من ينكر ؟ بالفعل مارست الحركة الطلابية نشاطا سياسيا ملموسا فى التاريخ المصرى الحديث والمعاصر ، سواء بذاتها فى السبعينات أو بالوكالة عن قوى سياسية مختلفة فى العهد الليبرالى .. وفى الحالتين كان هذا النشاط كبير الوقع على الهياكل السياسية ، بحيث اكتسبت الجامعة لعقود عدة أهمية سياسية وأمنية كبرى، أدت إلى صدامات مباشرة مع السلطة فى لحظات الذروة . ومن ينسى الدور الكبير الذى لعبه طلبة الجامعات الفرنسية فى انتفاضة 1968 ؟ ومن يستطيع أن يتجاهل تكرار هذه الظاهرة فى العديد والعديد من بلدان العالم المتقدم والنامى ؟
وإذا كنا بصدد ما هو أكثر من إبداء الحماس والتأييد لهذه الحركة ، فإننا بلا شك أمام ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل فيما تثيره من إشكاليات نظرية . فالطلبة ليسوا طبقة اجتماعية مهما بلغ تساهلنا فى تعريف مصطلح الطبقة ، وليسوا بالبديهة حزبا سياسيا ، ولا هم "الشباب" الذين يواجهون الكبار ، وإلا فأين العامل الشاب والفلاح الشاب والعاطل الشاب ... وآلاف مؤلفة من التصنيفات التى تضم الشباب ؟ فلماذا إذن يثور الطالب ، ولماذا تكتسب ثورته هذه تلك الأهمية السياسية الواضحة ؟ حتى حين كانت مصر تضم جامعة واحدة لا غير ، بها بضعة من الكليات لا تستكمل أصابع اليدين ؟
إشكالية ضخمة حقا .. إشكالية متمردة ، تذكرنا بمدار عطارد "اللعين" الذى تحطمت على صخرته رؤوس الآلاف من العلماء النيوتنيين حتى سقطت نظرية نيوتن بأكملها . ولا تدعى هذه الورقة القدرة على التصدى للمشكلة بكل أبعادها .. وإنما تكتفى بدراسة حالة واحدة ، هي حالة الحركة الطلابية الوطنية الماركسية المصرية فى السبعينات (1968 - 1977) ، ليس فحسب لمناسبة هذا الموضوع لهذه الندوة () ، ولكن أيضا لأن الورقة لا تفترض أصلا وجود هوية طلابية ثابتة على امتداد زمن العصر الحديث ، وعلى امتداد المكان الذى يشمل كل أو معظم بلدان العالم . فقط ترجو هذه الورقة أن تقدم من خلال هذا التناول نموذجا نظريا مختلفا لمناقشة قضية الحركة الطلابية على اتساعها ، وكذا مجمل القضايا المتعلقة بحركة الإنتليجنسيا الحديثة ، باعتبار الطلاب ، بالقوة وبالفعل معا، جزءا منها .
وجدير بالذكر أن هذه الورقة كانت قد أُعدت أصلا لمناقشة مسألة الحركة الطلابية فى السبعينيات بغض النظر عن الأيديولوجية الماركسية المصرية .. غير أن هذا الجانب لم يكن بالقطع غائبا عن ذهنى عند إعدادها .. وقد بدت لى فى جميع الأحوال مناسبة كمدخل لدراسة الحركة اليسارية فى مصر فى السبعينيات .. بوصفها فى المحل الأول والثانى والثالث حركة طلابية ، تقوم على الدعاية لموقف من القضية الوطنية قبل أى شىء .. بصرف النظر عن الادعاءات العريضة بتمثيل البروليتاريا المصرية . . فى رأيى على الأقل .
وبصرف النظر عن أسلوبى التقريرى الذى لم أفلح بعد فى الإقلاع عنه ، فإن الورقة تطمح بالفعل إلى إثارة نقاش على أسس نظرية مختلفة عن المسلمات السائدة بأكثر مما تطمح إلى تقديم إجابات مكتملة
إذا كان الموضوع المطروح هو دور الحركة الطلابية الماركسية .. فإن الدور الذى يُعزى فى النظرية الاجتماعية عادة للطلبة ، ومجمل الإنتليجنسيا ، هو دور التعبير .. أو التمثيل ، تمثيل الوطن أو المقهورين أو البروليتاريا .. حسب السياق . غير أن فحص هذه المسألة يتطلب أصلا الكشف عما يكمن خلف مصطلح "الدور" نفسه.
شاع هذا المصطلح فى الدراسات التاريخية ، خصوصا دراسة الشخصيات السياسية والأحزاب والمفكرين ، مع تبنى التصور القائل بأن التاريخ هو تاريخ المجتمع .. ويصبح المقصود بالدور هنا هو ممارسة دور اجتماعى . ومن البديهى إذن أن مصطلح الدور يتضمن بالضرورة تصورا عاما يتم فيه ترتيب الأفراد والمؤسسات والجماعات فى "كل" افتراضى هو المجتمع ، بنفس الطريقة التى يتم بها ترتيب الشخصيات والممثلين فى "الكل" الروائى أو المسرحى ، المكتمل بالضرورة ، والذى تحكمه غاية كلية . ومن هنا يمكن القول بأن مصطلح "الدور" وثيق الصلة بالنزعة الرومانتيكية فى الفكر - وليس الفن فقط - الحديث ، من حيث هى نزعة تنشئ الذات ، كذات أرضية بشرية تتميز بالإرادة ، وتضعها فى لب الكون والظواهر .
وعلى ذلك يقوم مصطلح الدور على إقامة كينونتين ، كبرى وصغرى ، بحيث تلعب الكينونة الصغرى دورا فى الكينونة الكبرى . وينقسم هذا التصور إلى اتجاهين حسب الموقف من الذات الصغرى التى تلعب الدور : أولهما المثالى أو الذاتى ، وفيه تنبعث الإرادة من الكينونة الصغرى لتنقض على الكينونة الكبرى وتؤثر فيها وتغيرها . وهنا تكون الكينونة الكبرى بمثابة إطار أو مجال ، وبصفة عامة موضوع لعمل الكينونة الصغرى التى تصبح ذاتا - بطلا . أما الاتجاه الموضوعى أو المادى فيعكس الوضع .. الكينونة الكبرى ، المجتمع ، النص العام ، هو الذى يشكل إرادة ذلك الفاعل الجزئى ، ويوحى له بالدور الذى يلعبه ويمنح هذا الدور قوامه وهيئته ، فالفاعل هنا هو الكينونة الكبرى .. أما الكينونة الصغرى فهى الموضوع .. ومن هنا يسمى الاتجاه الموضوعى .
