|
عن قصيدة -نهير الليل- لعلي أبي عراق
حيدر الكعبي
الحوار المتمدن-العدد: 4621 - 2014 / 11 / 1 - 04:49
المحور:
الادب والفن
عن الشعر وصراع الطبقات
من لا أقرأ له، لا أقرأ عنه. فاختيار مادة الكتابة هو أساس العملية النقدية. أن تختار الكتابة — لنقل — عن شاعرٍ بعينه، أو قصيدة بعينها يعني أن تختار عدم الكتابة عن عدد غير محدود من الشعراء الآخرين أوالقصائد الأخرى. كل اختيار هو استبعاد. كل كتابة هي محو. والعملية النقدية يجب أن تبرر وجودها أولاً قبل أن تصبح صالحة للتقييم. وهذه السطور تحاول أن تفسر لماذا جعلتُ من قصيدة "نهير الليل" لعلي أبي عراق موضوعي. ما الذي وجدته في هذه القصيدة مما أفتقده في غيرها؟
"نهير الليل" قصيدة مضمون بامتياز. وجِدَّتُها لا تتمثل في اختيار الصراع الطبقي موضوعاً لها، بل في تصوير هذا الصراع من منظور الطبقة الأدنى في السلم الإقتصادي-الإجتماعي. وفي هذا يصعب العثور على مصادر لها، أو ركائز ترتكز عليها، في الشعر العربي الفصيح (لن نعدم قصائد كهذه في الشعر الشعبي، كقصيدة "جرح صويحب" لمظفر النواب، مثلاً). فـ "نهير الليل" لا تعرض على قارئها مغامرة في الشكل. إنها زاهدة في إثارة الدهشة، متقشفة في عدتها البلاغية، مكشوفة الرموز، محدودة القراءات، وليس لديها ما تخفيه. فأي تناول شكلاني لها هو تناول محكوم بأن يجردها من امتيازها هذا. إنه بحث في المكان الخطأ. ولهذا سأتوقف عند موضوع القصيدة حصراً. فما هو نهير الليل الذي تحمل القصيدة اسمه؟ أهو منطقة (حي، حارة، محلة، مكان، الخ؟) أم هو نهر صغير كما يوحي به اسمه؟ نهير الليل هو—من جهة— كل هذا، وهو— من جهة أخرى—ليس هذا ولا ذاك. نهير الليل، من وجهة نظر تاريخية،هو مخاض. هو لحظة تكوّن. خلاء أجرد، بلا ملامح، لم يتشكل بعد، هلام، سديم،عدم. لكن هذا الهلام، أو السديم، أو العدم استيقظ فجأة على وقع أقدام خشنة، متشققة، أقدام فلاحين فروا من سياط الإقطاع وكرابيج الصراكيل وعصي "الرشّاگة،" الى هذه المنتبذ، هذا المنتأى، هذا المنفى وحطوا رحالهم وأسمالهم وبؤسهم فيه. هذا هو نهير الليل. إنه ليس شيئاً. إنه شبكة من العلاقات والصراعات الإجتماعية (الإقتصادية-السياسية، إذا توخينا الدقة). إنه هذا الهبوط المفاجيء، هذه الحركة والاضطراب والضجيج البشري الذي أقلق هذه البقعة من الأرض الموات المهملة. هذا هو نهير الليل.
لكن لا، ليس هذا فقط. ما هذه سوى البداية— بداية تحول الفلاح المعدم الى عامل معدم، بداية الهجرة من القرية الى المدينة. بداية خروج أعداد متزايدة من الفقراء من حساب الإقطاع العجوز ودخولها في حساب البورجوازية الشابة. فكبار السن من الفلاحين المهاجرين ليس لديهم ما يفعلونه في البصرة. أيديهم لا تحسن سوى مسك المنجل. وأصبح لزاماً على الفلاح الماهر أن يتحول الى عامل غير ماهر. فالمهارات الزراعية المتراكمة عبر السنين لم تعد لها قناة تصريف. هنا في المدينة، ومن سلالة الفلاحين هذه، سينشأ جيل من العمال غير المهرة. جيش من العمّالة والحمّالين والعربنجية وصباغي الأحذية وماسحي السيارات والكسبة والمغربلات والطحّانات ونازعات النوى من عاملات الجراديغ والنشّالين المبتدئين وباعة الماء السبيل وموزِّعي الجرائد المتجولين ومساعدي السوّاق والفيترجية وغاسلي السيارات والمهرِّبين وباعة المفرق من كل صنف ونوع. وسيكون صيفهم صيفاَ وشتاؤهم شتاء، وستزورهم البلهارزيا تارة والحرائق تارة أخرى، وستحدهم الرياح من الشمال والجندرمة من الجنوب.
