|
أهمية تحديد التخوم بين المصطلحات النقدية الحديثة - بحث تطبيقي- المنهج والمذهب والتيار-
أدهم مسعود القاق
الحوار المتمدن-العدد: 4622 - 2014 / 11 / 2 - 21:56
المحور:
الادب والفن
يرتبط مفهوم المصطلح اللغوي بالتحول الدلالي للغة في سياقها سلباً أو إيجاباً و" التحول الدلالي حقيقة جوهرية في اللغة تخضع لمبدأ الحاجة "(1) كما أن التغيرات المتجددة التي تتسارع في الحضارة الانسانية ضاعفت حاجات البشر ورغباتهم، وبالتالي أضحت عملية مواكبة اللغة للتقدم والثورات العلمية ضرورة تستدعي الاستجابة لهذه المتغيرات. إن تزاحم الضرورات في مواكبة العصر الذي نعيش فيه أدخلت المشتغلين بصياغة المصطلحات في اضطراب أدى إلى خلط في المفاهيم المعبّر عنها في كافة صنوف النشاطات الإنسانية، لاسيما الأدب والنقد والفلسفة. وتتفاقم هذه الإشكالية في اللغة العربية لأن أهلها لا يساهمون بإنتاج مستلزمات التحضر والتقدم، مما يخلف آثاراً سلبية على رصيدها وضعفاً في صياغة مصطلحات ومفاهيم الحداثة وما بعدها، ويذكر الحبيب النصراوي أن: " العربية لم تعد بمنأى عن السياقات الحضارية الأخرى، في وقت لم تعد فيه منتجة للعلم ولا صانعة للحضارة، إنما اليوم هدف لكل جديد يظهر في الثقافات الغازية وعليها أن تواكب ما أصبح يعرف بالحداثة في واقع معولم يرغب فيه المغلوب أبداً الاقتداء بالغالب"(2) وما يعنينا في هذا البحث هو التمييز بين مصطلحات: المذهب والاتجاه والتيار، وهي مفاهيم بدأت تكتسب معان ودلالات جديدة منذ بدأت الإنسانية تتحلل من نظريات ومبادىء أرسطو النقدية منذ القرن السابع عشر، وازدادت تنوعاً وغنى عند طغيان المذهب الرومانسي الذي ثار روداه على كل القواعد التي سبقتهم، ثم مع توسع أنواع وأجناس الإبداع الفني والأدبي، احتاج هذا التوسع إلى أصول ومبادىء لوضع تخوم واضحة بينها، وترافق ذلك مع تطور مجتمعي أدى إلى صياغات جديدة للمذاهب والاتجاهات والتيارات وتشعباتها مجاراة للتقدم الإنساني الحاصل، وقد ذكر د. محمد مندور " إنّ القرنين التاسع عشر والعشرين هما عصر ظهور المذاهب والمناهج الأدبية والفنية وتنوعها تنوعاً كبيراً، وبالتالي تعدد وتنوع مناهج النقد الأدبي واتساع وظائفه"(3). قبل الدخول في مفاهيم المذاهب والاتجاهات والتيارات لابد أن نعرف المنهج Method لأنه يعدّ المعين في تكونها، والأساس في بلورة المفاهيم الحديثة والمعاصرة عنها، فالمنهج كلمة تدلّ على الطريق، أو الخطّة المدروسة للوصول إلى الهدف، ومناهج البحث هي التي " تدور في إطار التنظيم الدقيق لمجموعة من الأفكار من أجل الوصول إلى حقيقة لم تكن معروفة من قبل، ويطبع هذا التنظيم وجود طائفة من القواعد العامة تسيطر على سير العقل"(4) وهذا مايضمن نقل الأفكار والمعارف والمهارات في سيرورة التقدم الإنساني وتعاقب الحضارات البشرية. لقد تطور المنهج منذ الحضارة الإغريقية عندما قسمت الفنون السبعة The Seven liberal arts إلى قسمين وفق منهجية متناسقة: الأول: فنون الكلام المكونة من ثلاثية (النحو والمنطق والبلاغة)، والثاني: الرباعيات ( الحساب والهندسة والفلك والموسيقى)، ثم سار الرومان وفقاً للمنهج اليوناني، مضيفين ضرورة دراسة اللغة اليونانية إلى جانب اللغة المحلية، وبقيت هذه المفاهيم سائدة في العصور الوسطى، واستمرت