وطالما ظللنا داخل إطار مفهوم "الدور" لا مفر من هذه الخيارات . ومع ذلك ليس هذا المفهوم بالبديهى أو الحتمى .. وإنما كان إنشاؤه حدثا تم فى التاريخ. غير أن ما يعنينا هنا هو استخدام هذا المفهوم فى تناول الحركة الطلابية . لم تخرج الحركة الطلابية الماركسية فى السبعينيات عن القطبين اللذين يتنازعان مفهوم الدور .. فهى فى المواقف الاحتفالية ذلك البطل الذى خرج من قلب المحنة ليحمى الوطن ويواجه المؤامرات ويمنع الاستسلام... الخ ، ولكنها من الجانب الآخر (الموضوعى) الإفراز الذى أفرزه المجتمع فى لحظة معينة كى يقوم بمهام التمثيل أو التعبير عن المجتمع (وأيضا : الوطن أو الشعب) وعن موقف البروليتاريا من القضية الوطنية فى مواجهة الإمبريالية ، ومطالبها إنما نسجتها الظروف التاريخية العامة لهذا المجتمع أو الوطن أو الشعب ، فى لحظة الهزيمة وتهديد الأعداء وتخاذل النخبة وغياب الديمقراطية ... الخ .
وبصرف النظر عن وضوح عدم ارتكاز فكرة تمثيل البروليتاريا على أساس واقعى ، فإنه من الواضح أن الجانبين برغم تناقضهما متكاملين : أولهما للسياسيين والمواقف العملية وأغراض الحشد والتعبئة ، والثانى للباحثين بغرض منح المشروعية الأيديولوجية والنظرية العامة وإعادة إنتاج مجمل المنظومة الفكرية حول علاقة الذات بالموضوع . ويتفق الطرفان على وجود الكينونتين : الحركة الطلابية (صغرى) والوطن (كبرى) ، وبين الكينونتين تنشأ علاقة وحيدة : علاقة القيادة (نظرية البطل) أو علاقة التمثيل والتعبير . ولما كنا هنا فى مقام البحث وليس السياسة ، العقل النظرى لا العقل العملى ، فإن الذى يعنينا هنا هو رابطة التمثيل "الموضوعية" . فبدلا من الإقرار ببديهية التمثيل ، سوف يعمد هذا المقال إلى دراسة ظهور الذات الطلابية السياسية وإنشاء علاقة التمثيل التى تربطها بذات افتراضية أخرى هى الوطن أو البروليتاريا .
ومن خلال طرح هذا السؤال تأمل الورقة أن تقدم ، بدلا من النص العام أو الحبكة ، خريطة للقوى التى تنشئ موقعا معينا للقوة ، وتفرض عليه اتجاها نابعا من خصائصه التى تحكمها بقية خريطة القوى . غير أن ثمة هدف ماكر آخر ، هو التخلص من البطل .. إن المعادلة الرياضية التى تقيس لحظة وقوة اصطدام قطارين ليس فيها بطل .. وتلك هى المحاولة التى تطرحها الورقة
لننظر على هذا الأساس كيف نشأ هذا الموقع الاستراتيجى الفاعل فى السبعينات:
طلبة الجامعة عبارة عن تجمع من الدارسين لعلوم مختلفة فى جامعات وكليات مختلفة ، يتوزعون على عدد من السنوات الدراسية . وهم أيضا أبناء بيئات اجتماعية مختلفة ، ويلاقون مصائر متباينة تماما بعد تخرجهم . ومع ذلك ، وفى لحظة ما (السبعينات هنا) ، تنشأ من هذا التجمع حركة سياسية طلابية ، تشمل قطاعا منهم ، وتسمح لنفسها بالتحدث باسم الطلبة جميعا (عدا الموصومون بالخيانة - أشرار المسرح) . فكيف حدث هذا ؟ .. ما هى آليات إنشاء هذه الذات السياسية الطلابية ؟
لاشك أن النظام الناصرى كان مدركا تماما لخطورة الحركة الطلابية ، لأنه نشأ واستقر على قاعدة من الإجراءات السياسية شملت تصفية الحركة الطلابية . وبرغم ذلك اتجه النظام الناصرى منذ عام 1965 إلى الاهتمام بالطلبة من الناحية السياسية من خلال "منظمة الشباب الاشتراكى" التى جندت - برغم تخوفات عبد الناصر - 65% من عضويتها من الطلبة ،كما أناطت اللائحة بالاتحادات الطلابية مهمة تبنى وترويج الأفكار القومية العربية و"الاشتراكية" . والأهم من هذا التوجه السياسى المباشر شهد النظام تزايد أهمية التكنوقراط وعلى رأسهم أساتذة الجامعات فى إدارته ، بما يتناسب مع تأميم السياسة . وفوق هذا كله شهد العهد تسلط أيديولوجيا تنموية تنويرية سلطوية ، ظلت تقرع الآذان بمفاهيم التنمية المخططة العقلانية والعدالة الاجتماعية ، واعتماد ذلك كله على الوعى والعلم والسلطة الإدارية . فالإنتليجنسيا المكممة الأفواه كانت برغم ذلك محل تعظيم وتبجيل من الوجهة الأيديولوجية يرفعها إلى مستوى الفاعل الرئيسى للتقدم. ولم يكن الطلبة فى إطار هذه الأيديولوجية بأقل من أمل البلاد ومستقبلها، ولكن بعد تخرجهم واستيعابهم فى وظائف الدولة الإدارية والتقنية والأيديولوجية ليقوموا بدورهم فى تسيير أوركسترا التقدم الحكومى ، المنوط به قيادة الشعب نحو سعادته المرتقبة .
ومع ذلك تورد دراسة الدكتور أحمد عبد اللـه أن جانبا كبيرا من الطلبة ، حتى بعد الانتفاضات الطلابية ، ظل موقفهم من الممارسة السياسية سلبيا . ولاشك أن هذا يرجع إلى إدراك الجميع لقيود ومخاطر النشاط السياسى ، فضلا عن "قذارته"، قبل 1968، نظرا لارتباطه الوثيق بالأجهزة الأمنية ، وقيامه على الإظهار الدائم للولاء وترديد شعارات النظام فى كل حين . وبالإجمال كان الفارق واضحا تماما بين الدولة الناصرية والأيديولوجية الناصرية . بغير أية حاجة إلى خلفية ثقافية أو سياسية خاصة .
وهكذا عيَّن النظام للطلاب مهمة سياسية ، من الوجهة الرسمية ، ولكن بغير أية رغبة أو قدرة على إدماجهم بالفعل فى النظام السياسى ، فى ذات الوقت الذى استمر فيه التحريض السياسى فى وسائل الإعلام والتأكيد على المكانة الرفيعة للإنتليجنسيا داخل التوليفة الأيديولوجية . وبذلك وضع النظام الأساس التحتى السياسى للدخول النشط للطلبة إلى مسرح الأحداث ، باستثناء الشرط الوحيد المتبقى ، وهو ارتخاء قبضة النظام على الساحة الأيديولوجية ، وذلك بالضبط هو ما وفرته هزيمة 1967 .
