|
رحلة لم تتم/ فصل من رواية
محمود شقير
الحوار المتمدن-العدد: 4627 - 2014 / 11 / 8 - 17:50
المحور:
الادب والفن
رحلة لم تتم محمود شقير
كان عليّ أن ألغي الرحلة. تذمّرت سناء ثم لاذت بالصمت كعادتها كلّما دهمها أمر مفاجئ، وراحت تشغل نفسها بتفقّد ملابسها التي رتّبتها في حقيبة السفر، تخرجها ثم تعيدها إلى الخزانة. تتأمّل بمزيج من الأسى والإحساس بالخسران ملابس السباحة التي اشتريتها لها قبل أيّام. تحمّست سناء للسفر ولزيارة المدينة التي تمتاز بأجوائها الحرّة وببحرها. وكنت زرتها مرّة واحدة قبل زواجنا، وأخرى بعد الزواج حين أمضينا فيها عشرة أيّام، فبقيتُ معجبًا بها راغبًا في زيارتها عددًا من المرّات. وكنت أنوي أن نحتفل بعيد زواجنا العشرين هناك. قالت: كم أنا مشتاقة إلى زيارة الأماكن التي كنّا فيها آنذاك! وكنّا ننظر إلى النزهات التي يقوم بها بعض الناس هنا كما لو أنّها هروب من الأوضاع التي نحيا في ظلّها، أو كما لو أنّها استسلام لهذه الأوضاع وتسليم بها، وانصراف إلى الشأن الخاصّ ونسيان الشأن العام. ولَمّا انتبهنا إلى أنّ الأوضاع باقية على حالها إلى أمد غير معلوم، أدركنا أنّه لا يعقل أن نظلّ في حالة استنفار، بحيث نواصل حرمان أنفسنا من أبسط المتع التي يمكنها أن تعيننا على تحمّل الأعباء. صرنا نخرج إلى هذا المكان أو ذاك، لاقتناص بعض المسرّات. حين قمنا معًا برحلة إلى البحر الميّت، ارتديت ملابس السباحة وسبحت في الماء. اكتفت سناء بممارسة طقسها الخاص: خلعت حذاءها ورفعت فستانها إلى ما فوق ركبتيها، غسل الماء ساقيها وبلّل ذيل الفستان. وعندما التقت نساء العائلة في إحدى الأمسيات حدّثتهن عمّا فعلت، ليصبح ذلك دليلاً على عدم مراعاتها لشروط الحياء. أتعاطف معها وتتعاطف معي لأنّني أحمل على كاهلي عبء العائلة، العبء الذي حَمّلني إيّاه أبي. وكنّا، أنا وسناء، نتوق إلى التحرّر من العائلة وهمومها لوقتٍ ما. أنا محمّد بن منّان العبد اللات الملقّب بالأصغر، للتمييز بيني وبين أخوين آخرين أطلق أبي عليهما الاسم نفسه، تقديرًا لوالده الشيخ محمّد الذي كان له شأن وأيّ شأن في البرّيّة، أحدهما لقبه الكبير والثاني لقبه الصغير. وقد سار كلٌّ منهما في طريق مناقض للطريق الذي سار عليه الآخر. وكان لأبي موقف متذمّر منهما. أعلن مرّات عدّة أمام أبناء العائلة أنّه يضع ثقته فيّ، ويعلّق آمالاً عليّ، بأنْ أجمع شتات العائلة، وأنْ أحمي نساءها من أيّ سوء، إذ يكفينا ما وقع لأختي فلحة وأورث أبي همًّا، وأن أقوم بأعمال مجيدة ترفع اسم عشيرة العبد اللات التي اتّسعت وتشعّبت وتناثر أبناؤها في كلّ مكان. عندما أخبرته بأنّني سأتزوّج بامرأة مطلّقة تكبرني بثلاث سنوات، نظر إليّ وقال: أكيد، أنت تمزح. قلت: أبدًا، لا أمزح. فأصابته انتكاسة جرّاء قراري هذا، وكاد ينزع منّي الثقة، ويضمّني إلى أخَوَيّ محمّد الكبير ومحمّد الصغير، وإلى أخي فليحان الذي ارتكب موبقات كثيرة. كنّا آنذاك في العام 1962 ، ولم تكن أوضاعنا العامّة تسرّ البال، كان القمع السياسي على أشدّه. ظلّ يوجّه لي النصيحة تلو الأخرى ويؤكّد أنّ بإمكاني الظفر بفتاة جميلة عذراء من بنات راس النبع، أو من غيرها من القرى المحيطة بالقدس، فلم أقتنع. كانت أمّي مشفقة عليّ من مغبّة الاعتراض على رغبتي. وهي ما زالت دائمة الانشغال بظلّها، يتبعها حينًا ويسبقها حينًا آخر في وضح النهار. لكنّ هذا الانشغال لم يصرفها عن متابعة شؤون العائلة والتدخّل في مساراتها المختلفة. ورغم انفعالاتها التي تجعلها غاضبة في بعض الأحيان إلا أنّها تنطوي على قلب عطوف. على العكس من أبي الذي لا يخلو من قسوة. ظلّ يمارس عليّ الترغيب حينًا والترهيب حينًا آخر، ولكن من دون جدوى. جاءت سناء إلى بيتنا، وكانت تتصرّف بلباقة واتزان، وتتكلّم من دون استعلاء. وكنت أخبرت أبي بأنّ زوجها السابق هو ابن عمّها، وكان يكبرها بخمس عشرة سنة. لم يكن لديهما أطفال لأنّهما قرّرا الانتظار خمس سنوات قبل التفكير بإنجاب طفل. عاشا معًا ثلاث سنوات، ولم تستطع التعايش مع أفكاره المكرّسة لتجارته. نفرت منه، واتّفقا على الطلاق. قدما إلى المحكمة ووقفا أمام القاضي، وكنت أدوّن محضر الجلسة. دخلت سناء قلبي منذ اللحظة الأولى. جاءت إلى بيتنا، وقالت أمّي إنّها امرأة جديرة بالثناء. أمضت هي وأمّها وأبوها النهار كلّه في راس النبع. قال لي أبي بعد أن غادرتنا سناء: على بركة الله. كان هذا قبل عشرين سنة. والآن، لم أجد بدًّا من إلغاء الرحلة، ولا أدري إن كنّا قادرين على استئنافها بعد أيّام. قالت أمّي ونحن نتأهّب للسفر إنّها رأت فرس العائلة في المنام. عادت الفرس التي لم تظهر في أحلامها منذ زمن إلى الظهور. قالت إنّها أكثرت من الصهيل كأنها تحذّرنا من مغبّة هذا السفر. ولم يكن اقتراحي السفر إلى بيروت من قبيل الصدفة المحضة. كنت أنوي تجديد الصلة بمدينة أحببتها، وكنت أرغب في تذكّر الأيّام الجميلة التي قضيناها، أنا وسناء، معًا ونحن نعيش أيّام عرسنا الأولى. تحمّسنا للسفر إليها رغم الرصاص الذي اندلع فيها منذ سبع سنوات، يشتدّ حينًا ويخفّ حينًا آخر. نمنا ليلتنا على أمل الذهاب صباحًا عبر الجسر إلى عمّان، ومن هناك نركب الطائرة إلى بيروت. ولم نسافر. تعطّل سفرنا لسبب خارج عن إرادتنا. كتبت بضعة أسطر في دفتر أدوّن فيه ما يخصّني ويخصّ العائلة: لم تعد الرحلة ممكنة بسبب الغارات الجوّيّة، والاجتياح الذي غمر الجنوب اللبناني وراح يتقدّم نحو بيروت مثل طوفان. أنا الآن في الثانية والأربعين. تعايشت مع هموم كثيرة، وكان همّ العائلة واحدًا منها، وكذلك همّ سناء. والهمّان لهما علاقة ببعضهما بعضًا على نحو ما. وكان هذا السفر المرتقب جريًا على طقس اتّبعناه، للتخفيف على سناء من ضغوط العائلة. لم يكن الأمر بيدها لكنّها عانت جرّاء ذلك معاناة لا تهدأ حتى تتفاقم من جديد، وكانت بين الحين والآخر تقترح عليّ أن ننفصل، وأنا لا أوافق على الانفصال بسبب حبّي لها، وبسبب أنّ عملي في المحكمة الشرعيّة جعلني أنفر من الطلاق الذي تتحمّل وزره في غالب الأحيان الزوجات. قلت لها: لن أنفصل عنك مهما تحمّلتُ من مشقّات. عملت في المحكمة الشرعية في القدس. توظّفت فيها عام 1958. وظيفتي في المحكمة لم تكن على قدر كبير من الأهمّيّة، لكنّ أبناء عشيرتي ظلّوا إلى زمن ما يعتقدون أنّني موظّف مهمٌّ وهم يرونني بالبدلة الكحليّة، وبربطة العنق الزرقاء فوق قميص أبيض، وبالحقيبة السوداء التي أحملها في يدي وأضع فيها أوراقًا وملفّات، وأنا صدّقتهم. صدّقت أنّني موظّف صاحب شأن، رغم أنّني أقع في التصنيف الوظيفي ضمن فئة صغار الموظّفين. ازدادت ثقتي بنفسي، واعتقدت أنّني سأكون قادرًا على إرضاء أبي بتحقيق رغبته في جمع شتات العائلة. ظفرت بالوظيفة في زمن لم تكن الوظائف فيه سهلة المنال. وكان الفضل