" منسيون لا تواريخ لميلادهم ولا شهادات لموتهم السل لا يجد فراشا اكثر دفئا من رئاتهم والحسرة لا تجد متّكأً الا في صدورهم التي تهر في أماسي الشتاء كجراء مقرورة"
هذا المدخل ضروري للقصيدة لتمييزها عن قصائد مماثلة. فقصيدة "نهير الليل" تبدأ بلسان حال الشاعر مخاطباً نهير الليل (الذي لم نكن نحن القراء قد اكتشفنا هويته بعد) طالباً منه التريث.
"نهير الليل تمهل"
فلو صَرَفْنا النظرعن هوية المخاطَب لما استوقفتنا العبارة. فأنْ يخاطبَ إنسانٌ نهراً ليس أمراً جديداً في الشعر. ميخائيل نعيمة يفتتح قصيدته "النهر المتجمد" بقوله: "يا نهرُ هل نضِبَتْ مياهُكَ . . . ؟" والسيّاب يستهل إحدى قصائده بـقوله: "بويب، يا بويب." وحتى لو ضيقنا دائرة المقارنة، وبحثنا عن قصائد يخاطب فيها إنسانٌ نهراً طالباً منه التريث لما عدِمناها. ثمة شاعر يبدأ قصيدته هكذا:
أيها النهر لا تسرْ وانتظرني لأتبعكْ"
وتي أس إليوت في (الأرض الخراب) يخاطب نهر التيمز بقوله: "أيها التيمز الجميل تريّثْ في جريانك حتى أتمَّ أغنيتي." ما الجديد إذن؟
فإذا نحّينا الرمز جانباً، واكتفينا بالدلالة الحرْفية للإستهلالين المشار إليهما أعلاه، لوجدنا أنفسنا، في الحالين، أمام إنسان يخاطب نهراً طالباً منه التريث. فتحديد هوية المخاطَب هنا ضروري لمنع الإلتباس وللحيلولة دون الخلط الذي قد يغري به التشابه السطحي. إنه الضمانة لتشخيص امتياز القصيدة. إنه، بعبارة أخرى، علامتها الفارقة. فالبداية توهم بأن الشاعر سيسلك سبيلاً مطروقة، بل هو يضع خطوته الأولى عليها فعلاً ولكنه سرعان ما يتفرع لينتهي بأرض بكر. فنهير الليل ليس نهراً، ولسان حال الشاعر لا يمثل ذاتاً، وموضوع القصيدة ليس تجربة شخصية محضاً. الشاعر يتحدث بلسان طبقة اجتماعية كاملة في علاقاتها المعقدة مع الطبقات الأخرى، وبخاصة في علاقتها مع الحكومة. ولهذا يخفت صوت الذات ويرتفع صوت الطبقة، ويتحدث الشاعر بألسنة عديدة، وينتقل في استعماله للضمائر من الأنا الى النحن الى الهُمْ بلا عقبات.
الشاعر يفتتح قصيدته بلوحة قاتمة يبدو فيها نهير الليل "معتماً وظليلاً / لا تنقشع الظلمة" عنه وتبدو فيه "الأرض سوداء" والضوء "يشحب" وليس لنهير الليل حتى "موعد . . . مع الفجر،" أما قرار نهير الليل فـ "آسن النجوم." ولكنه—الشاعر— ينتهي بـ "الخروج" من هذا المشهد المظلم الى نهار عريض، فكأنه قطار يخرج من نفق، فيختتم قصيدته "بـقلوب مضاءة" وبـ "تباشير النهار" وهي تطرق الأبواب، وبسماء "أكثر اتساعاً" وبأشجار "نزعتْ أغصانها المتفحمة" وبالشمس وهي تتغنى قائلة "أنا الضوء فتعالوا نطرد العتمة،" ويتحول "نهير الليل" الى "نهر الصباح."
من جانب آخر، القصيدة تبدأ بمشهد منكسر، بهجرة جماعية من القرية الى المدينة، بهروب من ظلم الإقطاع، بحشود من الفلاحين الفقراء المستسلمين لأقدارهم، الموكِلين أمرَهم للآلهة. يهرعون الى نهير الليل "لا طلبا لظل وماء" إذ لا ظلَّ ولا ماء في نهير الليل، "بل تواريا عن كلاب مسعورة" وذكرياتهم ترفرف فوقهم "كشكة سمك يابسة" أو "نوارس فقدت ظلها" ووطئتها الرياح "وهي مستسلمة تنظر / بعينين مفتوحتين". (الدنية غربلتنا شلون غربال...وخلتنه علج بحلوك الانذال)
هذا الإستسلام للقدر سرعان ما يثبت عقمه، هذه الصلوات ستسفر عن لاجدواها، إذ "لا كعبة لصلواتنا"، هذا الإله الذي بنى المظلومون آمالهم عليه سيعلن إفلاسه، وتلك الحكمة القديمة التي توصي بالصبر ستعصف بها الريح. ففي النهاية سيخرج النهار من رحم الليل نفسه. وسيمسك المظلومون زمامهم بأيديهم هم، وستنزاح الغشاوة عن الأعين ويتضح المشهد، وتتوقف الأفواه عن الأنين، والألسن عن إلقاء اللوم على الأقدار، وتبدأ الثورة. "إنهضوا فأن الرب أعمى." إن طبخة الثورة تأخذ وقتاً طويلاً، ومرجلها بطيء، ولكنها في النهاية ستأتي حتماً.
"وترجرجت عتمتك على وقع الرصاص"
إن تشخيص موضوع القصيدة تشخيصاً صائباً ضروري لسببين: أولاً، لتقييم جدتهاً، وقد عجزتُ عن العثور على مصادرها في الشعر العربي، وثانياً، لتقدير الجهد المبذول في السيطرة على وحدتها وتماسكها وفي تتبع مسار تطورها وهي تتقدم ببطء نحو ذروتها. فالقصيدة ليست مجموعة تأملات في جدولٍ ضحل، ولا تمجيداً لبقعة جغرافية معينة أو حيٍّ سكني معين. إن أي تشخيص خاطيء كهذا يفقدها أهم مكوناتها— يفقدها حركيتها، ويجردها من عملية نشوئها وارتقائها.
" لكل هذا ايها النهر الذي ما ضلّ طريقه الى البحر بل اقتفى أثر المورقين يسمونك نهير الليل واسميك نهر الصباح."
فإذا كان نهير الليل نهراً فسينتهي نهاية الأنهار الطبيعة بمصب، وإذا كان نهير الليل ليلاً فسينتهي نهاية الليل الطبيعية بنهار.
31 تشرين الأول 20014
نهير الليل علي أبو عراق
نهيرَ الليلِ تمهّـلْ الأرضُ سوداءُ والمزارُ بعيدٌ وزمانُـك أغبرُ مولعٌ بالشتات الماءُ لا يبلِّـلُ ضفافَـكَ والظلُّ لا يسترُ عرسَ طيورِك والهمومُ تقتفيكَ لو شردتَ إلى الصين فمالك من حيلةٍ أن تكونَ معتماً وظليلاً لا تنقشعُ الظلمةُ عنك أبداً، يشحبُ ضوؤُكَ وتستعرُ رياحُـكَ ولا موعدَ لكَ مع الفجر ولا آصرةَ مع العصافير غرابانِ يلتقيانِ في مدارِ الفواجعِ الفرحُ لا يليقُ بكَ المآسي تربت على يديك وشيبٌ نسلته في قرارِك الآسنِ النجوم
نصائح