لم تكن الهزيمة مجرد مناسبة كشفت العجز الكلى للنظام ، فالنقد السرى للنظام كان مستمرا قبل الهزيمة ، وإنما كانت أساسا فجوة فى المجال الأيديولوجى الحيوى للدولة أتاحت رفع الشعارات الناصرية فى مواجهة الدولة الناصرية ذاتها من موقع مستقل نسبيا . وإذا أضيف إلى ذلك أن الهزيمة كانت بالدرجة الأولى هزيمة للجيش ، عمود النظام ، ومؤسسته المدللة ، وأن المجتمع المتعلم كله كان يحقد على الإنتليجنسيا العسكرية (الضباط) ويتحدث عن امتيازاتهم ومناصبهم المدنية التى يحتلونها دون وجه حق أو كفاءة .. أدركنا حجم الثغرة والفرصة التى انفتحت أمام الإنتليجنسيا للتوغل إلى قلب النظام .
وهنا يجب أن يضاف عامل مهم آخر ، غطى عليه ضجيج معركة الطلبة مع النظام وما سادها من شعارات ، وهو تجنيد الخريجين على نحو جدِّى فى الجيش للمرة الأولى . ذلك أن نظام التعليم الناصرى قد حرص على تقديم رشوة مهمة للإنتليجنسيا المدنية (المسماة فى مصر الطبقة الوسطى)، تتمثل فى التعليم المجانى حتى الجامعة ، والوظيفة المضمونة بعد التخرج .. علما بأن هذه الإنتليجنسيا المدنية كان أبناؤها يحتلون معظم المقاعد فى التعلم الجامعى . وخلاصة ذلك أن النظام قد وفر لهذه الشريحة مسارا رسميا مضمونا : من المدرسة الثانوية إلى الجامعة (التى كانت تتسع باستمرار) إلى الوظيفة ، ساهم فى ضمانه أيضا انحطاط التعليم وتسهيله .. فعن طريق تراكم الشهادات يصبح ابن الطبقة الوسطى موظفا إداريا أو تقنيا أو أيديولوجيا بصرف النظر عن مستواه العلمى المتدهور . ومن المنطقى أن أى إجراء من شأنه أن يؤثر على هذا المسار الرسمى سوف يثير ثائرة الطلاب ، وهو استنتاج تؤكده مظاهرات نوفمبر 1968 ، التى انفجرت احتجاجا على قرارات لرفع مستوى التعليم فى المدارس الثانوية ، وهى قرارات من شأنها عرقلة هذا المسار المضمون .
والحال أن تجنيد خريجى الجامعات بعد حرب 1967 فرض على طالب الجامعة أن يساهم فى أداء ثمن الهزيمة من مستقبله الخاص ، بخضوعه لمدة تجنيد غير محددة ، إضافة إلى تعرضه لاحتمالات الموت فى المعركة ، أو حتى فى التدريبات ، وكل ذلك تحت رئاسة الإنتليجنسيا العسكرية المكروهة والمهانة . فإذا نحينا الحساسيات الأيديولوجية جانبا ، فلماذا لا تكون هذه النتيجة من بين العوامل المهمة لاحتجاج الطلبة على النظام ؟ فإذا كان الطلبة لم يطالِبوا فى حركتهم بإلغاء تجنيدهم - برغم اختلاف المواقف على المستوى الخاص - فإنما يرجع ذلك إلى وقوعهم أسرى الأيديولوجيا الناصرية الوطنية ، وبالتالى ميلهم إلى استخدامها هى ذاتها ضد النظام المهزوم . ومن هنا اتجه الطلبة إلى تحميل النظام المسئولية عن الهزيمة ، ومنافسته فى طرح الشعارات الوطنية وإحراجه بالمطالبة بمحاربة التسيب وبالجدية ... الخ ، وصولا إلى المطالبة بالتدخل فى الشئون العامة الوثيقة الصلة بمصائر الطلاب الجديدة ، ولسان حالهم يقول : إذا لم يكن من القتال بد فامنحونا نصيبا من السلطة مقابل استشهادنا المرتقب .
ومحصلة ذلك كله هو اتجاه الطلبة إلى الاستيلاء على هذه الثغرة من خلال شعار الديمقراطية ، التى تعنى المشاركة السياسية الحقيقية باحتلال الموقع المستقل الذى أخلاه الجيش ، بدلا من المشاركة المزيفة من خلال منظمة الشباب . وهكذا أصبح الطلبة بالبديهة شركاء فى السلطة من حيث النية .. ظهر ذلك فى تحركهم "البديهى" للتفاوض مع السلطة المركزية فى أعلى مراتبها : مجلس الأمة (ثم مجلس الشعب) ورئيس الجمهورية .. وفى محاولات اقتحام الإعلام الذى كان حكرا على النظام بالمطالبة بنشر مطالبهم فى الصحف والتظاهر ضد هيكل . وبهذه التحركات أصبح للطلاب مطلبا ضمنيا يتعلق بمراجعة بعض السياسات العامة وإقرارها بموافقتهم ، وظهر الطالب على السطح السياسى مطالبا بنوع من السلطة "الشعبية" ، على نحو ما سنرى .
ولعل الملاحظة التى يشارك فى تقديمها زعماء الحركة الطلابية أنفسهم عن غياب الديمقراطية فى صراعات أجنحة الحركة الطلابية ، تعزز التفسير الذى قدمناه لظهور المطلب الديمقراطى فى الحركة الطلابية بقدر ما تستبعد التفسير الرومانتيكى القائل بوجود أخلاقية ديمقراطية ووطنية أصلية يتصف بها الطلبة
الديمقراطية على اختلاف تعريفاتها فى الفكر السياسى والدستورى تستند إلى افتراض ضمنى فحواه تقسيم سكان البلد الواحد إلى صنفين لا ثالث لهما : حاكم ومحكوم ؛ الحاكم هو صاحب السيادة والمحكوم هو المسود . وتعنى الديمقراطية فى هذا الإطار أن يشارك كل الأفراد المحكومين فى الحكم ، وهو ما يتمثل فى النظام الديمقراطى النيابى فى حق المحكومين فى اختيار الحكام وحقهم فى اختيار مجموعة "منهم" - فيما يُقال - لمراقبة حكامهم والتشريع لأنفسهم . وتفترض الديمقراطية أن المحكوم يتحول إلى حاكم من خلال سلطة الاختيار هذه والمسماة حقوق المواطنة .
والفرد فى النظرية الديمقراطية إذن هو فى الأصل محكوم مجرد ، مجرد من كل صفة اجتماعية أخرى .. وقد قيل فى نقد هذه النظرية أن هذه المساواة المجردة بين الأفراد صورية ؛ فمن المؤكد ، مثلا ، أن صاحب شركة ميكروسوفت فى الولايات المتحدة يملك قدرا من التأثير على القرار السياسى يفوق بما لا يقاس تأثير زنوج حى هارلم مجتمعين . غير أن ما يعنينا هنا أن الطالب على وجه التحديد، ومن بين كل فئات المجتمع ، هو الأقرب إلى هذا النموذج للمحكوم المجرد .. فالطلبة هم عيال آبائهم وتلاميذ أساتذتهم ، وليست لهم صفة اجتماعية ثابتة ، لأنهم يتمتعون بوضع انتقالى ينتهى بتخرجهم . وفوق ذلك كانوا فى ظل النظام الناصرى يعتمدون فى مستقبلهم على سياسات النظام فى التعليم والتوظف داخل جهاز الدولة .. فلا غرابة فى أن يكون هذا "المحكوم المطلق" هو الأشد حساسية ، كمحكوم ، تجاه نظام الحكم ، خصوصا فى ظل الاستياء العام للإنتليجنسيا المدنية من تسيد الإنتليجنسيا العسكرية .