في ذلك لأبي الذي ظلّ قادرًا على استثمار علاقاته مع بعض من برزوا بعد وحدة الضفّتين الشرقية والغربيّة، واستلموا مناصب في مختلف الدوائر والمؤسّسات الحكوميّة. طلب من أحدهم أن يتوسّط لي للظّفر بوظيفة. فوجد لي وظيفة كاتب في المحكمة الشرعيّة في القدس، أسجّل في دفتركبير عقود الزواج، وشهادات حصر الإرث، وأوراق الطلاق. بنات كثيرات جئن إلى المحكمة وعقدن قرانهنّ على شباب، ومطلّقات جئن أيضًا إلى المحكمة وعقدن قرانهنّ للمرّة الثانية أو الثالثة على رجال يكبرونهنّ في السن، لأنّهنّ يطلبن الستر والاحتماء بظلّ رجل. وكم عاينت من قضايا طلاق لهذا السبب أو ذاك! وما أكثر الأسباب! ويمكن القول وأنا أتذكّر رحلتي مع الوظيفة: إنّ هذه السنوات لم تمرّ من دون أن تترك أثرها عليّ. كان أخي محمّد الصغير في تنافس دائم مع أخي محمّد الكبير للتأثير عليّ، ولتحديد مساري في الحياة. كلّ منهما يحاول اجتذابي إلى قناعاته الفكريّة. كنت حذرًا ولا أتحمّس لربط مصيري بقناعات قد تصرفني عن التفكير في كلّ اتّجاه، أو تحمّلني مسؤوليّات لا أقدر عليها. قبل الظفر بالوظيفة، قال أخي محمّد الصغير لأبي إنّه يعرف مدير المعهد الديني في القدس، وهو على استعداد لقبولي في المعهد لكي أتخرّج فيه شيخًا يؤمّ الناس في الحرم الشريف. لم أفكّر بأن أكون شيخًا يرتدي عمامة، مع أنّني متديّن بالفطرة. فلم أتحمّس لاقتراح أخي ولم يتحمّس أبي له. كان أبي راغبًا في تدبير وظيفة لي تدرّ عليّ مبلغًا من المال، سيظفر بقسط منه، لأنّه لم يعد واثقًا من اعتماده على الأغنام بعد استثماره أمواله في الأراضي التي اشتراها هنا وهناك، ولم يكن راغبًا في تلقّي أيّ أموال من أخي فليحان، لأنّها أموال حرام. اشتغلت في المحكمة ولا أنكر أنّ عملي فيها لم يكن يتماهى مع تطلّعاتي، إلا أنّ الحصول على راتب ثابت نهاية كلّ شهر، يضطرّ المرء إلى التغاضي عن أمور لا يستسيغها. وكنت أعزّي نفسي بأنّني قد أغيّر مساري الوظيفي، فأختار الوظيفة التي تروقني. أنيطت بي علاوة على عملي في المحكمة كتابة عقود الزواج خارج المحكمة بعد التحاقي بدورة للتأهيل. أصبحت مأذونًا شرعيًّا أذهب إلى حفلات الخطوبة والأعراس، وأجلس بين أهل العريس والعروس. أقوم بكتابة عقد النكاح وأطلبُ من العريس أن يضع يده بيد والد العروس الذي يقرّ بأن يُنكحه ابنته، ويعلن العريس قبوله بذلك، ثم أستأذنُ في الدخول إلى العروس لسماع رأيها. أدخلُ ووالدها يتقدّمني إلى غرفة مجاورة. ينتزعها أحد أخوتها من بين النساء. تقف بين يديّ وتبدي موافقتها على الزواج، ثم تعود من حيث جاءت. سمعتُ بنات كثيرات وهنّ يوافقن على الزواج، لأكتشف فيما بعد أنّ موافقتهنّ ناتجة عن ضغوط من الأب أو من أحد الأخوة، وبعد ذلك تظهر الحقيقة، فالبنت لا ترغب في هذا الزوج، خصوصًا إذا كان ابن عمّها أو أحد أقاربها، لأنّها راغبة في الزواج بشخص آخر، ما يجعلها تعيش حياة أسريّة بائسة، قد تنتهي بالطلاق. من رواية "مديح لنساء العائلة" التي ستصدر قريبًا.
#محمود_شقير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خمس قصص قصيرة جدا
-
خمس قصص قصيرة جدًّا
-
عن رواية جميل السلحوت: -جنة الجحيم-
-
محمود درويش.. السيرة الذاتية بأسلوب مختلف
-
حيرة وقصص أخرى
-
غرف
-
ثلاث قصص قصيرة جداً
-
أربع قصص قصيرة جداً
-
رقص
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|