|
الميثاق مرة اخرى
سميرة المانع
الحوار المتمدن-العدد: 4616 - 2014 / 10 / 27 - 14:12
المحور:
الادب والفن
لايكتفي كامل بما قال، يريد أن يطنب أكثر. إنه في تمام اليقظة الآن، شبع من النوم حتى الصباح. استمر ناظرا في بنود الميثاق واجدا العلاقة لما سيقوله وما تضمن. صار يكرر بعض الفقرات منه بمرارة : " يجب الا يتعرض إي عراقي للتعذيب أو ألمعاملة القاسية أو اللاانسانية المهينة ". صدقتم والله. تهكّم بسخرية مستوقفا فاطمة قبل أن تغادر المكان. يريد أن يقول شيئا لها. توسلت اليه بحاجتها للسرعة، هيا قل ما تريد لا وقت للابطاء. حان موعد دوامها في " مكتب شؤون اللاجئين ". عجل، اسرع. ظل على وضعه السابق قبل الفطور، لديه وقت كثير ليسترخي. يعمل الآن من داخل البيت، يكتب للصحف ويترجم مقالات فنية احيانا، اثناء ذلك، يرسم اللوحات. - إنهم يتحدثون عن الاهانة ! لنترك الحكومات جانبا. عندما كنت صغيرا، عمري خمسة عشر عاما مجتهدا في صفي. أذكر أني كنت افتش في الكتب الادبية، اتهجس طريقي في دنيا الفن علّ شيئا يمتعني. قرأت في تلك الايام قصيدة طويلة لاستاذي في اللغة العربية، كان موضوعها كما اتذكر في مدح احدى الشخصيات الوطنية، مشيدا بها على طريقة بعض الشعراء العرب بالمبالغة. القصيدة تبدأ بالبيت التالي : وقفْ فوق المنارة مشمخرا.... بعد أن قرأت العبارة لم تعجبني ، وجدت التشبيه فاشلا. فصورة المنارة ضعيفة في نظري، هناك ما هو اعلى منها مثل الطائرة وغير ذلك الآن، فضلا عن أن لفظة " مشمخرِاً " قبيحة بنظري، حروفها ثقيلة من الناحية الموسيقية. خطر ببالي أن انشر نقدا للقصيدة في الصحيفة نفسها، ففعلت ذلك وارسلت وجهة نظري بالبريد لها. بعد اسبوعين من هذا التاريخ ظهر مقالي منشورا في نفس الصفحة الادبية. لا يمكن أن اشرح لكِ مقدار بهجتي وسعادتي عندما رايته. هذه اول مرة أجد اسمي في صحيفة ما، وهم لا يعرفون عمري ولا من أنا. كان حدثا تأريخيا بالنسبة لي. تباهيت به امام اصدقائي ومعلميّ وكلي زهو وأمل بان سمعتي واسمي ذاعا في الآفاق الآن. مرّ اسبوعان آخران على هذا الحدث في حياتي وأنا منتشٍ سعيدٌ، فجأة اجد مقالا طويلا عريضا مرة أخرى في نفس الصفحة ايضا. فيه ردّ علي مقذع مخزٍ يكفي إن عنوان المقال بحروف كبيرة مرعبة تقصدني : " لو كل كلبٍ عوى القمته حجرا " تصوري. كان الرد آية في الاهانة والتحقير. لم تبق كلمة من كلمات الاذلال إلا ورماني بها. اصبحت مصدر سخرية زملائي واقراني، لم اقوَ على النظر في وجوههم من شدة الخجل. استولى على فاطمة ضحك ينتابها في اكثر المواقف احراجا ، توقفت وهي تمسك بطنها ودموعها تتساقط على خديها كعادتها عند حماوة الضحك. ابتسم كامل بكآبة مرددا : " اضحكي ، اضحكي، ما اسهل الضحك الآن، لكن وقتها اردت أن اموت من الحزن. فكرت أن انتحر أو أن اهاجر إلى مدينة اخرى لا تعرفني، ولكن أين أذهب؟ صار وجهي اصفر كالكهرب بعد قراءة المقال. باختصار هذا الاستاذ سحقني سحقا. صرت ابكي في فراشي في بعض الليالي، يصيبني الارق من شدة الآلام.. مرت السنون بعد هذا الحدث واصبحت شابا في العشرينات، وفي ذات يوم واثناء ما كنت سائرا بشارع الرشيد ببغداد واذا بي المح استاذي حسين ملا تقي، استاذي القديم باللغة العربية. لم يعرفني في البداية فلقد تغير شكلي عن سن المراهقة بالطبع. لكنني تعرفت عليه رغم ما اصابه من كبر وسوء حال، اما انكسار نظرته فحدث ولا حرج. لحقته وسلمت عليه مقدما نفسي له، فسرّ للقائي. سألته عن احواله فشكا لي سوء الزمان ومعاملة الناس السيئة له. فها هو قادم من مديرية المعارف العامة لتصحيح بعض سني الخدمة له التي لم تحسب، فغمط حقه واثر على مورده التقاعدي. اين يروح؟! اشعرني إنه مهمل ومعدم تقريبا ، لائما من حوله مكثرا من ذم الظلم والظالمين. نظرت إليه نظرة أخيرة بألم قبل أن اقول بيني وبين نفسي : " اتتصور أنك سلمت من أن تكون ظالما مثلهم ؟ لقد كنت عضوا نشيطا لاشاعة القمع والهوان والذل والاحتقار يا استاذي حسين ملا تقي". بمجرد أن انتهى كامل من جملته الاخيرة ركضت فاطمة خارجة من المطبخ، هرعت لتغير ملابسها قبل أن يوقفها مرة أخرى ممسكا بتلابيبها. عندما اتمت التهيؤ للخروج لعملها في مكتب شؤون اللاجئين، هبطت للطابق السفلي فوجدته لا زال جالسا في مقعده بالمطبخ امام الورقة واواني الفطور، صاحت به مودعة ضاحكة : " اتركك لعناية حسين ملا تقي يا شوفوني.. شوفوني ". ثم صُفق باب الخروج. احقا ما تقول ؟ هل كنت متباهيا مفرطا بحب الظهور، أو كما تقول دائما في هذه الاحوال للشخص المتباهي بنفسه فقط : "شوفوني ... شوفوني !؟" لكني تصورت أني لم أقل إلا اراء ادبية محضة، من حقي الادلاء بها، كنت ساذجا بزهوي على ما اظن ، لم اتوقع النتائج المترتبة على ذلك. صارت الآن الفكرة واضحة. كل نقاش معهم يؤدي للدفاع عن الكرامة خصوصا إذا كان المقابل اعلى مقاما وسنا. امسك كامل بورقة الميثاق مرة أخرى، رفعها متفرسا فيها، يقرأها وكأنها قطعة كيك مملوءة بالكريم : " لم يعد بالامكان بعد الآن الدفاع عن الفكرة القائلة بأن القوة تكمن في جيوش جرارة قائمة واسلحة دمار متطورة. إن القوة الحقيقية تنبع دائما من الداخل، وتكون متمثلة في امكانيات الشعب الثقافية الخلاقة المنتجة للثروة. إن القوة في المجتمع المتمدن وليس في الجيش أو في الدولة. إن الجيوش غالبا ما تهدد الديمقراطية وتضعف المجتمع المتمدن، كلما تضخم حجمها كان ذلك على حساب المجتمع المدني. هذا ما حدث بالعراق. من هذا المنطلق واستنادا إلى ضمانات دولية واقليمية تحمي وحدة اراضي العراق، والمفضل أن تكون في اطار مستوى مخفض للعسكرة في كل منطقة الشرق الاوسط، والدستور العراقي الجديد ينبغي أن : - يحرم التجنيد الاجباري ويعيد تنظيم الجيش إلى قوة دفاعية مهنية صغيرة نسبيا ،لا تستعمل، في اي حال من الاحوال، ضد الشعب. - يضع حدا أعلى للانفاق على اغراض الدفاع والامن الداخلي مساويا ل %2 من مجموع الدخل القومي. " تمنى كامل بعد قراءة هذا البند لو كانت فاطمة بالبيت للحقها متحدثا ولو كانت بالحمام. كيف يصمت حتى المساء لحين عودتها. إن هذا البند يفطر الصائم. صار قلقا يلوب، يريد الحديث حول الموضوع. البند متعلق بالجيش والاسلحة ومما لا شك فيه أن الجيش بالانتظار. تصورهم واقفين على اهبة الاستعداد. لمن؟! لا يدري. ولكنهم يتوقعون الهجوم في اية لحظة. هكذا شوهوا. أن تفكر البشرية كلها بالسلام ، هذه هي الجنة على الارض ! وماذا عن معامل السلاح؟! عن تجارها وسماسرتها إلا يصيبهم ألكساد، أهكذا تنسونهم ؟! يحرمون من مواردهم وحسابات بنوكهم المتعددة، من البلايين. مسز ثاتشر وابنها، رونالد ريغان وعدنان الخاشقجي، بوش وجماعته، ايران جيت، عراق جيت، وهلم جرا..فضائحم تزكم الانوف ، كمن أكل كمية كبيرة من الثوم بعد الوجبة الدسمة، وحينما ينتهي كل شيء ويعم الرخاء عليهم، تبدأ الحكومات الغربية بالتحقيق، ما شاء الله. توقف كامل قليلا. تذكر اسرائيل، إنها بالعتبة. يحد بعض المتطرفين فيها اسنانهم. يهود ماركة واحدة والاخرون بالخارج. برة، برة، الارض كلها لنا، هذه عقليتهم، ثم جاء المسلمون المتسيسون متأخرين قليلا بعدهم، لا بأس هذا لا يمنع من التعصب ايضا، والمسيحييون في صربيا والهندوس بالهند.. بعد..بعد.. تاميل تايكر في سيرلانكا ، هوتووتوتسي في راوندا، بيض..