وإذا كانت هذه هى دوافع التحرك الطلابى فى اتجاه ديمقراطى ، فإن المكانة الخاصة التى أضفاها النظام على هذا المحكوم المطلق - حيث أناطت به الأيديولوجيا أن يكون فى المستقبل من رجال تلك الدولة التى عظَّمت الدعاية الناصرية دورها فى قيادة المجتمع - قد منحت الطلبة الحق الأدبى فى التصدى للنظام وتخطئته فى ظروف الهزبمة .
وفى ضوء هذا التحليل ليس من المستغرب أن تلعب كليات الهندسة ذلك الدور المشهود فى الحركة الطلابية . فالمهندس ، من بين كل فئات المتعلمين ، هو الذى تمتع بالمكانة الأعلى فى الأيديولوجية الناصرية كرائد نموذجى لمشروع التحديث الدولتى .. بل يمكن القول بأن الدولة ذاتها كانت تقدم نفسها من خلال أيديولوجيا التخطيط كمهندس أعظم للمجتمع ككل .
غير أن الطالب الذى يطالب بالديمقراطية ليست له ، كطالب ، صفة سياسية مباشرة ، وليست له ، ككتلة اجتماعية ، سوى وزن هامشى فى الخريطة الطبقية ، ومن هنا فهو مضطر لأن يَقنَع بادعاء المشاركة فى امتلاك الاختصاص الأيديولوجى وحده لجهاز الدولة ، بالقول بالقيام بنوع من التمثيل الأيديولوجى للوطن .. ومن هنا يدور مفهوم الديمقراطية عند الطلبة حول مطلب حرية الرأى، بوصفها أداة الحشد المأمول للشعب خلف الوطنية الطلابية . يضاف إلى أسباب ذلك أن الطالب المتمرد ، بوصفه أضعف حلقة فى فئة الإنتليجنسيا وأقلها تحددا ، يميل إلى اقتباس التصور الأكثر وهمية للإنتليجنسيا عن نفسها : أنها حاملة الفكر. وإذ يجمع الطالب بأدائه الحركى بين دور المثقف ودور الممثل السياسى للوطن ، فإنه يصبح نموذجا للممارسة السياسية النابعة من القدرة الأيديولوجية التى تتباهى بها الإنتليجنسيا ، وتصيغها فى شعارات من قبيل "أن الكلمة أقوى من المدفع" ، لتقنع نفسها والآخرين بأن دور التمثيل الذى تلعبه هو أهم دور فى التاريخ .. وهو ما ينقلنا إلى السمة الثانية للأيديولوجيا الوطنية الطلابية ...
تُنتج الدولة الحديثة هذا النموذج النظرى/ القانونى المعروف جيدا ، والمسمى المواطن ، عن طريق تفتيت الجماعات التقليدية إلى أفراد وضبطهم والتحكم فيهم بوسائل المراقبة والتنظيم ، بأدواتها القانونية واللائحية ومؤسساتها الاقتصادية والتعليمية والأمنية ، المنتشرة فى كل بقعة بقدر الإمكان . غير أن النظرية الدستورية عن المواطنين الأحرار عادة ما تُغفل هذا الجانب المؤسسى الجوهرى .. ذلك الجانب الذى من شأنه أن يكشف أصل تلك الدولة . ذلك أن الدولة التى تقوم على حكم المواطنين دستوريا هى تاريخيا الابن الشرعى للدولة الاستبدادية الحديثة ؛ فبغير خلق الجهاز الإدارى الحديث الذى يتعامل مع السكان كأرقام ومستويات وفقا لمعايير موحدة ومنمطة يستحيل إنشاء الفرد ، وبالتالى يستحيل التفكير فى قضية الحقوق المدنية والسياسية لهذا الفرد . فبغير لويس الرابع عشر لا توجد ثورة فرنسية عظمى .
غير أن المواطن المصرى - وربما العالم ثالثى - ليس كالمواطن الفرنسي والإنجليزى . فالمواطن المصرى كما يشير اللفظ بوضوحهو ابن الوطن ، فى حين أن الـ citizen الأوروبى هو ابن المدينة city . وليس هذا الفارق اعتباطيا ، ولا هو ناتج عن سوء الترجمة . ففى مصر نشأت الدولة الحديثة من أعلى ومنحت رعاياها "مواطنيتهم" ، بل فرضتها عليهم فرضا بالوسائل الإدارية ، وأخذت زمام المبادرة فى تفتيت الجماعات القديمة التقليدية . فى حين أن الـ citizen الأوروبى كان فى الأصل متمردا على السلطات الإقطاعية وناتجا عن تفتتها ، هاربا إلى المدينة ، مؤسسا كيانها بنفسه ، محققا لها استقلالها ومدافعا عن المنظمات الاقتصادية والاجتماعية البرجوازية الحديثة التى أنشأها منذ أواخر العصور الوسطى . وبسبب هذا الفارق الجوهرى ليس الحرفى ولا الرأسمالى هو الذى يشكل "الطبقة الوسطى" فى مصر ، ولا هو إذن النموذج الأنقى للمواطن ، فالطبقة الوسطى عندنا هى الإنتليجنسيا التى خلقتها الدولة وبنت بها المدينة الحديثة .. ولذلك كان المواطن عندنا هو ابن ذلك الوطن الذى خلقته الدولة ثم ادعت أنه هو الذى خلقها ، وليس ابن المدينة . يضاف إلى ذلك ، فيما يخص الدولة الناصرية ، أن المواطن النموذجى المصرى ، أى فرد الإنتليجنسيا ، هو الذى هدم النظام الملكى من خلال منظمات الأفندية (المنظمات الماركسية - الحزب الوطنى - الحزب الاشتراكى - الإخوان) ، ومهد لانقلاب يوليو الذى رد له الجميل بتدليله ماديا ومعنويا ، ولكن مع سحب جميع صلاحياته السياسية .