قال لكَ الرملُ : لاتتركِ العوسجَ يغطّي خاصرتَـك ولا الشوكَ يبتزُّ صمتَـكَ ولا تتذمرْ من خطواتِـك الضائعة وقال لك الليل : لا تكن فضولياً ولا تسرق النظر خلسةً لخلواتِ الأعالي دعِ النجومَ تهارشْ بعضَها ربما يسقطُ قرطٌ من فضّتِـها أو خزّامةٌ من لُجين بيد أنّ فتاحاتِ الفألِ قلنَ لك دعْ عنكَ رأسَك اليابس سيتهشمُ بأولِ حجـرٍ وأنت أعندُ من بغـلٍ وأصلفُ من شُرَطيّ عتيق لا تتعلمُ من عويل شموسِك ولاتدع الليلَ يهذب أشباحك
هجرات
هرعْـنا إليكَ سلاحفَ حمّصها القيظُ لا طلباً لظلٍّ وماءٍ بل توارياً عن كلابٍ مسعورة تتوحمُ لحمنا الشحيح أرحْنا ركابَـنا في "ثنيتِك" بعد أن سحبنا أنهارَنا خلفنا كزوارقَ متهالكةٍ شقّـقَ روحَها الصيهود وهجرتها الأمواجُ تنتحبُ لفقدنا الحقولُ وثغاءُ بيادرِنا يلاحقُـنا كمخبرٍ سريّ و كشكّةِ سمكٍ يابسة ذكرياتُنا ترفرفُ على ساريتِكَ نوارسُ فقدت ظلَّـها في شراسةِ الضفاف ووطئَت بكارتَها الريح وهي مستسلمةٌ تنظرُ بعينينِ مفتوحتين فرقعةُ السياطِ على ظهورِنا طبولٌ لأعراسِهم الدامية وآثارُ رحاهم تطوّقُ أعناقَـنا وعطنُ الطوامير ملتصقٌ بالأنوف شيوخٌ يتلذذون يطغيانِهم و(سراكيل) يفاخرون بخستِهم وعصي " الرشاكة" المدربة تتباهى بندوبٍ رسمتْها على الظهور والأرواحُ تذكّرُنا أنّى نقلّبُ الوجوه ولا كعبةَ لصلواتِنا غير الأسى ولا مربدَ لقوافلِنا سوى الشتات
خذلان نهيرَ الليل لم تدفعْ جورَ هجراتِنا ولم تكف عن تسويدِ بياضِنا ولم تكسِنا بسوى قمصانِ الخذلان ... تركتنا أكثر عُرياُ من قلوبِنا وتشوّقت لتختمُّر دمانا بأرضِك كي تخبزه الأمهاتُ أرغفةً للصباح قرباناً لأحلامٍ مهدورة وبعد أن يرتعشَ موتُـنا كشراعٍ في عرض أفقِـك الدامي تتناهبُنا رياحُـكَ لتطلقَ جنائزَنا في ليلٍ أصفرَ دون صوارٍ أو قلوع
صرائف لا سطوحَ لك ولا نوافذَ ولا أبواب ولا جدرانَ أو عتباتِ لبيوتِـكَ تلعبُ بكَ الريحُ والأهواءُ (شمولي) أنّى تشاء فالعرضُ واحد والنوايا طيورٌ بيض غيومٌ تحلّـقُ باحثةً عن فضاءٍ يسدُّ رفيفَها أو غيومٌ تطفيءُ مواقدَ هجراتِها وقليلاً.. قليلاً بعد الغروب يهمدُ ....والليل فيك بعد أن يهدَّهما التعبُ قتيلين من صيد أمس بقايا طعامٍ على افواه ما تذوّقتِ القبلَ أسرّتُـهم الجريديّة تئـنُّ نادبةً شهقاتِ حبٍّ مُضاعٍ ميّتون....... يتضاجعون بذبالةِ حنينٍ ويتواطؤون بحكمِ العادة ورغم هذا ... فهم يحرضون الحجرَ على التناسُل ويخلّـفون أسراباً من شياطين أكثرَ نُبلاً من الملائكة
غرابيل قُبيلَ الغبشِ شمسُك تنتفضُ شاهدةً على دمك المراق ترواغُها لتعبرَ العتبةَ.. لا تمنحْها فرصةً للتشفّي في دروبِ المدينة تعدو ثوراً هائجاً حمّالون ينوءون تحت أحمالهم حوذيون تسحقهم الدروب حتى تغسل حظوظُ أسلافِهم صباغو أحذية يرون العالمَ في لمعانِها باعةُ طماطمَ.. باعة بِطّـيخ باعة كعك ..باعة أسماك لصوصٌ لم يتقنوا حرفةَ النشل بعد (تناديل) ينشرون وصاياهم بعنجهية و ينتظمون سرباً من الدود في خطوطٍ لا تنتهي ................ وقّـافون يجهدون في إغواء عاملاتِ الغرابيل و نازعاتُ النُّوى في (جراديغ) تضجُّ معسكراتٌ تتهيّـأ لمعركة وهنّ لاهياتٌ بترويضِ وحوشِ غربتِهنّ بأغانٍ تمطرُ أسى لازمتُها الأثيرةُ ( الدنية غربلتنا شلون غربال... وخلتنه علج بحلوك الانذال) الغبارُ يلفّ المدينة والغرابيل تمارسُ سطوتَها لا تكتفي بتصنيفِ الأحزان ناعمُها ... خشنُها بل تهدرُ، لتوقظَ السنابلَ من نومِها والسنابلُ سكرى بموتِها وهم الشاهدُ الوحيد على موتِ نهارٍ آخر بخناجرِ الفقرِ و الفاقة
حرائق حرائقُ لم تندلعْ عبثاً فصرائفُك تطأُ بعضَها بحميميّة لا تمنحُ فرصةَ التقاطِ الأنفاسِ للظلِّ والريحِ وفوانيسُك بذبالاتِها الشحيجةِ وزيتِها الناضبِ تربّي اللهبَ لا لدرءِ الظلامِ الكثيفِ بل للتشبُّث بحلمِ بزوغٍ وقدورُك بمراجلُها الطينيّةُ ترسمُ بسخامِها صباحاتٍ مطرزة بجموحِ صباياك لم تندلعْ حرائقُـك عبثاً أطفالُك تتشابهُ أسماؤُهم وملامحُهم و عريُهم منسيون لا تواريخَ لميلادِهم ولا شهاداتِ لموتِهم السلُّ لا يجدُ فراشاً أكثرَ دفْـئاً من دمهم والحسرةُ لا تجدُ متكئاً أوفرَ من قلوبِهم صدورهم تهـرٌ في أماسي الشتاءِ كجراءٍ مقرورة حفظوا أبجديةَ الموتِ عن ظهرِ قلب وأوقدوها مناقـلَ جمرٍ في زوايا أيامِهم يتقافزون كالشياطين ليكنسوا بقايا الليلِ والنعاس من أهدابِ النهرِ الآخر وبعد أن أيقنوا أنّ موتَهم السريّ لا يفتحُ كوةً في السماء أو ثقباً في قلبه الحجريّ غرّروا بالشمس لتهبطَ منتصفَ الظهيرة وجعلوها تمرحُ كقردٍ فوق صرائفِهم المتداعية ورفعوا عقائرَهم بالغناء يقودُهم صبيّ بلونِ الأبنوس يقف أعاليَ الجسرَ و يلوّحُ برايتِه الحمراء و يصرخُ من قارعةِ القلب هبّوا ... إنّ ال.... أعمى لا تنتظروه هو يحتاج من يقودُه لا تعوّلوا عليه إنّ عصاه الغليظةَ حين يتلمس طريقَه تنغرزُ في عوراتِنا هبّوا .... لو كان للصبرِ ربيعٌ لكانت أرواحُنا مروجاً لكانت.......... صبيّ الأبنوس تسوّروه وهو يقلّمُ أظافرَ الليل و لسجنٍ صحراويّ أقتادوه خرج منه عملاقاً يشوي سمكتَه على قرصِ الشمس ويشعلُ في مؤخرةِ الحكومةِ النار كلما عنّ له ذلك
لهيب رمادُك يغطّي الأفق وصراخُك عواصفُ من لهبٍ تعزفُ شرراً بين يدي النهار وبين نارٍ و أخرى ورمادٍ.... ورماد تبيضُ الديكةُ.. وتلدُ النساء وتضع الكلابُ جراءَها صرائفُ تشتعلُ من جديدٍ لتخطّ همومَ آخرِ النهار ومنشوراتٌ غسلت بدمِ الفجر يهرعُ المخبرون .. الملاكون.. التجار.. مشعلو حرائق ينتظمون كأنّهم في صلاة يتضرعون للنارِ أن تكفّ عن سعيرِها فلا تستجيبُ تتطاولُ ..تستطيل تعلو .. ..تنحطّ تحرقُ أجنحةَ ملائكةِ النارِ والصبيةُ يهزجون و هم يخوضون بحرَ الدخان "سحير الليل اكعد راحة ...صار الطك ....."