أفكار أرسطو بالهيمنة على النشاط المعرفي والإبداعي فنتج ادباً ذكرته موسوعة الأدب والنقد" أدب العصور الوسطى هو نتاج مجتمع تقليدي، محافظ، يراعي المعتقدات ةالأغراض، ويعشق الحكايات، ويتمعن بالكتب القديمة Old books " (5) إلى أن بدأ عصر النهضة في أوروبا في القرن الرابع عشر، منطلقاً من إيطاليا على يد بترارك ( 1304 – 1374م ) الذي عدّ بَعْثَ التراث الإغريقي والروماني مقياساً للنشاط الإنساني، وبالفعل تركز النشاط الفني والأدبي في عصر النهضة على استحضار هذا التراث الذي احتاج لانتشار تعليم اللغتين اليونانية واللاتينية في مدارس أوروبا حتى بدايات القرن العشرين. في القرن السابع عشر زاد الاهتمام بالمناهج، ففي عام 1620م صدر كتاب " الأورجانون الجديد" لفرنسيس بيكون ( 1561 – 1626م ) الانجليزي وهو كتاب منطق جديد مغاير لكتاب أرسطو "الأورجانون" يذكر فيه ضرورة استقلال العلم عن الفلسفة، داعياً إلى حوار الطبيعة بدلا من التقوقع داخل عالم الألفاظ، وإلى تسجيل الملاحظات بعد إخضاعها للتجربة، ثم نشر كتاب "المقال في المنهج" لديكارت (1596 – 1650م) الفرنسي، الذي أكد فيه على الجانب الرياضي العقلي للعلم، والذي يقول فيه: " خير للإنسان أن يعدل عن التماس الحقيقة من أن يحاول ذلك من غير منهج"(6) ودعا إلى استنباط النتائج المترتبة عن مقدمات واضحة لتتشكّل قواعد راسخة لكل معرفة تالية. ولابد أن نذكر مرحلة الصعود الحضاري في عصر التدوين منذ العصر العباسي الأول، حيث ظهرت مناهج تلبي ازدهار الثقافة والحضارة الإسلامية، التي بلغت الحياة العلمية والأدبية فيهما شأناً عظيماً، فاتسعت حركة الترجمة، وكثر المترجمون والمؤلفون في العلوم المختلفة، التي لم تقتصر على ما يتصل بالدين، كعلوم القرآن والحديث والفقه، والعقيدة والتصوف، بل اهتمت بالفروع الأخرى كالفلسفة والمنطق، والرياضيات، وعلم الفلك والتنجيم، والجغرافيا والتاريخ، والطب والعلوم الطبيعية، فضلا عن الموسوعات والأنساب والفنون. وتربع أعلام على قمم عدد من هذه الفروع، واحتشد المبرزون والرواد الذين خلدت أسماؤهم في فروع العلوم اللغوية والأدبية: في الشعر وفي النثر الفني والأدب، وفي البلاغة والنقد، وفي النحو وعلم اللغة والمعاجم، حيث انتشرت مفاهيم جديدة ومناهج مختلفة عن القديم، ويذكر منهم الجاحظ في البيان والتبيين والحيوان، وقدامة بن جعفر في نقد الشعر، والآمدي في صناعة الكتابة، والخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه وابن قتيبة وغيرهم ممن ساهموا في صياغة حياة عقلية جيدة انعكست بدورها على المجتمع تقدماً وتحضراً تبعاً لانتشار مناهج ورؤى متنوعة تنظم الحياة الاجتماعية والثقافية والإبداعية برمتها. بعد انتشار اللغات القومية في أوروبا، وبعد انتصار الثورات الديمقراطية والصناعية في نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر بدأ الأهتمام بعامة الشعب، وبدأت المواجهة بين الجديد ممثلاً بالطبقات الشعبية والقديم من الفئات الأرستقراطية التي مانعت إدخال العلوم الحديثة على حياتهم، ولكن العلوم، وقتذاك، تفوقت عقلياُ وسلوكياً وروحياً على ثقافة وتقاليد طبقة النبلاء التي ظهرت وتبلورت منذ عصر النهضة الأوروبي، ووسط معمعان هذا الصراع بدأت تتشعب المناهج في محاولة الوصول للحقيقة، عاكسة