ويعنينا فى هذا الأمر أن تمتع الطالب المصرى بعضوية "الطبقة الوسطى" المصرية هذه إنما يرشحه بقوة ليكون التجسيد الأمثل للمواطن المجرد : حامل عباءة الوطن والأكثر قابلية لتجسيده أيديولوجيا ، وخصوصا بوصفه مواطنا فحسب ، بغير أى "دور" اجتماعى آخر . ويؤكد الدكتور أحمد عبد اللـه أن الوطنية كانت الجامع العام للحركة الطلابية والشعار الأساسى لجمهورها العام ، فى حين بقيت الأيديولوجيات الماركسية والليبرالية والناصرية على هامش الحركة، تحاول جذبها إلى هذا الاتجاه أو ذاك . ويمكن أن نضيف أنها لم تكن عمليا أكثر من تفسيرات مختلفة للمبدأ الوطنى ذاته . فمن الطبيعى أن يتجه المحكوم المجرد (الطالب) ، وهو يتمرد على الأب السياسى ، مستغلا المساحة الاستراتيجية التى أخلتها هزيمة الجيش ، أن يستفيد (بغير وعى) من كل هذا التراث ويتبنى ذات الإطار المسمى الوطن ، الذى صنعه جهاز الدولة وفرضه كأيديولوجية سائدة وخلق الإنتليجنسيا الحديثة ذاتها فى إطاره . لذلك فإن المحكوم المجرد حين يطالب بأن يكون حاكما مساويا أو موازيا - فى الأيديولوجيا طبعا - فإنه يتجه تلقائيا إلى لبس جلد أبيه ليتولى ، مثله مثل الدولة ، ادعاء الدفاع عن مصالح الوطن . وعلى ذلك فإن الدولة الأبوية بخصائصها هذه لم تزود الطالب بدوافع التمرد فحسب ولكن باتجاهه الوطنى أيضا . لم يتمرد الطالب إذن بصفته العينية كطالب، وإنما انطلق يتحدث باسم كل مواطن ، وأصبح بذلك ممثلا للوطن .
يتبنى الطالب إذن الوطنية شعارا .. ليتحول بذلك تحولا هائلا .. من محكوم مجرد إلى ... مواطن مجرد .
يعد مبدأ التمثيل أحد أشكال مفهوم "الدور" . ويتميز بقيامه بصياغة ذات افتراضية كبرى ، بطريقة التجريد ، للادعاء بوجود ذات أخرى صغرى تعمل باسم الذات الأولى ولصالحها ، بهدف إضفاء المشروعية على هذه الذات الصغرى بوصفها تمثل الأولى . وعلى سبيل المثال تقوم النظريات الدستورية الديمقراطية ، من خلال تجريد سكان بلد ما إلى أرقام من المواطنين ، بإنشاء ذات افتراضية ، تسمى الشعب أو الأمة . وبناء على هذا التجريد يحصل بضع مئات على مشروعية خاصة من خلال القول بنيابتهم عن هذا الشعب أو هذه الأمة ، ويمارسون السلطة من خلال منظمة حقيقية هى البرلمان ، لها حق سن القوانين باسم الذات الكبرى ، فى ذات الوقت الذى تشدد فيه هذه النظريات على انفصال هذه المنظمة (وأعضائها) عمن يُفترض أنها تمثلهم .. بالتأكيد على استقلال النائب وعدم قدرة ناخبيه على محاسبته على مواقفه طوال فترة النيابة . ومن هنا ينشأ هذا الفضاء التمثيلى المجرد المنفصل المسمى السياسة الحديثة .
فالتجريد المنشئ للتمثيل إذن قوة فاعلة ، تنشئ مؤسسات قادرة ، مهما قيل عن ، أو بالرغم من ، وهميته . ولما كان مبدأ التمثيل كامنا فى قلب آلية الدولة البيروقراطية الحديثة على جميع المستويات ، منذ إنشائها تأسيسا على مبدأ المواطن المجرد ، فإن غياب التمثيل أو انهيار الطاقة الأيديولوجية للمؤسسة القائمة به يعنى دائما وجود نقص أو خلل أو فراغ سياسى يتعين ملئه للحفاظ على توازنات النظام ، كما يعنى وجود فرصة للناقمين للتقدم لاحتلال هذا الفراغ .
وإذا كان الطالب كما رأينا قد أصبح مواطنا مجردا ، أو أصبح هو المواطن ، بألف لام التعريف ، فإن اجتماع الطلبة فى حركة ترفع الشعارات الوطنية وتتحدى النظام فى داخل أيديولوجيته ذاتها يؤدى بالضرورة إلى تحول المواطن المجرد إلى ممثل مجرد للشعب ، المتصف ضمنا بالوطنية ، ليندفع بصفته هذه لاحتلال ذات الموقع الأيديولوجى الذى فقده النظام مع هزيمة الجيش .. وتصبح الحركة الطلابية ممثل ذلك الشعب المتصف بالوطنية ، خصوصا فى ظل غياب حركات جماهيرية أخرى ذات طموح سياسى مباشر تستطيع أن تنازعه حق التمثيل .
ومن جهة أخرى كان من شأن اندلاع الحركة الطلابية الوطنية وحيازتها على قوة التمثيل الأيديولوجى للشعب المُتَّفَق على وصفه بالوطنية إنعاش المثقفين وبقية قطاعات الإنتليجنسيا ، نظرا لما كان يعنيه ذلك من ارتفاع شأن التمثيل الأيديولوجى على حساب التمثيل الإدارى - الدولتى ، وتجسيد سخط هذه الإنتليجنسيا المدنية على الإنتليجنسيا العسكرية . وأصبح الطلبة من وجهة نظر المثقفين كنزا تمثيليا يتعين امتلاكه .. ولذلك شهدت الفترة اندفاع الأقلام الساخطة للدفاع عن الطلبة للتوصل من خلال ذلك إلى القول بأن الحركة الطلابية تمثل - بدورها ! - تعبيرا عن صحة مواقفهم وجدية استياءاتهم ، فضلا عن الحصول على مجال للحركة طالما حرموا منه على أيدى الإنتليجنسيا العسكرية وتغيير محاور الصراع الأيديولوجى/ السياسى على نحو أكثر اتفاقا مع مصالحهم .
كذلك كان من المستحيل على النظام أن ينتهج العنف كاستراتيجية ثابتة له فى مواجهة الحركة الطلابية بخصائصها الأيديولوجية هذه ، لأنها كما أوضحنا إنما نبعت من قلب النظام وفى إطار توازناته وشعاراته ، أى فى نطاق معبده الخاص الذى يستحيل عليه أن يهدمه .. وأصبح لزاما عليه إذن أن يعمل على استيعابها بشكل أو بآخر ، ومن ثم البدء بالاعتراف بها .. كمنطلق أساسى لكل مواجهة معها .
ومن خلال اعترافات الإنتليجنسيا والنظام هذه ، ترسخت قناعة الحركة الطلابية واقعيا وعمليا بأنها تمثل الشعب حقا وصدقا .. باعتراف جميع الأطراف التى تملك الحق فى التمثيل الكلامى والقدرة عليه ...
إذا كانت الحركة الطلابية قد حازت قوة التمثيل على النحو الذى رأيناه باعتراف الأطراف المختلفة ذات الصلة ، وأصبحت ذاتا تتحدث باسم ذات "عليا" وتحجبها فى ذات الوقت ، وفقا لمبدأ التمثيل ، فإنها افتقرت إلى الوضع المؤسسى الذى يجسد هذه الطاقة التمثيلية () . فالحركة الطلابية ليست حزبا سياسيا ، وليس لها الإطار التنظيمى الذى يجسد الصلة المتجددة بالشعب الذى تمثله ، وبالتالى كان التمثيل الذى تمارسه الحركة بالفعل هو تمثيل مجرد ، تمثيل على المستوى الأيديولوجى ، نوع من الامتلاك التجريدى للقيمة والحقيقة من خلال الخريطة الكلية لتوازنات القوى الأيديولوجية التى أتاحت هذا الامتلاك المجانى . ويمكن أن نطلق على هذا النوع من التمثيل مصطلح التمثيل الرومانتيكى . فالذات التمثيلية غير المؤسسية تمارس دور البطل الرومانتيكى حامل الحقيقة ، لتتشبه بالأبطال الشعبيين الذين يعيشون على الجبال ويغيرون على الأغنياء ، ويتركون للمقهورين مهمة رفعهم إلى مستوى أبطال يعبِّرون عنهم .
