ماريو أنور
الحوار المتمدن-العدد: 1299 - 2005 / 8 / 27 - 07:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
العصر الذهبى : زمن النضوج
أبو زكريا يحيى بن عدى
كان الفارابى , فى أثناء دروسه ببغداد , ما يجوز وصفه فى أيامنا بمعيد , و كان بين طلابه شاب يدعى يحيى بن عدى ( 893 – 974 ) , مسيحى يعقوبى سريانى , أصغر منه بثلاثين سنة , أصبح بعد ذلك , فى آن واحد , تلميذ أبى بشر و الفارابى .
و بعد وفاة الفارابى فى 950 , أصبح يحيى بن عدى أستاذ الفلسفة فى العالم الإسلامى . فكانوا يلجأون إاليه من جميع الجهات لحل القضايا الفلسفية . ترك لنا إنتاجاً و اسعاً , أى نحو مئة مؤلف , منها مقالة صغيرة فى الرياضيات و الهندسة . و لقد لفت الشارح الانتباه إلى أن يحيى كان أول من فكر فى تقسيم مساحة من الأرض بطريقة معينه . و لم يستعمل الغرب هذه الطريقة إلا بعد ستة قرون على يد غليلية .
و سرعان ما أصبح رئيس مدرسة بغداد الأرسططالية , التى كانت أشهر مدرسة فى القرون الوسطى , و التى بقيت على قيد الحياة مدة مئة سنة . و فيها تخرج كبار الفلاسفة الذين نقلوا إلينا إنتاج المعلم يحيى و المعلم المثالى أرسطو . و من بين أشهر أولئك الفلاسفة , ستة كانوا مسلمين و أربعة مسيحيين .
ولادة أدب إنسانى عربى , إسلامى و مسيحى و يهودى
إن هذا الأمر الثانوى من حياة يحيى بن عدى لا يخلو من الدلالة . ففى الربع الثالث من القرن العاشر , فاق عدد المسلمين الذين يهتمون بالفلسفة على عدد المسيحيين , و كانوا يدرسون معاً .
و هذا يعنى أن المسيحيين فقدوا احتكار الثقافة الهلينستيه . أجل , ما زالوا المعلمين مدة جيل أو جيلين , لكن المسلمين ما لبثوا أن حلوا محلهم , لا سيما حين أصبحت جميع تلك النصوص اليونانية فى متناول المسلمين بعد أن نقلت إلى العربية على يد السريان . هذا و أن ذلك الوضع يعكس أيضاً المعطيات الديموغرافية الجديدة , أعنى أن المسيحيين فى حوالى 950 لم يبقوا الأكثرية فى بغداد و العراق , و أن المسلمين فاقوهم عدداً على الأرجح .
و من جهة أخرى , فإن المسيحيين و المسلمين تتلمذوا بعضهم لبعض و تقاسموا هكذا الثقافة نفسها . لا يخلو من الدلالة أن نشير هنا إلى أن يحيى بن عدى نسخ مرتين شروح الطبرى ( التى طبعت اليوم بالقاهرة فى 30 مجلداً ) , لكى يؤمن عيشه . و هذا شأن اليهود , فقد تتلمذوا للمسيحيين و المسلمين فى الفلسفة ( وربما فى مواد أخرى كالطب ) .
و هكذا فإن ثقافة عالمية جديدة , أصبحت لغتها العربية , دخلت فى طور التكون ببطء . و هى تقوم على الفكر اليونانى , بعد أن أعاد السريان النظر فيها و صححوها . يمكننا أن نصف تلك الثقافة الجديدة بأنها عالمية , بمعنى أن الغرب كان , من حيث الفكر , فى تلك الأيام , يعيش فى الظلام . فوجب علينا أن ننتظر ثلاثة قرون أو أربعة قبل أن نرى الغرب , بعد أن أخذ يتتلمذ للعالم العربى , يتزعم , فى بعض الحقول , التقدم العلمى و الثقافى .
ذلك بأن الصليبيين لما وصلوا إلى أراضينا , انبهروا بالعلم العربى , فى حين أن العرب سخروا من جهل أولئك الصليبيين , لاسيما فى الطب . فأخذ المؤرخون العرب يملأون الصفحات عن نقائض الصليبيين الثقافية , مشددين فى آن واحد على همجميتهم و تفوقهم العسكرى و بسالتهم فى القتال .