تعقد الحياة وغناها بالتجارب والمعارف، فتزايد بث روح القيم الجديدة التي لا زالت تتغاير تبعاً لانتصارات الثورات العلمية المتتالية حتى أيامنا هذه. إن المناهج النقدية والأدبية التي تنوعت كثيراً وخاصة في القرن العشرين منحت البشرية طاقة على إنتاج المزيد من المعارف والقيم الناشئة في أحضان الفنون والآداب، هذه المناهج التي تعدّ:" قواعد وثيقة وسهلة تمنع مراعاتها الدقيقة من أن يؤخذ الباطل على أنه حق وتبلغ بالنفس إلي المعرفة الصحيحة بكل الأشياء التي تستطيع إدراكها دون أن تضيع في جهود غير نافعة، وهي تزيد ما في النفس من معلم بالتدرج"(7) هذه المناهج جعلت الفاعلين في المجال الثقافي مدركين لمجريات التغيرات التي تطرأ على الواقع التاريخي والاجتماعي، وبالتالي بدأوا يقنونون كلّ النتاجات الفكرية والفنية والأدبية الجديدة، ويحدّدون مقاييس لجودتها، ومن هنا ازدادت عملية الضبط وتفاعل الثقافة مع المستجدات، وتباينت الأراء وبالتالي اختلفت المناهج إلى أن بدأت ملامح المذاهب الكبرى المتأتية من مدارس أو نظريات أدبية بالظهور والتبلور، حيث أخضعت الأعمال الأدبية أو الفنية لمناهج لها قواعد وقوانين بغية الكشف عن طبيعة الإبداع. ولايوجد عبر التاريخ الإنساني سوى أربعة مذاهب يتشكّل كلّ منها من مدارس كبرى ونظريات تابعة لها وهذه المذاهب هي: الكلاسيكي، والرومانسي، والواقعي، وتحولات المذهب الواقعي المتنوعة، ويذكر أنّ كلّ هذه المذاهب قامت على اعتبارات متشابهة، كالتغيرات الاجتماعية والثقافية الناتجة عن صراعات تاريخية أفضت إلى تكوين قوى مجتمعية جديدة ومتجددة، وأيضاً كالنظريات الفلسفية المفسرة لهذه التغيرات. المذهب الكلاسيكي: ارتكز رواده في بناء قواعده على بعث الحضارة الإغريقية والرومانية، متكئين على نظرية المحاكاة لأرسطو (348ق.م - 322 ق.م) التي تعتبر الفن محاكاة للواقع، لكن ليس الواقع كاملاً، بل واقع جانب أو فئة معينة منه تستطيع أن تعيد عالم المثل إليه، وقد استمد اسم هذا المذهب من لفظة كلاس Class وتعني طبقة متميزة في المجتمع أو الجيش أو الأسطول أو فصل دراسي متميز، ومن ثم فهي مدرسة تعبر عن طبقة متميزة في المجتمع، تلك الطبقة التي تنتمي إلى الملوك والنبلاء وعائلاتهم، وقد بدأ ظهور هذا المذهب بعد انهيار الأدب في العصور الوسطى، فرفع من شأن الأدب بعد مراحل انهياره الخطيرة لاعتماده على التقليد والكذب والرياء، وهكذا فقد نهض الأدباء بالفنون والآداب باعثين علامات مضيئة في التاريخ الإنساني استمدوه من نماذج الأدب اللاتيني واليوناني حيث أخذوا يحاكونه في طرق جديدة بغية تمجيد الشخصية الكلاسيكية المرتبطة بأدب الطبقات الأرستقراطية في المجتمع، والتعبير عن قيم طبقة النبلاء وتقاليدها وعائلاتها وأخلاقها، وكان مقياس جودة الأدب الرفيع هو مقدار اقتراب الأديب من قيم ومثل النبلاء الأقطاعيين. المذهب الرومانسي: كلمة رومانس تتصل بآلاف المعاني منها مغرم، عاشق، غامض، متيّم، تائه، خيالي، غير واقعي، زائف، مريض، حالم، مريض، إلخ .... وكان نشوء هذا المذهب متوافقاً مع أفكار الثورة الفرنسية بعد أن تسلمت السلطة السياسية في فرنسا عام 1789م، التي مثلت إيذاناً بظهورالطبقة البرجوازية الناشئة في أوربا بمواجهة طبقة النبلاء الإقطاعيين بالمعنى الاجتماعي، وفي