غير أنه فى حين أن الدولة تتحدث باسم الشعب انطلاقا من روابط عضوية تجسدها أجهزتها الجبارة بكل صلاحياتها وقدراتها ، فإن الطالب المتمرد على الأب السياسى يفتقر إلى هذه الأدوات ولأى صلة واقعية بها (كمحكوم مجرد) . والواقع أن الحركة الطلابية ، برغم تحميلها بهذه المجموعة من التجريدات ، ما كانت لتستمر كقوة سياسية إلا بسبب غياب أى طرف فاعل ذو ثقل عن الساحة الأيديولوجية . ففى ظل دولة أكثر ليبرالية ، قبل انقلاب يوليو ، وخصوصا قبل الحرب العالمية الثانية ، كان الطلبة أدوات (وليس بمعنى فقدان أى إرادة طبعا) تابعة للأحزاب "الليبرالية" . غير أن ظروف السبعينات المختلفة قد أدت إلى قيام حركة طلابية مختلفة تتميز بالتمثيل الرومانتيكى المجرد ، الذى يرتكز على تصور رومانتيكى يفترض أن التاريخ تصنعه عزيمة البطل ، التى تنبع من التزامه الأخلاقى وقدرته على التضحية من أجل المبدأ المجرد ، ويتوارى دور القوى الاجتماعية الفاعلة التى تعمل كل يوم بعيدا عن المجال الأيديولوجى ، وتعول البطل . غير أن هذا الأمر لا يمكن أن تدركه النظرة الرومانتيكية .. فالبطل الرومانتيكى عندها دائما وأبدا لا يأكل ولا يشرب ، وإنما يناضل فحسب ، وهو لا يعمل أيضا . غير أن الطلبة المصريين ، فوق ذلك ، أعلنوا فى استطلاعات الرأى عن احتقارهم للعمل اليدوى ، مصداقا لوضعهم كجزء من إنتليجنسيا تعمل لدى الدولة وتشعر بأنها تتسيد الشعب . وعموما ليس البطل فى حاجة إلى عمل ، فطالما نحن فى الموقع الأيديولوجى الفارغ الذى ترتب على هزيمة الإنتليجنسيا العسكرية ، بغير أية روابط مؤسسية فاعلة ، يسهل أن نتصور أننا نعبر عن الوطن أو البروليتاريا أو الفقراء أو الحرية ، وفقا لخصائص الموقع الذى قُدِّر علينا أن نحتله ، خصوصا إذا أتاحت لنا الظروف ألا ينافسنا فى مضمار التمثيل منافس ينكر حقوقنا .
وفى تجربة فرنسا 1968 ، أتيح لهذا المفهوم الرومانتيكى النخبوى التمثيلى - مع أخذ جميع الاختلافات فى الاعتبار - أن يُختبر من خلال محاولة الطلبة التوجه إلى العمال الثائرين فى المصانع ومحاولة "قيادتهم" . غير أن العمال برغم ثورتهم وتمردهم على وصاية الحزب الشيوعى الفرنسى الذى عارض الانتفاضة ، لم يروا فى "القادة" الذين توجهوا إليهم سوى مغامرون رومانتيكيون يفتقرون إلى الشعور بالمسئولية ، وللأسف عبروا فى بعض الأحيان عن رأيهم هذا بالضرب المبرِّح للطلبة على أبواب المصانع
إذا كان الطلبة قد امتلكوا أيديولوجيا تمثيلية عريضة الادعاءات بغير مؤسسة تناسبها ، فليس معنى ذلك أن الحركة الطلابية كانت مجرد "زوبعة فى فنجال" . فالاستيلاء الأيديولوجى على مفهوم المواطن ، ولو جزئيا ، يعنى احتلال موقع مهممن مواقع النظام ذاته ، الذى كان عليه إذن ، إذا لم يستطع احتلاله ، أن يُبقى عليه خاليا ومحاصَرا على أقل تقدير . وقد رأينا كيف أن اتجاهات سياسية عديدة كانت تنحو بالضرورة إلى تفسير الحركة الطلابية لمصلحتها تمهيدا لمشروعاتها المختلفة ، بمحاولة الاستيلاء على التراث التمثيلى للحركة الطلابية وإكسابه قوة حقيقية إذا أتيحت ظروف أخرى . وحتى بغير هذا الخطر الذى لم يكن حالاَّ ، كان من الممكن أن يتحول هذا الموقع الخالى من المؤسسات إلى بؤرة جاذبة لتمردات عشوائية على النظام ومشجعة على مثل هذا التمرد . ولذلك حظيت الحركة الطلابية بعناية فائقة من النظام الذى اتبع مجموعة من الاستراتيجيات قصيرة المدى للحد من المخاطر واحتوائها :
1- استعادة الصيغة الأبوية لعلاقة الحاكم بالمحكوم المطلق : وهو ما يتضح من حرص السادات المستمر على الكلام عن وإلى "أبنائه الطلبة" ، ونصحهم بالبعد عن "المنحرفين والمخربين" ، وكذلك من خلال التقاء عدد من كبار رجال الدولة بالطلبة ، وعلى رأسهم السادات نفسه ، من حيث كون هذه اللقاءات أحد وسائل تثبيت حد أدنى لشرعية النظام لدى الطلبة ودفعهم إلى الاعتراف به وبقدرته التمثيلية ، سواء من خلال عملية تقديم المطالب للنظام التى تفرض نفسها فى هذه المناسبة ، أو من حيث كونها - بالإضافة للقمع المباشر - وسيلة لإطلاع الطلبة على الآلية الجبارة للدولة وروابطها المؤسسية المتينة التى تفرض على الطلبة فى كل لقاء ، وبحكم البديهة ، وضع رموز الدولة على المنصة العليا للحوار .
2- الحد من القدرة التمثيلية للحركة الطلابية : من خلال وضع الحواجز بين الطلبة والجماهير ، سواء بمنع المظاهرات العامة أو حجب المعلومات والبيانات الطلابية عن الصحف ، والتركيز على المطالب المباشرة للطلبة فيما يخص أوضاع الجامعة والدراسة وغيرها ، وبالتالى التعامل معهم كفئة نوعية من فئات "الشعب" لا كمُلاَّك لسلطة تمثيلية . ومن هذا المنطلق سعى النظام لاسترضاء الطلبة من خلال عدة أشكال لدعم الطلبة الفقراء والاهتمام بأوضاع المدن الجامعية وأسعارها الرمزية.