الخ، كله آبار توتر يسهل تفجيرها موجودة وهي ذات نفع عميم لتجار الاسلحة. واذا لم يكن هناك في اسرائيل ولا عند المسلمين ولا المسيحيين ولا الهندوس متعصبون سيخلق الانسان شيئا يشبههم والا كيف حارب الاسكندر الاكبر ؟ّ قبل الفتوحات الاسلامية، والحملات الصليبية وغيرها؟! ربّ معارض يعترض، سيحتج يقول العكس، لكنه هل يستطيع أن ينفي . انها كلها قتل وعنف بكل الاحوال، لماذا ندافع فقط عن الذي يمسنا ؟ المفروض بالديانات جاءت لاعادة الطمأنينة للنفس البشرية فجعلها الانسان صراعا واطماعا واحترابا، والحرب هي الحرب، ولو كان رهين المحبسين الفاقد للبصر الشاعر ( ابو العلاء المعري) طامعا في دنياهم موجودا الآن لكفروه وحللوا قتله حين قال منذ زمن طويل :
إن الديانات القتْ بيننا احناً وعلمتنا افانين العداوات فهل أُبيحت نساء الروم عن عرض للعرب إلا باحكام النبوات
أجل ، السلاح مكد س ، مصنوع ، يُريد مَن يشتريه ، سوف يجد الزبائن دائما، وإلا هل يمكن أن يضع تجار ومعامل الاسلحة ايديهم تحت ذقونهم فقط، صافنين. سوف يصدر دائما بيان شبيه بالبيان العسكري المرقم 489 بتأريخ 3 . 9. 1981 من القوات المسلحة العراقية اثناء الحرب العراقية الايرانية، وجاء بعض ما فيه: بسم الله الرحمن الرحيم " انهم يكيدون كيدا واكيد كيدا" صدق الله العظيم عندما تتحول المباديء العظيمة إلى برامج فعل ملموس في واقع حياة الشعب وعندما تكونون إلى جانب الحق ويكون اعداؤكم مع الباطل فأن الله سبحانه وتعالى وكل قيم الخير في السماء والارض تكون إلى جانبكم. وهكذا ايها الرجال قاتلتم في يوم 4 ايلول 1980 وما بعده يوم بدأ العدوان الخميني على ارضكم .. لا فضّ فوك، فعلا تحولت المباديء العظيمة إلى برامج فعل ملموس لشراء السلاح، بالاضافة فى الخسائر بالنفوس من الشعبين، خسرا ما بلغت قيمته 454 ملياردولارامريكي، معظمها على الاسلحة طبعا، يقال لو انفقت هذه المبالغ على اية قرية عربية بائسة لاصبحت أفضل من بيرن وجنيف. لا يحتاج المرء أن يناقش من ابتدأ الحرب فالعراق، كما ُذُكر، الباديء بالهجوم بالصواريخ على مطار طهران . على اية حال، لم تفد ، بعدئذ، اللجنة التي اوفدتها الدول العربية وسميت ب ( لجنة المساعي الحميدة) في فض النزاع الذي دام ثمان سنوات، وصدام اقنعهم بحيل صدر : " إن الذي لا يستطيع الدفاع عن شط العرب لا يستطيع الدفاع عن فلسطين" وكان شط العرب المسكين صامتا، والجميع يعرف ان الحرب لم تقدم أو تؤخر شيئا بالنسبة له، ما عدا اغراق السفن في مياهه الصافية وطفو جثث القتلى من الجانبين، فلقد تنازل العراق لايران كما كان الامر بالسابق وقبل الحرب. الآن يريد ميثاق 91 أن يحرم الناس من القتل والدمار، من الكذب والكيد والخديعة. ان يعيش المرء من دون خوف أو كره وهواجس. كيف !؟ ظل كامل يتحدث مع نفسه ، وحيدا، بالبيت طيلة ذلك النهار.* +++++++++++++++++ * الفصل الثاني عشر من رواية ( شوفوني .. شوفوني)، 2002. لم توزع بالعراق.
#سميرة_المانع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ميثاق 91
-
الحرية، الحرية ، من فضلكم
-
قصة ( ما علمتم وذقتم )
-
من دفع للمزمرين ؟
-
المرأة بضاعة وزخرفة
-
هل تدلني على بيتي؟
-
ما قلت وداعا أبدا
-
نساء
-
خروج أديب من قرونه الوسطى
-
ما يقال عن المرأة في الادب العربي
-
الاعتداء
-
العيش في سلام
-
التواطؤ الثالث بالسياسة
-
التواطؤ الثاني بالجنس
-
التواطؤ الاول بالفنون
-
البحث عن الموجود
-
العاقلة جدا
-
بداية حملة السرقة
-
الخال
-
ها....ها...ها
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|