مواجهة الكلاسيكية المنهارة المتداعية بالمعنى الفني. وقد اتسم نتاج الكاتب الرومانسي بالغموض والعاطفة الجيّاشة، ويعيش في الخيال أكثر من الواقع، ولذلك كان الفن المناسب الملازم لكتابها هو فن الشعر الذي يعتمد على الخيال الشعري الذي يجعل الشاعر يحلّق بعيداً عن الواقع، ليخلق عوالم ذاتية كما لوكانت أحلاماً أسطورية، وترافق مع انتشار هذا المذهب مبدأ الفن للفن، لذلك سرعان ما انهارت أركانه على أرض الواقع الماساوي الذي يعيشه البشر، ليفرز هذا الواقع المذهب الواقعي. المذهب الواقعي وتحولاته في القرن العشرين: ارتكز مؤسسو هذا المذهب على فكر أفلاطون في نظرية الإنعكاس التي ترمي إلى أن العالم الخارجي انعكاس لعالم المثل، وعليه فالأدب والفن انعكاس للواقع المعيش، وعلى الأديب أو الفنان أن ينقل الواقع كما هو وبأمانة وصدق، وقد ظهرت الواقعية، ولم يكن عمر المذهب الرومانسي في أوروبا قد طال، ففي عام 1857م بدأت تظهر ملامح للواقعية بمقابل النموذج الخيالي، وكان لظهور التصوير الفوتوغرافي أثراً في انتشار قيم المذهب الواقعي، وفي هدم أركان المذهب الرومانسي، وقد كان انتشار فن الرواية منذ أواسط القرن التاسع عشر من أهمّ دعائم هذا المذهب في تعبير رواد هذا المذهب عن أفكارهم، ولكن هذا لم يكن بالأمر السهل فلم يكن هناك قبول للواقعية وبخاصة بعد أن اتهمت بالكذب والادعاء لاعتمادها على تصوير الواقع الأليم وإبراز الصورة السيئة في الإنسان من ممارسات جنسية، وعربدة، ومن الأمثلة محاكمة فولبير على قصته مدام بوفاري، وبلزاك في الكوميديا البشرية التي يسخر فيها من واقع الإنسان سخرية مريرة، وسنجد أيضاً في الأدب الروسي رواية "أنا كارنينا" لتولستوي، إنما لابد ان نذكر أن النموذج الواقعي في كتابة الأدب والفن صار هو النموذج الأمثل في عموم الإبداع الأدبي والفني، وساد برؤى متعددة في القرن العشرين مترافقة فعالياته مع ظهور نظريات جديدة في كافة حقول المعرفة الإنسانية، لاسيما الفلسفية، حيث لكل منهج خلفية فلسفية في النظرية التي تلد المناهج من رحمها، ولكثرة الكشوفات والنظريات التي تقوم على انقاض بعضها البعض من جهة ، ولازدحام الأحداث والحروب التدميرية في القرن العشرين تنوعت تيارات المذهب الواقعي ومناهجه كثيراً جداً. كما أن في تراثنا الإسلامي استخداماً لمصطلح المذهب على غير استخدامه في العصر الحديث والمعاصر، فمصطلح المذهب الفقهي ظهر خلال القرن الرابع الهجري، بعد تميز الاجتهاد عند الفقهاء في فهم أحكام الشريعة والطريقة التي ينهجها المجتهد أو عدد من المجتهدين في الاستنباط، وكيفية الإستدلال، والفروع التي تضاف في ضوء أصول المذهب، ولذلك فأصول المذاهب تتميز عن بعضها بسبب اختلاف أصحابها في مناهج الاجتهاد والاستنباط، وليس في الأصول الكلية أو الأدلة الإجمالية، وثمة مجموعة من العوامل السياسية والفكرية ساهمت في ظهور المذاهب الفقهية، فالغنى والتنوع الثقافي أفسحا المجال لنشأة عشرات من المذاهب الفقهية خلال القرن الثاني والثالث الهجري، من خلال بلورة اجتهادات واتجاهات فقهية مختلفة، حتى أنها عدت خمسين مذهبا انقرض غالبيتها، ولم يبق منها إلا أربعة سنية، وأخرى غير سنية كالمذهب الجعفري والزيدي والإمامي والإباضي وغيرها.. ونستطيع القول أن المذاهب بدأت