ومن خلال هذه التدابير المباشرة ، نجح النظام فى استبعاد خطر الاستيلاء المنظم على مواقع الحركة الطلابية . وحين أدت الأوضاع العامة إلى انتفاضة يناير 1977 العفوية جرت المظاهرات بمعزل عن الحركة الطلابية وشعاراتها مصداقا لنجاح النظام .
وإلى جانب ذلك اتبع النظام استراتيجيات طويلة المدى هدفت إلى تغيير مجمل الخريطة السياسية/ الأيديولوجية التى أفرزت الحركة السياسية الطلابية ومنحتها ثقلها (دون أن يعنى ذلك أن هذه الاستراتيجيات كانت مجرد رد فعل للحركة الطلابية) :
1- إيجاد قنوات تتسع لقدر محكوم من "حرية التعبير" : لاسترضاء الإنتليجنسيا ، وصولا إلى تأسيس المنابر فالأحزاب المقيدة . وأصبح على الطالب - كما أكد السادات مرارا - أن يتوجه إلى مقرات الأحزاب إذا أراد ممارسة السياسة . وترافق مع ذلك حظر النشاط السياسى لاتحاد الطلبة ثم إلغاء الاتحاد العام لطلاب الجمهورية . وكفت الدولة نهائيا عن محاولة إقامة تنظيمات سياسية لها داخل الجامعة . لم يعد دور "الطلبة الحكوميين" محاولة جذب تأييد الطلبة للنظام ، وإنما التركيز على النشاط الاجتماعى الطلابى ... وليست "حورس" سوى استمرار لنفس الاستراتيجية ؛ فهى رأس حربة "لا سياسية" للنظام - إن جاز التعبير - برغم دورها المحتمل فى تجنيد بضع كوادر منتقاة .
2- حرب أكتوبر : التى أعادت للإنتليجنسيا العسكرية هيبتها وقضت على تصورات من قبيل "حرب التحرير الشعبية" ، وفرَّغت النشاط السياسى الطلابى من مضمونه الوطنى الذى دار حول قضية الحرب . والأهم من ذلك الدعاية الإعلامية المكثفة لإنجازات حرب أكتوبر ، وإظهارها بمظهر النصر المطلق على العدو ، الأمر الذى سمح باستيعاب اتفاقات فك الاشتباك المتتالية وصولا إلى زيارة القدس الشهيرة .
3- غير أن الإجراء الاستراتيجى الأكثر عمقا ، والذى استغرق بناؤه أكثر من عقد ، هو إحلال مفهوم إجرائى أو أداتى للوطنية يتمحور حول التنمية ، بحيث يمكن القول بظهور طبعة تنموية للأيديولوجيا الوطنية ذاتها ، وهو ما اكتمل فى عهد مبارك . فالنظام لم يعد يطرح نفسه أصلا كرأس حربة ضد الاستعمار ، ولا كحامل للواء العروبة الثائرة ، ولا هو صاحب قضية علمانية أو إسلامية ، وإنما يطرح نفسه كطرف مجتهد مفاوض يحاول الحصول على مكاسب مادية للشعب فى حدود المتاح ، ويقدم نفسه فى صورة رب الأسرة المدبِّر من الطبقة الوسطى الذى يكدح من أجلها فى ظروف صعبة ، دون ادعاءات زائدة بالعظمة والتسيد .
لقد أدى هذا الإجراء الجوهرى ، الذى بُذلت من أجله جهود هائلة متواصلة ، إلى إلغاء ذات الموقع الذى رسخته الناصرية قديما واحتلته الحركة الطلابية الوطنية بعد هزيمة 1967 من الخريطة الاستراتيجية الأيديولوجية العامة () .. موقع التمثيل الأيديولوجى الوطنى المجرد .
كانت مظاهرات ميدان التحرير ذروة الحركة الطلابية الوطنية ، وكانت مظاهرات يناير 1977 لحن ختامها وعلامة فشلها وكشف حدود قدراتها التمثيلية .. اكتسحت الملايين الجرارة بسواعدها العارية فى سويعات خط الدفاع الأول للنظام : الشرطة ، واضطر النظام للتراجع عن قرارات رفع الأسعار ، وتراجع الشعب بعد تحقيق الهدف المباشر ، ونزل الجيش إلى الشوارع والميادين ليحفظ ماء وجه النظام ، وفى نوفمبر من نفس العام سافر السادات إلى إسرائيل بين مؤيد ولا مبال .. وهكذا أتيح للحركة الطلابية أخيرا أن ترى ذلك الشعب الواقعى - الذى يختلف عن شعبها الأيديولوجى - وهو يهدر كالبحر وينتصر وينسحب فى مشهد مرعب .. بدت بجانبه الحركة الطلابية ، بكل ادعاءاتها العريضة ، قزما لا يكاد يُرى بالعين المجردة . لم يبق الشىء الكثير .. جرت احتشادات طلابية بمناسبة زيارة القدس وبمناسبة كامب ديفيد ، تلاشت سريعا ولم تترك صدى يذكر ، وتفرغ من تبقى من الحركة الطلابية الوطنية لاتهام الشعب الذى خذلهم ، وتقدم التيار الإسلامى داخل الجامعة ، مدعوما جزئيا من النظام ، بخطى واسعة بعد انهيار الحركة الطلابية مع انهيار أيديولوجية التمثيل الوطنى التى قامت عليها ، وأصبح مبدأ "المواطن المجرد" غير فاعل فى الحشد والتعبئة .
كانت الخميرة التى قامت على أكتافها الحركة الطلابية الإسلامية تتمثل فى طلبة الأرياف والبنادر الذين هالهم التحرر النسبى الذى شهدته الحياة الجامعية فى ظل الحركة الطلابية الوطنية ، بدءا من تحرر مجلات الحائط وحتى ملابس الطالبات. وبسقوط أيديولوجيا التمثيل الوطنى أمكن لهؤلاء التعبير عن احتجاجهم على كل ذلك بالاستناد إلى الأيديولوجيا الحاكمية ، وبتوجيه من حامليها الذين أفرج عنهم السادات ليواجهوا الأيديولوجيا الناصرية التمثيلية وما أسفرت عنه من حركات طلابية وطنية تمثيلية . وبالإضافة إلى ذلك رفع السادات شعارات مؤاذرة للحركة الصاعدة .. فنادى بأخلاق القرية وهاجم "الشيوعيين الملاحدة" .. ومصداقا لذلك كانت الكليات العملية التى شهدت أكبر مد تحررى هى ذاتها التى شهدت أكبر سطوة للتيار الإسلامى .
