للبصرة ، تفضل عيني ، كباب ، تكة ، كلاوي، كبد . : ــ كباب ! : ــ نص ، نفر ، زلاطة ، لبن ، طرشي . : ــ نفر وزلاطة . : ـ جيب لعمك نفر كباب وزلاطة ، تأمر شيئا آخر ؟ : ــ ماي ! : ــ ماي ! بارد لعمك ، واعد امحاط ، امحاط للبصرة ! هكذا كان زاير ! كان عاملا وممثلا في آن واحد ، يضحك جميع الرواد، خاصة الطلاب منهم ، والذين استبدلوا اسم المطعم باسمه هو ، فيقول الواحد منهم للآخر ، دعنا نتناول الغداء عند زاير اليوم . لكن خالدا الذي كان يضايقه مزاح زاير ، سرعان ما عاد الى باهر ليجد عنده جوابا لآخر سؤال سأله هو . : ــ لا يوجد هناك طبيب أبدا ، ولا مضمد أو ممرضة ، الناس هناك لا تعرف الطبيب ، ولا الدواء الحديث . كان الشك يداخل خالدا إبن بغداد ، وهو يستمع الى كلام باهر الغريب ، فرجل يعيش في بغداد ، تلك المدينة المترامية الأطراف ، والتي حظت هي باهتمام كثير من قبل الحكومة ، فقامت فيها شوارع طويلة ، فسيحة، وسارت فيها مواصلات حديثة ، وبنيت مدارس ومستشفيات كثيرة ، وصار الناس القادمون إليها من جنوب العراق أو من شماله يتلمسون فرقا بينا ، وواضحا بين حياة الناس فيها ، وبين حياتهم هم هناك في مدنهم وقراهم التي تذكر الواحد بمدن وقرى القرون الوسطى . لقد أصبحوا هم على قناعة تامة من أنهم يعيشون في عراقين . وليس في عراق واحد ، وذلك حين أقيمت كل الوزارات ودوائر الدولة المهمة فيها، وحين أشيدت أغلب المؤسسات والمشاريع على أرضها ، ويضاف الى ذلك العناية الخاصة التي تميزت فيها عن بقية مدن العراق . لقد كان باهر ، قبل رحيله من مدينته الصغيرة لها ، قد عرف شيئا قليلا عن شوارعها ، وبعض مناطقها ، ومطاعمها ومقاهيها ، وذلك من خلال جنود مدينته العائدين منها في إجازات لأيام معدودة يمضونها بين ذويهم، فقد سمع أحاديثهم عن معسكر الرشيد ، وعن الباب الشرقي، وعلاوي الحلة ، ومطعم تاجيران ، ومقهى ناصر حكيم ، تلك المقهى التي كانوا يمضون أماسي الخميس فيها من كل أسبوع . لقد كان رئيس العرفاء ، حسين ضهد شغوفا في الحديث عن تلك المقهى وعن صاحبها المطرب العراقي المعروف ، ناصر حكيم ، فقد كان يمضي ساعات طوال في حديثه هذا عنها لأبناء مدينته ، وباسلوبه الساخر الذي عرف عنه ، وكثيرا ما كان يقارن بين الشارع المترب الوحيد في المدينة الصغيرة ، وبين شارع الرشيد المعبد والفسيح في بغداد ، وكان كل ذلك بسخرية وتهكم ، يهدف من ورائهما إضحاك الجمع المصغي له باهتمام زائد لكل كلمة كان يقولها هو ، وكأنه كان يريد من وراء ذلك تذكيرهم بواقعهم المرير الذي كانوا يعيشونه ، وباسلوب ذكي، ساخر ، وغريب يضارع فيه حكايات علاء الدين والمصباح السحري ، فكان إذا مرّ رجل رث الثياب من أهل المدينة من أمامه وأمام الجمع المستمع له، قطع ذاك الحديث فجأة قائلا : لو كان هذا الرجل الذي ترونه أمامكم ألآن سائرا في شارع الرشيد من بغداد لأخرجه أهلها ركلا بأرجلهم