بالتكون منذ القرنين الثاني والثالث الهجريين اللذين تضمنا عملاً فكرياً واسعاً، وكانت الاتجاهات السائدة لغوية، اما القرن الرابع الهجري فبدأت الثقافة تتجه للقنونة والتقعيد كتيار جديد، وبذلك يقول محمد التونجي: " إذا امتاز التأليف في القرن الثالث بالاتجاه اللغوي، فإن القرن الرابع استمر على الاتجاه، إنما على أساس المصطلحات"(8) أما مصطلح الاتجاه فيرتبط بالكثرة من الفاعلين ضمن حقل معرفي، وبتعدد الرؤى الفردية التي ترتكز على مناح ومسارات في التفكير متعلقة بآراء ونظريات علمية وفلسفية تترابط فيما بينها وتشكل وحدة متناسقة، مما يشكل موضوعياً توجهات متماثلة منهجياً في تناول القضايا المتناولة، كما حصل في القرنين الثاني والثالث الهجريين حيث الغنى الفكري كما مرّ معنا، والاتجاه لايكتسب صفة الاستقرار في النظرية والتطبيق كما هو معروف عن المناهج والمذاهب في مرحلة تاريخية محددة، وهذا ما يلاحظ في القرن الرابع الهجري حيث تكاثرت التيارات وسط الاتجاه الموضوعي السائد، وتنوعت الرؤى والمناهج، ونحت على درب وضع المصطلحات التي أفرزت المذاهب الفقهية المستقرة نسبياً، إن مفهوم الاتجاه بهذا المعنى يقترب مما ورد في معجم المصطلحات العربية للتعريف بالاتجاه الموضوعي Objectire trend حيث يقول: "هو اتجاه نحو الأخذ بحكم كثرة من الأفراد، وبما تواضع عليه الناس منذ أمد بعيد، ويقصد به بعد فلسفة كانط Kant وجود الأخذ بالقيم في نظر جميع العقول لا في نظر فرد واحد."(9) إن التنوع والغنى بالحياة الثقافية المنعكسة عن التطور الحضاري المرتبط بعصور النهوض لدى الأمم والشعوب الحية يفرز تنوعاً في الإبداعات الفردية، تؤول إلى تنافسٍ في الإبداع الأدبي والفني، مما يفسح المجال لتشكيل اتجاهات فنية و فكرية وسياسية، وقد ذكر د. فوزي عيسى أن " ظهور الاتجاهات وازدهارها يرتبط برقيّ الحياة العقلية والفكرية والبيئة الحضرية المترفة والعوامل السياسية"(10) وفي مجال النقد الأدبي والفني الحديث هناك عدد من الاتجاهات التي تمتاز عن النقد القديم بسعة المجالات التي تشتغل عليها وتعدد القضايا التي تتناولها والتنوع في أدوات البحث العلمي وهي: الاتجاه الفني: الذي يسعى العاملين فيه إلى دراسة التقنيات بقطبيها الفني والجمالي في النصوص واستخلاص العناصر الفنية المكونه لها، مستعينين بالعناصر التاريخية والنفسية للتمكن من كشف خفايا الملامح الإبداعية بغية الفهم والتفسير. وهذا الاتجاه مركزي بالنسبة للاتجاهات الأخرى، لاسيما في حقول الأدب والفنون، فعند إهمال الناقد او القارىء لهذا الاتجاه تتحول النصوص الفنية والإبداعية إلى مجرد وثيقة اجتماعية أو نفسية أو لغوية أو فكرية خالية من الخيال الشعري اللازم لكل عمل إبداعي. الاتجاه التاريخي: يدرس فيه الـمؤثرات التي ساهمت في إنتاج النصوص ومنها دراسة شخصية وحياة كاتب النص وبيئته والظروف التاريخية والاجتماعية والثقافية التي نشأ فيها، والتي استمد الكاتب منها المقومات لإبداعاته. الاتجاه النفسي : ويبرز الوضع النفسي الذي كان يعتري الكاتب زمن كتابة نصه، والكشف عن الملامح التي تثبت دعاوى الناقد الموجودة في ثنايا النص. ويذكر أيضاً الاتجاه الاجتماعي المنبثق من الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية والنقد الثقافي والاتجاه