صرخة الليلُ لا يعبأُ بالدخان وأنت صرخةٌ تغصُّ بها متاريسُنا غيابُ النورِ يملأ العالمَ عتمةً وألماً مستيقظٌ أنت كالجبل لا تساومُ الريحَ.... ولا الأعالي حيلك ما هدَّه تعبٌ ترجلْ .. كأيِّ محاربٍ وخذْ راحتَك أو توارَ قليلاً ! ترقبْ واخلدْ إلى الظلِّ فجنودُ الانقلاباتِ رصاصُهم يثخنُ مؤخراتِ المولّين أدبارَهم ويدبغُ القلوبَ الهلعةَ وأنت لا تهدرُ قطرةً من حيائِـك ولا تمضغُ جذورَ ليلِك تبرُّما ولا تسيحُ في مسالكِ الدمِ وتحسبُها لحظاتِك الفسيحةَ اذكر جيّدا يوم خرجْـنا سويةً نبحثُ عن الشمسِ كما لو كنّا نبحثُ عن ثمراتِ ( شفلّـح) ونفتشُ بين صريمٍ وشوكٍ ليلةَ أن هوت صورةُ الزعيمِ من القمرِ وتهشّمَ بلّورُها على حجرِك العاري وسالت دماؤُه على جرفِك بصمت بكيتَ حينَها من القلب وارتعشت موجاتُـك الشحيحةُ وضجّت عتمتُـكَ على هديرِ الرصاصِ وقلوبِ أمّهاتٍ مذعوراتٍ مثل خرساوات يبحثْن عن أولادٍ غرقى ونحن الصغارَ الشياطين بأجسادٍ متناثرةٍ .. عدنا حصد الرصاصُ ثلةً منّا فضلاً عن شفةِ (جاسم ).. صديقِـنا التي ظلّ بعدها مبتسماً أبداً رغم أحزانه المورقة كنّا صغاراً ولكننا ندركُ جيّداً أنّ هذا العويلَ المعجونَ بالدمِ وزمجرةَ السرفاتِ ولمعانَ خوذِ الجنودِ المظلّلَ ورجالَنا (معصوبي العيون ) والمكتوفةَ أيديهم إلى الخلفِ وغبارَ الغرابيلِ الثقيلَ وشحّةَ الفرحِ والضياءِ تآزرت لتسلمنا لليل طويل...
الخروج
ولكنْ... من أحلامِنا خرجنا بقلوبٍ مضاءة منشغلين عن أوجاعِنا لم يكفِـنا ما يستعرُ فينا من عريٍ ولهبٍ ..من موتِنا قمنا مستيقظين مازجين رقادَنا الطويلَ بتباشيرِ قيامةٍ مبكرة وحرمانَنا بيورانيوم سخطٍ فكانت الجلجلة .. أينعتِ المآسي فحان ربيعُها تباشيرُ النهارُ تطرقُ أبوابَنا نحتفي بالنارِ والدخان ونجدلَ ظفائرَ الشمسِ والعواصفِ رمادُنا يشعُّ وسماؤنا أكثرُ اتساعاً وأشجارُنا نزعت أغصانَها المتفحمة لتزهرَ ثانيةً الشمسُ طفلةٌ تلعبُ جوارنا حارة ....مرحة تترنمُ بعفويةٍ ودلعٍ طاغٍ - أنا الضوءُ فتعالوا نطردُ العتمة أنا الحبُّ مقبرة الموت والنسيان تطلعْنا إلى السماء النيّرة واقتفينا أثر الفجر ولم ننحنِ بعدها أبداً ظلت رؤوسُنا منتصبة فاتخذتها المجرّات متكئاً لكلّ هذا أيها النهر الذي ما ضلّ طريقه الى البحر يسمونك( نهير الليل ) وأُسميك : ( نهر الصباح )
#حيدر_الكعبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكابوس
-
الإستجواب
-
دعوة الى جمع شعر الشعراء المعدومين
-
وداعاً منقذ الشريدة
-
أم غاوية 7
-
أم غاوية 6
-
أم غاوية 5
-
أم غاوية 4
-
أم غاوية 3
-
أم غاوية 2
-
أم غاوية 1
-
توطِئة - أوكتافيو باث
-
بصرة عام 11 (الحلقة الرابعة)
-
بصرة عام 11 (الحلقة الثالثة)
-
بصرة عام 11 (الحلقة الثانية)
-
بصرة عام 11 (الفصل الأول)
-
المتنبي شهيداً
-
كتابة على حيطان الطفولة
-
المثقف محمود عبد الوهاب
-
قصف
المزيد.....
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|