منه. لا توجد نماذج من البشر على شاكلته فيها ! كان باهر واحدا من هؤلاء المستغرقين في ضحك متواصل تواصل حديث رئيس العرفاء حسين ضهد ، ذلك الرجل الذي يظل أبناء المدينة في انتطار عودته بإجازة من عمله المتواصل في الجيش العراقي ، ومنذ سنوات طويلة زادت على أكثر من عشرين سنة ، والتي كثير ما تحدث عنها بالاعتزاز مفرط ، فهو إن ينس فلا ينسى تلك الأيام التي قضاها في حرب سنة 1948م ، حرب فلسطين ، وبأمرة القائد الكردي الشجاع ، عمر علي الذي كان ينفق ساعات طوال في الحديث عنه ، وعن جميل ذكرياته معه ،رغم أيام الحرب العصيبة ، ولفرط تعلقه به فقد حفظ عنه بعض المفردات من اللغة الكردية مثل : جوني وتعني : كيفك ، وزور باش ، وتعني: جيد جدا وهكذا . لقد كان باهر يتذكر باستمرار حديث حسين ضهد الغريب عن بغداد، وهو يسير في أزقتها وشوارعها ، فهل هي هذه المدينة التي سمع عنها غريب القصص ؟ المدينة التي لا زالت تحمل من الماضي البعيد ، التليد غباره ،مع كل ما نزل فيها من تطور اليوم ، وحلّ بها من جديد الشوارع والبنايات العالية . لقد كان باهر يرى هو أنه نزل في أجمل وأحسن مكان منها ، فشارع المتنبي شارع تكاد تنعدم فيه حركة السيارات ، يربط بين شارع الرشيد، الشارع الرئيس في المدينة ، وبين سوق السراي الذي يزدهر ببيع الكتب، والذي زاره وهو طفل محمولا بين أحضان أمه ، وسأل عن كتاب القراءة وهو لم يعرف عنها شيئا بعد ، ولم يكن ساعتها يعلم أنه سيعيش بين أحضان الكتب ، وأن مسكنه سيعلق فوق أسطح محلات بيعها ، وسيرمي نظره كل يوم على واجهاتها ليرى الجديد منها ، فإن كانت لديه مقدرة على شراء أحدها اشتراه ، وإلاّ فانه يهبّ نحو المكتبات العامة لاستعارته أو مطالعته فيها ، حين لا يسمح بتلك الاستعارة . على عادته ، ومنذ ساعات الصباح الأولى حمل باهر كتبه ، هو وزميله محمد حسين القادم من أهوار المجر الكبير في مدينة العمارة الجنوبية ، متجهين الى كلية التربية في منطقة الوزيرية من بغداد ، وأغلب الأحيان كانا يسيران إليها مشيا على الأقدام ، ويعودان منها مشيا كذلك ، فهما كلاهما لا يحظيان بمعونة من الدولة ، وحين حاولا هما الحصول على الدنانير الخمسة التي كانت تقدم للطلاب القادمين من خارج العاصمة، رفض طلبهما ، بعد مقابلة أجرياها مع استاذ في جامعة بغداد ، وكان سبب هذا الرفض باهتا ، مثلما سمعاه من الاستاذ ذاته ! وهو أن جميع سكان أهوار جنوب العراق يعيشون دوما على وسائد ، وثيرة ، ملآى بالدنانير ! حين وطأت أقدامهما أرض الكلية اندفع باهر نحو قسم الفلسفة ، حاملا بيده اليسرى كتبه الدراسية ، وفي اليد اليمنى كتابا في الفلسفة حصل عليه من صديقه الخياط ، والذي وعد استاذ الفلسفة في أن يأتي به إليه ، وكان هدفه من وراء ذلك أن يزيل الانطباع الغريب الذي ترسخ في ذهن ذلك الاستاذ ، والذي طالما ردده على مسامع طلابه بزهو وهو أن العراقيين لا يفكرون ! لقد فاجأ باهر اساتذة قسم الفلسفة وعلم النفس وهو يسلم استاذه كتابا صغيرا أكلت الأرض نصف الوجه الأول من جلاده ، لطول ما ظلّ مدفونا فيها . : ـ أ تدري ـ يا استاذ ـ لماذا ذهب نصف من وجهه الجلاد الأول ؟ : ــ لماذا ؟ ردّ الاستاذ باستغراب واضح . : ــ كان مدفونا في الأرض لسنوات خلت ! : ــ ما السبب ؟ : ــ السبب هو الخشية والخوف اللذان يمنعان العراقيين من التفكير ، وأنت تعرف ذلك ! : ــ عجيب ! : ــ إن كتابا مثل هذا ـ يا استاذ ـ سيقودك الى السجن الآن أو في ما مضى من الأيام . لم يطل باهر حديثه مع الأستاذ طويلا ، فهو محاصر ببدء وقت العمل ، وبفكرة هي أن أغلب الأساتذة الذين يستمعون الى حديثه في تلك الساعة المبكرة من صباح مشمس بارد كانوا متضايقين منه ، وذلك خوفا من المجهول الذي لا تحمد عقباه ، فجامعة بغداد على علو صيتها ، وكثرة مكتباتها كانت هي الأخرى تخاف من أن تقتني كتابا على شاكلة الكتاب الذي حمله باهر معه هذا الصباح ، ولو كان الأستاذ قد أخبر عمادة الكلية عن ذلك لكان باهر في السجن ساعتها . فقبل أيام قلائل ، وفي مادة النحو منح الأستاذ حرية في أن يختار طلابه بيتا من الشعر لأي شاعر كان، وعلى أن يقوم الطالب بإعرابه كاملا ، وشرحه شرحا أدبيا ، وذكر نبذة عن قائله ، وعلى هذا يكون على كل طالب مجّد أن يرجع الى ديوان شاعر مجيد ، يختار بيتا شعريا منه ، فيه من المعنى غزارة ، ومن النحو مادة وفيرة ، وحتى لو كان هذا البيت الشعري عالقا في ذهن الطالب فلا بد له من العودة الى ديوان الشاعر من أجل التعرف على القصيدة التي تضم هذا البيت بين أبياتها، وعلى الظرف الذي دعا الشاعر لقولها . كان باهر قد سمع بيتا لشاعر تخافه الحكومة من صديق له ، يتقدمه بثلاث سنوات دراسية، ولشدة إعجابه في معناه حفظه منذ اللحظة التي تلاه فيها صديقه على مسامعه وهو : ومستنكر ٍشيبا قبيل أوانه فقلت له هذا غبار الوقائع وعلى هذا عزم باهر على زيارة المكتبة المركزية ، أملا في استعارة ديوان الشاعر لكنه حين قدم استمارة الاستعارة للموظف المسؤول عنها فوجئ برده الحذر . : ــ شوف غير هذا الديوان ابني !قال ذلك وقد امتقع وجهه واصفر ، لكن باهرا لم يعلم سببا بينا لهذا الخوف الذي أنزله سؤاله عن ديوان شعر الشاعر في نفس الموظف فجأة . : ـ لماذا ؟ اسم الديوان مدون على ورقة ، هناك في درج استعارة الكتب مثل بقية الكتب الأخرى التي من الممكن استعارتها ! : ــ أ وتعلمني عملي ؟ أنا أعرف كل ما قلته منذ سنوات عديدة خلت ، والديوان الذي تريده يرقد هناك على ذلك الرف ، ثم أشار بيده ، مدللا على ثقة عالية بنفسه ، وبما يقوله لباهر . : ــ حسنا ! هاته ! فانا في مسيس الحاجة له . : ـ سأقول لك بالحرف العريض : الديوان ممنوع من الاستعارة وبأمر من الدولة ، وهذا هو السبب الذي يمنعني من إعارته لك . : ــ دولة الحاج مشن ! قال باهر ذلك ، وانصرف خائبا دون أن يحقق مبتغاه