التحليلي الذي ارتبط بالواقعية التحليليلة وبالبنيوية والتفكيكية والسيميائية والأسطورية والنقد النسوي وجماليات التلقي، وهو يتضمن التنوع العديد في مجالات النقد والقراءة والأدب والفلسفة التي تفيض عليها نتائج الثورات العلمية المتلاحقة معرفة وقيماً ورؤى متغيرة دائماً. وقد يجمع الناقد بين هذه الاتجاهات ويستفيد منها جميعها عند تناوله للنصوص بالقراءة والنقد، وهذا الاتجاه هو المأخوذ به في حركة النقد الأدبي العربي منذ أن أصدر شكري فيصل كتابه عن المناهج العربية في خمسينيات القرن الماضي والذي استمده من رسالته في الماجستير بإشراف أمين خولي عام 1948م، من جامعة القاهرة بعنوان: (مناهج الدراسة الأدبية في الأدب العربي، عرض ونقد واقتراح) و" وهو أول عمل علمي يتناول الاتجاهات والمناهج الأدبية العربية"(11) إن مفهوم الاتجاه في ميادين الأدب والفن ينطبق على القديم والجديد، لأنه انعكاس للأحوال الاجتماعية والثقافية السائدة، كما أن الاتجاهات تتشكل بدون توافقات مع أصحابها، بل إن الأساليب والأدوات والموضوعات المطروقة بفترة تاريخية تحدد الاتجاه موضوعياً، وهذا ما نجده في الشعر العربي في العصر العباسي الأول حيث أدرج النتاج الشعري وفق اتجاهات ترتبط بمجمل النشاط الإنساني، وهاهو د. فوزي عيسى يذكر في كتاب اتجاهات جديدة في القرنين الثاني والثالث الهجريين: "(... وقد ركزنا على أربعة اتجاهات هي: شعر الجهاد ضد الروم، وشعر الطبيعة، و الاتجاه الحضاري، والشعر الصوفي"(12) وهكذا نجد أن الاتجاه يرتبط بجانب من الحياة الاجتماعية والثقافية أو السياسية في فترة زمنية محددة، ويشترك بالأساليب والتقنيات الفنية المستخدمة في عمليات الإبداع والتأليف. وللتوضيح نورد مثالاً من المدرسة الرمزية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وسارت في ثلاثة اتجاهات، اتجاه غيبي يختص بالعالم الذهني، وكيفية إدراكه للعالم الخارجي، واتجاه باطني يختص بكشف عالم اللاوعي والعالم الداخلي للفرد، واتجاه لغوي يكمن في وظيفة اللغة ومقدرتها على التداخل بين الحواس. أما التيار النقدي فهو يشترك مع الاتجاه بتكثُّر الآراء وتعددها ولكن في حقل معرفي واحد ضمن الاتجاه، مع وجود مشتركات بين هذه الآراء وبذلك نجد أن د. عثمان موافي يقصد بالتيارات الأجنبية مجموع " الأفكار والنظم والعادات، التي انتقلت من بيئات أجنبية إلى البيئة العربية متخذة شكل موجات، أو اتجاهات عامة (13) " والاتجاهات هنا بمعنى وجهات أو توجهات وقد ورد تعريفاً لمصطلح التيارCurrent في معجم المصطلحات يقول: "اتجاه عام يجذب الأذهان نحو فكرة معينة أو تذوق خاص، وذلك كتيار التجديد الذي ساد في مصر في مستهل القرن العشرين"(14) ولعله قصد بكلمة اتجاه في صدر تعريفه للتيار التوجه المحدد ضمن اتجاه موضوعي عام، فالاتجاه السائد في مستهل القرن العشرين كان نزوعاً باتجاه اللحاق بركب الحداثة الأوروبية، وفي سياق هذا الاتجاه ظهرت تيارات التجديد في حقول معرفية متعددة كتيار الشعر الرومانسي ثم تيار الشعر الحديث، أو تيار الرواية الاجتماعية أو تيار الوعي فيها. ومن الأمثلة التي نوردها أيضاً اتجاه شعر الجهاد في العصر العباسي الأول، والتيار الأجنبي في شعر الجهاد في نفس العصر. وهكذا نجد فروقاً جوهرية بين مصطلحات الاتجاه