فقدر الغرب أهمية اكتساب تلك الثروة الثقافية , حتى إن آباء مجمع فيينا الثانى ( 1311 – 1312 ) قرروا أن يفرضوا تعليم اللغة العربية فى الجامعات الكاثوليكية كافة : فى بولونيا و باريس و إلخ .... فقد بدت العربية لغة الثقافة و العلم , كما اكتشفت النهضة فى القرن السادس عشر أهمية اليونانية , و كما تبدو الإنكليزية فى أيامنا أداة اتصال لا يستغنى عنها .
إعداد ثقافة جديدة (( متوسطية ))
وإذاً فقد تواصل التطور انطلاقاً من بغداد , بواسطة المسيحيين الذين ينقلون العلم إلى المسلمين . فانتشرت ثقافة مشتركة فى جميع عواصم العالم الإسلامى , ثقافة يمكننا أن نسميها (( طوائفية )) بمعنى الكلمة الدينى , علماً بأنها كانت مشتركة بين رعايا الإمبراطورية الإسلامية التى تضم مختلف الطوائف الدينية .
ذلك بأن المسيحيين , إذا صح أنهم قاموا و لاشك بدور الرواد بفضل استيعابهم التراث اليونانى الكلاسيكى و نقله , فإنهم لم ينفردوا بالاهتمام به , لأن هناك طوائف دينية تدخلت فى إعداد تلك الثقافة .
على سبيل المثال , فى حقل الرياضيات , نعرف أن نقلها تم على يد الصائبين الذين من حران ( لا صلة لهم بالصائبين الوارد ذكرهم فى القرآن و الذين هم شيعة صغيرة من وحى مسيحى تمارس رتباً عمادية ) . فهم , بسبب تقليدهم الدينى , يهتمون اهتماماً خاصاً بالرياضيات و الفلك .
و فى الطب عدد كبير من اليهود معروفين بعلمهم . فإن طبيب صلاح الدين الأيوبى ( سلطان من 1171 إلى 1193 ) كان المشهور أبو عمران موسى بن ميمون ( الذى أثر إلى حد ما فى الفكر الغربى ) . ولد فى قرطبة سنة 1135 , و هرب إلى فاس بعيداً عن الملك المرابط على بن يوسف ( 1106 – 1142 ) و لجأ فى القاهرة إلى صلاح الدين , حيث توفى سنة 1204 . على غرار جميع يهود العلم العربى فى أيامه , كتب فى العربية أساساً ( باستثناء المقالات الدينية بوجه خاص , لأنها كتبت بالعبرية ) , ثم تم النقل إلى العبرية .
نلفت النظر إلى أن مسيحيي إسبانيا الذين كانوا يعيشون فى الأندلس أخذوا يكتبون بالعربية أيضاً ابتداء من القرن التاسع عشر , حتى إن ترجمة المزامير وحدها إلى أبيات شعر عربية , التى وصلت ألينا ( قبل الزمن الحديث ) ألفها فى القرن التاسع ( أو ربما فى القرن العاشر ) الحفص بن ألبر القوطى .
أن مجرد اسمه يمثل برنامجاً . الحفص , اسم مشهور فى إفريقيا الشمالية ( يذكرنا بسلالاة الحفصيين المغربية التى سيطرت فى بلاد تونس فى وقت لاحق من 1228 حتى 1574 . و ابن ألبر يطابق فى أيامنا لألفارير , وهو اسم منتشر جداً فى إسبانيا . أما القوطى ( الذى يجب قراءته الغوطى ) فهو النسبة التى تحيل على غوط الغرب , على الفيزيغوط الذين تمركزوا فى إسبانيا سنة 415 , داحرين الوانداليين ( من هنا يشتق اسم الأندلس ) .
نقل ذلك الشخص المزامير إلى أبيات شعر عربية , انطلاقاً من اللاتينية و بتنصيرها , أى بأنه أضاف , كما نرى فى طبعات ترجمة الكتاب المقدس إلى اللاتينية على يد القديس هيرونيمس , المقدمة المسيحاوية التى تطبق كلاً من المزامير على المسيح .
لغة عربية هى أداة ثقافية
فى بغداد , عاصمة الإمبراطورية العباسية , صيغت لغة عربية يمكن أن تسمى (( عصرية )) لأنها قابلة لأن تستوعب جميع علوم ذلك العصر .