في استعارة ديوان الجواهري ، تاركا وراءه نظرات الموظف التي ظلت تلاحقه بحذر حتى باب المكتبة ، فباهر قد ألقى على مسامعه كلمة قد تحمل قائلها حتما الى السجن ، فقد كان العراقيون يكنون بتلك الكلمة عن رئيس الجمهورية ، وظلت على ألسنة الناس حتى بعد موته ، وفي حكم أخيه الرئيس السابق ، وباهر نفسه يعرف أكثر من واحد كان قد أخذته تلك الكلمة الى السجن ،حين كان مخبرو شرطة عارف السرية يتلقفونها من أفواه الناس في الطرقات والمقاهي ، وكانت لا تزال إحدى تلك الصورة راقدة في ذهنه ، وذلك حين اندفعت مجموعة متوحشة من هؤلاء المخبرين الى المقهى التي كان يجلس فيها هو ونفر من الطلاب ، وانهالت ضربا على حسن ، أحد زملائهم ، صائحين فيه وعلى مرأى ومسمع من الناس : شيوعي قذر! كان حسن قد قال كلمة مشن قبل ساعة واحدة ، وهو يرد على زعم من أحد زملائه في أنه سيحقق في آخر امتحان للرياضيات أدوه قبل أيام في إعدادية الناصرية للبنين نجاحا باهرا ، لا تقل درجته فيه عن المئة بالمئة، فما كان من حسن إلا ان يرد عليه عفويا ، وبصورة لا تخلو من سخرية مرة وتهكم :) هم أنت حجي مشن ! (لقد نقل أحد المخبرين الجالسين في المقهى ، والذين كان من مهماتهم إلقاء السمع ، ونقل كل ما يسمعونه من كلام يمس بأمن الدولة ! الى رئيسهم المباشر ، المدعو: معيوف ، والمتخذ من غرفة واسعة من مقر شرطة الناصرية مكان عمل له . كان معيوف يثير الذعر في نفوس الطلاب الشباب باسمه قبل أن يروا شكله ، فهو رجل ضخم ، مربوع بناء الجسم ، تتقدمه بطن كبيرة، شربت من خمر داود أبو العرق الكثير ، وكان فاحم السمرة ، لا يعدو بسمرته هذه أن يكون واحدا من غجر العراق ، قبيح الوجه ، منتفخ الخدين ، وئيد الخطو ، إذا سار هو سار ثلاثة أو أربعة من رجال الأمن خلفه ، ليزيد نفوس الناس منه رهبة وخوفا ، في مدينة كثير ما انكسر خوف العراق فيها ، فلقد تحدى ابنها الأول ، اتونابشتم أمواج الطوفان العاتيه ، ومنها قديما ابتدأ جلجامش رحلة الحياة . لم تر المدينة معيوفا هذا يوما من الأيام لابسا زيا عسكريا ، كانت تراه أبدا باللباس الشعبي : عقال وكوفية ، سترة داكنة اللون ، ثوب رصاصي وحذاء أسود ،بهذا المظهر المعتاد فاجأ معيوف نفرا من طلاب ثانوية الناصرية الذين اعتادوا الجلوس في مقهى التجار بعد أن يقضوا ساعات الصباح في الدراسة ، وبعد أن يتناولوا طعام الغداء في مطاعم المدينة الواقعة في وسط شارع الجمهورية من المدينة . لقد انهال معيوف بالضرب الشديد ، والسباب المقذع على حسن الذي لم يكن قد رأى معيوفا من قبل ، والذي كان يحمل في ذهنه صورة له ، هي أشبه بصورة حيوان خرافي ، تلك الصور التي كانت تحملها عقول الأطفال الصغار من الحكايات الخرافية التي يسردها لهم ليلا الكبار من الناس ، ومن بين السباب الذي تفوه به معيوف هو أنه قال لحسن : أأنت شيوعي قذر !؟ كان السبب في إطلاق كلمة : شيوعي ، من قبل معيوف هو أن شيوعي المدينة الذين مازالوا في سجونها هم الذين أطلقوا كلمة : مشن كناية عن رئيس الجمهورية ، ثم سرت بعد ذلك سريان النار في الهشيم فراح الناس يرددونها في شوارع ، هازئين بها بحذر أحيانا من الرئيس ، وخطبه الكثيرة ، والتي ملّت مدن العراق من سماعها الكثير ، وصارت بعض موضوعاتها نوادر يتندر بها الناس ، أما لماذا كان يكنى عنه بكلمة: مشن فلهذا سبب طريف ، إذ نزل الى أسواق العراق زمن حكمه مشروب غازي ، جديد ، لم تكن تلك الأسواق تعرفه من قبل، هو عبارة عن شراب برتقالي اللون ، في زجاجة صغيرة، كتب على أحد جانبيها بالحرف العربي كلمة : مشن، وذات الكلمة كتبت على الجانب الآخر منها بالحرف اللاتيني ، وحين دخل نفر من البعثيين سجونه بعيد تسلمه للحكم في العراق ، استقبلوا من قبل ضحاياهم من شيوعي المدينة بمقطوعة شعرية منها : شد عل حصانك يا مشن شد ! الببسي والكوكا بالسجن شد! وكان البعض يضيف الى تلك الكلمة كلمة : حجي ، فتصبح الكناية بعد ذلك : حجي مشن ، إذ سبق للرئيس أن أدى مناسك الحج ، ولذا صارت شرطته تلقي السمع في الشوارع ، وفي المقاهي ، تطارد الذين يحاولون التعدي على كرامته بإطلاقها، وها هو حسن ، أحد الطلاب القادمين من أرياف المدينة ، يساق الى السجن ، ويتعرض للضرب أمام الناس ، وفي مشهد ليس غريبا عن شوارع العراق ، وعن جور وطغيان حكامه . واحتقار الإنسان وسحق كرامته ، فقد كرست نظم الحكم الثيوقراطية في العراق ، وعموم العالم الإسلامي ، ومنذ أزمنة غابرة ، صورا مرعبة، ورهيبة من القمع ، وتشديد العقاب ، لا تقلّ ضراوة عن تلك شهدتها أوربا في أقسى فترات انحطاطها وتخلفها ، حتى لكأن صور العقاب تلك كانت تعبيرا عن علاقة الإنتاج السائدة بين مُلاك الأرض وعبيدها ، أو بين السلطان ورعيته ، ثم ازدهرت صناعة العقاب هذه ، وصارت نظم وقوانين ترعاها السماء وتباركها، ويصير قتل الناس ساعتها حلالا مباحا وبطرق خسيسة لا تخلو من طرافة أحيانا، ولا يمكن لأحد أن يردها ، أو يعترض عليها . كان الغرام قد ملأ قلب العباسة ، أخت هارون الرشيد ، فتعلقت حبا لا حدّ له برئيس وزرائه ، جعفر بن يحيى البرمكي ، مثلما تعلق بها هو ، وقد انصرمت بينهما ساعات ملاح ، تقاسما فيهما من القبل أحرها ، ومن نيران الوجد أحرقها ، فلطالما انسلت إليه، وهو في مكان عمله يصرف أمور الدولة المترامية الأطراف لأخيها الذي كان يقضي جلّ وقته بين الشعراء ، ينشدونه مدحا ، وبين المطربين يسمعونه أعذب الألحان ، وأرق الغناء ، ثم ينهض للنوم مستعرضا جيشا من حسان الأرض ، ومن مختلف ألوان الجواري والرقيق ، فما نام ليله إلا وقد نامت حسناوان على جنبيه ، فالخليفة مبراد ، يأخذه برد شديد لا يستطيع ردّا له إلا ان يدثر نفسه بامرأتين حلّ جسديهما الجمال كله ، لكنهما مع ذلك سينامان ليلة واحدة معه ، ثم تنام اثنتان أخريان غيرهما معه في ليلة قادمة ، فالخليفة مولع بتبديل