ومن الصعب اعتبار الأيديولوجيا الإسلامية الطلابية ، كما قد يرى البعض فى سياق تبرير محاولات التحالف حاليا ، مجرد تنويعة فى إطار حركة طلابية توصف بأنها مستمرة ووطنية بطبيعتها . فالإسلاميون ، من الطلبة وغيرهم ، لا يمثلون شعبا ولا وطنا ، ولا يدَّعون ذلك ، فهم ، فى عرفهم ، يمثلون حقيقة مطلقة ، ويكتسبون مشروعيتهم من المطلق مباشرة . هدفهم فى الجامعة "إزالة آثار العدوان" (!) ، أى التحرر الذى صاحب ازدهار الحركة الطلابية الوطنية ، و"تعبيد الطلبة لربهم" بكافة الوسائل المتاحة ، انطلاقا من مبدأ وولاءات وخطط للحركة تُستقى من مبادئ المحافظة الاجتماعية الأكثر تشددا من العرف ، ومن الإسلام كما يفهمه الجمهور العام . غير أن العامل الأساسى الذى أتاح لهذه الحركة فرصة تحقيق النجاح الكبير الذى شهدته هو انسداد أفق الترقى الاجتماعى أمام الطلبة بشكل متزايد ، والإظلام المتزايد للمستقبل الذى ينتظر الخريج سنة بعد أخرى ، والذى جعل مجمل البرنامج الوطنى الديمقراطى المرتبط بجهاز الدولة القائمة ووظائفها المضمونة المنتظرة غير ذى موضوع . ومن هذا المنطلق أمكن حشد عدد كبير من الطلبة خلف الشعارات الإسلامية ثم توجيههم ضد النظام الذى أطلقهم .
لقد أعلن الطلبة الإسلاميون منذ البداية أنهم يمثلون الحق المطلق ، وأنهم سيحكمون المجتمع بقدر ما تسمح قوتهم فى مواجهة الدولة وضد شرعيتها الوطنية ، ونفذوا شعاراتهم فى الجامعة أولا، ضد الطلبة أنفسهم ، وخصوصا طلبة الحركة الوطنية ، وبذلك أصبح مبدأ السلطة البديلة مطروحا بالفعل .
غير أن أفول الحركة الطلابية الوطنية ، وإن كان يرجع من حيث علاقات القوى المباشرة إلى تحالف السادات والإسلاميين ، فإنه يرجع من الناحية الأعمق كما أسلفنا إلى سقوط منطق التمثيل الوطنى ذاته ، المرتبط بافتقار الحركة الطلابية التى قامت عليه إلى أية مؤسسة قوية تبرر ادعاءاتها العريضة وتمنحها الفاعلية . ولم تكن البلاد ، على أية حال ، لتدار من خلال مفاوضات دائمة بين الحكومة وفئة اجتماعية هامشية كالطلبة . ولم تكن الحركة الطلابية تمثل شيئا .. وإنما كانت بأيديولوجيتها الهامشية ظاهرة اجتماعية ولَّدتها اختلالات مؤقتة فى خريطة توازنات القوى السياسية/ الأيديولوجية القائمة على مبدأ التمثيل الوطنى ، وزالت بزوال الموقع الذى احتلته فى هذه الخريطة ، أو إضعافه
من الصعب القول بأن الحركة الوطنية الطلابية قد انتهت إلى لا شىء لمجرد أنها لقيت هزيمتها ، أو حتى لأنها قامت على مبدأ تمثيل وهمى . فالتاريخ لا يعرف الثبات ، وكل شىء "ينهزم" بمعنى ما بعد وقت طال أم قصر .. والأوهام عموما وقائع بشرية فاعلة ، مثلها مثل الحقائق.. وكل فعل لابد وان يترك أثرا ، ويؤثر فيما يليه من الأفعال .
لقد كانت الحركة الطلابية الوطنية مجالا مفتوحا للتدريب العام على الفعل السياسى/ الأيديولوجى من جانب قطاع من الإنتليجنسيا ، مجالا للتنظيم و التعبئة وإدارة الاجتماعات واتخاذ القرارات أو فرضها وإدارة المفاوضات وصياغة البيانات والشعارات والمبررات ، وممارسة تكتيكات الهجوم والتراجع والانسحاب وإعادة الحشد .. بل كانت المجال الوحيد المتاح لهذا النشاط الحيوى خارج مؤسسة الاتحاد الاشتراكى الميتة ، والتى لعبت الحركة الطلابية دورا فى دفنها .
ومن خلال الحركة الطلابية أيضا استعاد النظام لياقته فى التعامل مع مناخ يقوم على التعددية الحزبية المحكومة .. وفى ابتكار استراتيجيات جديدة لخلقه وإدارته .
وتكمن أهمية هذا المجال الحيوى فى ضرورته لتدريب وإعداد الكوادر السياسية والأيديولوجية للدولة (بالمعنى الواسع الذى يشمل التيارات الحكومية والمعارضة) ، التى تتولى إنتاج الأيديولوجيا ورسم حدودها ومحظوراتها ، وصياغة الضغوط الاجتماعية والتحكم فيها ، وبالتالى تشغيل المجال العام للصراع الاجتماعى وتحديد أهدافه وبؤر الصراع والمواقع الاستراتيجية الأساسية والثانوية .. وهو مجال حيوى لا تستطيع آلية الدولة القومية الحديثة بدونه أن تعمل وتنفذ فى نسيج العلاقات الاجتماعية وتشكِّلها.
أما المثل الأعلى للتمثيل الرومانتيكى وأحلام قيادة التاريخ فيكفيها أنها كانت لازمة وكافية لإدارة الحركة الطلابية وإنتاج مؤسساتها الوقتية من نواد وأسر . أما "فشلها" فأمر لا يؤسف عليه كثيرا ، ليس لوهمية أيديولوجيتها فحسب ، ولكن أيضا لما حملته من عداء متأصل للديمقراطية ، ولو حتى بمعنى حرية التعبير ، وهو ما تمثل فى صراعات وتكتيكات أجنحة الحركة الطلابية . فكل منها كان ، على غرار النظام الناصرى ، يحتكر الصواب ويؤمن أشد الإيمان بقدراته التمثيلية الكامنة . غير أن هذا لا يمنع من القول بأن الحركة الطلابية الوطنية قد أسهمت من خلال نشاطها الاحتجاجى فى التطورات التى أثرت الآلة الأيديولوجية للمجتمع بما يتجاوز بكثير منطق التمثيل الوطنى المتهافت ، بما يفتح آفاقا أفضل أمام الحركات الاجتماعية للطبقات الأكثر أهمية .
وبالنسبة لجيل الحركة الطلابية الوطنية ، فربما كانت أوهام التمثيل قد أعاقته عن التكيف مع الأوضاع الجديدة ، غير أننا مع ذلك سوف نجد عديدا من ممثليه فى الأحزاب السياسية ومراكز البحوث والندوات والملتقيات ، وفى الصحف الكبرى والصغرى وكراسى الأستاذية فى الجامعات، يواصلون التدرب السياسى/ الأيديولوجى من خلال انقساماتهم وخلافاتهم والنقاش حولها وتغيير المواقع ... الخ . ويمكن للمرء أن يقول باطمئنان أن النخبة نادرا ما تخطئ الطريق إلى مواقعها. وخلاصة الأمر أننا إذا كنا نحتفل بالحركة الطلابية الوطنية السبعينية ، فليس ثمة ما يدعو إلى تعكير صفو الاحتفال باستعادة أوهام الحركة وإعادة بثها على حساب النظر إلى إسهامها الفعلى .. أو استعادة منطق الصراعات النخبوية المرتبطة بهذه الأوهام