و حين أخذ حنين بن إسحق ينقل مؤلفات جالينس إلى العربية , واجه لغة عربية كانت آلة رديئة . فكان عليه أن يلجأ غالباً إلى المفردات اليونانية أو السريانية أو الفارسية لترجمة الأصل اليونانى . وبذلك أغنى اللغة العربية إلى حد بعيد . وهذا ما أشار إليه فى إحدى مقلاته , حيث انتقد اللغة العربية , مقارناً إياها بالسريانية , ولافتاً الأنظار إلى نقائصها على مستوى المفردلت العلمية .
و بعد قرن و نصف قرن , ذهب إلياس النصيبينى إلى أبعد من ذلك فى انتقاده المفردات العربية , راداً على الذين كانوا يفتخرون بامتلاك خمسمئة كلمة للدلالة على الأسد أو الجمل , و مظهراً فقر اللغة فى ألفاظ الطب و الأدوية .
إن أولئك الكتاب , لأنهم يتكلمون عدة لغات , كانوا قد أدركوا المشكلة . ذلك بأن المفهوم الصحيح لغنى لغة و عصريتها , لا يمكن فى كون هذه اللغة لها عدد كبير جداً من المرادفات , بل فى كونها قابلة أن تعبر عن جميع مفاهيم الثقافة العالمية و حقائقها .
تطرح علينا هذه القضية فى أيامنا أكثر منها فى أى وقت مضى : فهل يمكننا فى العربية أن نعبر عن كل ما نستعمله و نراه فى حياتنا اليومية ؟ أكتفى بمثل واحد : و هو إلى أى حد نقدر اليوم أن نعمل , باستعمال العربية , فى حقل المعلوماتية ؟ لا شك فى أن بعض أهل الاختصاص حاولوا أن يصيغوا مفردات تصلح لثلاث لغات فى هذا الحقل , لكن هيهات أن يكون المثقفون قد استوعبوا ذلك , فكم بالأحرى جمهور الشعب .
وراء تلك القضية ترتسم مشكلة خطيرة هى مشكلة تأوين الثقافة العربية , علماً بأن كتابنا السريان العرب فى العصور الوسطى لاحظوا هذه المشكلة , وشعروا بأن اللغة لابد أن تواصل اغتناها , بتكيفها على التقنيات الجديدة , لئلا تمسى لغة مشرفة على الموت , تنطفىء ببطء , ولكن من دون شك , لقلة تجددها .
و الحال أن المسيحيين الذين عاشوا فى العصر العباسى نجحوا فى دمج الألوف من الألفاظ و العبارات التقنية فى اللغة العربية , ليستطيعوا أن يعبروا عن كل علم أو تقنيات معروفة فى أيامهم . لكن أولئك المسيحيين انخفض عددهم شيئاً فشيئاً , فانخفض تأثيرهم حتماً انطلاقاً من القرن الثانى عشر .المسلمون يحلون محل المسيحيين
فى تلك الأيام , أصبح المسلمون مستعدين لأن يحلوا محل المسيحيين , كما يشهد على ذلك , فى مطلع القرن التاسع , محمد موسى الخوارزمى ( المتوفى فى 849 ) , الذى تلتنن اسمه و أعطى لفظ (( Algorithme ))
ومن جهة أخرى , يمكننا أ، نلاحظ أن العديد نت ألفاظ الرياضيات أو الفلك التى نجدها فى اللغات الغربية هى من أصل عربى . على سبيل المثال , كلمات ((Chiffre )) و (( Algorithme )) و (( Azimut )) إلخ , بما فيه حرف x المستعمل للدلالة على المجهول . لا يخفى أن العلماء العرب كانوا يعبرون عن القيمة المجهولة باستعمال كلمة شىء , علماً بأن هذه الكلمة كانت تكتب فى مخطوطات القرون الوسطى بدون الهمزة و بأن الياء تدمج بالشين , فتصبح كلمة شىء مجرد ش . و حين كانت تلك النصوص تنقل إلى اللاتينية فى إسبانيا , كان هذا الحرف ينقلب تلقائياً إلى x .
و لقد انتشرت هذه العادة بعد اليوم فى الحضارة العالمية . ففى العربية , نكتب اليوم حرف السين , ويعود ذلك إلى أن نقاط الشين لم تكن تكتب فى القرن العاشر , بل كتبت جميع النقاط فى المخطوطات انطلاقاً من القرن الرابع عشر .
كل ذلك يدل على أن الثقافة العربية , فى أيام سطوعها , أثرت فى الحضارة العالمية حتى فى استعمال الرموز الرياضية .
#ماريو_أنور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