الأجساد ، ومغرم برؤية جميع الأجناس ، ولطالما جادل بأن الصدور من النساء ليست هي واحدة عند الجميع ، فرمان الروم ليس هو رمان بلاد الفرس ، ولذته في الهند ما كانت كلذته في أرض الترك ، فالخليفة أعلم الناس بذلك ، ولا يمكن لأحد في مملكته الممتدة بين فرنسا والصين أكثر منه علما في معرفة طعم أجساد النساء ، وقد ملكت يمنه منهن ما يزيد على سبعمئة ألف امرأة نهد صدرها للتو ، لكنه، والحق يقال ، كان يؤم المسلمين في الصلاة ، ويمضي معهم للحج ويبطش بمكر ودهاء على طريقة الملوك . ففي صباح يوم من صباحات شتاء بغداد الباردة دخل على الخليفة هارون، رئيس وزرائه محييا على عادته في كل صباح ، لكن الخليفة قال له : اذهب وتشاغل بمن تحب وتأنس اليوم ، فإني مصطبح يومي هذا مع النساء . صدقه جعفر فعاد الى داره ، وعقد فيها ليلا مجلس طرب له ، متشبها بسيده الخليفة الذي اعتاد أن يعقد كل ليل مجلسا مثله ، وما هي لحظات حتى كان مسرور ، خادم الرشيد ، واقفا على رأسه ، فوثب جعفر فزعا قائلا له : ما الخبر يا أبا هاشم جعلني الله فداك ! قال مسرور الخادم ، جئت لأخذ رأسك وأحمله للرشيد ، فانكب جعفر على رجل الخادم يقبلها وقال : الله الله ، راجع أمير المؤمنين ، هارون الرشيد في أمري ، فرده الخادم أن لا سبيل لذلك ، وما عليك إلا أن توصي ، فأراد الذهاب الى نسائه ليوصي لكن الخادم منعه قائلا : أوص ِ من مكانك ! فكتب أحرفا على ورقة ، وهو مذهول ، ثم طلب من الخادم أن يأخذ ويحبسه عنده في داره على أن يراجع الخليفة في أمره ثانية ، وبعد تردد وافقه الخادم على ذلك، لكنه حين عاد ، ودخل على الرشيد ، صاح به الرشيد : أين رأسه ؟ ويلك! فقال له : أنه في داري ، وطلب مني أن أعود إليك ، فقال له الرشيد : والله لئن لم تجئني برأسه الساعة لآخذن رأسك، فمضى مسرور الخادم ، وأخذ رأسه ، ووضعه بين يدي الرشيد .
#سهر_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحكمة من تشكيل الائتلاف العراقي الموحد -
-
دستور مشلول لا ولن ينقذ بوش من الورطة !
-
الصرخي علامة من علامات تخلف العراق في العهد الأمريكي !
-
السستاني يصفع الجميع !
-
إمارة الحكيم الإيرانية !
-
بعد تعاظم الورطة السستاني يمزق صمته !
-
الجوع سيوحد العراقيين !
-
العرب ورياح الديمقراطية الأمريكية ! 3
-
العرب ورياح الديمقراطية الأمريكية ! 2
-
العرب ورياح الديمقراطية الأمريكية-1
-
علاوي وأحلام العصافير !
-
حكومات تحت ظلال سيوف الديمقراطية الأمريكية !
-
بوش الدجال بين طالبان سنة العربان وطالبان سنة إيران !
-
أوربا نحو القبول بالحصة من الغنيمة العراقية !
-
حليفكم الجبل يا مسعود !
-
العراق نحو ولاية الفقيه !
-
جنود من بطيخ !
-
ويسألونك عن الزرقاوي !
-
حكومة دونما حكم ودولة دونما حدود !
-
حرب الأحزاب الطائفية بدأت في العراق !
المزيد.....
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|