والتيار والمذهب، فالاتجاه موضوعيّ يظهر في عصر محدد تلبية لضرورات موضوعية، اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية تقتضي التغيير بمناح جديدة، مثل اتجاه الترجمة والمثاقفة في العصر العباسي الأول، أو اتجاه الثورة على قيم وثقافة العصور الوسطى في أوروبا، أو اتجاه اللحاق بركب الحداثة في النصف الأول من القرن العشرين في البلدان العربية، وهذا الواقع الموضوعي الجديد المعبَّر عنه على شكل اتجاه يفرز أدوات بحثه اولاً، فتتعدد المجالات، ففي مجال النقد الأدبي الحديث مثلا نجد الاتجاه الفني والاتجاه التاريخي أوالاجتماعي أوالنفسي، وثانياً تظهر تيارات متعددة ومتباينة في رؤاها الفكرية والسياسية لتحقيق ما تم التواضع عليه من قبل كل العقول التي تحمل تصورات تهتمّ بعملية التغيير الجارية، وهذه التيارات ترتبط بحقل معرفي واحد، وهي تحمل صفة التغير على عكس صفة الاتجاه الذي يتصف بالثبات النسبي، ومن خلال تموّج التيارات في الاتجاه العام تظهر مناهج لتسهيل وضمان الوصول إلى الأهداف المرتجاة، وفي سياق الاتجاه والتيارات والمناهج الذي يتضمن تغيرات تحدث في الواقع الموضوعي تتكون مدارس ونظريات وطرق ترتبط بفرد أو بمجموعة أفراد يتوافقون على رؤى متماثلة، إلى أن يتشكل المذهب المحكوم لجملة قواعد وقوانين تقتضي من المؤلفين أو المبدعين المنضوين تحت لواء هذا المذهب الإلتزام بها، حتى يسم المذهب عصراً تاريخياً انتشر فيه المذهب وساد فيه.
المصادر والمراجع: 1- دعزت محمد جاد، نظرية المصطلح النقدي ( الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002) ص 21 2- الحبيب النصراوي، قاموس العربية من مقاييس الفصاحة إلى ضغوط الحداثة (عالم الكتب: الأردن، ط1، 2011) ص12 3- محمد مندور، الأدب وفنونه ( نهضة مصر: القاهرة، 1996م) ص133 4- محمود سليمان ياقوت، منهج البحث اللغوي (دار المعرفة الجامعية: الإسكندرية، ط1، 2000م)ص82 5- عبد الحميد شيحة، موسوعة الأدب والنقد ( المجلس الأعلى للثقافة: القاهرة، 1999م) ص176 6- عثمان أمين، ديكارت ( دار النهضة: القاهرة، ط4، 1957) ص75 7- مجدي وهبه وكامل المهندس، معجم المصطلحات في اللغة والأدب ( مكتبة لبنان، ناشرون: بيروت، 1984م ) ص 346 8- محمد التونجي، المنهاج ( دارالملاح: سورية، حلب، ط1، 1986م) ص19 9- مجدي وهبه وكامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ( مكتبة لبنان، بيروت، ط2، 1984م) ص12 10- فوزي عيسى، اتجاهات جديدة في شعر القرنين الثالث والرابع الهجريين ( دار العبادي: الإسكندرية، 2010م) ص3 11- عبد الحليم حسين، نظريات في دراسة المنهج الأدبي( إنترنت: الألوكة الأدبية واللغوية، 15/1/2012م) 12- فوزي عيسى، م.س. ص3 13- عثمان موافي، التيارات الأجنبية في الشعر العربي ( دار المعرفة: الإسكندرية، 2010م ) ص11 14- مجدي وهبه وكامل المهندس، م.س، ص128
#أدهم_مسعود_القاق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تيمة الفساد في رواية الرجل المحطم وفقاً للنقد الموضوعاتي
-
ثورة شعب سورية العظيم، رؤية قدمت لمؤتمر -التجمع الوطني السور
...
-
بعض ملامح التناص في رواية -الرجل المحطّم- لطاهر بن جلون
-
المواطنة والنظام الديمقراطي
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|